أحد أبرز التحديات أو المخاوف الأمريكية والغربية من تداعيات انفصال جنوب
السودان بالرغم من أن الغرب يؤيده ضمناً ضمن خطة لتفتيته والقضاء على
احتمالية نشوء دولة إسلامية في السودان، هو المخاوف من أن يترتب على
الانفصال زيادة كبيرة في نشاط تنظيم القاعدة في السودان وأفريقيا، خاصة أن
هذا النشاط كامن حالياً في دول الحزام الأفريقي، في الوقت الذي تظهر بصماته
بوضوح في الصومال واليمن وأوغندا وكينيا، والاخيرتان من دول الجوار
السوداني.
فالموقف الرسمي الأمريكي ليس مع الانفصال كلية، وهناك فريق داخل الإدارة
الأمريكية لا يفضل انفصال الجنوب ويفضل بقاءه موحداً مع الشمال، ويتصوّر
انه بهذه الوسيلة يمكن واشنطن أن تضرب عصفورين بحجر واحد:
- الأول: أن تضمن ألا يتحول الحكم في السودان الى حكم إسلامي سافر لأن حزب
المؤتمر الحاكم سيراعي حينئذ القوى المشاركة في الحكم مثل الجنوبيين
وأصولهم الوثنية أو المسيحية، بل ويعتبر هذا الفريق في إدارة أوباما أن
فرصة تحول السودان لسودان «علماني» موحد كما توصي الخطة الأصلية لجون غارنغ
زعيم الحركة الشعبية الجنوبية الذي قتل في حادث طائرة، أفضل في ظل الوحدة
وبدون سفك دماء.
- الثاني: ألا تشتعل المنطقة بسبب المشكلات التي سوف تظهر بعد الانفصال وتتضرّر من جراء ذلك المصالح الأمريكية خصوصاً النفطية.
ضد التيار!
وبدأ هذا الفريق داخل إدارة أوباما يطرح سبباً آخر للمخاوف من الانفصال،
يتعلق بالمخاوف من ايجاد بيئة صحيّة في السودان وأفريقيا لانتشار تنظيم
القاعدة، ويعارض تسرّع اللوبيات الأمريكية والصهيونية في دعم انفصال
الجنوب، طارحاً تصور تحول الجنوب لمنطقة توتر غير آمنة، وسيكون أول من
سيدفع الثمن هو الغرب والولايات المتحدة بصفة خاصة، لأن هذه المنطقة تمثل
حالياً الممر الآمن لمرور صادرات النفط الجنوبية، والبحث عن ممر بديل لها
وتوفيره يحتاج إلى عشر سنوات، حسبما أوضح مسؤول سوداني في الخرطوم،
و«بالتالي فإن هذه المنطقة هامة جداً لهم، ومن الصعب التضحية بها لمجرد
أفكار مهووسة ليمينيين محافظين متطرفين يشجعون الانفصال (في أمريكا) دون
إدراك عواقبه كما فعلوا مع غزو العراق عندما شجعوا الغزو ولم يضعوا خطة
للانسحاب».
الفكرة بالتالي تتلخص في أن ثمة تياراً بدأ ينمو في الولايات المتحدة يرى
أن الإسراع الأمريكي نحو انفصال الجنوب وتقديم الدعم اللازم له عسكرياً
واقتصادياً ومعنوياً يجب أن يتباطأ نسبياً، وأن يتم طرح رؤى مختلفة حول
طبيعة المصالح التي ستعود على واشنطن من الانفصال، وهل هي أفضل أم أسوأ مما
لو بقي الجنوب متحداً مع الشمال؟
ومن هنا ظهر تفكير في بقاء الوحدة، ولهذا لم يعد الحديث عن موعد 9 كانون
الثاني 2011 للاستفتاء علي تقرير مصير الجنوب مقدساً، خصوصاً أن قادة
الحركة الشعبية يمكن في نهاية المطاف أن تؤثر عليهم واشنطن بما يخدم
مصالحها.
القاعدة في السودان
يضاف لما سبق أن الولايات المتحدة لم تنس أبداً أن السودان ليس بلداً
غريباً على أسامة بن لادن، فقد عاش فيه منذ أواخر الثمانينات حتى عام 1996
قبل أن يضطروه للذهاب الى أفغانستان، وتأسيسه لتنظيم القاعدة، ولم تنس أن
غالبية تفجيرات أوغندا وكينيا ضد سفارتيها في فترة التسعينات قامت بها
عناصر تتبنى الفكر القاعدي.
كما تدرك واشنطن أن القاعدة وأنصار الفكر الجهادي السلفي لا ينشطون إلا في
المناطق التي تعاني من غياب الدولة، ولهذا تخشى تماماً في حالة انفراط عقد
السودان أن تنمو حركات التطرف الديني وينشط التيار القاعدي في السودان،
الذي يقول الخبراء إن هناك عناصر (نائمة) تتبني أفكاره، ولهذا يخشون في
حالة انفصال الجنوب من اتساع حدة التطرف في السودان نفسه، خصوصاً لو ظلت
المخططات الغربية مستمرة في صورة السعي لفصل أقاليم أخرى في دارفور أو في
شرق السودان عن الخرطوم، أو ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس
السوداني المنتخب عمر البشير، واستمرار العقوبات على شمال السودان.
وعندما قتل موظف (غرانفيل) في هيئة المعونة الأمريكية في السودان وسائقه
رمياً بالرصاص في منطقة الرياض شرق الخرطوم ليلة رأس السنة الميلادية
2008م، نسبت المحكمة قتله لتابعين لتنظيم القاعدة، سجنوا ثم هربوا، ولم يلق
القبض عليهم بعد، وهو ما أثار تساؤلات عن قوة القاعدة وكيف هرّبت أنصارها
من السجن السوداني، وأين ذهبوا ولماذا توارى التنظيم وأختفى كما ظهر فجأة؟
وقد لمح لوجود القاعدة في السودان ومخاطر أن تعود لممارسة نشاطها لو أنفصل
الجنوب كتّاب سودانيون منهم (الهندي عز الدين) رئيس تحرير صحيفة (الأهرام
اليوم) السودانية، الذي كتب يوم 17/10/2010 بعنوان «إلى السيدة واشنطن:
القاعدة موجودة والحرب قادمة»، يقول : «ليس لديَّ أدنى شك في أن الحدود
التي لا تريد «الحركة» ترسيمها قبل الاستفتاء ستنفجر بعد أيام أو أسابيع
بعد إعلان الانفصال، وهي الآن على حافة البركان.. وما ذهب إليه الرئيس
الأمريكي «باراك أوباما» في مخاوفه من اندلاع حرب بين الشمال والجنوب
صحيح.. ستندلع الحرب لا محالة، وستنمو في أتونها عشرات الحركات الإسلامية
(الجهادية).. لن يقاتل مجاهدو (المؤتمر الوطني) القدامى، فقد تبدل الزمن،
وتبدلت النفوس.. لكن فكر القاعدة موجود.. وبكثرة قريباً من المنطقة،
وتعلمون جميعاً أن تنظيم (القاعدة) يعرف عن السودان أكثر مما يعرف عن
باكستان، فقد كان أسامة بن لادن هنا يوماً ما!
ولا ننسى أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن أعلن يوم 23 نيسان 2006 أن
السودان ودارفور تحديداً ستكون مسرحاً لحرب طويلة المدى ضد ما سمّاه
«اللصوص الصليبيين» إذا ما تدخلوا في غرب السودان، وأن هناك مخاوف أخرى لدى
الغرب من استهداف المنظمات الغربية المشبوهة في السودان من قبل هذه
الخلايا النائمة التي يجري الحديث عنها.
لولا القاعدة لغزوا دارفور!
بل إن الرئيس اوباما كان صريحاً جداً في التحذير من مخاطر تنشيط القاعدة في
المنطقة لو انفصل الجنوب وحدثت مشاكل.. فردّاً على سؤال من شبان أميركيين
خلال منتدى عبر شبكة «إم تي في»، في تشرين الأول الماضي 2010 قال أوباما إن
الملف السوداني يشكل «إحدى أولوياتنا ويتطلب انتباهنا»، لأنه إذا اندلعت
حرب بين الشمال والجنوب في السودان، سيؤدي هذا لخلق بؤرة نزاع في هذه
المنطقة الأفريقية، مما يترتب عليه تمدد النشاطات الإرهابية إلى تلك
المنطقة، ولن تسلم الولايات المتحدة الأميركية من خطر هذا التمدد الإرهابي،
وسيشكل خطراً كبيراً على الأمن القومي الأميركي، ويهدد المصالح الأميركية
في العالم.
وقال أوباما: «من المهم لنا منع هذه الحروب، ليس لأسباب إنسانية فقط، ولكن
أيضاً لمصالحنا الخاصة، لأنه إذا اندلعت حرب هناك فقد يؤدي ذلك إلى زعزعة
المنطقة وإفساح المزيد من المجال للنشاطات الإرهابية التي قد تتحول على
المدى الطويل ضد بلدنا».
وقبل هذا قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في لقاء مع سلفا كير في
نيروبي، في حزيران 2010، إن قيام دولة فاشلة في جنوب السودان نتيجة انفصال
الجنوب بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير، «قد يجعل من الإقليم جنة
للإرهابيين»!.
الواضح بالتالي أن المسألة تتعلق بمصالح لا بعواطف أو نيات، وقد يكون من
مصلحة أمريكا تفتيت السودان وقطع رقبة الرئيس البشير، ولكن عندما يظهر لهم
أن مصالحهم العليا سوف تتضرر أكثر في غياب سودان موحد أو انفصال الجنوب
وتحوله لدولة فاشلة ستصبح عبئاً على المصالح الأمريكية، بدأت لهجة الخطاب
تصبح أكثر حذراً في التعامل مع مشكلة انفصال الجنوب، بدليل تأييد الخيار
السوداني المتعلق بإدارة مشتركة لإقليم آبيي النفطي مثلاً، فالاهتمام
الأميركي بالشأن السوداني، باتت تحركه عدة عوامل، أهمها الخشية من تمدد
القاعدة في المنطقة إذا اندلع قتال بين الشمال والجنوب، ليس فقط في السودان
وإنما في المنطقة الأفريقية المحيطة.
وما يزيد هذه المخاوف أن القاعدة تسعى جاهدة إلى إيجاد مواطئ قدم لها في
غابات أفريقيا لأسباب كثيرة، ربما منها احتمالات نجاح الوساطة بين أمريكا
وطالبان قبل خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، وتأثير هذا المحتمل على
إخراج القاعدة من كهوفها في أفغانستان، فضلاً عن أن نشاطاتها الأخيرة تقلق
واشنطن ولا يزال هناك ثأر معها علي خلفية تفجيرات 11 أيلول 2001..
خبراء النفط يقدرون حجم الاحتياطي النفطي في الأراضي الإفريقية بما بين 80
ملياراً و100 مليار برميل (أي ما نسبته 8 - 10 في المائة من الاحتياطي
العالمي الخام), حتى ولو كانت كلفة استخراج النفط الإفريقي مرتفعة التكاليف
قياساً بنفط منطقة الشرق الأوسط، فإنه يعوضها وقوع القارة السمراء في موقع
يؤهلها ليس فقط لتصدير نفطها نحو القارة الأميركية الشمالية مباشرة (عبر
خليج غينيا) بل أيضاً نحو أوروبا التي تعتبر مستهلكاً كبيراً للنفط ما يوفر
تكاليف النقل، وهذا بحد ذاته عامل مهم إذا علمنا أن 40% من نفقات الشحن
العالمية يمتصها الناتج النفطي، كما أن مناطق الإنتاج بعيدة عن المناطق
السكنية وقريبة من البحار.
بل إن أحد أسباب تشكيل قوات (أفريكوم) الأمريكية للتدخل في أفريقيا كان
حماية المصالح الأمريكية ضد مخاطر مثل القاعدة. ويمكن النظر للزيارة التي
قام بها قائد القوات البرية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في إفريقيا
(افريكوم) الجنرال ديفيد هوغ إلى الجزائر في الأسبوع الأول من هذا الشهر،
ضمن المحاولات الأمريكية لمواجهة خطر الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء
الإفريقية، باعتبارها المنطقة القريبة من مراكز انطلاق شحنات النفط
الأفريقية من خليج غينيا.
ولم يكن مستغرباً بالتالي أن يتحدث الجنرال ديفيد هوغ في الجزائر عن «تقدم
مدهش» في مكافحة الإرهاب في بلدان منطقة الساحل الإفريقي بقيادة الجزائر،
وأن يشدد على التعاون الأمريكي الجزائري في هذا الصدد بعدما تقرر إقامة
مركز إقليمي متقدم للاستخبارات الأمريكية في الجزائر بغرض جمع المعلومات
الاستخبارية عن تحركات وأنشطة القاعدة في المغرب العربي، يتعاون مع الجزائر
التي تلعب دوراً في محاربة القاعدة في مالي وموريتانيا والنيجر أيضاً.
ولا ننسى أيضاً أن وثائق سرّبها موقع «ويكيليكس» تتعلق بالتعاون الأمني بين
الجزائر وواشنطن، كشفت عن تعاون مشترك بشأن اختراق صفوف «القاعدة» في هذه
المنطقة من شمال أفريقيا، لتحقيق مصالح مشتركة في ظل الرغبة الجزائرية في
القضاء علي بؤر القاعدة التي تستمد دعماً من دول مجاورة على الساحل
الأفريقي.
ويبدو أن التخوف الأمريكي والغربي من عودة نشاط القاعدة بقوة في أفريقيا
وتهديد مصالحهم هناك، انعكس بشكل إيجابي على إشكالية انفصال الجنوب،
فلولاها لاستمرت قوة الدفع الرهيبة باتجاه حافة الهاوية، وفصل ليس فقط
الجنوب، وإنما الضغط علي الخرطوم، والانتقال عاجلاً لفصل أو تطبيق ذات
الخيار في مناطق أخرى في الغرب (دارفور) والشرق وغيرها