الدولة المدنية في مجتمع طائفي
لماذا لم تعلن الدولة الحداد علي ضحايا الأقباط؟
لا بد أن يسقط هذا اليوم من تاريخ المجتمع.. يوم أول
يناير 2011 الذي وقعت في لحظاته الأولي هذه الجريمة المروعة التي أودت
بأرواح أشقاء من بني وطننا.. وأصابت عشرات منهم بما لا نتمناه لأحد. الأيام
التي يجب أن تذكر في التاريخ تلك التي نريد أن نمجدها ونمنحها الخلود..
ومن ثم، فإن إعلان الحداد الرسمي علي ضحايا جريمة إرهابية خطيرة من هذا
النوع، هو نوع من التخليد غير الواجب.. الذي يجب أن يحظي بالخلود هو أن
يتحول هذا اليوم إلي مناسبة لتفجير انتباه قومي واسع النطاق حتي ننقذ
أنفسنا من أنفسنا.
أن يقول الرئيس بوضوحه في كلمته للأمة: إن هناك
أصابع خارجية وراء الجريمة الإرهابية الجبانة، فإن هذا لا يمكن أن يكون إلا
إذا كانت قد توافرت لديه معلومات أو حتي نذر بها.. وإذا كنا ندرك أن هناك
عشرات من أصحاب المصالح الذين يضيرهم أن تبقي مصر مستقرة وآمنة.. دولاً
وتنظيمات.. وإذا كنت أتحدث كثيرًا عن صعوبة أن تبقي مصر واحة الاستقرار في
محيط من النار والدمار.. وأن المتربصين كثر.. بل والغيورين أكثر.. فبين
الدول غيرة وأحقاد كما بين البشر.. فإن هذا كله لا ينفي أننا كمجتمع نتحمل
المسئوليه عما جري ووقع.
إن الدعاء المثير للسخرية يقول: «اللهم
احمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم» وأتصور أن المجتمع الآن عليه
أن يدعو: «اللهم احمني من بعض أبنائي أما خصومي والمتآمرون من الخارج فأنا
جدير بهم».
وإذا كان الهدف الأسمي الآن هو تعزيز الدولة المدنية
وترسيخ وسطيتها.. فإن المشكلة هي أن في المجتمع قدرًا لا بأس به من أعداء
ذلك وخصومه الذين يريدون أن يحدث ذلك.. بل وإن تعود مصر إلي عصور سحيقة..
أن تتخلف عن عصرها.. وأن تصبح ميدانًا للشقاق وبيتًا للشقاق.. كل يهدم
بمعول.. وكل يخرم في قاع السفينة بمثقاب.. وكل يمسك بعود ثقاب راغبًا في
إشعال حريق.
في ضوء هذا أطرح بعضا من الأسئلة التي أثيرت في الأيام الأخيرة.. وأعلق علي بعض الظواهر الخطيرة:
- مدفعية جيش الفتنة
لست
أدري حتي هذه اللحظة ما هي الأسباب التي دعت الجهات القانونية إلي أن
تتراخي في التعامل مع بعض من الترديدات الطائفية التي تبعثرت فوق رءوس
الناس وعصفت أذهانهم خلال العام الماضي.. وفي الصدارة من ذلك ما كان قد
قاله من أصوات التطرف المسلم الدكتور محمد سليم العوا.. وما كان قد قاله من
أصوات التطرف المسيحي الأنبا بيشوي.
هذه النوعية من الترديدات
التي تم إفساح المساحات لها علي نطاق واسع في مختلف وسائل الإعلام الخاصة..
وبمنتهي العمدية.. بل وبتنافس فيما بينها.. وصلت إلي حد أن ادعي العوا أن
هناك أسلحة في الكنائس.. وبلغت حد أن قال بيشوي إن المسلمين ضيوف علي مصر..
وإن البلد بلد الأقباط.. فهل بعد هذا تحريض؟
إن هذين لم يمسكا
قنبلة.. ولكنهما ساهما في مناخ متوتر.. ونفخا في طائفية لم تكن ناقصة..
ودفعا المجتمع إلي أن يمضي في مناقشة لا طائل منها.. قامت علي خرافات
تاريخية وأساطير تناقض الوقائع والحقائق.. وإذا كان الإرهاب هو فعل آثم
يمثل غزواً لاستقرار المجتمع بالفتنة والدمار.. فإن لجيش الفتنة مدفعية
قصفت رءوس الناس عن طريق مثل هذا الخطاب المتطرف والطائفي.
في مصر
عشرات من القوانين التي تنص علي أن كل من يضر الوحدة الوطنية أو يقوض
استقرار المجتمع لابد له من حساب وعقاب.. فكيف بجهات القانون أن رأت وسمعت
هذا ولم تتخذ أي إجراء.. وكيف صمتنا عن مثل هذه الأمور.. ثم انتبهنا إلي أن
جريمة إرهابية كالتي وقعت كان يمكن أن تؤدي إلي كارثة طائفية وفتنة
كبيرة.. والتربة لم تزل خصبة.. وقد رواها هذا النوع من الفكر وذلك الخطاب.
إنني
أعتبر أن كلامي هذا هنا هو تذكير لجهات القانون وأطالب مجددًا بأن يقوم
النائب العام بالتحقيق مع كل منهما علي الأقل فيما ورد في خطابهما
وتصريحاتهما ومساءلتهما عن فعلهما هذا.. وأطلب من كل النخبة التي التزمت
كثيرًا من الصمت في هذه الأمور أن تتخذ مواقف واضحة وصريحة لا التفاف فيها
ولا مواربة.
- كاميليا ووفاء
من المؤسف أن بلدًا بهذا
الحجم، ومجتمعًا بهذا التاريخ والتراث الحضاري، يمكن أن يقع أسيرًا لقصة
امرأة اسمها كاميليا شحاتة.. وفي خلفيتها امرأة أخري اسمها وفاء قسطنطين،
كما لو أنه قد أصبح بلدًا لكاميليا.. أو مجتمعًا لوفاء.. مشكلتان عائليتان
بطريقة أو أخري تحولتا إلي موضوع مجتمعي هائل.. يتم تناوله في تحذيرات
وتهديدات تنظيمات إرهاب دولية.
من الذي صنع هذه الأزمة المسماة
كاميليا؟ من الذي جعل منها موضوعاً كبيراً؟ كيف انطلقت القصة من حديث عن
اختفاء.. إلي العثور عليها حيث كانت تأوي.. إلي وصولها للكنيسة ثم إعلانها
تمسكها بمسيحيتها؟ ثم خروج المظاهرات المتطرفة التي تطالب بأن تخرجا إلي
الناس مسلمتين لا مسيحيتين؟ إجابة الأسئلة معروفة.. وأصابع الاتهام في
الكفين تشير إلي متهمين معروفين.. وإلي مسئولين محددين.. الذين بادروا
والذين ثاروا والذين استثيروا والذين تم شحنهم.. هنا أو هناك.
قصة
امرأة، أو امرأتين لا يمكن أن تقود هذا المجتمع برجاله ونسائه إلي تلك
الأوضاع المأساوية.. التي وجدت فيها أطراف خارجية بيئة خصبة من أجل أن تدفع
بمن خطط كي يجند من نفذ.. فانفجرت الدماء والأشلاء في شارع خليل حمادة حيث
كنيسة القديسين.. والتهبت المشاعر في مختلف أنحاء مصر.. وصولاً إلي ما نحن
فيه الآن من فتنة.. وتهديد حقيقي للبلد.
سؤال إلي عقول البلد، إلي
الذين انقادوا، إلي الذين انفجرت الدماء في عروقهم لأنهم يريدون أن يأخذوا
كاميليا إلي فريقهم، هل ترضون أن يسجل التاريخ باسمكم أنكم كنتم ضحايا
شقاق مهول بسبب امرأة لم تكن علي وفاق مع زوجها القسيس.. هل تريدون أن يكون
هذا إرثكم.. يا بلد الفراعنة.. والحضارات المكينة.. والعصور الزاهرة.. هل
تريدون أن يدون هذا في دفاتر الإنسانية.. جيل من المصريين دمر نفسه من أجل
سيدة نزقت.. أو لم تستطع أن تعيش مع رجلها؟
ومن ثم حين تجيبون عن
هذه الأسئلة يمكن أن نطرح أسئلة أخري أهم.. وأكثر جوهرية.. حول احترام
الآخر.. وقبول دينه.. سواء كان مسلمًا أو مسيحيا.. ويمكن أن نناقش بعدها
ثقافة الفتنة.. ومناخ الطائفية.. الذي من المذهل أننا جميعًا ندرك أنه سوف
يخرب بلدنا ولكننا جميعًا نقف متربصين ببعضنا البعض.. ونتجاهل المؤامرة
التي نحن أصلاً نتحدث عنها.
- هل الدولة عاجزة؟
من بين
الموضوعات التي أثيرت في الأيام الأخيرة تلك التي قيلت بشأن قدرة الأمن علي
حماية الكنائس والتحسب لمثل هذه الجريمة.. وقد انسحب علي هذا استغلال
سياسي تافه من بعض الذين رددوا أن مصر عاجزة عن أن تحمي مواطنيها؟
وسوف
أبدأ بالنقطة الأخيرة.. تلك التي قال بها محمد البرادعي معبرًا عن سذاجة
مفرطة وناقلاً من تهويمات الصاخبين علي شبكة الإنترنت ومن تحريضات مجموعات
من السياسيين يجدون في مثل تلك المناسبات فرصة كي يمضوا في مزيد من الإثارة
لعل هذا يؤدي إلي قلقلة تفيد أجنداتهم.. أو يسفر عن توتر يحقق أهدافهم.
عفوًا..
العجز عجزك.. حين تقول هذا فأنت تعبر عن عدم إدراك لخطورة اللحظة.. وعن
خسة سياسية لا يمكن أن يفاخر بها ناضج.. وعن انعدام وعي بحقيقة الأمور..
وعن عدم قدرتك علي أن تحقق شيئاً فتذهب إلي أمور تعتقد أنها سوف تؤثر في
قدرة الدولة وفي مدي تواصلها مع مجتمعها.. لو كانت هذه الدولة عاجزة عن
حماية مواطنيها لكانت قد عجزت عن توفير الأمن لك حيث تقيم وتعيش وتذهب
وتجيء.
إن الإرهاب خطر يضرب الجميع.. الولايات المتحدة بقضها
وقضيضها لم تكن عاجزة عن أن تحمي مواطنيها حين ضربها الإرهاب المهول في
سبتمبر 2001.. كما أن غيرها من الدول لم تكن عاجزة عن أن تحمي مواطنيها حين
تعرضت لهجمات الخسة والجبن.. والذي يقول هذا إنما يعطي فائدة للإرهاب
ويحقق له إيجابية.. إنه ببساطة كلام غرباء انتهازيين لا يمكن حتي وصفهم
بأنهم قناصو فرص.. هم أدني من هذا.
الدولة التي يقولون إنها عاجزة،
هي تلك التي استطاعت أن تدير شئون 80 مليون مواطن في مناخ من الاستقرار..
الذي يمكن أن تعترضه أنواء سوف تعبر.. وتعرقله شرور سوف يتم التصدي لها..
نحن لا نعيش في الجنة.. لم نقل إنها واحة غناء.. خصوصًا أن فيها نوعية من
الناس الذين لا يتوانون لحظة عن أن يطعنوا بلدانهم في ظهرها ولو كان هذا
بكلام علني ومؤسف من هذا النوع.
والأمن الذي قيل إنه قد اختل لم
يزل قادرًا علي أداء دوره والقيام بمهامه.. الحذر لا يمنع القدر.. لاسيما
إذا كان فينا طائفيون يحرضون علي مثل هذا الجرم.. ولا أعتقد أنه يمكن أن
توضع كتيبة حراسة علي كل كنيسة.. هذه دور عبادة يدخلها الناس لكي يصلوا
وليس كي يفتشوا.. المسيحي الذي يريد أن يذهب لأب اعترافه لن يكون علي الأمن
أن يفحص بطاقته كل مرة يأتي فيها إلي بيت دينه.. وعلي الرغم من ذلك، فإن
هناك إجراءات تأمينية تحيط بمختلف الكنائس علي كثرة عددها.
ولو
افترضنا جدلاً أنه لابد من فرض قيود تأمينية وتحسبات معقدة علي كل كنيسة،
فقد يكون في هذه الأجواء المشحونة مطلوبًا أيضاً أن يتم تأمين المساجد بنفس
الطريقة.. فالله أعلم بماذا يمكن أن يفعل التطرف.
- غضب الأقباط
من
اللافت بالطبع هذه التصرفات المستجدة التي رصدت في مناسبات مختلفة من قبل
بعض الشباب القبطي.. خصوصًا إبان تشييع جثامين الضحايا في دير مار مينا..
وإذا كنت أتفهم المشاعر.. فإنني لا يمكن أن أقبل استمرار هذه التصرفات التي
رفضها ويرفضها كل المصريين مسلمين ومسيحيين.
أداء الواجب في
العزاء هو أمر معروف اجتماعيا ودينيا في مصر وغيرها.. مشاطرة الأحزان تعني
أن نتقاسمها فيمكن أن نحتملها.. بدلاً من أن ننوء بها وحدنا.. كما أن قيام
المسعفين بأداء دورهم هو أمر مفروض عليهم.. يقومون به بمقتضي الضمير
والمهمة.. ومن ثم، فإن المجريات التي وقعت بعد الحادث في كنيسة القديسين من
بعض الأقباط وفي جنازة الشهداء لم يكن من الممكن توقعها.
الغضب
مفهوم.. ولكن من قال إنه غضب الأقباط وحدهم.. والحزن شديد ولكن من ذكر أنه
يخصهم دون غيرهم.. بلدنا هو الذي انضرب.. بلدنا جميعًا.. وتعريف الحادث
الأخير هو أنه ضربة إرهابية وليس عملية طائفية ناتجة عن أحداث الفتنة
الداخلية.. نعم نحن نري أن هناك أيادي داخلية قد حركتها أصابع خارجية..
ولكن هذا الذي جري هو عمل إرهابي لم يستهدف القتل فقط.. وإنما استهدف أن
تحدث الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين.
ومن ثم.. وإذا كانت
المعلومات التي قيلت بأنه قد تم التعدي علي الوزير أحمد المغربي أثناء أداء
واجب العزاء في جنازة الضحايا غير صحيحة، كما أنه غير صحيحاً أنه قد أصيب
بالإغماء، وإذا لم يكن صحيحا أنه قد تم التعدي علي الوزير عبدالسلام
المحجوب.. فإن الهتافات التي لقيها محافظ الإسكندرية عادل لبيب لم تكن
لائقة وكان علي الأنبا يؤانس أن يوقفها.. كما أن ما تعرض له لبيب والدكتور
مفيد شهاب في سيارة أقلتهما من الجنازة إلي مدخل الدير لم يكن مفترضاً..
ونفس الأمر ينطبق علي الطريقة التي تعامل بها بالأمس بعض الغريرين مع كل من
شيخ الأزهر ومفتي الديار ووزير الأوقاف وهم في طريقهم إلي تعزية قداسة
البابا شنودة.. كما أن إلقاء الزجاجات الفارغة في الشارع بعد فحص النائب
العام لموقع الجريمة لم يكن محترمًا.
هذه وقائع سوف تمر.. ولكنها
لم تكن لتحدث وكان لابد من إحاطة الغضب بقدر من التعقل حتي لا نعطي الإرهاب
سكينًا يطعننا به بعد أن أصابنا في سويداء نفوسنا.
وبهذه المناسبة
وبمناسبة تعريف الجريمة، فإن علينا ونحن نناقش الأمر ونستنهض عقول المجتمع
من غفوتها، وثقافته من طائفيتها، أن ننتبه إلي أن هذا إذا كان وقت نقاش
إلا أنه ليس وقت مطالبات من نوع معين.. بالطبع نحن نريد أن نستغل الموقف كي
نعزز مدنية الدولة وكي نتخلص من الطائفية وتهديدها.. وأن يكون الثقب
الأسود منفذًا إلي زمن أبيض.. ولكن علينا أن ننتبه إلي أن هذا لا يجب أن
ينسينا أننا بصدد مؤامرة خارجية.. حتي لو كان قد نفذها أبناؤنا.. الأولون
نحن جديرون بهم.. وأما بعض من فينا فيجب أن نطلب دعماً إضافياً من الله كي
ينير لهم بصيرتهم
.عبدالله كمال