مجلة المحاماة - العددان السادس والسابع
السنة العاشرة سنة 1930
مسائل شتى (1) محمد علي رشدي
عقد إجارة الأشخاص - الطرد في وقت غير لائق
طرد الموظف في وقت لائق أو غير لائق، مسألة اختلف فيها التقدير، وكثيرًا ما فهم منها أن معناها إعطاء مهلة إلى الموظف فحسب وهذا خطأ، رأينا أن نصححه في كلمة موجزة فيما يلي:
الأصل قانونًا أن حق أحد المتعاقدين في فسخ العقد الثنائي النافذ الغير لازم مقيد بعدم إساءته استعمال هذا الحق لأن للطرف الآخر حق تعلق به ولأن العقد قد أوجد علاقة وحالة خاصة الاستقلال بفسخها دون مسوغ ما هو عبث بها وخطأ يصح أن يكون أساسًا للتعويض إذا توفرت معه شروط المسؤولية عمومًا، وتستند هذه القاعدة في أساسها إلى قواعد العدالة والقانون الطبيعي - كما ترى - وعلى هذا الأساس تطبقها المحاكم في كثير من الأحوال دون أن يقرها القانون الوضعي أو يعتبر بها في فرنسا أو مصر، وكانت تطبيقات المحاكم هذه مظهرًا لنظرية تطور فكرة التعاقد وأخذًا بها.
إلا أن القانون - في فرنسا ومصر - أقر هذه القاعدة - بل وأضاف إليها شرطًا آخر أحاط الفسخ بضمان أقوى وأتم – في حالة واحدة فحسب: وهي عقد إجارة الأشخاص غير معين المدة، فصدر في فرنسا قانون سنة 1890 معدلاً للمادة (1870) من القانون المدني ونص على أن فسخ العقد يصح أن يكون أساسًا للمطالبة بتعويض، ونص في عبارة صريحة على العناصر التي يتكون منها التعويض.
ونصت المادة (404) مدني أهلي على وجوب أن يكون الفسخ في وقت لائق.
ونص المادة المصرية بهذا الشكل هو في الواقع نقل وتعبير عما اتفق عليه إجماع المحاكم والشراح في فرنسا بأن فسخ عقد الاستخدام يجب أن يكون بسبب قانوني Motif légitime فلم يكتفِ المشرع إذن بأن يكون لأحد الطرفين مصلحة في فسخ عقد الاستخدام حتى يجيزه وينص حق الآخر في التعويض بل اشترط أن يكون هناك سبب قانوني لذلك.
ووجود السبب القانون شرط كافٍ ولكنه ضروري لفسخ العقد دون التعرض لمسؤولية التعويض بمعنى أن إعطاء صاحب العمل مهلة للموظف قبل فسخ العقد لا يغني عن توفر هذا الشرط.
راجع بودرى لاكنترى وقال – عقد الإيجار الطبعة الثالثة بند (2930) إذ ورد به:
L’absence de motifs légitimes donne d’ailleurs droit à des dommages - intérêts, même si les délais de provenance ont été observés.
(راجع تعليقات داللوز على المادة (1780) بند (370) و (380) و (388) و (397) و (406)).
وهذا بديهي فإن إعطاء مهلة أو عدم إعطائها أمر بعيد عن أساس المسؤولية كما قدمنا، لا يتداخل معه أو يختلط به، فلا يؤخر أحدهما الآثار التي تترتب على الآخر أو يعطلها.
والسبب القانوني للفسخ هو أن يكون لدى صاحب العمل مصلحة مشروعة للفسخ أساسها نسبة عمل اختياري أو إهمال إلى الموظف يدعو إلى طرده، فهو يفترض إساءة صاحب العمل استعمال حقه وأن يقع الفسخ مخالفًا للعدالة.
راجع بودرى المرجع المتقدم بند (2930) الفقرة الثانية إذ ورد به ما يأتي:
D’après les travaux preparatoires, le motif légitime suppose un (abus), une resiliation (contraire à l’équité)
ويتفرع عن هذا أن تنعدم مشروعية سبب الفسخ إطلاقًا، إذا ثبت أن الموظف كان قائمًا بعمله خير قيام وعدم وجود مسوغ جدي ينسب إليه.
راجع بودري المرجع المتقدم بند 2956 إذ ورد به ما يأتي:
La partie a laquelle la rupture du contrat a ete signifiee peut d’ailleurs faire indirectement en prouvant qu’elle a accompli tous ses engagements et que sa conduite n’a rien presente de leprehensible, la preuve que lui incombe, et il appartient alors a l’autre partie d’apporter la preuve contraire.
كما أن هذه المشروعية تنعدم إذا تضاءل سبب الفسخ بجانب الضرر الذي وقع للطرف الآخر من جرائه.
(راجع بودرى المرجع المتقدم صفحة (600) البند الثاني في الهامش) - وراجع الباندكت الفرنسية تحت كلمة louaged’industrie بند (784).
الخلاصة: إذن أن ضابط المسؤولية عن التضمينات هو قواعد العدالة في حدود نسبة الإهمال إلى الموظف وعدم تكافئ سبب الفسخ مع الضرر الذي ترتب عنه للطرف الآخر.
وعلى ذلك يكون للقاضي سلطة تقدير مطلقة في تحقيق هذين الأمرين بحسب وقائع الدعوى وظروف الحال المحيطة بالطرفين فيها، كمدة خدمة الموظف مثلاً وحالته عند الفصل وغير ذلك.
راجع تعليقات دالوز على المادة (1780) بند (383) إذ ورد به ما يأتي:
La question de savoir si une faute commise par un ouvrier doit être considérée comme suffisante pour motiver son renvoi sans indemnité rentre dans le pouvoir souverain d’apprécian des juges du fait.
وبند (387) وورد به:
Jugé, d’ailleurs, que, si, pour la fixation de l’indemnité à allouer à l’ouvrier, il peut être tenu compte de la durée de ses services.
وراجع أيضًا بودرى المرجع المتقدم بند (2957) والباندكت الفرنسية تحت كلمة louage d’industrie بند (772)
وهكذا يكون إثبات المسؤولية عن التعويض بأحد أمرين: إما مباشرة بإثبات عدم جدية ومشروعية السبب الذي يدعيه صاحب العمل لطرد الموظف وإما غير مباشرة بإثبات قيام الموظف بعمله خير قيام وهما أمر واحد في الواقع لأن كلاً منهما يستلزم وجود الآخر كما قدمنا.
قد ينشأ من عقد الاستخدام حالة خاصة لها حكم خاص أيضًا: فقد يتفق الموظف وصاحب العمل أو السيد وخادمه على أن يستحق الموظف أو الخادم عاجلاً أو آجلاً استحقاقًا أو مرتبًا معينًا لمدة ما خلاف ماهيته فإن إجراء هذا الاستحقاق ليس كالماهية في مقابل تأدية العمل بحيث يمكن القول بأن الموظف الذي لا يؤدي عملاً لا يستحق أجرًا - وأن يحيط القانون - لهذا السبب - فسخ عقد الاستخدام - الغير معين المدة بضمانة واحدة هي أن يكون هناك سبب مشروع جدي للفسخ كما قدمنا Motif légitime لا لشيء إلا لأن له حقًا متعلقًا بالاستحقاق أو المعاش دون مقابل ما.
ولذلك قضت محاكم فرنسا باضطراد بأنه لا يجوز فسخ عقد الاستخدام الذي ترتب فيه مرتبات إضافية للموظف rémunérations accessoires إلا إذا وجد سبب قوي للفسخ Gravemotif.
راجع تعليقات دالوز المرجع المتقدم بند (215) و (216) وقد ورد به ما يأتي:
Ainsi jugé…. que la convention par laquelle une domestique au service de deux epoux doit, si, au décès du survivant d’eux, elle a toujours fidèlement rempli son engagement et se trouve encore dudit survivant, recevoir à titre de rémunération en sus de ses gages, une certaine somme â la charge des deux successiou, ne peut être resiliée à la volonté du maitre et est obligatoire pour celui - ci, tant qu’il n’a pas de graves motifs de renvoyer sa domestique.
وهكذا ترى كيف أن العقد يصبح لازمًا للسيد لا يجوز فسخه لأي سبب يرى فيه السيد مصلحة أو مسوغًا لذلك بل يجب أن يكون السبب قويًا.
ويترتب على عدم توفر هذا السبب المسؤولية عن التعويض.
راجع البند (217) من المرجع المتقدم إذ ورد به ما يلي:
…Et que, par suite, en cas de congé, sans motifs suffisants la domestique, si elle ne refuse pas la continuation de ses services ne perd pas l’avantage aléatoire qui lui a été promis……..
وهكذا ترى أيضًا الحكم المذكور يقر حق المستخدم في الاستحقاق الإضافي ولو أنه لا يزال غير حال فما بالك إذا كان الاستحقاق حالاً يقبضه المدعي فعلاً منذ مدة مضت - كما لو كان مستحقًا في وقف مثلاً.
(2)
الهبة الباطلة شكلاً - إجازتها ضمنيً
الالتزام الطبيعي - استبداله بالتزام مدني
قد يلتزم الإنسان في علاقته مع آخر - سواء كان أساس هذه العلاقة عقد أو فعل أو خطأ - بالتزام لا يرتب القانون جزاءً للإخلال به - فلا يصل من هذه الوجهة إلى حد الالتزامات المدنية اللازمة - إلا أنه مع ذلك التزام يستند في أساسه إلى أكثر من واجب أدبي فحسب وهو ما يسميه القانون الفرنسي L’obligation naturelle (مادة (1235)) فالالتزام بدفع قيمة سند مضت عليه المدة المسقطة للحقوق، والالتزام بتنفيذ عقد لم يوضع في الصيغة التي يتطلبها القانون صحته هو التزام طبيعي.
وهو التزام: لا من حيث لزومه ونفاذه بمقتضى القانون - فقد قدمنا أن القانون لا يرتب جزاءً على الإخلال به - ولكن من حيث الآثار التي تترتب عليه وهي ما تتفق فيه مع الالتزام المدني فإن تنفيذه إذا تم يعتبر ملزمًا لا يجوز رده أو الرجوع فيه باعتباره هبة أو دفع ما لا يجب أداؤه Paiement de l’indu.
وقد اعترف كل من القانونين الفرنسي (مادة (1235)) والمصري (مادة (147)) بهذا الأثر للالتزام الطبيعي.
وهذا في الواقع هو الأثر الوحيد الذي رتبه نص القانونين عليه، وهذا الأثر هو ما يسمو به عن مجرد الواجب الأدبي إلى درجة الالتزام راجع (Aubry et Rau 5th Edition 4 P.3 Baudry 2 Nos 546 seq).
ويستتبع ذلك حتمًا أن يكون الالتزام الوارد في عقد باطل لعدم توفر شكل خاص يتطلبه القانون لصحته وليس ممنوعًا لمخالفته للآداب - التزامًا طبيعيًا - وهذا ما أقره إجماع المحاكم والشراح في فرنسا، كالهبة مثلاً: فإن لزوم تحريرها في شكل خاص لا يستند إلى اعتبارات ترجع إلى الآداب العامة بل إلى تقرير قاعدة للإثبات، فإذا لم تعمل في عقد رسمي فهي باطلة لعدم الرسمية فحسب، إلا أنها لا تزال تشتمل التزامًا طبيعيًا على الواهب بتنفيذ الهبة - فإذا نفذها فعلاً فليس له حق الرجوع فيها كما قدمنا، وإذا توفى التزم الورثة التزامًا طبيعيًا باحترام إرادة مورثهم باحترام الهبة وتنفيذها، بحيث إذا أجازوها فعلاً فلا يعتبر هذا منهم قيام بعمل غير واجب الأداء يجوز لهم الرجوع فيه - وبمعنى آخر فإنهم يكونون قد أدوا دينًا أو نفذوا التزامًا ملزمًا، وقد أقر القانون الفرنسي هذه النتيجة صراحة في المادة (1340) إذ ورد بها ما يلي:
La Confirmation ou ratification, ou executiou volontaire d’une donnation par les héritiers ou ayants cause du donateur, après son décès, emporte leur rénonciation à opposer soit les vices de forme, soit toute autre exception.
والنص ليس وارد على سبيل الحصر كما رأيت فهو تفرع على القاعدة العامة التي قدمناها وهي أن المورث ملتزم شخصيًا بتنفيذ العقد الباطل شكلاً، فإذا توفى فإن التزام ورثته الطبيعي هو احترام إرادة مورثهم الأخيرة بتنفيذ العقد الذي دخل طرفًا فيه، وسواء كان العقد هبة أو وصية أو اعتراف بدين (في القانون الفرنسي الذي يتطلب فيه شكلاً خاصًا) فإن القاعدة واحدة لأنها تستند فيها جميعها إلى فكرة وحكمة واحدة
راجع Demelombe, tome 27 no 42 ; Aubry et Rau 4e Edition; Tome 4) & 267; l’laniol; 2e Edition No 345
وراجع أيضًا تعليقات دالوز على المادة (1235) إذ ورد به ما يلي؛ نَبذة 63:
(On Considère Comme donnant ouverture à une obligation naturelle le devoir qu’a l’hèritier de respecter et d’executer les dernières volonés de son auteur, bien qu’elles se trouvent consignées dans un aete nul en la forme comme testament ou même qu’elles n’aient été exprimés que verbalement.
ونَبذة (64):
(Ainsi constitue une obligation naturelle l’obligation naturelle l’obligation de remettre la chose à qui elle était destinee, lorsqu’elle a était imposée par un testament irregulier, ou par un fideis commis tacite non revêtu de forme légale.
ونَبذة (66):
(Jugé, en consequence, que les aetes juridiques destinés à l’execution de ces dernières volontés etant, du chef de l’héritier, des actes à tite onereux échappent, en ce qui concerne, aux rêgles de forme et de fond des donations.
ونبذة (67):
(A plus forte raisou, constitue une obligation naturelle la donation entre vifs nulle pour vice de forme, puisque la loi permet aux héritiers du donateur de la confirmer même tacitement par une exécution volontaire.
وهكذا ترى أن المحاكم الفرنسية فرعت المادة (1340) عن قاعدة عامة تنطبق على جميع العقود الباطلة لعدم توفر الشكلية فيها، وتستند إلى التزام المورث التزامًا طبيعيًا بتنفيذ العقد أو التصرف الذي عمله - هبة أو وصية أو اعتراف بدين - والتزام ورثاه من بعده باحترام إرادة مورثهم بتنفيذ هذا العقد.
(راجع حكم محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1860 في مجموعة Sirez سنة 61 جزء (1) ص (370)
وحكم محكمة Besancon بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1906 داللوز سنة 1908 جزء (2) ص (330) وحكم محكمة النقض بتاريخ 10 يناير سنة 1905 مجموعة Sirez سنة 1905 جزء (1) ص (128)).
فخلو نص القانون المصري من مقابل للمادة (1340فرنسي ليس معناه خلوه من القاعدة العامة التي تفرع عنها هذا النص فهي قاعدة من عمل الشراح والأحكام الفرنسية بالإجماع استندوا في تقريرها إلى اعتراف القانون بالالتزامات الطبيعية وإقراره الأثر الذي يترتب عليها من حيث عدم جواز الرد بعد تنفيذها في المادة 1235، وهو اعتراف اشترك في تقريره القانون المصري أيضًا في المادة (147) كما قدمنا، فإذا لم يكن في القانون الفرنسي غير المادة (1235) ما ترتب أحكمًا وقواعد أخرى للالتزامات الطبيعية غير واردة في القانون المصري وإذا لم يكن في القانون المصري خلاف المادة (147) ما يغاير القاعدة العامة التي أقرتها المحاكم الفرنسية، فهذه القاعدة واجبة التطبيق في القانون المصري لا نزاع في ذلك لا لشيء إلا لأنه مفهوم أن القانون المصري مأخوذ عن القانون الفرنسي، ولأنه ليس ثمة ما يدل على أن المشرع المصري أراد أن يختلف عن القانون الفرنسي في شيء ما، في هذا الموضوع.
(راجع كتاب The Egyptian law of obligations لمستر والتون جزء أول صفحة (26)) والنتيجة إذن - أن التنفيذ الفعلي من الورثة للهبة الباطلة شكلاً الصادرة من مورثهم والتي سبقهم هذا في تنفيذها، أو مجرد إجازتهم الحكمية لها مانعة لهم قطعًا من التمسك بعد ذلك بالعيب في شكلها أو بأي دفع آخر.
أما أن التنفيذ الفعلي مانع من الرجوع في الهبة فهو تطبيق صريح للمادة (1235) فرنسي و (147) مصري، وأما أن مجرد الإجازة أو الموافقة - في عقد أو ما شاكله - مانعة أيضًا فذلك لأن الالتزام الطبيعي يستحيل بالاعتراف به أو المصادقة عليه إلى التزام مدني obligation civile له كل حجيته من حيث نفاذه ولزومه، والطريق القانوني لهذه الاستحالة هو (الاستبدال novation ).
ومقرر بإجماع المحاكم والشراح الفرنسيين أن التزام الطبيعي يجوز أن يستبدل بالتزام مدني محض بمجرد الاعتراف به وإجازته (راجع Baudry. E 2. N. 1678 , Anbny et Ran 15th rd 4. P 11)
وراجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة بتاريخ 17 يناير سنة 1918 مجموع التشريع والأحكام المختلطة عدد (30) ص (62).
وراجع أيضًا كتاب المستر والتون في المرجع المتقدم وصفحة (37)).
وبذلك يتبين لك أن المادة (1340) فرنسي لم تأتِ بأكثر من تقرير القاعدة العامة الواردة في المادة (1235) وقواعد الاستبدال عمومًا، وهذا ما يؤكد لك أن عدم إيراد المادة المذكورة في القانون المصري ليس سببه إلا أنها تكرار للقواعد العامة فحسب.
السنة العاشرة سنة 1930
مسائل شتى (1) محمد علي رشدي
عقد إجارة الأشخاص - الطرد في وقت غير لائق
طرد الموظف في وقت لائق أو غير لائق، مسألة اختلف فيها التقدير، وكثيرًا ما فهم منها أن معناها إعطاء مهلة إلى الموظف فحسب وهذا خطأ، رأينا أن نصححه في كلمة موجزة فيما يلي:
الأصل قانونًا أن حق أحد المتعاقدين في فسخ العقد الثنائي النافذ الغير لازم مقيد بعدم إساءته استعمال هذا الحق لأن للطرف الآخر حق تعلق به ولأن العقد قد أوجد علاقة وحالة خاصة الاستقلال بفسخها دون مسوغ ما هو عبث بها وخطأ يصح أن يكون أساسًا للتعويض إذا توفرت معه شروط المسؤولية عمومًا، وتستند هذه القاعدة في أساسها إلى قواعد العدالة والقانون الطبيعي - كما ترى - وعلى هذا الأساس تطبقها المحاكم في كثير من الأحوال دون أن يقرها القانون الوضعي أو يعتبر بها في فرنسا أو مصر، وكانت تطبيقات المحاكم هذه مظهرًا لنظرية تطور فكرة التعاقد وأخذًا بها.
إلا أن القانون - في فرنسا ومصر - أقر هذه القاعدة - بل وأضاف إليها شرطًا آخر أحاط الفسخ بضمان أقوى وأتم – في حالة واحدة فحسب: وهي عقد إجارة الأشخاص غير معين المدة، فصدر في فرنسا قانون سنة 1890 معدلاً للمادة (1870) من القانون المدني ونص على أن فسخ العقد يصح أن يكون أساسًا للمطالبة بتعويض، ونص في عبارة صريحة على العناصر التي يتكون منها التعويض.
ونصت المادة (404) مدني أهلي على وجوب أن يكون الفسخ في وقت لائق.
ونص المادة المصرية بهذا الشكل هو في الواقع نقل وتعبير عما اتفق عليه إجماع المحاكم والشراح في فرنسا بأن فسخ عقد الاستخدام يجب أن يكون بسبب قانوني Motif légitime فلم يكتفِ المشرع إذن بأن يكون لأحد الطرفين مصلحة في فسخ عقد الاستخدام حتى يجيزه وينص حق الآخر في التعويض بل اشترط أن يكون هناك سبب قانوني لذلك.
ووجود السبب القانون شرط كافٍ ولكنه ضروري لفسخ العقد دون التعرض لمسؤولية التعويض بمعنى أن إعطاء صاحب العمل مهلة للموظف قبل فسخ العقد لا يغني عن توفر هذا الشرط.
راجع بودرى لاكنترى وقال – عقد الإيجار الطبعة الثالثة بند (2930) إذ ورد به:
L’absence de motifs légitimes donne d’ailleurs droit à des dommages - intérêts, même si les délais de provenance ont été observés.
(راجع تعليقات داللوز على المادة (1780) بند (370) و (380) و (388) و (397) و (406)).
وهذا بديهي فإن إعطاء مهلة أو عدم إعطائها أمر بعيد عن أساس المسؤولية كما قدمنا، لا يتداخل معه أو يختلط به، فلا يؤخر أحدهما الآثار التي تترتب على الآخر أو يعطلها.
والسبب القانوني للفسخ هو أن يكون لدى صاحب العمل مصلحة مشروعة للفسخ أساسها نسبة عمل اختياري أو إهمال إلى الموظف يدعو إلى طرده، فهو يفترض إساءة صاحب العمل استعمال حقه وأن يقع الفسخ مخالفًا للعدالة.
راجع بودرى المرجع المتقدم بند (2930) الفقرة الثانية إذ ورد به ما يأتي:
D’après les travaux preparatoires, le motif légitime suppose un (abus), une resiliation (contraire à l’équité)
ويتفرع عن هذا أن تنعدم مشروعية سبب الفسخ إطلاقًا، إذا ثبت أن الموظف كان قائمًا بعمله خير قيام وعدم وجود مسوغ جدي ينسب إليه.
راجع بودري المرجع المتقدم بند 2956 إذ ورد به ما يأتي:
La partie a laquelle la rupture du contrat a ete signifiee peut d’ailleurs faire indirectement en prouvant qu’elle a accompli tous ses engagements et que sa conduite n’a rien presente de leprehensible, la preuve que lui incombe, et il appartient alors a l’autre partie d’apporter la preuve contraire.
كما أن هذه المشروعية تنعدم إذا تضاءل سبب الفسخ بجانب الضرر الذي وقع للطرف الآخر من جرائه.
(راجع بودرى المرجع المتقدم صفحة (600) البند الثاني في الهامش) - وراجع الباندكت الفرنسية تحت كلمة louaged’industrie بند (784).
الخلاصة: إذن أن ضابط المسؤولية عن التضمينات هو قواعد العدالة في حدود نسبة الإهمال إلى الموظف وعدم تكافئ سبب الفسخ مع الضرر الذي ترتب عنه للطرف الآخر.
وعلى ذلك يكون للقاضي سلطة تقدير مطلقة في تحقيق هذين الأمرين بحسب وقائع الدعوى وظروف الحال المحيطة بالطرفين فيها، كمدة خدمة الموظف مثلاً وحالته عند الفصل وغير ذلك.
راجع تعليقات دالوز على المادة (1780) بند (383) إذ ورد به ما يأتي:
La question de savoir si une faute commise par un ouvrier doit être considérée comme suffisante pour motiver son renvoi sans indemnité rentre dans le pouvoir souverain d’apprécian des juges du fait.
وبند (387) وورد به:
Jugé, d’ailleurs, que, si, pour la fixation de l’indemnité à allouer à l’ouvrier, il peut être tenu compte de la durée de ses services.
وراجع أيضًا بودرى المرجع المتقدم بند (2957) والباندكت الفرنسية تحت كلمة louage d’industrie بند (772)
وهكذا يكون إثبات المسؤولية عن التعويض بأحد أمرين: إما مباشرة بإثبات عدم جدية ومشروعية السبب الذي يدعيه صاحب العمل لطرد الموظف وإما غير مباشرة بإثبات قيام الموظف بعمله خير قيام وهما أمر واحد في الواقع لأن كلاً منهما يستلزم وجود الآخر كما قدمنا.
قد ينشأ من عقد الاستخدام حالة خاصة لها حكم خاص أيضًا: فقد يتفق الموظف وصاحب العمل أو السيد وخادمه على أن يستحق الموظف أو الخادم عاجلاً أو آجلاً استحقاقًا أو مرتبًا معينًا لمدة ما خلاف ماهيته فإن إجراء هذا الاستحقاق ليس كالماهية في مقابل تأدية العمل بحيث يمكن القول بأن الموظف الذي لا يؤدي عملاً لا يستحق أجرًا - وأن يحيط القانون - لهذا السبب - فسخ عقد الاستخدام - الغير معين المدة بضمانة واحدة هي أن يكون هناك سبب مشروع جدي للفسخ كما قدمنا Motif légitime لا لشيء إلا لأن له حقًا متعلقًا بالاستحقاق أو المعاش دون مقابل ما.
ولذلك قضت محاكم فرنسا باضطراد بأنه لا يجوز فسخ عقد الاستخدام الذي ترتب فيه مرتبات إضافية للموظف rémunérations accessoires إلا إذا وجد سبب قوي للفسخ Gravemotif.
راجع تعليقات دالوز المرجع المتقدم بند (215) و (216) وقد ورد به ما يأتي:
Ainsi jugé…. que la convention par laquelle une domestique au service de deux epoux doit, si, au décès du survivant d’eux, elle a toujours fidèlement rempli son engagement et se trouve encore dudit survivant, recevoir à titre de rémunération en sus de ses gages, une certaine somme â la charge des deux successiou, ne peut être resiliée à la volonté du maitre et est obligatoire pour celui - ci, tant qu’il n’a pas de graves motifs de renvoyer sa domestique.
وهكذا ترى كيف أن العقد يصبح لازمًا للسيد لا يجوز فسخه لأي سبب يرى فيه السيد مصلحة أو مسوغًا لذلك بل يجب أن يكون السبب قويًا.
ويترتب على عدم توفر هذا السبب المسؤولية عن التعويض.
راجع البند (217) من المرجع المتقدم إذ ورد به ما يلي:
…Et que, par suite, en cas de congé, sans motifs suffisants la domestique, si elle ne refuse pas la continuation de ses services ne perd pas l’avantage aléatoire qui lui a été promis……..
وهكذا ترى أيضًا الحكم المذكور يقر حق المستخدم في الاستحقاق الإضافي ولو أنه لا يزال غير حال فما بالك إذا كان الاستحقاق حالاً يقبضه المدعي فعلاً منذ مدة مضت - كما لو كان مستحقًا في وقف مثلاً.
(2)
الهبة الباطلة شكلاً - إجازتها ضمنيً
الالتزام الطبيعي - استبداله بالتزام مدني
قد يلتزم الإنسان في علاقته مع آخر - سواء كان أساس هذه العلاقة عقد أو فعل أو خطأ - بالتزام لا يرتب القانون جزاءً للإخلال به - فلا يصل من هذه الوجهة إلى حد الالتزامات المدنية اللازمة - إلا أنه مع ذلك التزام يستند في أساسه إلى أكثر من واجب أدبي فحسب وهو ما يسميه القانون الفرنسي L’obligation naturelle (مادة (1235)) فالالتزام بدفع قيمة سند مضت عليه المدة المسقطة للحقوق، والالتزام بتنفيذ عقد لم يوضع في الصيغة التي يتطلبها القانون صحته هو التزام طبيعي.
وهو التزام: لا من حيث لزومه ونفاذه بمقتضى القانون - فقد قدمنا أن القانون لا يرتب جزاءً على الإخلال به - ولكن من حيث الآثار التي تترتب عليه وهي ما تتفق فيه مع الالتزام المدني فإن تنفيذه إذا تم يعتبر ملزمًا لا يجوز رده أو الرجوع فيه باعتباره هبة أو دفع ما لا يجب أداؤه Paiement de l’indu.
وقد اعترف كل من القانونين الفرنسي (مادة (1235)) والمصري (مادة (147)) بهذا الأثر للالتزام الطبيعي.
وهذا في الواقع هو الأثر الوحيد الذي رتبه نص القانونين عليه، وهذا الأثر هو ما يسمو به عن مجرد الواجب الأدبي إلى درجة الالتزام راجع (Aubry et Rau 5th Edition 4 P.3 Baudry 2 Nos 546 seq).
ويستتبع ذلك حتمًا أن يكون الالتزام الوارد في عقد باطل لعدم توفر شكل خاص يتطلبه القانون لصحته وليس ممنوعًا لمخالفته للآداب - التزامًا طبيعيًا - وهذا ما أقره إجماع المحاكم والشراح في فرنسا، كالهبة مثلاً: فإن لزوم تحريرها في شكل خاص لا يستند إلى اعتبارات ترجع إلى الآداب العامة بل إلى تقرير قاعدة للإثبات، فإذا لم تعمل في عقد رسمي فهي باطلة لعدم الرسمية فحسب، إلا أنها لا تزال تشتمل التزامًا طبيعيًا على الواهب بتنفيذ الهبة - فإذا نفذها فعلاً فليس له حق الرجوع فيها كما قدمنا، وإذا توفى التزم الورثة التزامًا طبيعيًا باحترام إرادة مورثهم باحترام الهبة وتنفيذها، بحيث إذا أجازوها فعلاً فلا يعتبر هذا منهم قيام بعمل غير واجب الأداء يجوز لهم الرجوع فيه - وبمعنى آخر فإنهم يكونون قد أدوا دينًا أو نفذوا التزامًا ملزمًا، وقد أقر القانون الفرنسي هذه النتيجة صراحة في المادة (1340) إذ ورد بها ما يلي:
La Confirmation ou ratification, ou executiou volontaire d’une donnation par les héritiers ou ayants cause du donateur, après son décès, emporte leur rénonciation à opposer soit les vices de forme, soit toute autre exception.
والنص ليس وارد على سبيل الحصر كما رأيت فهو تفرع على القاعدة العامة التي قدمناها وهي أن المورث ملتزم شخصيًا بتنفيذ العقد الباطل شكلاً، فإذا توفى فإن التزام ورثته الطبيعي هو احترام إرادة مورثهم الأخيرة بتنفيذ العقد الذي دخل طرفًا فيه، وسواء كان العقد هبة أو وصية أو اعتراف بدين (في القانون الفرنسي الذي يتطلب فيه شكلاً خاصًا) فإن القاعدة واحدة لأنها تستند فيها جميعها إلى فكرة وحكمة واحدة
راجع Demelombe, tome 27 no 42 ; Aubry et Rau 4e Edition; Tome 4) & 267; l’laniol; 2e Edition No 345
وراجع أيضًا تعليقات دالوز على المادة (1235) إذ ورد به ما يلي؛ نَبذة 63:
(On Considère Comme donnant ouverture à une obligation naturelle le devoir qu’a l’hèritier de respecter et d’executer les dernières volonés de son auteur, bien qu’elles se trouvent consignées dans un aete nul en la forme comme testament ou même qu’elles n’aient été exprimés que verbalement.
ونَبذة (64):
(Ainsi constitue une obligation naturelle l’obligation naturelle l’obligation de remettre la chose à qui elle était destinee, lorsqu’elle a était imposée par un testament irregulier, ou par un fideis commis tacite non revêtu de forme légale.
ونَبذة (66):
(Jugé, en consequence, que les aetes juridiques destinés à l’execution de ces dernières volontés etant, du chef de l’héritier, des actes à tite onereux échappent, en ce qui concerne, aux rêgles de forme et de fond des donations.
ونبذة (67):
(A plus forte raisou, constitue une obligation naturelle la donation entre vifs nulle pour vice de forme, puisque la loi permet aux héritiers du donateur de la confirmer même tacitement par une exécution volontaire.
وهكذا ترى أن المحاكم الفرنسية فرعت المادة (1340) عن قاعدة عامة تنطبق على جميع العقود الباطلة لعدم توفر الشكلية فيها، وتستند إلى التزام المورث التزامًا طبيعيًا بتنفيذ العقد أو التصرف الذي عمله - هبة أو وصية أو اعتراف بدين - والتزام ورثاه من بعده باحترام إرادة مورثهم بتنفيذ هذا العقد.
(راجع حكم محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1860 في مجموعة Sirez سنة 61 جزء (1) ص (370)
وحكم محكمة Besancon بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1906 داللوز سنة 1908 جزء (2) ص (330) وحكم محكمة النقض بتاريخ 10 يناير سنة 1905 مجموعة Sirez سنة 1905 جزء (1) ص (128)).
فخلو نص القانون المصري من مقابل للمادة (1340فرنسي ليس معناه خلوه من القاعدة العامة التي تفرع عنها هذا النص فهي قاعدة من عمل الشراح والأحكام الفرنسية بالإجماع استندوا في تقريرها إلى اعتراف القانون بالالتزامات الطبيعية وإقراره الأثر الذي يترتب عليها من حيث عدم جواز الرد بعد تنفيذها في المادة 1235، وهو اعتراف اشترك في تقريره القانون المصري أيضًا في المادة (147) كما قدمنا، فإذا لم يكن في القانون الفرنسي غير المادة (1235) ما ترتب أحكمًا وقواعد أخرى للالتزامات الطبيعية غير واردة في القانون المصري وإذا لم يكن في القانون المصري خلاف المادة (147) ما يغاير القاعدة العامة التي أقرتها المحاكم الفرنسية، فهذه القاعدة واجبة التطبيق في القانون المصري لا نزاع في ذلك لا لشيء إلا لأنه مفهوم أن القانون المصري مأخوذ عن القانون الفرنسي، ولأنه ليس ثمة ما يدل على أن المشرع المصري أراد أن يختلف عن القانون الفرنسي في شيء ما، في هذا الموضوع.
(راجع كتاب The Egyptian law of obligations لمستر والتون جزء أول صفحة (26)) والنتيجة إذن - أن التنفيذ الفعلي من الورثة للهبة الباطلة شكلاً الصادرة من مورثهم والتي سبقهم هذا في تنفيذها، أو مجرد إجازتهم الحكمية لها مانعة لهم قطعًا من التمسك بعد ذلك بالعيب في شكلها أو بأي دفع آخر.
أما أن التنفيذ الفعلي مانع من الرجوع في الهبة فهو تطبيق صريح للمادة (1235) فرنسي و (147) مصري، وأما أن مجرد الإجازة أو الموافقة - في عقد أو ما شاكله - مانعة أيضًا فذلك لأن الالتزام الطبيعي يستحيل بالاعتراف به أو المصادقة عليه إلى التزام مدني obligation civile له كل حجيته من حيث نفاذه ولزومه، والطريق القانوني لهذه الاستحالة هو (الاستبدال novation ).
ومقرر بإجماع المحاكم والشراح الفرنسيين أن التزام الطبيعي يجوز أن يستبدل بالتزام مدني محض بمجرد الاعتراف به وإجازته (راجع Baudry. E 2. N. 1678 , Anbny et Ran 15th rd 4. P 11)
وراجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة بتاريخ 17 يناير سنة 1918 مجموع التشريع والأحكام المختلطة عدد (30) ص (62).
وراجع أيضًا كتاب المستر والتون في المرجع المتقدم وصفحة (37)).
وبذلك يتبين لك أن المادة (1340) فرنسي لم تأتِ بأكثر من تقرير القاعدة العامة الواردة في المادة (1235) وقواعد الاستبدال عمومًا، وهذا ما يؤكد لك أن عدم إيراد المادة المذكورة في القانون المصري ليس سببه إلا أنها تكرار للقواعد العامة فحسب.