مجلة المحاماة
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة ( و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأن
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة ( و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأن