حق التقاضي يؤمن الحقوق الاقتصادية للفقراء
اعداد د.خالد سري صيام
تنطلق هذه الدراسه القانونية من إعتقاد راسخ بأن الحق في التقاضي وتمكين الفقراء من ممارسة هذا الحق بل وتيسير ذلك عليهم يمثل خطوة أولية علي طريق التمكين الاقتصادي والاجتماعي للفقراء في مصر.
لذلك تري الدراسة أن حصول الفقراء علي حقوقهم الاقتصادية يمر عبرممارسة حق التقاضي إلي جانب حقوق العمل وإقامة الاعمال وتسجيل الملكية العقارية.
وترصد الدراسة ــ التي جاءت كإحدي الاوراق البحثية في مؤتمر التمكين القانوني للفقراء في مصر والذي نظمه المركز المصري للدراسات الاقتصادية مؤخرا ــ عددا من المعوقات الماليه والادارية والتشريعية التي قد تحول دون ممارسة الفقراء لحق التقاضي.
هنا عرض لهذه الدراسة الهامة.
عبر الامتداد الألفي لتاريخ الدولة المصرية,كان إرسال العدل عبر كفالة حق المواطن في التقاضي, الركيزة الاهم في مفهوم الدولة كما فهمه المصريون منذ أكثر من أربعه الآف عام, وكما تفهمه اليوم شعوب العالم المتمدين باعتباره سمت دولة القانون.لقد حافظت مصر عبرتاريخها الطويل, وعلي امتداد الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية والإسلامية التي اعتركتها, علي كفالة الحق في التقاضي بوصفه أقدس التزامات الدولة تجاه مواطنيها, وأعز بنود العقد الاجتماعي الذي يربط المواطن ببلده أوثق رباط, فلا مراء في أهمية أن يشعر الإنسان بالثقة في أنه حالة أن يعتدي علي حقوقه أو تنتهك حرماته, سوف يجد سبيلا إلي ساحة قضاء عادل ناجز, يصل به إلي حقه, ويصون به حريته من أقصر طريق, وفي أسرع وقت, وبأقل التكاليف.
إن السبيل الوحيد لحماية الحقوق والحريات, هو ضمان وجود وفاعلية سلطة قضائية تسهر عليها, تتكامل مع السلطة التشريعية, حيث لايكفي أن تصدر تلك الاخيرة قوانين تقرر الحماية,بل لابد من قاض يضمن تطبيق القانون, ومن ثم يحقق فاعلية تلك الحماية, فنصوص القانون تظل صامتة جامدة حتي يتدخل القاضي لتقرير المعاني الصحيحة التي أراد القانون التعبير عنها. والاحكام التي يصدرها القضاء وتحوز قوة الأمر المقضي, تنال قوة الحقيقة القانونية, فتستفيد من قرينة المطابقة مع كلمة القانون, ولذا صح القول بإن القضاء ركن في قانونية النظام السياسي, وبأنه لا قانون بغير حق اللجوء إلي القضاء لان كفالة الحق في التقاضي هو السبيل الوحيد لممارسة القاضي لأقدس مهامه بوصفه الحارس الطبيعي للحقوق والحريات, والتي تعد حمايتها هي غاية النظام القانوني.
أزمه التقاضي
إن كفالة الحق في التقاضي تستلزم مفترضات ثلاثة الأول: يعني بتوفير السبل للوصول إلي ساحة القضاء, دون أن يعترض ذلك الوصول أية عوائق مادية قانونية, الثاني يركز علي كفالة محاكمة عادلة يصل الاطراف في نهايتها الي حل منصف, الذي وإن لم يحقق العدل, فإنه يمثل علي الاقل التسوية التي يقبل بها المتخاصمون بوصفها الترضية القضائية لما تعرضت له حقوقهم أوحرياتهم. الثالث: يتهم بالحق في تنفيذ أحكام القضاء, وهو وإن كان يبدو للوهلة الأولي خارجا عن نطاق الحق في التقاضي, إلاأنه وكما أكدت المحكمة الدستورية العليا, يمثل مفترضا هاما من مفترضات كفالة حق التقاضي ذلك أن كل عقبة تحول دون اقتضاء الحق المقضي به, تعتبر اخلالا بالحق في التقاضي, وبالتالي اخلالا بالضمان القضائي.
أمام تلك المفترضات النظرية, يفصح تأمل الواقع العملي المعاصر في شأن كفالة حق المواطن المصري في اللجوء إلي القضاء عن حقيقة أليمة, تنطق بما يتعرض له هذا الحق من أزمة حقيقية, تتسع طولا لتشمل كل أجنحة النظام القضائي مدنيا كان أم جنائيا أم إداريا وتمتد عمقا لتؤثر علي كل فئات المتقاضين غنيهم وفقيرهم,ضعيفهم وقويهم,رجالهم ونسائهم, لترسم صورة قائمة لما يمكن أن يطلق عليه أزمة العدالة في مصر.
في مواجهة أزمة حقيقية تشهد بها أعداد الخصومات التي تنظرها المحاكم, وتنطق بها المدد التي يستغرقها الوصول إلي حكم نهائي, وتقرها النسب المعلنة لتنفيذ الاحكام المقضي بها, يبدو تصور طرح ورقة للنقاش ترصد الاسباب, وتقترح الحلول لأزمة ممارسة حق التقاضي في مفترضاته الثلاثة أمرا مستحيلا, لذا فإننا سوف نعني فقط بالتركيز علي إشكاليات المفترضين الأول والثاني, تاركين إشكاليات إجراءات المحاكمة المنصفة, لعمل أخر إدراكا لحقيقة أن مواجهة تلك الإشكاليات تقترض بداءة أن تصل إلي حلول حقيقية لما قد يواجهه المواطن حتي يصل إلي ساحة القضاء, وما يعوقه بعد أن يخرج بحكم نهائي عن الوصول إلي حقه الذي هو غاية اختياره اللجوء الي تلك الساحة.
ماهية الحق في التقاضي
العدل اسم من أسماء الله الحسني, وصفة من صفاته سبحانه وتعالي, ومنها العدالة كفضيلة شرعها الله لعباده وأمرهم عليها دون تمييز بين أبيض وأسود, رجل وإمرأة, مسلم وغير مسلم. والقسط شعار الديانات السماوية جميعا وشريعة النبيين أجمعين, يقول تعالي في سورة الحديد: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
إن إقامة العدل وتحقيق القسط هو الركيزة الاهم لأي تنظيم اجتماعي. ومن هنا كان حق المواطن علي الدولة في أن تيسر إقامة العدل بين الناس, فالعدل أساس نشأتها وشرط بقائها, ومن هنا أيضا كان واجب الدولة في كفالة حق التقاضي.
بين إقامة الحق, والحكم بالهوي, ترددت البشرية منذ بدء الخليقة وحتي يومنا هذا بين منطقين لاثالث لهما, إما أن يضبط سلوك الناس قضاء وإما أن تقمعهم قوة ــ وفي مقام الاختيار بين المنطقين ورد في المذكرة الايضاحية لقانون استقلال القضاء أوليس من حق الناس أن يطمئنوا إلي أن كل ماهو عزيز عليهم يجد من كفالة القضاء أمنع حمي وأعز ملجأ ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو حاق به ظلم أن يطمئن إلي أنه أمام القضاء قوي بحقه, عزيز بنفسه مهما كان خصمه قويا بماله أو نفوذه أو سلطانه؟فمن الحق أن يتساوي أمام قدس القضاء أصغر شخص في الدولة بأكبر حاكم فيها, وأن ترعي الجميع عين العدالة.
لقد حرصت المواثيق الدولية والدساتير في مختلف دول العالم, ومنها مصر علي إقرار حق التقاضي باعتباره من أهم الحقوق العامة للمواطنين, وتلقي المواد أرقام(40),(64),(65),(68),(165),(166) من الدستور المصري الدائم لعام1971, علي هدف واحد هو تأكيد قدسية التقاضي وضماناته, وعلي أهمية احترام سيادة القانون واستقلال القضاء التزاما بحكمة الاجداد إذ قالوا أن: العدل أساس الملك وباعتبار أن سيادة القانون وكفالة حق التقاضي وجهان لعملة واحدة.
ولعل نص المادة(68) يمثل حجر الزواية في هذا الخصوص,حيث تنص علي أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة,وأن لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي,وأن الدولة تكفل تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا.
لقد ساهمت محكمتنا الدستورية العليا بالعشرات من الاحكام الجليلة في تفسير حق التقاضي وفق ماورد في الدستور, ويمثل حكمها الصادر في3 من أبريل لعام1993 حكما شارحا بوضوح لمفهوم المحكمة للحق الدستوري في التقاضي,حيث قضي الحكم بأن التقاضي يتكون من ثلاث حلقات:
الاولي: تمكين كل متقاض من النفاذ إلي القضاء نفاذا ميسرا لاتثقله أعباء مالية.
الثانية: حيدة المحكمة واستقلالها وحصانتها.
الثالثة: وجوب أن توفر الدولة للخصومة حلا منصفا يمثل التسوية التي يعمد من يطلبها إلي الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يسعي إليها.
وفي جميع الاحوال لايجوز إنكار الحق في الترضية القضائية سواء بمنعها ابتداء أو بإقامة العراقيل في درجه اقتضائها أو بتقديمها متباطئة متراخية دون مسوغ أو بإحاطتها بقواعد إجرائية تكون معيبة في ذاتها, فلا يجوز أن يكون طريق الطعن القضائي لرد الامور إلي نصابها ممتنعا أو غير منتج.
وقد أسهت محكمتنا العليا في شرح مضمون ومدلول وأثار فهمها للضمانة الدستورية الحامية لكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث, وفيما يلي بيان بأهم ماقررته من مبادئ في خصوص كل حلقة.
الحلقة الأولي: الحق علي قدم المساواة في النفاذ الميسر إلي القضاء.
وقد قررت المحكمة في هذا الخصوص العديد من المبادئ التي يأتي علي رأسها إقرارها بأن الناس لايتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في اللجوء إلي قاضيهم الطبيعي وتحكمهم قواعد محددة في مجال التداعي أو الدفاع أو استئداها أو الطعن في الاحكام الصادرة بشأنهم وإقرارها حظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار من رقابة القضاء, واعتبارها مصادرة حق التقاضي إنكارا للد ولة في أخص مقوماتها ونكولا عن خضوع الدولة للقانون وتأكيدها علي أن إرهاق المشروع للمتقاضين بقيود تعسر الحصول عليها أو تحول دونها, مثل إخلالا بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق, وإنكارا لحقائق العدل في جوهر ملاحها.
الحلقة الثانية: استقلال القضاء وحيدته ضمانان لحق التقاضي إدراكا لاستبعادنا مقتضيات التنظيم القضائي الواجب لكفالة محاكمة منصفة من نطاق البحث في هذه الورقة, فلن نتعرض هنا لما أسهبت فيه محكمتنا الدستورية في هذا الخصوص, فقط نكتفي بإيراد ما ضمنته احد ـ أحكامها من شرح لأسباب اعتبار ضمان استقلال القضاء وحيدته حلقه وسطي في حلقات الحق في التقاضي, وفي معرض بيان ذلك أوردت المحكمة قولها بإن:
.
اعداد د.خالد سري صيام
تنطلق هذه الدراسه القانونية من إعتقاد راسخ بأن الحق في التقاضي وتمكين الفقراء من ممارسة هذا الحق بل وتيسير ذلك عليهم يمثل خطوة أولية علي طريق التمكين الاقتصادي والاجتماعي للفقراء في مصر.
لذلك تري الدراسة أن حصول الفقراء علي حقوقهم الاقتصادية يمر عبرممارسة حق التقاضي إلي جانب حقوق العمل وإقامة الاعمال وتسجيل الملكية العقارية.
وترصد الدراسة ــ التي جاءت كإحدي الاوراق البحثية في مؤتمر التمكين القانوني للفقراء في مصر والذي نظمه المركز المصري للدراسات الاقتصادية مؤخرا ــ عددا من المعوقات الماليه والادارية والتشريعية التي قد تحول دون ممارسة الفقراء لحق التقاضي.
هنا عرض لهذه الدراسة الهامة.
عبر الامتداد الألفي لتاريخ الدولة المصرية,كان إرسال العدل عبر كفالة حق المواطن في التقاضي, الركيزة الاهم في مفهوم الدولة كما فهمه المصريون منذ أكثر من أربعه الآف عام, وكما تفهمه اليوم شعوب العالم المتمدين باعتباره سمت دولة القانون.لقد حافظت مصر عبرتاريخها الطويل, وعلي امتداد الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية والإسلامية التي اعتركتها, علي كفالة الحق في التقاضي بوصفه أقدس التزامات الدولة تجاه مواطنيها, وأعز بنود العقد الاجتماعي الذي يربط المواطن ببلده أوثق رباط, فلا مراء في أهمية أن يشعر الإنسان بالثقة في أنه حالة أن يعتدي علي حقوقه أو تنتهك حرماته, سوف يجد سبيلا إلي ساحة قضاء عادل ناجز, يصل به إلي حقه, ويصون به حريته من أقصر طريق, وفي أسرع وقت, وبأقل التكاليف.
إن السبيل الوحيد لحماية الحقوق والحريات, هو ضمان وجود وفاعلية سلطة قضائية تسهر عليها, تتكامل مع السلطة التشريعية, حيث لايكفي أن تصدر تلك الاخيرة قوانين تقرر الحماية,بل لابد من قاض يضمن تطبيق القانون, ومن ثم يحقق فاعلية تلك الحماية, فنصوص القانون تظل صامتة جامدة حتي يتدخل القاضي لتقرير المعاني الصحيحة التي أراد القانون التعبير عنها. والاحكام التي يصدرها القضاء وتحوز قوة الأمر المقضي, تنال قوة الحقيقة القانونية, فتستفيد من قرينة المطابقة مع كلمة القانون, ولذا صح القول بإن القضاء ركن في قانونية النظام السياسي, وبأنه لا قانون بغير حق اللجوء إلي القضاء لان كفالة الحق في التقاضي هو السبيل الوحيد لممارسة القاضي لأقدس مهامه بوصفه الحارس الطبيعي للحقوق والحريات, والتي تعد حمايتها هي غاية النظام القانوني.
أزمه التقاضي
إن كفالة الحق في التقاضي تستلزم مفترضات ثلاثة الأول: يعني بتوفير السبل للوصول إلي ساحة القضاء, دون أن يعترض ذلك الوصول أية عوائق مادية قانونية, الثاني يركز علي كفالة محاكمة عادلة يصل الاطراف في نهايتها الي حل منصف, الذي وإن لم يحقق العدل, فإنه يمثل علي الاقل التسوية التي يقبل بها المتخاصمون بوصفها الترضية القضائية لما تعرضت له حقوقهم أوحرياتهم. الثالث: يتهم بالحق في تنفيذ أحكام القضاء, وهو وإن كان يبدو للوهلة الأولي خارجا عن نطاق الحق في التقاضي, إلاأنه وكما أكدت المحكمة الدستورية العليا, يمثل مفترضا هاما من مفترضات كفالة حق التقاضي ذلك أن كل عقبة تحول دون اقتضاء الحق المقضي به, تعتبر اخلالا بالحق في التقاضي, وبالتالي اخلالا بالضمان القضائي.
أمام تلك المفترضات النظرية, يفصح تأمل الواقع العملي المعاصر في شأن كفالة حق المواطن المصري في اللجوء إلي القضاء عن حقيقة أليمة, تنطق بما يتعرض له هذا الحق من أزمة حقيقية, تتسع طولا لتشمل كل أجنحة النظام القضائي مدنيا كان أم جنائيا أم إداريا وتمتد عمقا لتؤثر علي كل فئات المتقاضين غنيهم وفقيرهم,ضعيفهم وقويهم,رجالهم ونسائهم, لترسم صورة قائمة لما يمكن أن يطلق عليه أزمة العدالة في مصر.
في مواجهة أزمة حقيقية تشهد بها أعداد الخصومات التي تنظرها المحاكم, وتنطق بها المدد التي يستغرقها الوصول إلي حكم نهائي, وتقرها النسب المعلنة لتنفيذ الاحكام المقضي بها, يبدو تصور طرح ورقة للنقاش ترصد الاسباب, وتقترح الحلول لأزمة ممارسة حق التقاضي في مفترضاته الثلاثة أمرا مستحيلا, لذا فإننا سوف نعني فقط بالتركيز علي إشكاليات المفترضين الأول والثاني, تاركين إشكاليات إجراءات المحاكمة المنصفة, لعمل أخر إدراكا لحقيقة أن مواجهة تلك الإشكاليات تقترض بداءة أن تصل إلي حلول حقيقية لما قد يواجهه المواطن حتي يصل إلي ساحة القضاء, وما يعوقه بعد أن يخرج بحكم نهائي عن الوصول إلي حقه الذي هو غاية اختياره اللجوء الي تلك الساحة.
ماهية الحق في التقاضي
العدل اسم من أسماء الله الحسني, وصفة من صفاته سبحانه وتعالي, ومنها العدالة كفضيلة شرعها الله لعباده وأمرهم عليها دون تمييز بين أبيض وأسود, رجل وإمرأة, مسلم وغير مسلم. والقسط شعار الديانات السماوية جميعا وشريعة النبيين أجمعين, يقول تعالي في سورة الحديد: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
إن إقامة العدل وتحقيق القسط هو الركيزة الاهم لأي تنظيم اجتماعي. ومن هنا كان حق المواطن علي الدولة في أن تيسر إقامة العدل بين الناس, فالعدل أساس نشأتها وشرط بقائها, ومن هنا أيضا كان واجب الدولة في كفالة حق التقاضي.
بين إقامة الحق, والحكم بالهوي, ترددت البشرية منذ بدء الخليقة وحتي يومنا هذا بين منطقين لاثالث لهما, إما أن يضبط سلوك الناس قضاء وإما أن تقمعهم قوة ــ وفي مقام الاختيار بين المنطقين ورد في المذكرة الايضاحية لقانون استقلال القضاء أوليس من حق الناس أن يطمئنوا إلي أن كل ماهو عزيز عليهم يجد من كفالة القضاء أمنع حمي وأعز ملجأ ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو حاق به ظلم أن يطمئن إلي أنه أمام القضاء قوي بحقه, عزيز بنفسه مهما كان خصمه قويا بماله أو نفوذه أو سلطانه؟فمن الحق أن يتساوي أمام قدس القضاء أصغر شخص في الدولة بأكبر حاكم فيها, وأن ترعي الجميع عين العدالة.
لقد حرصت المواثيق الدولية والدساتير في مختلف دول العالم, ومنها مصر علي إقرار حق التقاضي باعتباره من أهم الحقوق العامة للمواطنين, وتلقي المواد أرقام(40),(64),(65),(68),(165),(166) من الدستور المصري الدائم لعام1971, علي هدف واحد هو تأكيد قدسية التقاضي وضماناته, وعلي أهمية احترام سيادة القانون واستقلال القضاء التزاما بحكمة الاجداد إذ قالوا أن: العدل أساس الملك وباعتبار أن سيادة القانون وكفالة حق التقاضي وجهان لعملة واحدة.
ولعل نص المادة(68) يمثل حجر الزواية في هذا الخصوص,حيث تنص علي أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة,وأن لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي,وأن الدولة تكفل تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا.
لقد ساهمت محكمتنا الدستورية العليا بالعشرات من الاحكام الجليلة في تفسير حق التقاضي وفق ماورد في الدستور, ويمثل حكمها الصادر في3 من أبريل لعام1993 حكما شارحا بوضوح لمفهوم المحكمة للحق الدستوري في التقاضي,حيث قضي الحكم بأن التقاضي يتكون من ثلاث حلقات:
الاولي: تمكين كل متقاض من النفاذ إلي القضاء نفاذا ميسرا لاتثقله أعباء مالية.
الثانية: حيدة المحكمة واستقلالها وحصانتها.
الثالثة: وجوب أن توفر الدولة للخصومة حلا منصفا يمثل التسوية التي يعمد من يطلبها إلي الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يسعي إليها.
وفي جميع الاحوال لايجوز إنكار الحق في الترضية القضائية سواء بمنعها ابتداء أو بإقامة العراقيل في درجه اقتضائها أو بتقديمها متباطئة متراخية دون مسوغ أو بإحاطتها بقواعد إجرائية تكون معيبة في ذاتها, فلا يجوز أن يكون طريق الطعن القضائي لرد الامور إلي نصابها ممتنعا أو غير منتج.
وقد أسهت محكمتنا العليا في شرح مضمون ومدلول وأثار فهمها للضمانة الدستورية الحامية لكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث, وفيما يلي بيان بأهم ماقررته من مبادئ في خصوص كل حلقة.
الحلقة الأولي: الحق علي قدم المساواة في النفاذ الميسر إلي القضاء.
وقد قررت المحكمة في هذا الخصوص العديد من المبادئ التي يأتي علي رأسها إقرارها بأن الناس لايتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في اللجوء إلي قاضيهم الطبيعي وتحكمهم قواعد محددة في مجال التداعي أو الدفاع أو استئداها أو الطعن في الاحكام الصادرة بشأنهم وإقرارها حظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار من رقابة القضاء, واعتبارها مصادرة حق التقاضي إنكارا للد ولة في أخص مقوماتها ونكولا عن خضوع الدولة للقانون وتأكيدها علي أن إرهاق المشروع للمتقاضين بقيود تعسر الحصول عليها أو تحول دونها, مثل إخلالا بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق, وإنكارا لحقائق العدل في جوهر ملاحها.
الحلقة الثانية: استقلال القضاء وحيدته ضمانان لحق التقاضي إدراكا لاستبعادنا مقتضيات التنظيم القضائي الواجب لكفالة محاكمة منصفة من نطاق البحث في هذه الورقة, فلن نتعرض هنا لما أسهبت فيه محكمتنا الدستورية في هذا الخصوص, فقط نكتفي بإيراد ما ضمنته احد ـ أحكامها من شرح لأسباب اعتبار ضمان استقلال القضاء وحيدته حلقه وسطي في حلقات الحق في التقاضي, وفي معرض بيان ذلك أوردت المحكمة قولها بإن:
.