حكم العمل بالمحاماة
في ظل العمل بالقوانين الوضعية وغياب الشريعة الإسلامية
في ظل العمل بالقوانين الوضعية وغياب الشريعة الإسلامية
لا يتوهم القارئ الكريم أنني أبرر للمسلمين التحاكم لهذه القوانين الوضعية أو أحثهم على التحاكم إليها ـ عياذا بالله ـ ولكن البحث حول الواقع الذي نعيشه ويعيشه غالب أهل الإسلام من تنحية لشرع الله والتحاكم إلى تلك القوانين الملفقة من شرائع غير المسلمين دون أن يكون لمن سلب له حق أو تعرض لعسف وظلم في ماله أو عرضه أو نفسه أو حتى في دينه اختيار التحاكم إلى شرع الله تعالى ، فيكون من هذا حاله أمام اختيارين أحلاهما مر ، فإما أن يتحاكم إلى تلك القوانين الوضعية مع ما في ذلك من محاذير شرعية ، وإما أن يترك حقه بالكلية أو يعصف الظلم بماله أو عرضه أو دينه أو نفسه دون أن يملك لنفسه شيئاً ، ولا يخفى ما في ذلك من إصر وحرج بالغ تأباهما شريعة الإسلام .
ومما زاد الطين بلة أن أهل الفضل من العلماء والمشايخ ونحوهم لا سلطان لهم ولا شوكة تمكنهم من إنفاذ أحكام الشرع لو لجأ إليهم بعض الناس في الخصومات، خصوصاً إذا كان المعتدي من الظالمين الممتنعين بشوكة ، فإنه لا يستسلم لأحكام الشرع إذا نطق بها من ليس له سلطان ولا شوكة ، إلا من غلبته التقوى، وانقاد لسلطان خشية الله، وهذا لا يكون إلا إذا كان الخصوم جميعاً من أهل التقوى والورع والإيمان ، وللأسف فإن غالب حال الناس بعامة والمتخاصمين بخاصة ليس من الصنف الأخير فلا يردعهم إلا السلطان بشرطته وسجونه .
فإذا وقعت خصومة وكان أحد أطرافها مسلم مظلوم تم الاعتداء عليه أو على عرضه أو ماله أو نفسه أو أهله من هذا الصنف الظالم الذي يمتنع عن الاحتكام لأحكام الشرع التي يقضي بها العلماء والمشايخ ، ولو حوكم لما استجاب لأحكامهم ماداموا لا يملكون سلطاناً يزعون به ما لا يزعه القرآن والإيمان في نفوس كثير من الخلق، ولا يملكون شوكة أو شرطة وقوة تلزم وتأطر على أداء الحقوق، وتردع المجرمين والمعتدين والعابثين ؛ فكيف يُلزم المسلم المظلوم – والحال كذلك- باللجوء إلى هؤلاء العلماء والمشايخ في مثل هذه المظالم ، وهم لا يقدرون على رد حقه أو دفع مظلمته ، ثم إن اضطر إلى اللجوء إلى شوكة الحكومات أو شرطتها استجارة بهم من ظالم معتد أو دفعا لصولة فاجر استطال على عرضه أو غصب ماله أو أرضه أو داره يقال له وقعت في المحظور وقد يرميه البعض بالكفر أو الظلم أو الفسوق .
ولا يتسرع البعض بأن يطلب من صاحب الحق ترك حقه فراراً من التحاكم إلى غير الله تعالي فالمسألة ليست دائما مسألة حقوق أو أموال يتنازل عنها المرء أو يتركها لله عصمة لدينه ، بل قد يتجاوز الاعتداء ويصل إلى ما لا سعة للناس في التنازل عنه أو الإعراض والسكوت عليه ، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً وتقع يومياً ، ومن ذلك العدوان على الأعراض أو خطف فلذات الأكباد أو طرد السكان من البيوت إلى الشوارع وفيهم النساء والأطفال والشيوخ وطرد المزارعين من المزارع والأراضي وطرد العمال من المصانع ، بل قد يتعلق الأمر بالاستهزاء بدين الإسلام أو بالقرآن أو بالسنة وأهلها ، وما كل أحد له من القوة أو العشيرة والجاه ما يقدر به على الدفع عن نفسه وعرضه وأهله أو عن دين الله أن يسب ويهان ، أو يجد على ذلك نصيراً أو مجيراً يمكنه به الاستغناء عن اللجوء إلى هذه الحكومات التي أمست بيدها القوة والسلطان ، فلابد للفقيه العالم بمقاصد الشريعة ومصالح العباد من مراعاة هذه الأحوال كلها والنظر فيها عند الكلام في هذه النوازل ، وعدم المبادرة برمي الناس بالكفر والردة أو الظلم والفسوق .
ولا يتسرع البعض مرة أخرى ويحتج بالآيات التي بينت كفر من تحاكم إلى غير الله تعالى فهذه الآيات نزلت في وقت كان لحكم الله فيه دولة وسلطان، وأعدل الخلق بين ظهراني الناس ينصف المظلوم ، ويأطر الظالم على الحق ، ويعطي كل ذي حق حقه ، فشتان بين حال الناس في زماننا ولا اختيار لهم بين حكم الله تعالى وحكم غير الله ، بل عليهم الاختيار بين القوانين الوضعية أو التعرض للظلم وضياع الأموال وهتك الأعراض وليس مطروحا عليهم ولا بمقدورهم اختيار حكم الله تعالى أصلاً ، وبين حال الناس عندما نزلت آيات الحاكمية حيث كان الاختيار في زمانهم بين حكم الله تعالى الظاهر الممكن وبين حكم غير الله تعالى من الطواغيت والكهان والعرافين ، فلا شك أن البون شاسع بين حال الناس في زماننا في ظل غياب شريعة الله تعالى وانفراد القوانين الوضعية بتصريف الأحوال وضبط شئون الحياة ، وبين حال من ترك التحاكم لشريعة الله تعالى عن قصد واختيار رغم تيسر ذلك له .
المبحث الأول : في تحديد نطاق البحث :
وصورة المسألة محل البحث هي :
1) مسلم اعتدي على ماله أو عرضه أو نفسه فهل له حق أن يرفع دعوى للمحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية يطالب فيها باسترجاع حقه المغتصب ؟
فإذا جاز له ذلك جاز لوكيله وهو المحامي وإذا لم يجز له لم يجز لوكيله من باب أولى ، لأن الأصل أن ما جاز للأصيل جاز للوكيل وما منع منعه الأصيل منع منه الوكيل .
2) أو مسلم قبض عليه وسيق للمحكمة بتهمة من التهم هو منها بريء أو أراد ظالم اغتصاب ماله أو أرضه أو داره بسيف القانون الوضعي فهل له دفع الظلم عن نفسه أو ماله أو عرضه أمام المحاكم التي لا تقبل من الدفاع إلا ما كان مبناه مواد القانون الوضعي ؟
فهل فعله هذا يعد معصية يأثم عليها ، أو كفرا يرتد به - والعياذ بالله - ؟ .
مع العلم أن هذا المسلم لم يجد إلا حكم القوانين الوضعية ، وهو مع ذلك مبغض لها ولحكمها ويتمنى أن يحكم بشرع الله تعالى ، ولو خير بين شرع الله تعالى وبين القوانين الوضعية لاختار شرع الله بلا تردد ، ولكنه لا اختيار له أصلا ، وهو لن يأخذ إلا حقه الذي شرعه الله ، وليس له من سبيل لرد الظلم أو استرداد الحق إلا تلك المحاكم ، فما هو الحكم لو لجأ إليها ؟ هذا هو محل البحث في هذا الفصل .
فليس مقصد البحث في هذا الفصل سرد أدلة تحريم تحكيم غير الشريعة الإسلامية وبيان حكم ذلك ، وليس مقصد البحث أيضا بيان حكم القاضي أو الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله فليس هذا مجاله ، ولكن البحث في هذا الفصل ينحصر في بحث جواز أو عدم جواز اللجوء للمحاكم التي تطبق القوانين الوضعية بالنسبة لآحاد الناس ، فإذا جاز ذلك لهم جاز للوكيل من باب أولى لأنه نائب عن غيره .
ينضبط البحث ويتحدد بالحدود والضوابط الآتية :
يدور البحث حول حكم التحاكم للقوانين الوضعية لأخذ الحق أو لرد الظلم ، في واقعنا المعاصر أي في ظل غياب الشريعة الإسلامية وعدم تيسر الاحتكام إليها ولو مع بذل أقصى الوسع واستفراغ أقصى الجهد ، وليس كل ما يحكم به الناس من قوانين في واقعنا المعاصر مخالف للشريعة الإسلامية فيخرج من نطاق بحثنا الآتي :
1) يخرج من نطاق البحث الاحتكام إلى القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية كقوانين الأحوال الشخصية وأحكام الوصايا والمواريث وما هو على تلك الشاكلة من القوانين التي استمدت أحكامها من الشريعة الإسلامية ، فلا يقال لمن تحاكم إلى تلك القوانين أنه تحاكم إلى قانون وضعي .
2) ويخرج من نطاق البحث أيضاً الاحتكام إلى القوانين الوضعية ذات الطابع الإداري والتنظيمي التي يقصد منها إتقان الأمور ، والتي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية ، لكون ذلك لا يعد من ضروب التحاكم إلى غير الله تعالى ، قال رسول الله : (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )) ([1]) .
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي :
( اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك .
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي . أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم . وقد عمل عمر من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر ، وكاشترائه ـ أعني عمر ـ دار صـفوان بن أميـة وجعله إيَّاها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر . فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة ) ([2]).
3) ليس مطروحا للبحث هنا حكم من رفض التحاكم إلى الشرع المطهر مختاراً واختار التحاكم إلى القوانين الوضعية ، كما هو الحال في بعض البلدان التي يوجد بها محاكم شرعية تحكم بالشريعة الإسلامية وأخرى وضعية تحكم بالقانون الوضعي ، فهذا أُتيح له الاختيار بين حكم الله تعالى وحكم غير الله فاختار حكم غير الله وقدمه على حكم الله فهو الذي تنطبق عليه آيات الحاكمية ، قال تعالى : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا ً( ([3]) . فهذا وجد حكم الله وعزف عنه لحكم الطاغوت بعكس الواقع المعاصر الغالب حيث لا اختيار أصلا .
4) ظهر لي عند بحث هذه المسألة وتحريرها واستقصاء أقوال أهل العلم فيها أن البعض يخلط بين المحامي الذي يباشر عمله أمام المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية وبين الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله أو المشرع للقوانين الوضعية أو القاضي الذي يحكم بالقانون الوضعي ، رغم أن المحامي لا يعدو كونه وكيلاً عن آحاد الناس فلا هو حاكم ولا مشرع ولا قاض ، فالاحتجاج بأقوال أهل العلم في خصوص هؤلاء الثلاثة وتنزيلها على عمل المحامي احتجاج في غير محله ويحتاج إلى مراجعة .
المبحث الثاني : في التعليق على آيات الحاكمية :
قد يحتج من يرى عدم جواز طلب الحق أو رد الظلم بالقوانين الوضعية بالآيات الآتية التي اصطلح واشتهر تسميتها بآيات الحاكمية لتعلقها ببيان حكم من حكم أو تحاكم إلى شرع الله أو شرع غير الله ، وقد صنفتها إلى طائفتين :
الطائفة الأولى تخاطب من تصدى للحكم بين الناس وهو ما يخرج عن نطاق البحث وهذه الطائفة تنتظم قوله تعالى :
)وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( ([4]).
)وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( ([5]).
)وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ([6]).
فالآيات الثلاثة لا تعلق لها بموضوع بحثنا حيث حددنا نطاقه ببحث حكم آحاد الناس من المحكومين لو تحاكموا إلى غير شرع الله عند عدم تمكنهم من الاحتكام إلى شرع الله ، والآيات الثلاثة تتعلق بحكم من حكم بين الناس بغير ما أنزل الله تعالى ولا تعلق لها بالمحكومين من آحاد الناس ([7]).
والطائفة الثانية من الآيات تتعلق بموضوع بحثنا حيث تخاطب بالأساس المتحاكمين :
قال الله تعالى : )إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ([8]).
وقال تعالى : )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( ([9]).
وقال تعالى : )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً( ([10]) .
وليس فيما سبق من آيات ما يصح الاحتجاج به على عدم الجواز وذلك للآتي :
1) آية سورة النور تختص بمن دعي إلى التحاكم إلى شرع الله تعالى وما يجب عليه من وجوب السمع والطاعة وإجابة الدعوة ، وهو ما يخرج من نطاق البحث ؛ لأن البحث يتعلق بغياب الشريعة أصلا وعدم تيسر التحاكم إليها ، وكذا يقال في آية النساء رقم 65 حيث تخص من تيسر له الاحتكام لشرع الله تعالى فيجب عليه ألا يعدل عنه إلى غيره وأن ينقاد ظاهرا وباطنا لحكم الله تعالى وحكم رسوله .
2) أما آية النساء رقم 60 فهي التي تحتاج إلى وقفة ، فهذه الآية نزلت وحكم الله تعالى هو الغالب الممكن ورسول الله تعالى له شوكة ومنعة تمنع الظالم من التمادي في ظلمه وتنزله على حكم الله تعالى جبرا وقهرا إن رفض ذلك مختاراً .
3) تصف آية النساء الأخيرة من عدل عن حكم الله تعالى إلى حكم الطاغوت وأنه قد عدل مختاراً رغم تمكنه من اختيار حكم الله فاستحق الوعيد بنفي الإيمان .
4) عند تحقيق مناط الحكم في آية النساء الأخيرة ، يبين أنه إرادة واختيار المكلف لحكم غير الله تعالى وتقديمه على حكم الله الذي هو متمكن من التحاكم إليه كما هو سبب نزول الآيات .
وأما سبب نزول الآية فقد قال ابن جرير : (عن عامر في هذه الآية: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ( قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة, فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة, وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة, فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهينة, فأنزل الله )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ( يعني المنافقين . )وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ( يعني اليهود. )يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ( يقول: إلى الكاهن. إلى قوله: )وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(.
وقال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي , ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو)الطَّاغُوتِ( .
ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: كان بين رجل من المنافقين ـ يقال له بشر ـ وبين يهودي خصومة; فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد . وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف ـ وهو الذي سماه الله )الطَّاغُوتِ( أي ذو الطغيان ـ فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله فقضى لليهودي. فلما خرجا قال المنافق: لا أرضى, انطلق بنا إلى أبي بكر; فحكم لليهودي فلم يرض . ذكره الزجاج وقال: انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله ثم إلى أبي بكر فلم يرض; فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى بَردَ ([sup][11])[/sup] , وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله; وهرب اليهودي, ونزلت الآية, وقال رسول الله : (أنت الفاروق). ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل; فسمي الفاروق . وذكر ابن جرير سببا آخر فقال : كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم, وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة قتلوا به منهم, فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير, أعطوا ديته ستين وسَقا ([sup][12]) [/sup]من تمر ، فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير, قتل رجل من بني النضير رجلا من بني قريظة , فتحاكموا إلى النبي , فقال النضيري : يا رسول الله ، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية, فنحن نعطيهم اليوم ذلك . فقالت قريظة : لا , ولكنا إخوانكم في النسب والدين, ودماؤنا مثل دمائكم , ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية, فقد جاء الله بالإسلام . فأنزل الله يعيرهم بما فعلوا. فقال: )وَكَتَبْنَاعَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ( ([13]) فعيرهم , ثم ذكر قول النضيري: كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ونقتل منهم ولا يقتلون, فقال: )أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ( ([14]) . وأخذ النضيري فقتله بصاحبه ، فتفاخرت النضير وقريظة, فقالت النضير: نحن أكرم منكم. وقالت قريظة: نحن أكرم منكم . ودخلوا المدينة إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي , فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي برزة ينفر بيننا ([sup][15]) [/sup]. وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا, بل النبي ينفر بيننا. فتعالوا إليه. فأبى المنافقون, وانطلقوا إلى أبي برزه فسألوه, فقال: أعظموا اللقمة. يقول: أعظموا الخطر ـ فقالوا: لك عشرة أوساق . قال: لا, بل مائة وسق ديتي, فإني أخاف أن أنفر النضير فتقتلني قريظة, أو أنفر قريظة فتقتلني النضير . فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق, وأبى أن يحكم بينهم, فأنزل الله عز وجل:)يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ( وهو أبو برزة, وقد أمروا أن يكفروا به , إلى قوله: )وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( ([16]).
وعن عبد الله بن الزبير ( أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي في شِّرَاج الحَرَّة ([sup][17])[/sup] التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرح ([sup][18] )[/sup] الماء يمر . فأبى عليه ، فاختصما عند النبي فقال رسول الله للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب الأنصاري فقال : أن كان ابن عمتك . فتلون وجه رسول الله ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . فقال الزبير : والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك)فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ) ([19]).
خلاصة ما سبق :
بالنظر إلى الصورة التي أوردها العلماء وجزموا أنها سبب لنزول تلك الآيات نجد أن فيها إعراضا ظاهرا عن حكم الشرع ورفضا ظاهرا له رغم تمكن الخصمين من التحاكم إلى الشرع بخلاف الصورة التي هي محل البحث ، فليس فيها تمكن من التحاكم إلى الكتاب والسنة لغيابهما ، وليس في مقدور المكلف الاختيار.