يا صديقي أحمد طه ويا كل الأصدقاء.. اعلموا إذا لم تكونوا تعلمون أن المرء بخير ما ترك الكذب وان الأمة بخير ما لم يصبها وباء الكذب.. اعلموا وأظنكم تعلمون ان كل الذنوب والشرور والآثام أصلها وأبوها وأمها وخالها وعمها وكل عائلتها الكذب.
السرقة كذب والزنا كذب وآيات المنافق الثلاث أصلها الكذب.. فخلف الوعد كذب وخيانة الأمانة كذب وشهادة الزور كذب والغش في الامتحان وفي السلع كذب والحب بين الرجال والنساء الأجنبيات كذب.. والكتبة كذبة.. فالكذب اثنان.. كذب في الحديث والقول وكذب في العمل والفعل.. والذين يرتكبون المقت الكبير بأن يقولوا ما لا يفعلون كذبة والذين ينافقون كذبة.. والكذابون أعلي صوتا وبنيانا وأكثر نفيرا وأقوي حجة وأعظم بلاغة في أيامنا تلك.. ولكلامهم حلاوة وطلاوة وطرارة.. ولا يبلغ القمة والنجومية والشهرة في أيامنا إلا الكذبة لأنهم ليسوا كذبة فقط بل يتحرون الكذب حتي يكتبوا عند الله كذابين.. والفجور الذي نحن فيه اليوم سببه الكذب لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلي الفجور والفجور يهدي إلي النار".
والناس بفعل الكذب أصبحوا فجرة.. فجرة في الخصومة وفجرة في الغش والنصب والاحتيال والقوادة والانحراف واللصوصية والنفاق والمداهنة.. الكذب في أمتنا صار "أكل عيش".. أصبح مهنا تسمي الإعلام والصحافة والسياسة والوزارة والفن.. الكذب أغنية رسمية وانشودة شعبية.. الكذب حكومة والكذب معارضة والكذب اخوان.. الكذب أصبح متدينا وشرعيا.. أصبح في الكنيسة والمسجد والأرض والفضاء وعلي الورق.. نحن لم نعد نختار بين صادق وكاذب.. ولكننا نختار أقل الاثنين كذبا.. نحن لا نختار بين الحلو والمر.. ولكننا نختار أحد المرين.. لا نختار بين النافع والضار ولكننا نختار أخف الضررين.. لا نختار بين الصالح والفاسد.. ولكننا نختار أقل الفاسدين فسادا.
"واحنا داخلين علي موسم الكذب".. انه موسم الانتخابات.. المرشح كذاب والناخب كذاب والنتيجة كاذبة والدعاية كاذبة.. "وأولاد الدايرة" كذابون.. المرشح حلاف مهين والناخب هماز مشاء بنميم.. وكل منهما "حرامي مبادئ.. ولص قيم وسارق شعارات".. كل منهما أخذ ما ليس له ويقول ما ليس فيه وهذا هو الكذب "وقالوا للحرامي احلف قال جالك الفرج".. ونحن نقول دوماً.. أو المسئولون يقولون إن الأرقام لا تكذب.. وهو قول ممل وسخيف وفارغ.. وتحصيل حاصل.. فالمعروف أن الأرقام لا تكذب وأن حروف وكلمات اللغة لا تكذب وان جهاز الكمبيوتر لا يكذب وان التليفزيون كجهاز لا يكذب.. والإنسان هو الكائن الوحيد من مخلوقات الله الذي يكذب.. وكل الوسائل والأدوات التي نقول انها لا تكذب.. يسخرها الإنسان لكذبه.. يكذب بها.. فهي ليست كاذبة بذاتها ولكنها كاذبة حين يستخدمها الكذابون.. فنحن نكذب بالأرقام ونكذب بالأوراق والأقلام ونكذب بالكمبيوتر والإنترنت ونكذب بجهاز التليفزيون.. "نحن نكذب علي روحنا".. حتي أحلامنا كاذبة.. حتي صلاتنا وصيامنا وحجنا وصدقاتنا كاذبة.. وأرصادنا الجوية كاذبة.. الصدق هاجر من الأمة العربية هجرة غير شرعية لكنه نجا ولم يغرق في البحر واستطاع الوصول بسلام إلي الشاطئ الغربي وترك لنا الكذب.. الكذب مواطن عربي أصيل يرفض أن يهجر وطنه الحبيب.
الكذب صبغ كل حياتنا العربية حتي صارت مزيفة ومضروبة.. والباحث عن الصدق والحقيقة في أمتنا كباحث عن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا.
ولأننا نكذب "علي روحنا" فإنك لا تسمع جديداً من أي خطيب أو مسئول ولا تخرج بنتيجة وطائل من أي اجتماع قمة أو ندوة أو منتدي عربي.. وما قاله السلف يقوله الخلف.. وما خطب به السابق يلوكه ويردده اللاحق.. ولو تكاشفنا ما تدافنا.. فالسرائر كاذبة.. ولو عرف كل منا سرائر الآخر ما مشي أحد في جنازة أحد.. وما شيع أحد أحدا إلي مدفنه.. ويوم القيامة تبلي السرائر حيث لا قوة ولا ناصر وتري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة... ولست أشك لحظة في أن تسعين في المائة من الذين كذبوا علي الله مشايخ ودعاة وقساوسة وحاخامات.. والذين يكذبون علي الله هم الذين يتجرأون علي الفتوي والعظات ويتحدثون زورا باسم الله أو باسم الرب.. لست أشك لحظة في أن الدجالين الحقيقيين والمشعوذين الأكابر هم أولئك الذين يلبسون ثياب الدين في المسجد والكنيسة.. وهم أولئك الذين احتلوا مواقع المسئولية في السياسة والإعلام والصحافة والثقافة.. هم أولئك الذين يقودون الرأي العام.. ولكن إلي أين؟.. يقودونه إلي الهاوية.
كل اللجان والمؤتمرات والندوات والمجالس ليست سوي أوعية وأجولة لتعبئة الكذب.. وصناديق الاقتراع أوعية كذب وامتحانات المدارس والجامعات أوعية كذب والكتب أوعية كذب والمهرجانات العربية محافل للكذب.. والنتائج دوماً كاذبة والجوائز كاذبة والتكريمات كاذبة.. حتي انني أكاد أقطع بأن الشيء الوحيد الذي يفعله العربي بصدق هو الموت.. وهو هنا يصدق غصبا عنه ولو كانت له الخيرة لمات كذبا كما يموت الممثلون في الأفلام والمسلسلات.
العربي أدمن الكذب ومن الصعب علاج هذا الإدمان.. العربي يصدق مرغما ويكذب مختارا وبإرادته.. هناك حرية كذب بلأسقف لكن الصدق محظور.. القاعدة أن نكذب والاستثناء أن نصدق "قول والله العظيم أقول الحق".. فيحلف العربي بأنه سيقول الحق.. ثم يجد نفسه بليغاً في الكذب.. "الصدق يقف في الزور والكذب يتدفق كالنهر بلا عوائق".. الكذب سهل البلع والهضم.. والصدق عسير البلع والهضم.
وقلت لكم إن النتائج الانتخابية والامتحانية كاذبة.. لأن ما بني علي الكذب فهو كذب.. لذلك أكاد أقطع بأن الذين يستحقون الفوز يخسرون وأن الذين يستحقون الخسارة يفوزون.. وان الذين يجب أن يرسبوا ينجحون والذين يجب أن ينجحوا يرسبون.. والغش في الانتخابات مثل الغش في الامتحانات و الكلمة العليا في الاثنين للفلوس.. والذين يشترون الأصوات هم الذين يشترون الامتحانات ويشترون الوظائف ويشترون الصحف والأقلام ويشترون الأحزاب والمساحات في الصحف ويشترون السكوت ويشترون الكلام ومقاعد البرلمان ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا.
ولا سبيل لإصلاح مجتمع فاسد.. أفسده الكذب.. ولا يصلح أي منهج أو نظرية لمجتمع فسد فيه الإنسان بالكذب.. ومازلت عند أقوالي وليست لدي أقوال أخري بأنه لا عيب في أي نظرية أو منهج.. راجع كل المناهج والنظريات والشعارات والتشريعات.. ستجدها جميعا مثالية رومانسية عظيمة.. يستوي في ذلك الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والخصخصة وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقانون العقوبات وقانون المرور.. ولوائح المؤسسات والشركات وشعارات الشفافية والنزاهة والديمقراطية.. كل شيء في سماء النظرية عظيم.. ولكنه يتلوث في أرض التطبيق.. الشيطان لا يسكن التفاصيل كما يقال ولكنه يسكن التطبيق.. لذلك فشلت كل المناهج والنظريات في إقالة الأمة العربية من عثرتها.. لأن الشخص أعلي من الموضوع ولأن الأهواء والأمزجة ومرض الكذب.. كل ذلك هو الذي يوجه المنهج والنظرية إلي هاوية الفشل.
ماذا تقول في الدين؟ هل يمكن أن يتطرق إلي امرئ أي شك في أن الشرائع السماوية خير كلها ولا شر فيها ولا فساد؟.. لا ريب في عظمتها.. فما الذي جعلها هكذا أداة للفرقة والخلاف والتطاحن؟.. انهم البشر الذين جعلوا الإله الواحد آلهة متعددة.. وجعلوا الدين الواحد أديانا كثيرة.. ومذاهب ومللا ونحلا وطرقا ودعاة وقساوسة.. اتخذ الناس أحبارهم ورهبانهم ودعاتهم ومشايخهم أربابا من دون الله.. اتخذوا ملوكهم ومسئوليهم آلهة.. استبدلوا بالأصنام الحجرية أصناما بشرية حتي جعلوا الدين حقاً أفيون الشعوب.. وليس الدين هو الأفيون ولكنه تطبيق الدين وفهمه وتفاسيره.. والكذب علي الله. ومحاولات كسر عنق الدين ليوافق الأهواء والأمزجة والأشخاص.
إذا فسد الإنسان أفسد كل شيء يلمسه أو يعتنقه.. الإنسان الفاسد وعاء مسموم إذا وضعت فيه ترياقا تسمم.. وإذا ملأته عسلا فسد وأصبح قاتلا.
* * * *
إذا فسد الإنسان يصبح الرهان علي التغيير وعلي حدوث جديد رهانا خاسرا.. وكل فجر يبزغ في مجتمع فاسد كاذب هو فجر كاذب.. والليل والظلام هما الصادقان الوحيدان في أمة العرب.. فالعرب جعلوا رزقهم وأكل عيشهم انهم يكذبون.. لذلك لا يريدون حلولا لمشاكل وقضايا فلسطين والعراق والسودان والصومال.. فهم يتكسبون من استمرار تلك المشاكل.. ستموت حماس وستموت فتح إذا وجدت قضية فلسطين حلا.. سيموت اللبنانيون وأحزابهم وطوائفهم إذا حدث التوافق في لبنان.. "سينقطع عيش العراقيين" إذا وجدت قضية بلادهم حلا.
مشاكل الأسعار والبطالة والفتنة الطائفية والحياة الشاقة والصعبة لن نجد حلا.. لأن هناك من يأكل منها "بقلاوة".. المشاكل سبوبة للحكومة ولقمة عيش حلوة للمعارضة "ونحتاية" للإخوان ومصدر رزق لأقباط المهجر ومن يحركهم في الداخل.. "وكداب في أصل وشه" من يقول انه سيحل مشاكل يقتات صانعوها منها.. نحن ندير المشاكل ولا نحلها.. نحوم حول حلولها ولا نقترب منها.. هناك من يعيش علي هذه المشاكل "ياكل منين لو اتحلت؟".
المشاكل والمصائب لابد أن تبقي ليستخدمها المرشحون في الدعاية والوعود الكاذبة بالحل والمواجهة.. فإذا وجدت المشاكل حلاً فلن ينجح أحد.. والذين يعانون المشاكل ويطحنهم الفقر والبطالة والأسعار وتدني الأجور ومستوي المعيشة لا يريدون حلا.. فالمشاكل أصبحت بالنسبة لهم مثل العاهة للمتسول يتسول بها ويستدر عطف الناس ويستمطر بها دموعهم وفلوسهم.
العربي أصبح تركيبة عجيبة وخلطة "منيلة بنيلة" عندما أفسده أهل النخبة وأفسدهم هو أيضاً.. فنحن في كل المواقع نتبادل الإفساد.. فالمرءوس يفسد الرئيس ويفسده الرئيس.. والعمدة يفسد الخفير ويفسده الخفير.. والسلطان يفسد الحاشية ويفسد بها.. ولا تستطيع في فعل الفساد أن تحدد بدقة من الفاعل ومن المفعول به.. كلنا ضحايا وكلنا مجرمون.
وعندما أدمن العربي الكذب أصبح لا يعي انه يكذب.. فالعربي يكذب ويصدق نفسه فيهتف لما لا يؤمن به ويصفق لمن يكذب مثله ويبدي حبه لمن يكره ويبدي اعجابه بمن يذمه في الخفاء.. والانتخابات عملية كاذبة يفوز بها الأغني ولم يعد هناك عامل آخر حاسم سوي الفلوس.. ولا ندري من يضحك علي من ومن يخدع من.. هل هو المرشح الذي يشتري صوت الناخب وارادته وذمته؟ أم هو الناخب الذي يستعبط المرشح ويبيعه صوته باعتبار أن الصوت والإرادة والذمة هي أهون شيء عند الناخب... لا ندري من الخادع ومن المخدوع.. أهو المرشح الذي ينفق الملايين ثم يستردها بعد ذلك أضعافا من خلال الحصانة والكرسي؟ أم هو الناخب الذي يري ان الانتخابات موسم رواج وسبوبة حلوة ورزق له ولعياله؟.. لا ندري من المجرم.. هل هو مشتري الصوت أم بائعه؟.. لكنني أدري أن هناك ضحيتين وحيدتين لكل هذا الزيف والبهتان والكذب.. انهما الحقيقة والوطن.. حتي قيل إن الذي يحترم نفسه لا يرشحها في الانتخابات.. ولا يضع رقبته تحت سيف ناخب أهوج.. تحت سيف ناخب مثل "الهبلة اللي مسكوها طبلة".. وحتي قيل إن الانتخابات.. أي انتخابات في أي دولة عربية ليست سوي "رزق الهبل الذي يتولاه المجانين".. ولاتدري من "الأهبل ومن المجنون" عندما تقف أمام المرشح والناخب في أي دولة عربية.
* * * *
وقيل ان الذي لا يصلح مرشحا لا يصلح ناخبا.. وقيل إن العربي سفيه والحرية مثل المال لا ينبغي تركها للسفيه.. وقيل إن التجارب الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها إلا في الأمة العربية فإنها تزداد فسادا كلما أوغلنا فيها.. وتزداد فشلا وفسادا بالتقادم.. والذي أدمن الكذب.. يكذب في اختياره ويكذب في ادلائه بصوته.. والناخبون يرددون دائماً: "كل المرشحين زي بعضهم ولا يصلح منهم أحد فلا بأس من أن أعطي صوتي لمن يدفع مادام الأحق أو الأولي أو الأصلح لا وجود له".
شعار الناخب الذي يبرر به بيع ذمته وارادته وصوته.. صوتي لمن يدفع في غياب من ينفع!!!
نظرة
كما أدمن العرب الكذب أدمنوا أيضاً التبعية.. التجارب الطويلة مع الدنية والمهانة والخيار جعلت العرب يكرهون الاستقلال والحرية.. العرب يناضلون من أجل بقاء الاحتلال ولا يناضلون من أجل نيل الاستقلال.. العرب يخشون انسحاب أمريكا من العراق.. لان الاستقلال خطر علي العراقيين.. والعرب لا يفاضلون بين الاستقلال والتبعية.. ولكنهم يفاضلون بين متبوع وآخر.. هل الاحتلال الأمريكي أفضل أم الاحتلال الإسرائيلي أم الاحتلال الإيراني؟.. تماماً كما كان أجدادنا يقولون ويهتفون إبان ثورة عام 1919: الحماية والاحتلال علي يد سعد زغلول خير من الاستقلال علي يد عدلي يكن.. والجديد الآن ان العرب لا يصلحون لأي شيء.. لا يصلحون للتبعية ولا للاستقلال.. لا يصلحون للديمقراطية ولا للديكتاتورية.. وقد قيل إن العرب رسالة بضائع فاسدة رفضها المستعمر الغربي وردها وقد كتب عليها: بضاعة غير صالحة للاستعمار!!!