أصبحنا نسابق عقارب الساعة للحاق بالأحداث المتسارعة بعد أن كان الكتاب والمحللون ــ قبل أسابيع معدودة ــ يضطرون لإعادة تناول ذات الموضوعات بشكل متكرر بسبب الركود الذى لازم الحياة السياسية عقودا طويلة، وأصبح لزاما على الجميع أن يواجه ما يبدو أنه سير فى اتجاه الفوضى والفتنة بتحليل أسبابه ومن ثم محاولة دفع الدفة باتجاه العمل السياسى البناء الذى ينتقل بالبلاد إلى شرعية ديمقراطية تعبر بشكل حقيقى عن الإرادة الجماهيرية.
ذلك أن الثورة المصرية تميزت ــ ضمن ما تميزت به ــ بأنها كانت ثورة شعبية حقيقية، خرجت فيها أطياف الشعب المختلفة ولم تهيمن عليها أى من الاتجاهات الفكرية أو التنظيمات السياسية، وكان لهذا الأمر مميزاته التى من أهمها أن أجهزة الأمن التى استند إليها نظام مبارك لم تتمكن من قمعها، بيد أن الأمر لم يخل من المشكلات، إذ أوجد فراغا قياديا، عمقه ما أحدثته الأنظمة المتتالية على مدار خمسين سنة من تفكيك المؤسسات الوسيطة (أحزاب سياسية، نقابات مهنية، اتحادات طلبة، اتحادات عمال، طرق صوفية، وغيرها) والتى كان بإمكانها تنظيم المجتمع، أو التعبير عن طموحاته بشكل يعكس الواقع، إلا أن هذا الفراغ عوضه فى المراحل الأولى من الثورة اتحاد المطالب التى كانت هى القائد الحقيقى فى مرحلة ما قبل التنحى، وهى التى نزعت الشرعية عمن قبل بالتفاوض قبل رحيل مبارك وسليمان.
بيد أنه مع انتقال السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تحولت المطالب من السلبية إلى الإيجابية، أى من المطالبة بالسقوط إلى المطالبة بمجموعة من الإجراءات من شأنها تفكيك منظومة الاستبداد ومعاقبة المجرمين والتأسيس لنظام ديمقراطى يعبر بشكل حقيقى عن الإرادة السياسية للجماعة الوطنية المصرية، وترتيب هذه الإجراءات أمر يقع فيه خلاف، ومتابعة تنفيذها يحتاج لجهة تعبر عن الإرادة الشعبية، وقد أوجدت تلك الحاجة ــ مع الإلحاح الإعلامى على أن الثورة فى جوهرها شبابية ــ عددا كبيرا من التنظيمات الشبابية، التى رأت ــ بحسن نية فى الغالب ــ أن دورها هو قيادة المرحلة المقبلة، وظنت ــ بسبب تضخيم الإعلام من شأنها ــ أنها أولا قادرة على إدارة البلد، وثانيا تديره بالفعل، وقد أحسن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين اجتمع بجل هذه التنظيمات باعتبارها معبرة عن جزء من الشرعية، واجتمع عبر جلسات متعددة مع عدد كبير من المثقفين والكتاب والسياسيين من أصحاب الاتجاهات المختلفة، واستمع إلى تصوراتهم بخصوص الانتقال الديمقراطى، إلا أن كل هذه اللقاءات لا تكفى للتعبير عن الشرعية، إذ الأوزان النسبية لهذه الاتجاهات لا يمكن قياسها فى إطار غياب المؤسسات الوسيطة وغياب الانتخابات.
وهذا الأمر وضع المجلس الأعلى فى مأزق حقيقى، فهو يدرك أنه صاحب شرعية مشروطة ومؤقتة، استمدها من تدخله فى وقت حاسم لحماية الثوار، بيد أن الشعب هو الذى قام بالثورة، وقبول الشعب بشرعية الجيش مرتبط بالتزام الأخير بتحقيق أهداف الثورة، وكذلك بنقل السلطة إلى هيئة مدنية منتخبة ديمقراطيا. وشرعية الجيش بهذا المعنى إدارية أكثر منها سياسية، فهو مخول بإدارة البلاد بحياد سياسى لمرحلة انتقالية تقاس بالأسابيع، وليس مخولا باتخاذ أية مسارات سياسية، أو وضع أية سياسات، أو سن أية تشريعات (حتى ما صار منها ضرورة ملحة مثل إعادة النظر فى قوانين الوظيفة العامة بشكل يعيد الكرامة لموظفى الدولة ويقضى بالتالى على الكثير من المظاهرات والمطالبات الفئوية المشروعة)، إلا فى أضيق الحدود، وهو يدرك أنه حتى فى تلك الحالات التى سيضطر فيها لاتخاذ إجراءات فإنه سيتعرض لنقد شديد باعتباره هيئة غير منتخبة وغير ممثلة بالضرورة للإرادة الجماهيرية، وقد انعكست تلك الحيادية على نطاق العمل الذى حدده المجلس الأعلى للجنة تعديل الدستور، إذ اقتصرت مهمتها على القضايا محل الإجماع الوطنى، وذات الطبيعة الفنية والقانونية أكثر منها السياسية، كانت مهمتها الرئيسية هى إيجاد ضمانات تنظيم انتخابات حرة تعبر عن الإرادة الوطنية.
وهذا الفراغ التمثيلى يضعنا أمام مشهد شديد العبثية، حيث تطالب مجموعة من التنظيمات والائتلافات غير المنتخبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة غير المنتخب بحزمة من الإجراءات والإصلاحات باعتبارها مطالبات ديمقراطية، وهو مشهد يضع الوطن بأسره أمام تحد شديد الدقة، يخلق مناخا خصبا للفوضى فى ظل عدم وجود آلية لقياس الأوزان النسبية للمطالبات ــ خاصة المتناقضة منها ــ وعدم وجود آلية مؤسسية للحوار حول هذه المطالبات ومحاولة إيجاد صياغات توافقية واسعة عليها متى أمكن ذلك، وأمام هذا المشهد العبثى والمقلق يصبح الواجب الأول هو إيجاد جهة تتمتع بشرعية سياسية وتمثل الإرادة الديمقراطية للشعب ــ بعيدا عن التدخلات الإعلامية للتعظيم من حجم بعض الائتلافات بتسليط الضوء عليها ــ لتعمل مع الجيش على إدارة المرحلة المقبلة وما فيها من تحولات كبرى.
وأتصور أن الجهة الوحيدة التى يمكنها القيام بهذا الدور هى البرلمان، ذلك لأنه (بخلاف الرئيس) هيئة تتكون من أفراد كثر، تعددهم يسمح بتمثيلهم بشكل ديمقراطى للأوزان النسبية للآراء والاتجاهات المختلفة فى المجتمع، كما أنه يفتت السلطة بينهم فلا تبقى مطلقة فى يد أحدهم، ويراقب بعضهم بعضا مراقبة المجموع للفرد كما هو معلوم فى فلسفة هذه المؤسسات على نحو يحد من الانحرافات، بيد أن ثمة تحديات تواجه انتخاب برلمان جديد يؤدى دوره المطلوب فى تلك المرحلة الدقيقة، بعضها يتعلق بطبيعة دور البرلمان، وبعضها بطبيعة الانتخابات، وبعضها بتوقيتها.
فأما ما يتعلق بطبيعة الانتخابات فالذاكرة المصرية مليئة بالكثير من الانتخابات المزورة التى خرجت نتائجها معبرة عن إرادة القيادة السياسية أكثر من تعبيرها عن إرادة الناخب المصرى، وفى ظنى فقد ارتكز تزوير الانتخابات على ركيزتين رئيستين، أولاهما أن القيادة السياسية أرادت التزوير وارتبطت مصلحتها المباشرة والقريبة به، وثانيتهما أن البناء التشريعى سمح به، وكلا المشكلتين تم إصلاحه فى الفترة الماضية، فأما القيادة السياسية فهى منعدمة فى تلك المرحلة، والقيادة الإدارية للدولة المتمثلة فى الجيش ليس من مصلحتها التزوير، على الأقل لئلا يتصاعد الغضب الشعبى على نحو يستحيل معه الاستيعاب، وأما البناء التشريعى فقد تركزت التعديلات الدستورية التى أعدتها لجنة برئاسة المستشار طارق البشرى (وهو من هو كفاءة وتاريخا ووطنية وفكرا) والمطروحة للاستفتاء الآن على ضمانات إجراء انتخابات نزيهة، وهى ضمانات تبشر فى حالة إقرارها بانتخابات على درجة كبيرة من النزاهة.
وأما عن طبيعة دور البرلمان فالمشكل الرئيس يتمثل فى أن الدستور المصرى كان يؤسس لنظام رئاسى، ثم أدخلت عليه بعض التعديلات فصار رئاسيا ــ ملكيا، ثم أدخلت حزمة من التعديلات الأخرى جعلته أقرب للرئاسي ــ الإلهى، إذ صار الحاكم فيه مطلقا فى سلطاته ولا يخضع معها للمسائلة من أى جهة بشكل حقيقى، ومطالب الثوار والكتاب فى مصر تتجه فى مجملها لرفض هذا النظام، وتتجه لنظام برلمانى أو رئاسى ــ برلمانى، وهو أمر فى كل حال سيطرح باستفاضة فى إطار المناقشات حول الدستور الجديد، وقد أوجبت التعديلات المطروحة للاستفتاء (فى المادة 189 مكرر) على الأعضاء المنتخبين من مجلسى الشعب والشورى أن يجتمعوا «لاختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة أشهر من انتخابهم» وهو نص دستورى حاسم يقطع الطريق أمام العودة للوراء، إلا أن البعض قرر ــ عن سهو أو عمد ــ تجاهل هذا النص، واعتبر أن التعديلات الدستورية المقترحة ما هى إلا التفاف على مطالب الثورة بوضع دستور جديد.
وأما الإشكال المتعلق بتوقيت الانتخابات فخلاصته إن اللاعبين السياسيين لم يستعدوا بعد لخوض معركة انتخابية، وهناك تخوف من أن شبكات العلاقات والمصالح التى استند إليها الحزب الوطنى فى السابق لم تفكك بعد، وهو تخوف فيه الكثير من الوجاهة، بيد أن البدائل أكثر خطورة، إذ بقاء الدولة بلا تشريعات تتعامل مع الضرورات الجديدة لفترة أطول من شأنه انفضاض الجماهير من حول الثورة، واستمرار الدولة لفترة بلا قيادة سياسية قد يحذف صفة التأقيت عن شرعية المجلس الأعلى، ووقتها تفقد الثورة مطلب المدنية الذى قامت من أجله، واقتراح استبدال انتخابات مجلس الشعب بإيجاد مجلس رئاسى يتشكل من المدنيين والعسكريين لا يحل المشكل، ذلك أن عدد أعضاء المجلس، وآلية اختيار أعضائه، والأوزان النسبية التى يمثلها كل منهم تبقى كلها أسئلة بلا أجوبة.
وأنا أستطيع كذلك تفهم قلق البعض من كون الإخوان هم القوة الوحيدة المنظمة فى الشارع المصرى، إلا أن الإنصاف يقتضى الإشارة إلى إن الإخوان أعلنوا أنهم لن ينافسوا على أغلبية برلمانية، ثم إن الخلاف السياسى لا يجب أن ينسينا أن الإخوان دفعوا مقدما ثمن قوة تنظيمهم بما تعرضوا له من نظام مبارك من سجن وقمع، وأتصور أن التحدى الرئيس الذى يواجهه الإخوان اليوم هو قدرتهم على دعم مرشحين من خارج الجماعة يمثلون تيارات سياسية أخرى فى الدوائر التى لن ينافسوا فيها بمرشحيهم من أجل المساهمة فى مواجهة ما تبقى من فلول الحزب الوطنى.
على أنى لا أسلم بأن الإخوان هم القوة الوحيدة المنظمة، فثمة قوى سياسية (من الروافد الأربعة الرئيسية للحركة الوطنية المصرية، الإسلاميين، والقوميين، والليبراليين، واليساريين) تتحرك وتنظم أوراقها بسرعة كبيرة هذه الأيام، وأرقام العضوية وصلت عند بعض هذه الأحزاب فى أيام معدودة إلى عشرات الآلاف، ونسبة لا بأس بها من الثوار رفضوا العودة من الميدان إلى منازلهم قبل الارتباط بحزب سياسى يمكنهم من خلاله مراقبة نجاح ما حققوه على الأرض، ثم إن الانتخاب بالرقم القومى وحالة الجدل السياسى التى تعم البلاد تعنى أن الأغلبية الصامتة لن تبقى على صمتها، بمعنى أن هناك تغييرا حدث بالفعل فى الكتلة التصويتية، بحيث صارت أكثر تعبيرا عن حقيقة التنوع المصرى، وهذا التغيير فى ظنى لم يرق بعد إلى ما نبتغى الوصول إليه من درجات التمثيل، إلا أننى أتصور أن انتظار الوصول للمستوى المبتغى وتأجيل الانتخابات (وما يعنيه ذلك من استمرار غياب الشرعية) يترك المجال أمام الأجهزة التى استند إليها النظام السابق فى بقائه (أجهزة أمنه وإعلامه، وحزبه برجال الدولة ورجال الأعمال من قياداته) لإحداث حالة من الفوضى والارتباك تمنع من الانتقال الديمقراطى الحقيقى بغية الحفاظ على مصالحهم.
أتصور أننا فى حاجة إلى انتخابات مجلس الشعب أكثر من أى وقت مضى، فهذه الانتخابات تمثل فى ظنى بوابة العبور من الشرعية المدعاة والمفترضة لبعض الشخوص والائتلافات والزعامات إلى الشرعية الديمقراطية الحقيقية التى تعبر عن إرادة الجماهير المصرية فى تلك اللحظة الحرجة، وأتصور أن إقرار التعديلات الدستورية التى أعدتها لجنة صياغة التعديلات يمثل خطوة أولى لا بد منها للسير فى هذا الاتجاه.