1: كان حل هذين المجلسين من أبرز مطالب الثورة فى العديد من بياناتها، وبعد
تنحِّى مبارك أو تنحيته من خلال ما سُمِّى بالاستقالة صار هذا المطلب ضمن
مجموعة من المطالب الأساسية الأخرى شملت حل الحكومة، وإلغاء قانون الطوارئ،
وإطلاق الحريات العامة، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية، وإطلاق سراح
المعتقلين السياسيين، وتشكيل حكومة جديدة انتقالية من شخصيات تثق بها قوى
الثورة، وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وغير ذلك. وتشكل هذه
المطالب العناوين العريضة للمرحلة الثانية للثورة بعد المرحلة الأولى التى
تمثلت ذروتها فى "الاستقالة" وما اقترن بها من تفويض صلاحيات رئيس
الجمهورية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهى ذروة لأن أشكال الثورة
انتقلت على الفور إلى الاحتفال بها وتنويع أشكال مراقبة تنفيذ باقى مطالبها
مع بدء عودة الحياة الطبيعية بحكم ضروراتها القاهرة.
2: وبنفس
الطريقة التى انتهجها مبارك راح المجلس العسكرى يتلكأ فى الموافقة على
المطالب خطوة خطوة مع استمرار ضغوط الثورة. وكان بوسع المجلس أن يصدر على
الفور بيانا واحدا بالموافقة على مطالب محددة لا تحتاج إلى دراسة أو تشاور
مثل إلغاء الدستور وحل البرلمان بمجلسيه وإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق
الحريات المعنية وحل الحكومة بدلا من محاولة تفاديها ثم الاضطرار إلى إقرار
بعضها "بالقطَّارة". وذلك للانتقال إلى تشكيل حكومة جديدة لتصريف الأعمال
على طريق تشكيل حكومة انتقالية من قيادات الثورة وتحظى بثقة الشعب بالإضافة
إلى تشكيل لجنة الدستور الجديد. ويؤدى هذا إلى الازدواج والتناقض والصراع
بين عودة الحياة الطبيعية والثورة بمظاهراتها وأنشطتها ومراقبتها لتطور
الأحداث؛ وباختصار بين النظام الذى لم تَجْرِ الإطاحة به بعد من جانب
والثورة من جانب آخر. ذلك أن الشعب يريد إسقاط النظام وليس مجرد إسقاط
الرئيس وعدد من كباش الفداء من العائلة والمقربين والوزراء والمسئولين كما
حدث إلى الآن.
3: هناك، بالطبع، مكسبان كبيران للثورة إلى الآن:
المكسب الأول هو عودة الروح إلى الشعب المصرى وصعوده إلى مسرح التاريخ من
خلال ثورة هى الكبرى من نوعها بين ثورات العصر الحديث على ظهر الكوكب. وهذا
هو المكسب الأكبر والأهم والتاريخى، والذى لا رجعة فيه، والذى منحه الشعب
لنفسه بنفسه. والمكسب الثانى هو الإطاحة فى وقت واحد بالرئيس مبارك ومشروع
التمديد ومشروع التوريث وبالتالى الإطاحة بالمشروعين اللذين يسودان العالم
العربى ومناطق أخرى من العالم الثالث، ألا وهما مشروع التمديد لرؤساء
الجمهوريات ومشروع توريث الأبناء والإخوة والأصهار، ويشكل المشروعان معا
مشروع الجمهوريات الملكية التى تشمل تقريبا كل جمهوريات العالم العربى. لقد
قضت الثورتان التونسية والمصرية على مشروع النظام الجمهورى الملكى الذى
ضاعف بدوره من مستويات الاستبداد والفساد فى دول تصور رؤساء الجمهوريات
وعائلاتهم أنهم بُناتها وأولياء نعمتها وأنها لا تدول.
4: وباستقالة
الرئيس أو إقالته تسقط أهمية ما اعتبره بعض الناس مكاسب مثل تعيين نائب
لرئيس الجمهورية أو تأليف حكومة جديدة أو الوعد بعدم التمديد أوالتوريث
والاكتفاء بالبقاء كرئيس للجمهورية خلال المدة المتبقية من ولايته الخامسة.
ولم تكن البيانات من الأول إلى الرابع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة سوى
التمهيد الضرورى للإقالة والتعهد بتنفيذ تعهدات الرئيس المخلوع، وكان
البيان الخامس هو الذى جاء بالبدء الفعلى فى اتخاذ مواقف محددة إزاء مطالب
الثورة بالاستجابة لها أو الالتفاف حولها أو تجاهلها تماما.
5: وهنا
نصل إلى الوضع الجديد المتمثل فى تفويض السلطات المدنية والعسكرية لرئيس
الجمهورية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد دخول الجيش على الخط حتى قبل
إقالته وتمهيدا لهذه الإقالة. ويمكن أن نبدأ مناقشة هذه النقطة، فى ضوء
البيان الخامس للمجلس العسكرى، بمناقشة السؤال الذى يطرحه عنوان هذا المقال
وهو: ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟ والحقيقة أن مطلب حلهما لا ينفصل
عن المطالب الأخرى، ولا معنى له بدونها، وبالأخص فإن حلهما يهدف، من وجهة
نظر الثورة، إلى انتخاب برلمان جديد مختلف تماما (وينبغى وضع خطوط وخطوط
تحت كلمة مختلف)، فهل سيختلف عن هذين المجلسين برلمان يتم انتخابه فى ظل
دستور معيب للغاية وبالأصح دستور غير دستورى لمجرد تعديل قليل من مواده؟
وفى ظل حالة الطوارئ التى قيل منذ البيان الثانى للمجلس العسكرى إنه سيتم
إنهاؤها فور انتهاء الظروف الحالية؟ وفى ظل نفس الحكومة التى شكلها مبارك
قبل إقالته؟ ومع جبال من القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية؟ ومع
فترة تمتد ستة شهور أو أكثر (فى حالة استغراق انتخاب مجلسى الشعب والشورى
ورئيس الجمهورية فترة أطول من ذلك كما هو واضح فى البيان الخامس) جرى إعلان
أنها هى المرحلة الانتقالية (وفقا للبند خامسا من البيان الخامس) وبقيادة
المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يتولى إصدار مراسيم بقوانين خلال الفترة
الانتقالية؟ ليس هناك أدنى شك فى أن البرلمان الجديد لن يكون مختلفا وفى
هذه الحالة لا معنى أصلا لحلهما.
6: وإذا كان الالتفاف على مطلب حل
مجلسى الشعب والشورى بالاكتفاء بالترقيع عن طريق قبول عدد مقبول من جانب
النظام من الطعون يهدف قبل حلهما الآن الاحتفاظ بأغلبية كبيرة للحزب الوطنى
فيه من أجل السيطرة على التطورات السياسية لصالح المصالح التى يمثلها
الحزب الوطنى فإن الحزب الوطنى يغدو الآن بعد حل البرلمان بمجلسيه بالغ
الأهمية من حيث مصالحه ورجاله وعديم الأهمية من حيث وجوده كأغلبية داخل
مجلسين منحلين وهذا يعنى أن المصالح التى كان يمثلها الحزب الوطنى الذى صار
ملوثا بسمعة الاستبداد والفساد والبلطجة ستعمل على تكوين حزب جديد باسم
جديد وبتعديلات برنامجية ضرورية بعيدا عن قياداته العليا السابقة مع إدانة
ممارساتهم الشنيعة استعدادا لانتخابات برلمانية ورئاسية قادمة. ولنلاحظ هنا
أن المجلس العسكرى قد تجاهل حل المجالس النيابية المحلية بأغلبياتها
الكاسحة للحزب الوطنى مع أنها ركيزة مهمة من ركائز النظام على مستوى
المحليات.
7: والحكومة مستمرة وفقا للبيان الخامس فقد "أكد المجلس مجددا على تكليف حكومة الدكتور
أحمد
شفيق بالاستمرار فى عملها لحين تشكيل حكومة جديدة"، وفقا لنص البيان
المذكور. ومن الجلى أن الثورة تطالب بحل هذه الحكومة فهى الحكومة التى
عينها الرئيس مبارك قبل خلعه، ويترأسها أحد أقرب المقربين من مبارك، وتتكون
من وزراء استوزروا فى حكومة نظام فى عنفوان قمعه للشعب على نطاق واسع حيث
قتل المئات وجرح الآلاف، فصاروا بالتالى شركاء فى هذه الأعمال الإجرامية
الشائنة، فى هذه الجرائم ضد الإنسانية. فما مغزى إصرار المجلس العسكرى على
الاحتفاظ بهذه الحكومة؟ سيقال إن تشكيل حكومة جديدة يستغرق وقتا ولكنْ ألم
يقم مبارك نفسه بحل حكومة نظيف فورا وتكليف أحمد شفيق فورا أيضا بتأليف
حكومة جديدة فقام بتشكيلها فى غضون يومين أو ثلاثة، ولماذا لا يجرى تشكيل
وزارة تصريف أعمال أخرى بأقصى سرعة تمهيدا لتشكيل حكومة انتقالية من شخصيات
يثق بها الشعب بعد مشاورات ومفاوضات تستغرق وقتا بالضرورة؟ ومن ناحية أخرى
تؤكد تصريحات أحمد شفيق على بقاء حكومته شهورا وليس أياما أو أسابيع!
8:
أىْ أننا إزاء فترة انتقالية تتناقض تماما مع الفترة الانتقالية التى طالب
بها الشعب. فالفترة الانتقالية من وجهة نظر الشعب فترة تتميز بإلغاء
الدستور وليس ترقيعه، وتكليف جمعية تأسيسية بوضع دستور جديد ديمقراطى
والإشراف على بناء نظام جديد على أساسه، وحل الحكومة وليس استمرارها وتشكيل
حكومة تمثل قوى الثورة، وحل مجلسى الشعب والشورى والمجالس النيابية
المحلية، وحل الحزب الوطنى وإلغاء قانون الطوارئ وكافة القوانين غير
الدستورية وإطلاق الحريات السياسية والنقابية والتعاونية والمدنية بكافة
أشكالها باعتبار هذه الأشياء وغيرها ضرورات لا غنى عنها وأدوات نضالية
حاسمة للمرحلة الانتقالية ذاتها. ولا شك فى أن فترة انتقالية كهذه لن تؤدى
إلى خلق نظام ديمقراطى بل ستؤدى بالضرورة إلى إحياء واستعادة وترسيخ نفس
النظام المرفوض الذى خرج الشعب لإسقاطه. ومن الجلى أن الفترة الانتقالية
التى يطرحها البيان الخامس فترة انتقالية تسيطر عليها مؤسسات نفس النظام
وأنها تقود فى النهاية إلى شيء آخر مختلف عما يريده الشعب.
9: وهنا
ينبغى أن نقف لمناقشة الإطار القانونى العام لهذه الفترة. وتنظم المواد 82 و
83 و 84 و 85 من الدستور مختلف أحوال "تفويض" اختصاصات منصب رئيس
الجمهورية فى حالة وجود مانع مؤقت أو استقالته أو خلو منصبه. و "إذا قام
مانع مؤقت" ... "أناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند
عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه" (المادة82)؛ وفى حالة
خلو منصب الرئيس أو عجزه الدائم "يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب،
وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا" (المادة
84)؛ وفى حالة اتهام الرئيس ووقفه عن عمله "يتولى الرئاسة مؤقتا نائب رئيس
الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر
نيابته عنه" (المادة 85). وفى كل هذه الأحوال يتم التقيد بالحظر المنصوص
عليه فى المادة 82 وهو أنه "لا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل
الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة". كما تنص
المادة 83 على أنه فى حالة الاستقالة يتم توجيه "كتاب الاستقالة إلى مجلس
الشعب". غير أننا هنا إزاء تفويض سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس الأعلى
للقوات المسلحة بصورة لا علاقة لها بالدستور. ويصر المجلس المذكور على أن
الدستور فى حالة "تعطيل" وعلى أنه سيتم تعديل بعض مواده ولن يتم إلغاؤه.
وبالتالى يعتبر اختصاصاته "دستورية" رغم أن تفويض الرئيس سلطاته إليه غير
دستورى أصلا. وكما رأينا فإن الدستور يحظر على من ينوب عن الرئيس أو يتولى
الرئاسة مؤقتا حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى على حين أن المجلس العسكرى قد
قام بالفعل بحل هذين المجلسين. ومعنى هذا الخروج الشامل على الدستور أن
المجلس العسكرى يصدر عن اعتقاد مزدوج يجمع بين الشرعية الدستورية دون سند
دستورى والشرعية الثورية بالنيابة عن قوى وقيادات وشخصيات الثورة التى تملك
وحدها الشرعية الثورية والتى تؤكد المرة تلو المرة أن شرعية نظام مبارك قد
سقطت برئيسه وقياداته ودستوره وقوانينه الأساسية ومجالسه النيابية وحكومته
وحزبه الحاكم.
10: ولا يمكن تصحيح هذا الوضع المختل إلا بأن يتم
تسليم الشرعية الثورية لأصحابها الحقيقيين الذين يتألفون ويتآلفون فى جمعية
تأسيسية تشرف على المرحلة الانتقالية بكل هياكلها الجديدة وبالأخص بلجنة
وضع الدستور الجديد والحكومة الانتقالية، مع قيام القوات المسلحة بحماية
أمن البلاد خارجيا وداخليا مع ترك العملية الديمقراطية تتواصل دون تدخل فى
إجراءاتها التى ستوكل إلى الجمعية التأسيسية بحكومتها ولجنتها لوضع الدستور
الجديد ودون قمع المظاهرات والاحتجاجات التى يشكل استمرارها ضمانة لمسار
الثورة وإجراءاتها ولا يتناقض مع عودة الحياة الطبيعية.
11: وعلى
الحكومة الانتقالية التى ستحل على الفور محل حكومة أحمد شفيق التى شكلها
مبارك قبل إقالته، والتى لا شرعية لها شأنها فى ذلك شأن المجلس العسكرى،
إلغاء قانون الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات وإطلاق حريات الأحزاب
والنقابات والإضرابات والمظاهرات، والاستجابة لكل الاحتجاجات المطلبية
العادلة. كما سيكون على الجمعية التأسيسية والحكومة الانتقالية الشروع فورا
فى مهمة إسقاط النظام بملاحقة الثروات التى تكونت فى ظل الاستبداد والفساد
ومحاكمة أصحابها واستردادها من الخارج ومصادرتها من الداخل، مع فتح ملف
خصخصة القطاع العام وأملاك الدولة بوسائل لصوصية بالمصادرة والتأميم وإعادة
تقييم الصفقات المعقودة فى هذا المجال. وكاتب هذه السطور ليس من عَبَدَة
القطاع العام وملكية الدولة ولا شك فى أن بيروقراطية القطاع العام فى مصر
هى التى تشكل نواة "الطبقة" الحاكمة اللصوصية. غير أن أموال الشعب يجب
استردادها وأعتقد أن هذا لن يفزع المستثمرين المحليين والأجانب لأن هذه
الإجراءات لن تمتد من الثروات اللصوصية إلى غيرها من المشاريع الاقتصادية
الأجنبية والمحلية التى عملت بطرق مشروعة. وعلى العكس فإن الأمول التى سيتم
استردادها والاستثمارات التى سيكون بالإمكان جذبها ستكون ضرورة لا غنى
عنها للشروع فى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تحول مصر إلى بلد رأسمالى
حقيقى لننقذ بذلك بلادنا من المصير الكارثى الذى يتهدد العالم الثالث.
12:
وعلى جميع القوى التى شاركت فى الثورة أن تقدم للجنة الدستور تصوراتها
ورؤاها وبرامجها. وأعتقد أن الخيار الأفضل من أجل مستقبل بلادنا إحلال
النظام البرلمانى محل النظام الرئاسى، مثل الكثير من البلدان ومنها الهند
ذات التجربة الديمقراطية البالغة الأهمية. ولا شك فى أن الجمهورية
البرلمانية أكثر ديمقراطية من الجمهورية الرئاسية. ففى الجمهورية
البرلمانية يتولى السلطة التنفيذية رئيس وزراء يأتى من خلال الانتخابات
النيابية فيحكم بأغلبية حزبه أو بالتحالف مع حزب آخر أو أحزاب أخرى،
ويستطيع البرلمان سحب الثقة منه، ويكون منصب رئيس الجمهورية فى هذه الحالة
بروتوكوليا فى المحل الأول. وليت الجمعية التأسيسية تخلص بلادنا من مجلس
الشورى هذا الاختراع الساداتى الذى لا معنى له فهو بلا سلطة حقيقية ومجرد
ديكور باستثناء إسناد بعض السلطات القمعية إليه مثل منع تكوين الأحزاب غير
المرغوب فيها وتعيين قيادات الصحف المسماة بالقومية بما تقتضيه مصالح
النظام الاستبدادى. ولا بأس بالطبع فى نظام المجلسين كما فى كثير من بلدان
العالم بشرط أن تكون لكل منهما اختصاصات وسلطات حقيقية.
13: والخيار
الأفضل أن تكون هذه الجمهورية برلمانية وبالتالى تعددية، وأن تنبذ نظام
الحزب الواحد المباشر أو المموَّه بأحزاب متعاونة، وأن تكون مدنية لا
عسكرية، وأن تكون علمانية، ولا تعنى العلمانية بحال من الأحوال الإلحاد أو
معاداة الأديان بل تعنى على وجه الحصر فى مثل هذا التنظيم الدستورى العام
لدولة الفصل بين الدين والدولة. ويوجد تناقض حقيقى بين المادة الأولى فى
الدستور التى تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية
التى تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية،
ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" [ولا حظوا هذا الاضطراب
فى الصياغة الذى يحشر اللغة بين عبارتين تخصان الإسلام!] والمادة الثالثة
التى تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل
الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع
اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"؟ والحقيقة أن
الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعنى إعلاءً لشأن الدين بل يعنى
إدانة مباشرة له فالدين مجال للفضائل والمثل العليا والدولة أداة للطغيان
والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التى
تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا فإنها لا تنقذ
الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذ لا تصلح الدولة أداة
لفضائل الأديان أو الفلسفات، وكان كل طموح لإقامة دولة الدين فى جميع
الثقافات طوال التاريخ توظيفا للدين ورجاله فى خدمة الدولة والطبقة الحاكمة
والظلم والاستغلال.
14: ورغم أن المبادرة الشبابية غير الحزبية
الوثيقة الصلة بتكنولوچيات المعلومات والإعلام الحديثة من ناحية وكذلك ببعض
الحركات والمجموعات السياسية غير الحزبية هى التى مثلت الشرارة التى أشعلت
الثورة فلا شك فى أن انضمام الشعب بكل طبقاته الكادحة والمتوسطة وقواه
الحية إلى حركة الشباب هو الذى صنع الثورة الكبرى. وهنا لعبت قواعد وشباب
مختلف الأحزاب دورا كبيرا رغم انتهازية قياداتها فى كثير من الأحيان.
وبالتالى فإن الزعم بأن قوى الثورة تنحصر فى الحركة الشبابية الأولى التى
أطلقت الشرارة ليس موقفا موضوعيا. وإذا كانت بقايا النظام المتجه إلى
الانهيار والذى يحاول إنقاذ نفسه تتغنى ليل نهار بالشباب والشبان والشبيبة
والشبابية وطهارتهم وروعتهم فإنها تركز على هذا للتغرير بهم ولاستبعاد قوى
بعينها رغم دورها الذى لا ينكره إلا جاحد يفتقر إلى كل نزاهة أو إنصاف أو
موضوعية وأعنى بلا مواربة قواعد الإخوان المسلمين رغم أننى ضد أيديولوچيتهم
السياسية وكذلك قواعد كثير من الأحزاب اليسارية من وفديين وناصريين
وشيوعيين
تنحِّى مبارك أو تنحيته من خلال ما سُمِّى بالاستقالة صار هذا المطلب ضمن
مجموعة من المطالب الأساسية الأخرى شملت حل الحكومة، وإلغاء قانون الطوارئ،
وإطلاق الحريات العامة، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية، وإطلاق سراح
المعتقلين السياسيين، وتشكيل حكومة جديدة انتقالية من شخصيات تثق بها قوى
الثورة، وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وغير ذلك. وتشكل هذه
المطالب العناوين العريضة للمرحلة الثانية للثورة بعد المرحلة الأولى التى
تمثلت ذروتها فى "الاستقالة" وما اقترن بها من تفويض صلاحيات رئيس
الجمهورية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهى ذروة لأن أشكال الثورة
انتقلت على الفور إلى الاحتفال بها وتنويع أشكال مراقبة تنفيذ باقى مطالبها
مع بدء عودة الحياة الطبيعية بحكم ضروراتها القاهرة.
2: وبنفس
الطريقة التى انتهجها مبارك راح المجلس العسكرى يتلكأ فى الموافقة على
المطالب خطوة خطوة مع استمرار ضغوط الثورة. وكان بوسع المجلس أن يصدر على
الفور بيانا واحدا بالموافقة على مطالب محددة لا تحتاج إلى دراسة أو تشاور
مثل إلغاء الدستور وحل البرلمان بمجلسيه وإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق
الحريات المعنية وحل الحكومة بدلا من محاولة تفاديها ثم الاضطرار إلى إقرار
بعضها "بالقطَّارة". وذلك للانتقال إلى تشكيل حكومة جديدة لتصريف الأعمال
على طريق تشكيل حكومة انتقالية من قيادات الثورة وتحظى بثقة الشعب بالإضافة
إلى تشكيل لجنة الدستور الجديد. ويؤدى هذا إلى الازدواج والتناقض والصراع
بين عودة الحياة الطبيعية والثورة بمظاهراتها وأنشطتها ومراقبتها لتطور
الأحداث؛ وباختصار بين النظام الذى لم تَجْرِ الإطاحة به بعد من جانب
والثورة من جانب آخر. ذلك أن الشعب يريد إسقاط النظام وليس مجرد إسقاط
الرئيس وعدد من كباش الفداء من العائلة والمقربين والوزراء والمسئولين كما
حدث إلى الآن.
3: هناك، بالطبع، مكسبان كبيران للثورة إلى الآن:
المكسب الأول هو عودة الروح إلى الشعب المصرى وصعوده إلى مسرح التاريخ من
خلال ثورة هى الكبرى من نوعها بين ثورات العصر الحديث على ظهر الكوكب. وهذا
هو المكسب الأكبر والأهم والتاريخى، والذى لا رجعة فيه، والذى منحه الشعب
لنفسه بنفسه. والمكسب الثانى هو الإطاحة فى وقت واحد بالرئيس مبارك ومشروع
التمديد ومشروع التوريث وبالتالى الإطاحة بالمشروعين اللذين يسودان العالم
العربى ومناطق أخرى من العالم الثالث، ألا وهما مشروع التمديد لرؤساء
الجمهوريات ومشروع توريث الأبناء والإخوة والأصهار، ويشكل المشروعان معا
مشروع الجمهوريات الملكية التى تشمل تقريبا كل جمهوريات العالم العربى. لقد
قضت الثورتان التونسية والمصرية على مشروع النظام الجمهورى الملكى الذى
ضاعف بدوره من مستويات الاستبداد والفساد فى دول تصور رؤساء الجمهوريات
وعائلاتهم أنهم بُناتها وأولياء نعمتها وأنها لا تدول.
4: وباستقالة
الرئيس أو إقالته تسقط أهمية ما اعتبره بعض الناس مكاسب مثل تعيين نائب
لرئيس الجمهورية أو تأليف حكومة جديدة أو الوعد بعدم التمديد أوالتوريث
والاكتفاء بالبقاء كرئيس للجمهورية خلال المدة المتبقية من ولايته الخامسة.
ولم تكن البيانات من الأول إلى الرابع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة سوى
التمهيد الضرورى للإقالة والتعهد بتنفيذ تعهدات الرئيس المخلوع، وكان
البيان الخامس هو الذى جاء بالبدء الفعلى فى اتخاذ مواقف محددة إزاء مطالب
الثورة بالاستجابة لها أو الالتفاف حولها أو تجاهلها تماما.
5: وهنا
نصل إلى الوضع الجديد المتمثل فى تفويض السلطات المدنية والعسكرية لرئيس
الجمهورية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد دخول الجيش على الخط حتى قبل
إقالته وتمهيدا لهذه الإقالة. ويمكن أن نبدأ مناقشة هذه النقطة، فى ضوء
البيان الخامس للمجلس العسكرى، بمناقشة السؤال الذى يطرحه عنوان هذا المقال
وهو: ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟ والحقيقة أن مطلب حلهما لا ينفصل
عن المطالب الأخرى، ولا معنى له بدونها، وبالأخص فإن حلهما يهدف، من وجهة
نظر الثورة، إلى انتخاب برلمان جديد مختلف تماما (وينبغى وضع خطوط وخطوط
تحت كلمة مختلف)، فهل سيختلف عن هذين المجلسين برلمان يتم انتخابه فى ظل
دستور معيب للغاية وبالأصح دستور غير دستورى لمجرد تعديل قليل من مواده؟
وفى ظل حالة الطوارئ التى قيل منذ البيان الثانى للمجلس العسكرى إنه سيتم
إنهاؤها فور انتهاء الظروف الحالية؟ وفى ظل نفس الحكومة التى شكلها مبارك
قبل إقالته؟ ومع جبال من القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية؟ ومع
فترة تمتد ستة شهور أو أكثر (فى حالة استغراق انتخاب مجلسى الشعب والشورى
ورئيس الجمهورية فترة أطول من ذلك كما هو واضح فى البيان الخامس) جرى إعلان
أنها هى المرحلة الانتقالية (وفقا للبند خامسا من البيان الخامس) وبقيادة
المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يتولى إصدار مراسيم بقوانين خلال الفترة
الانتقالية؟ ليس هناك أدنى شك فى أن البرلمان الجديد لن يكون مختلفا وفى
هذه الحالة لا معنى أصلا لحلهما.
6: وإذا كان الالتفاف على مطلب حل
مجلسى الشعب والشورى بالاكتفاء بالترقيع عن طريق قبول عدد مقبول من جانب
النظام من الطعون يهدف قبل حلهما الآن الاحتفاظ بأغلبية كبيرة للحزب الوطنى
فيه من أجل السيطرة على التطورات السياسية لصالح المصالح التى يمثلها
الحزب الوطنى فإن الحزب الوطنى يغدو الآن بعد حل البرلمان بمجلسيه بالغ
الأهمية من حيث مصالحه ورجاله وعديم الأهمية من حيث وجوده كأغلبية داخل
مجلسين منحلين وهذا يعنى أن المصالح التى كان يمثلها الحزب الوطنى الذى صار
ملوثا بسمعة الاستبداد والفساد والبلطجة ستعمل على تكوين حزب جديد باسم
جديد وبتعديلات برنامجية ضرورية بعيدا عن قياداته العليا السابقة مع إدانة
ممارساتهم الشنيعة استعدادا لانتخابات برلمانية ورئاسية قادمة. ولنلاحظ هنا
أن المجلس العسكرى قد تجاهل حل المجالس النيابية المحلية بأغلبياتها
الكاسحة للحزب الوطنى مع أنها ركيزة مهمة من ركائز النظام على مستوى
المحليات.
7: والحكومة مستمرة وفقا للبيان الخامس فقد "أكد المجلس مجددا على تكليف حكومة الدكتور
أحمد
شفيق بالاستمرار فى عملها لحين تشكيل حكومة جديدة"، وفقا لنص البيان
المذكور. ومن الجلى أن الثورة تطالب بحل هذه الحكومة فهى الحكومة التى
عينها الرئيس مبارك قبل خلعه، ويترأسها أحد أقرب المقربين من مبارك، وتتكون
من وزراء استوزروا فى حكومة نظام فى عنفوان قمعه للشعب على نطاق واسع حيث
قتل المئات وجرح الآلاف، فصاروا بالتالى شركاء فى هذه الأعمال الإجرامية
الشائنة، فى هذه الجرائم ضد الإنسانية. فما مغزى إصرار المجلس العسكرى على
الاحتفاظ بهذه الحكومة؟ سيقال إن تشكيل حكومة جديدة يستغرق وقتا ولكنْ ألم
يقم مبارك نفسه بحل حكومة نظيف فورا وتكليف أحمد شفيق فورا أيضا بتأليف
حكومة جديدة فقام بتشكيلها فى غضون يومين أو ثلاثة، ولماذا لا يجرى تشكيل
وزارة تصريف أعمال أخرى بأقصى سرعة تمهيدا لتشكيل حكومة انتقالية من شخصيات
يثق بها الشعب بعد مشاورات ومفاوضات تستغرق وقتا بالضرورة؟ ومن ناحية أخرى
تؤكد تصريحات أحمد شفيق على بقاء حكومته شهورا وليس أياما أو أسابيع!
8:
أىْ أننا إزاء فترة انتقالية تتناقض تماما مع الفترة الانتقالية التى طالب
بها الشعب. فالفترة الانتقالية من وجهة نظر الشعب فترة تتميز بإلغاء
الدستور وليس ترقيعه، وتكليف جمعية تأسيسية بوضع دستور جديد ديمقراطى
والإشراف على بناء نظام جديد على أساسه، وحل الحكومة وليس استمرارها وتشكيل
حكومة تمثل قوى الثورة، وحل مجلسى الشعب والشورى والمجالس النيابية
المحلية، وحل الحزب الوطنى وإلغاء قانون الطوارئ وكافة القوانين غير
الدستورية وإطلاق الحريات السياسية والنقابية والتعاونية والمدنية بكافة
أشكالها باعتبار هذه الأشياء وغيرها ضرورات لا غنى عنها وأدوات نضالية
حاسمة للمرحلة الانتقالية ذاتها. ولا شك فى أن فترة انتقالية كهذه لن تؤدى
إلى خلق نظام ديمقراطى بل ستؤدى بالضرورة إلى إحياء واستعادة وترسيخ نفس
النظام المرفوض الذى خرج الشعب لإسقاطه. ومن الجلى أن الفترة الانتقالية
التى يطرحها البيان الخامس فترة انتقالية تسيطر عليها مؤسسات نفس النظام
وأنها تقود فى النهاية إلى شيء آخر مختلف عما يريده الشعب.
9: وهنا
ينبغى أن نقف لمناقشة الإطار القانونى العام لهذه الفترة. وتنظم المواد 82 و
83 و 84 و 85 من الدستور مختلف أحوال "تفويض" اختصاصات منصب رئيس
الجمهورية فى حالة وجود مانع مؤقت أو استقالته أو خلو منصبه. و "إذا قام
مانع مؤقت" ... "أناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند
عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه" (المادة82)؛ وفى حالة
خلو منصب الرئيس أو عجزه الدائم "يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب،
وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا" (المادة
84)؛ وفى حالة اتهام الرئيس ووقفه عن عمله "يتولى الرئاسة مؤقتا نائب رئيس
الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر
نيابته عنه" (المادة 85). وفى كل هذه الأحوال يتم التقيد بالحظر المنصوص
عليه فى المادة 82 وهو أنه "لا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل
الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة". كما تنص
المادة 83 على أنه فى حالة الاستقالة يتم توجيه "كتاب الاستقالة إلى مجلس
الشعب". غير أننا هنا إزاء تفويض سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس الأعلى
للقوات المسلحة بصورة لا علاقة لها بالدستور. ويصر المجلس المذكور على أن
الدستور فى حالة "تعطيل" وعلى أنه سيتم تعديل بعض مواده ولن يتم إلغاؤه.
وبالتالى يعتبر اختصاصاته "دستورية" رغم أن تفويض الرئيس سلطاته إليه غير
دستورى أصلا. وكما رأينا فإن الدستور يحظر على من ينوب عن الرئيس أو يتولى
الرئاسة مؤقتا حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى على حين أن المجلس العسكرى قد
قام بالفعل بحل هذين المجلسين. ومعنى هذا الخروج الشامل على الدستور أن
المجلس العسكرى يصدر عن اعتقاد مزدوج يجمع بين الشرعية الدستورية دون سند
دستورى والشرعية الثورية بالنيابة عن قوى وقيادات وشخصيات الثورة التى تملك
وحدها الشرعية الثورية والتى تؤكد المرة تلو المرة أن شرعية نظام مبارك قد
سقطت برئيسه وقياداته ودستوره وقوانينه الأساسية ومجالسه النيابية وحكومته
وحزبه الحاكم.
10: ولا يمكن تصحيح هذا الوضع المختل إلا بأن يتم
تسليم الشرعية الثورية لأصحابها الحقيقيين الذين يتألفون ويتآلفون فى جمعية
تأسيسية تشرف على المرحلة الانتقالية بكل هياكلها الجديدة وبالأخص بلجنة
وضع الدستور الجديد والحكومة الانتقالية، مع قيام القوات المسلحة بحماية
أمن البلاد خارجيا وداخليا مع ترك العملية الديمقراطية تتواصل دون تدخل فى
إجراءاتها التى ستوكل إلى الجمعية التأسيسية بحكومتها ولجنتها لوضع الدستور
الجديد ودون قمع المظاهرات والاحتجاجات التى يشكل استمرارها ضمانة لمسار
الثورة وإجراءاتها ولا يتناقض مع عودة الحياة الطبيعية.
11: وعلى
الحكومة الانتقالية التى ستحل على الفور محل حكومة أحمد شفيق التى شكلها
مبارك قبل إقالته، والتى لا شرعية لها شأنها فى ذلك شأن المجلس العسكرى،
إلغاء قانون الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات وإطلاق حريات الأحزاب
والنقابات والإضرابات والمظاهرات، والاستجابة لكل الاحتجاجات المطلبية
العادلة. كما سيكون على الجمعية التأسيسية والحكومة الانتقالية الشروع فورا
فى مهمة إسقاط النظام بملاحقة الثروات التى تكونت فى ظل الاستبداد والفساد
ومحاكمة أصحابها واستردادها من الخارج ومصادرتها من الداخل، مع فتح ملف
خصخصة القطاع العام وأملاك الدولة بوسائل لصوصية بالمصادرة والتأميم وإعادة
تقييم الصفقات المعقودة فى هذا المجال. وكاتب هذه السطور ليس من عَبَدَة
القطاع العام وملكية الدولة ولا شك فى أن بيروقراطية القطاع العام فى مصر
هى التى تشكل نواة "الطبقة" الحاكمة اللصوصية. غير أن أموال الشعب يجب
استردادها وأعتقد أن هذا لن يفزع المستثمرين المحليين والأجانب لأن هذه
الإجراءات لن تمتد من الثروات اللصوصية إلى غيرها من المشاريع الاقتصادية
الأجنبية والمحلية التى عملت بطرق مشروعة. وعلى العكس فإن الأمول التى سيتم
استردادها والاستثمارات التى سيكون بالإمكان جذبها ستكون ضرورة لا غنى
عنها للشروع فى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تحول مصر إلى بلد رأسمالى
حقيقى لننقذ بذلك بلادنا من المصير الكارثى الذى يتهدد العالم الثالث.
12:
وعلى جميع القوى التى شاركت فى الثورة أن تقدم للجنة الدستور تصوراتها
ورؤاها وبرامجها. وأعتقد أن الخيار الأفضل من أجل مستقبل بلادنا إحلال
النظام البرلمانى محل النظام الرئاسى، مثل الكثير من البلدان ومنها الهند
ذات التجربة الديمقراطية البالغة الأهمية. ولا شك فى أن الجمهورية
البرلمانية أكثر ديمقراطية من الجمهورية الرئاسية. ففى الجمهورية
البرلمانية يتولى السلطة التنفيذية رئيس وزراء يأتى من خلال الانتخابات
النيابية فيحكم بأغلبية حزبه أو بالتحالف مع حزب آخر أو أحزاب أخرى،
ويستطيع البرلمان سحب الثقة منه، ويكون منصب رئيس الجمهورية فى هذه الحالة
بروتوكوليا فى المحل الأول. وليت الجمعية التأسيسية تخلص بلادنا من مجلس
الشورى هذا الاختراع الساداتى الذى لا معنى له فهو بلا سلطة حقيقية ومجرد
ديكور باستثناء إسناد بعض السلطات القمعية إليه مثل منع تكوين الأحزاب غير
المرغوب فيها وتعيين قيادات الصحف المسماة بالقومية بما تقتضيه مصالح
النظام الاستبدادى. ولا بأس بالطبع فى نظام المجلسين كما فى كثير من بلدان
العالم بشرط أن تكون لكل منهما اختصاصات وسلطات حقيقية.
13: والخيار
الأفضل أن تكون هذه الجمهورية برلمانية وبالتالى تعددية، وأن تنبذ نظام
الحزب الواحد المباشر أو المموَّه بأحزاب متعاونة، وأن تكون مدنية لا
عسكرية، وأن تكون علمانية، ولا تعنى العلمانية بحال من الأحوال الإلحاد أو
معاداة الأديان بل تعنى على وجه الحصر فى مثل هذا التنظيم الدستورى العام
لدولة الفصل بين الدين والدولة. ويوجد تناقض حقيقى بين المادة الأولى فى
الدستور التى تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية
التى تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية،
ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" [ولا حظوا هذا الاضطراب
فى الصياغة الذى يحشر اللغة بين عبارتين تخصان الإسلام!] والمادة الثالثة
التى تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل
الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع
اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"؟ والحقيقة أن
الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعنى إعلاءً لشأن الدين بل يعنى
إدانة مباشرة له فالدين مجال للفضائل والمثل العليا والدولة أداة للطغيان
والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التى
تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا فإنها لا تنقذ
الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذ لا تصلح الدولة أداة
لفضائل الأديان أو الفلسفات، وكان كل طموح لإقامة دولة الدين فى جميع
الثقافات طوال التاريخ توظيفا للدين ورجاله فى خدمة الدولة والطبقة الحاكمة
والظلم والاستغلال.
14: ورغم أن المبادرة الشبابية غير الحزبية
الوثيقة الصلة بتكنولوچيات المعلومات والإعلام الحديثة من ناحية وكذلك ببعض
الحركات والمجموعات السياسية غير الحزبية هى التى مثلت الشرارة التى أشعلت
الثورة فلا شك فى أن انضمام الشعب بكل طبقاته الكادحة والمتوسطة وقواه
الحية إلى حركة الشباب هو الذى صنع الثورة الكبرى. وهنا لعبت قواعد وشباب
مختلف الأحزاب دورا كبيرا رغم انتهازية قياداتها فى كثير من الأحيان.
وبالتالى فإن الزعم بأن قوى الثورة تنحصر فى الحركة الشبابية الأولى التى
أطلقت الشرارة ليس موقفا موضوعيا. وإذا كانت بقايا النظام المتجه إلى
الانهيار والذى يحاول إنقاذ نفسه تتغنى ليل نهار بالشباب والشبان والشبيبة
والشبابية وطهارتهم وروعتهم فإنها تركز على هذا للتغرير بهم ولاستبعاد قوى
بعينها رغم دورها الذى لا ينكره إلا جاحد يفتقر إلى كل نزاهة أو إنصاف أو
موضوعية وأعنى بلا مواربة قواعد الإخوان المسلمين رغم أننى ضد أيديولوچيتهم
السياسية وكذلك قواعد كثير من الأحزاب اليسارية من وفديين وناصريين
وشيوعيين