عرف البشر منذ أن وجدوا على ظهر البسيطة ، على الرغم من وحدة أصلهم الثابتة دينياً وعلمياً ، عرفوا التمايز والتفاوت فيما بينهم ، وإحساس البعض منهم بأنهم أرفع قدراً ومكانةً من البعض الآخر ، أحياناً عنصراً وجبلّة ، أو كسباً وإجتهاداً في أحيان اخرى. ولعل حكمة الخالق العظيم جل وعلا في ذلك ، هي أن يضع الإنسان أمام المحك الأخلاقي ، وأن يبتليه حتى يغالب نزعات العنصرية والإستعلاء المفضية لا محالة إلى الظلم والطغيان والعدوان ، وذلك على اعتبار أن من يرى نفسه أرفع قدراً من الآخرين ، يكون أقرب بطبيعة الحال إلى أن يرى أن ظلمهم والتعدي عليهم ، وسلبهم حقوقهم أمراً لابأس به ، أوكأنه يغدو من طبيعة الأشياء . ومن المؤكد أن هذه النزعة التميُّزية الإستعلائية ، لم يخل منها جيل من البشر في كل زمان ومكان ، وخصوصاً فيما يتعلق بإرتضاء والرضوخ والاحتكام لحكم قانوني واحد يتساوى فيه الجميع صغاراً وكباراً ، أقوياء وضعفاء من حيث الحقوق والواجبات والعقوبات والحوافز ، كما أن من المؤكد وبكل الشواهد ، أن تلك النزعة التميزية والاستعلائية العتيدة قد أستوت فيها البشرية في عهد بربريتها وهمجيتها الغابر ، بما يزعم من عهد مدنيتها وتحضرها الراهن. ذلك بأن " الحال من بعضه " كما تقول العبارة الدارجة ، ويبدو أنه لم يطرأ على الإنسانية تطور إيجابي جوهري البته في هذا الجانب. فالإغريق القدماء ، وكذلك خلفاؤهم الرومان ، كانوا يعتبرون أنفسهم هم " الناس" الجديرون بهذا الاسم ، أما سائر الشعوب فمجرد "برابرة" لا بأس من استعبادهم واحتلال بلدانهم ، واليهود كانو يعتقدون أنهم هم " شعب الله المختار" ومن عداهم هم " الأغيار" أو " الأميّون " الذين جوزوا قانونياً وأخلاقياً ، بل حتى دينياً غشهم وخداعهم وسلب حقوقهم ، " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية .. وقبيلة قريش العربية كانت تعتبر نفسها في الجاهلية قبيلة مميزة ، وبالتالي لم تكن ترضى بأن تمارس شعائر الحج بنفس الكيفية التي كان يمارسها بها سائر حجاج البيت الحرام بمكة المكرمة ، حيث أنّ طائفة من أفرادها الذين كان يغالون في ذلك التميز الكاذب قد عرفوا " بالحُمس" الذين كانوا يستغلون ذلك التميز الباطل والمزعوم إستغلالاً بشعاً بإزاء الاَخرين ، حيث كانوا يؤجرون ثيابهم بالمال للحجاج القادمين على مكة من أهل الأمصار الأخرى لكي يطوفوا بها حول البيت العتيق ، زاعمين بأن من لم يطف في ثياب أحمسي فإن حجه باطل. وهم أنفسهم الذين قرّعهم الله سبحانه وتعالى في القراَن الكريم بقوله: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس".. وهكذا دواليك.
ثم دار الفلك دورات عديدة منذ ذلك التاريخ الغابر ، ولم تختف ظاهرة الإستعلاء والتميز الغاشم هذه بين الأمم والكيانات البشرية بالكلية كما كان مؤملاً ، مع مايُزعم من تقدم البشرية في مدارج الإنسانية والترقي الأخلاقي ، ذلك بأن نزعة الشر كما يبدو ، هي الغالبة دائماً في نفوس البشر كما قال أبو العلاء المعري:
والشرّ في الجد القديم غريزةٌ في كل نفسٍ منه عرقٌ ضاربُ
فمهما زُعم – على سبيل المثال - أن الثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1789م قد جاءت بشعارات: العدل والمساواة والإخاء بوصفها شعارات إنسانية عامة ينبغي تطبيقها على البشر من حيث هم ، وفي أي صقع عاشوا ، إلاّ أن الشواهد تحملنا على الاعتقاد بأن تلك الشعارات إنما قُصد بها إقامة العدل والمساواة والإخاء بين مشعلي تلك الثورة تحديداً من البرجوازية وأتباعهم من الغوغاء في فرنسا خاصة من جهة ، وطبقة النبلاء والإقطاعيين والملوك والأمراء ومن إليهم ، الذين كانوا يحوزون على أسباب السلطة والثروة كما نعبّر حالياً ، من جهة اخرى.
والتاريخ يدلنا على أن تلك الثورة الفرنسية ذاتها ، هي التي فتحت الباب أمام التوسع الإستعماري الفرنسي في العالم ، بعد أن كان قد سبقهم في هذا الطريق الإنجليز والهولنديون والبرتغاليون والأسبان ، وهي بالتالي – أي الثورة الفرنسية – تكون قد جاءت في خضم استشراء الظاهرة الإستعمارية ، ولم تستطع ، بل لم تشأ مع ذلك أصلاً أن تكبح جماح تلك الظاهرة بشعاراتها تلك ، التي كان نطاق فعلها المقصود قطرياً فحسب كما أسلفنا.
وللمفارقة العجيبة على سبيل المثال ، فإن العهد الجمهوري في فرنسا قد شهد في حقبة حكم الإشتراكيين الذين يُظن أنهم الأقرب أيدلوجياً ووجدانياً للمستضعفين بمن في ذلك الشعوب المقهورة والبلدان المستعمَرة ، أبشع صنوف القمع والتنكيل في الجزائر وفي الهند الصينية وفي أفريقيا جنوب الصحراء ، وما جاء تلك البلدان الفرج إلاّ على يد شارل ديقول اليميني الأرستقراطي مع الجمهورية الخامسة في عام 1958 ، بما يؤكد أن النزوع إلى تبني المواقف العنصرية والاستعلائية البغيضة يتجاوز سائر الايديولوجيات والأنساق الفكرية والسياسية ، وبما يشير إلى توالي الشواهد على وجود نزعة الإستعلاء والتميز من قبل فئة من الامم والدول على ما سواها بصورة دائمة ومستمرة على مدى الحقب وخصوصاً فيما يتعلق بالجانب القانوني تحديداً الذي نحن بصدده في هذه الكلمة.
عرفنا ذلك فيما يسمى بنظام الإمتيازات الأجنبية Capitulations الذي يستند إلى فكرة مؤداها وجوب إخضاع الأجانب المقيمين خارج دولهم إلى الإختصاص الشخصي للدول التي ينتمون إليها ، وليس لقوانين بلدان إقامتهم. فهو إذن نظام يتأسس على مبدأ " شخصنة" القوانين ، بمعنى إجراؤها حسب الحالة أو الجنسية ، وليس حسب الجرم أو الجنحة ، وهو ينطوي بكل تأكيد على تقييد وانتقاص بشع للاختصاص الإقليمي أو السيادي لدولة الإقامة.
أما الذريعة التي جرى اللجوء إليها لتبرير هذا النظام ، فتتمثل في ضرورة حماية الرعايا الأوربيين ( خاصة التجار) المقيمين خارج الدول الأوربية ، كما جرى تبريره بالرغبة في تمكين رعايا البلدان الأوربية المقيمين في الصين وبلاد الشرق الأقصى والإمبراطورية العثمانية وإيران وأفريقيا ، من ممارسة حرياتهم الدينية وحرية التجارة والتنقل. وقد شملت الحماية في القرن الثامن عشر الرعايا المسلمين من رعايا الإمبراطورية العثمانية الذين يعملون في قنصليات الدول المستفيدة من هذا النظام. وهذه الجزئية بالذات لعلها تذكرنا باللغط الكثير الذي أثارته وسائل الإعلام الغربية والأمريكية خصوصاً في أوائل تسعينات القرن الماضي ، إثر إقدام السلطات السودانية على إعدام مواطنين اثنين سودانييْ الجنسية كانا يعملان بمكتب وكالة المعونة الدولية الأمريكية بجنوب السودان ، لإدانتهما بالضلوع فيما عرف حينئذٍ بمخطط الإستيلاء على مدينة جوبا بواسطة حركة التمرد في ذلك الوقت. فكأن ما يسمى بالنظام الدولي لم يبرح ضلاله القانوني القديم الذي لم يعد لائقاً مع تقدم البشرية إنسانياً وأخلاقياً وقانونياً وسياسياً كما يقال.
ويحق لنا أيضاً أن نلاحظ في نفس السياق ، بروز ذات الروح الاستعلائية ، بل الاستعمارية القديمة ، التي تستهين بسيادة الدول وكرامة مسؤوليها وحصانة قادتها، تلك الخطوة التي قادها قاضٍ فرنسي في عام 2008 م ، عندما أقدم على إصدار مذكرة توقيف دولية في حق تسعة مسؤولين سنغاليين على رأسهم رئيسة الوزراء السابقة نفسها: السيدة مام ماديو بوي ، لاتهامهم بما اعتبر إهمالاً تسبب في غرق العبارة السنغالية Le Joola في مياه المحيط الأطلسي قبالة السواحل الغامبية في سبتمبر عام 2002 م ، مما أدى إلى وفاة 1863 شخصاً غالبيتهم العظمى من السنغاليين ، ولكن كان من بين أولئك الضحايا اثنان وعشرون مواطناً فرنسياً ، هم الذين كانوا مقصودين تحديداً – في تقديرنا - بذلك التحرك الفرنسي الذي سعى إلى تجريم عدد من المسؤولين السنغاليين ، مما أحدث وقتها هزة قوية ، بل أزمة في العلاقات السنغالية الفرنسية.
ويجمع سائر الباحثين على أنّ نظام الإمتيازات الأجنبية قد ارتبط إرتباطاً عضوياً بالظاهرة الإستعمارية عموماً ، وباستعمار عدد من الدول الاوربية في القرن السادس عشر لعدد من الدول في آسيا وأفريقيا وبقايا الإمبراطورية العثمانية على وجه الخصوص.
وقد وجد هذا النظام مصدره بدون أدنى شك في المعاهدات الجائرة وغير المتكافئة التي أبرمتها الدول الإستعمارية مع عدد من تلك الدول والتي تضمنت تنازلاً جزئياً من الدول الأخيرة عن سيادتها الإقليمية لصالح الدول الإستعمارية.
ولئن كان نظام الإمتيازات الأجنبية البالي لم يعد له وجود- على الأقل نظرياً- في ظل ما يسمى بالمجتمع الدولي المعاصر في أية دولة من الدول ، حيث أصبح ينظر إليه بأنه من مخلفات القانون الدولي التقليدي ، وأنه يكرس قانوناً دولياً غير متكافئ بين الدول ، ولذلك فإنه قد تم إلغاؤه في تركيا بموجب معاهدة ( لوزان) المبرمة في 24/7/1923م ، كما ألغي في سيام ( تايلاند الحالية) عام 1927م ، وألغي في مصر بموجب معاهدة ( مونترو) المبرمة في 8/5/1927م ، كما تم إلغاؤه في إيران في عام 1928م ، بينما تم إلغاؤه في الصين بعد الحرب العالمية الثانية ، إلاّ أننا نرى أن هذه الرغبة في احتكار الإمتيازات القانونية لم تختف بالكلية من سلوك طائفة من الدول والقوى الدولية إلى يوم الناس هذا.
فغني عن القول أن حق احتكار العضوية الدائمة لمجلس الامن الدولي الذي هو أعلى سلطة تنفيذية حاكمة للنظام العالمي ، فضلاً عن احتكار حق النقض لعدد خمس دول فقط من مجموع قرابة المائتي دولة عضو بالأمم المتحدة الذي ينص ميثاقها بكل وضوح على مبدأ التكافؤ والمساواة التامة بين الدول ، لهو في حد ذاته دليل ساطع على صدق ما ذهبنا إليه.
وبالطبع فإن حصول هذه الدول الخمس ، وخصوصاً الأساسية الأربع إذا استثنينا الصين الشعبية على هذه الإمتيازات القانونية لم يأت نتيجة تواضع وقبول شامل وتام من جميع دول العالم عن طريق عملية انتخاب ديموقراطي ، وإنما حازت عليها نتيجة لأنها كانت قد خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية ليس إلا.
وهكذا ذهبت مبادئ وشعارات ويدرو ويلسون التي قامت عليها عصبة الأمم ، كما ذهبت من بعدها مبادئ ميثاق الأمم المتحدة من بعدها الرامية جميعها إلى إرساء مساواة وعدل حقيقيين بين الأمم ، ذهبت أدراج الرياح بفعل أنماط السلوك والممارسات الواقعية لبعض الدول ، وذلك من جراء تحكُّم متغيري القوة والمصلحة ولا شئ اَخر سواهما في توجيه السلوك البشري وبالتالي السلوك الدولي نفسه. وعندما نتحدث عن القوة والمصلحة فإننا إنما نتحدث بالضرورة عن النزوع إلى السيطرة والهيمنة وهي الأس الأساسي للظاهرة الإستعمارية بكل تأكيد ، وإن إختلفت الوسائل والأساليب.
أما وقد أظلنا النظام العالمي الجديد ، نظام القطب الأوحد على أثر إنهيار الكتلة الشرقية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي ، فقد بدا جلياً أن أساطين هذا النظام العالمي الجديد قد سعوا أيضاً لتكريس ذات النزعة التميزية والاستعلائية القديمة ذات الإرتباط كما قلنا بالظاهرة الإستعمارية ، وذلك عن طريق تأسيس نظام قانون جنائي يسمونه دولياً ، يكونون هم قضاته وجلادوه ، ولكن أحكامه وعقوباته لا تطالهم هم ، و إنما تطال ذات البلدان المستضعفة التي كانوا يستعمرونها سابقاً ورعايا تلك الدول ، ولا بأس من أن يكون على أجهزة هذا النظام القانوني الدولي الجديد ، على مستوى ما من المستويات ، نفر من مواطني تلك البلدان المستضعفة والمغلوبة على أمرها ذراً للرماد فوق العيون.
وهكذا, وفي ذات السياق وبذات المفهوم والحالة الذهنية الاستعمارية العتيدة بكل تأكيد ، تأسست مايسمى بالمحكمة الجنائية الدولية على إثر صدور معاهدة روما المؤسسة لها في عام 1998م.
وكدليل على بروز نظام الإمتيازات الأجنبية الجديد الذي ظهر مرة أخرى بعد أن ظن الناس انه قد ولّى إلى غير رجعة منذ عقود ، عمدت الولايات المتحدة إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع عدد من البلدان كان الغرض منها حماية جنودها ورعاياها من الملاحقة تحت طائلة قوانين المحكمة الجنائية الدولية. فتلك لعمري هي ذات الخمر القديمة صُبّت في قناني جديدة ليس غير.
لقد صرح وزير الخارجية البريطاني الراحل المستر روبن كوك في الواقع من قبل ، صرّح في لحظة صدق مع النفس ، بأن " المحكمة الجنائية الدولية لم تنشأ من اجل الدول الغربية" ، وهو تصريح صدقته ممارسات هذه المحكمة واستهدافها شبه الحصري للقادة الأفارقة ، في الوقت الذي ظللنا تغض فيه الطرف عن جرائم العدوان والإحتلال والإبادة الحقيقية التي إقترفتها دول بعينها بحق دول أخرى ،وذلك بحجة أنها غير مخول لها النظر في جرائم العدوان ، فاعجب لأمر هذه العدالة المجتزءة العرجاء. فكأن هذه المحكمة هي مثل شرطي أو محقق جنائي في إحدى الدول الغربية يزعم أنه مختص مثلاً فقط بجرائم " إعتداء الوالدين على الاطفال فقط" أو ما يسمى بالـ Child abuse في البلدان الغربية – وهو على كل حال قانون ينم عن فكر قانوني جنائي قد يبدو شاذاً ومنحرفاً من منظور القيم الأخلاقية والعدلية والثقافية لمجتمعات أخرى - وليس له شأن بإعتداء سكان منزل على سكان منزل اَخر.
وصفوة القول في الختام أن القانون الجنائي الدولي في ظل الإمتيازات الملحوظة التي يحتكرها الأقوياء بما يذكر بعهد الإمتيازات الاجنبية أو الـ Capitulations المرتبطة بالظاهرة الإستعمارية البائدة ، لهو قانون مناف لأبسط قواعد العدالة والإنصاف والشمول ، فضلاً عن أنه قانون ظالم وانتقائي ومسيس تماماً ، وهو بالتالي نظام قانوني غير جدير بالثقة البتة ، وسينكشف للناس أمره طال الزمن أو قصر ، وسيكون مكانه مزبلة التاريخ لا محالة.