في الثاني و العشرين من أغسطس عام 1999، بلغ عدد سكان كوكب الأرض ستة
مليارات نسمة، يتوزعون على 189 دولة هم أعضاء الأمم المتحدة، كما يتوزعون
علي عدد هائل من الجماعات القومية واللغوية والدينية و العرقية.
ووفقا لبعض الباحثين، فإن الستة مليارات نسمة الذين يسكنون العالم ينقسمون
إلي حوالي ستة آلاف جماعة اثنية أو أولية، و الجماعة الأولية هي التي يشترك
أبنائها في صفة موروثة معينة، مثل الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة ..
وبإهمال الجماعات محدودة العدد، أحصى العلماء 575 جماعة أولية كبيرة موجودة
في عالم اليوم.
و لما كان عدد الجماعات الأولية يفوق بكثير عدد الدول الموجودة في العالم،
فإن أغلب دول ومجتمعات العالم هي مجتمعات تعددية، يعيش فيها جنبا إلى جنب
جماعات أولية مختلفة ومتنوعة. فالعالم لا يعرف سوى عدد محدود من الدول التي
تتسم بتجانس سكاني كامل. حتى أن حوالي المليار نسمة، أي حوالي سُدس سكان
العالم، هم عبارة عن أقليات عرقية أو دينية أو ثقافية تعيش في مجتمعات
ينتمي أغلب أبنائها إلى جماعة أولية مختلفة.
والتنوع لا يقتصر على اختلاف العرق أو اللون أو الثقافة أو اللغة أو الدين،
بل قد يتشارك البشر في كل أو بعض هذه الخصائص، و تظل بينهم مساحة من
التنوع والاختلاف، ترجع إلى اختلافهم في الآراء. فـ ” الآخر ” قد يكون
المختلف في الجنس أو اللون أو الثقافة أو الدين، و قد يكون المختلف في
الفهم أو الرأي.
و على الرغم من دعوة الإسلام لوحدة البشر وأخوتهم وأصلهم المشترك، إلا أنه
لم يتغافل ظاهرة التنوع الإنساني واختلاف الناس، و عدّها مظهرا من مظاهر
قدرة الله تعالي ، و آية من آياته : ” و من آياته خلق السماوات و الأرض و
اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ” ( الروم : 22 ).
و شأن البشر في اختلافهم و تنوعهم شأن مظاهر الكون الأخرى : ” ألم تر أن
الله أنزل من السماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من الجبال جدد
بيض وحمر مختلف ألوانها و غرابيب سود. و من الناس والدواب والأنعام مختلف
ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ” ( فاطر :
27 و 28 ) .
والحق أن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري
طبيعي، ذو صلة أكيدة بالفروق الفردية بين الناس. والاختلاف – في المفهوم
الإسلامي – حق طبيعي و عام لكل الناس، و هو حق أبدي و قائم إلى يوم
القيامة، يوم يفصل الله سبحانه وتعالى بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، و
القرآن الكريم يؤكد هذا حين يقول: ” و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و
لا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم و تمت كلمة ربك لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين ” (هود : 118 و 119 ) .. ” و ما كان الناس
إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه
يختلفون ” ( يونس : 19 ) .. ” .. و لو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة و لكن
ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما
كنتم فيه تختلفون ” ( المائدة : 48 ) .. ” إن ربك هو يفصل بينهم يوم
القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ” ( السجدة : 25 ).
فواقع الحياة يدل على أن الصراع الدائر دوران الليل والنهار بين قوى الخير
وقوى الشر لا سبيل إلى حسمه، و إلا تحولت المجموعة البشرية إلى أحد صنفين:
إما ملائكة و إما شياطين. و تمام عملية التحول هذه هي نوع من الباطل محال،
لأنه يلغي الحكمة من وجود الإنسان أصلا، و يبطل مفعول الحياة، و يفقدها
مغزاها.
فسنة الله قائمة في اختلاف حظوظ الناس من الهداية والإيمان : ” و لو شئنا
لآتينا كل نفس هداها و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس
أجمعين ” ( السجدة : 13 ). إن اختلاف الآراء و تباين المذاهب شيء لا يمكن
تجاهله، و لا الفرار منه، فتلك سنة الله في النصوص و العقول.
ذلك أن الله لما بعث الرسل، و أنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد
العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، و بعض التفاصيل الثانوية، و لم يشأ
الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف البشري، بل بين بعض ما يختلف الناس
فيه، وأعرض عن بعض، كما قال تعالى : ” و لما جاء عيسي بالبينات قال جئتكم
بالحكمة و لأبين بعض الذي تختلفون فيه ” ( الزخرف : 63 ) .. و قال تعالى :
“إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ” ( النمل :
76).
لقد اقتضت حكمة العليم القدير أن تبقى مفاوز ظنية مفعمة بالاحتمال، يذهب
الناس في تفسيرها كل مذهب، و تطلب القطع في هذه المساحات لون من تكلف
المحال، وستبقى مساحة من النص الديني لا يمكن القطع بتفسيرها، مصداقا لقوله
تعالى : ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات ” ( آل عمران : 7 ).
وإذن، سيبقى قدر من الأحكام الشرعية لا يتمكن كثير من الناس من التوصل إلي
حكم جازم فيها .. قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ” الحلال بين، و الحرام
بين، و بينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ” ( رواه البخاري ومسلم و
أبو داود و الترمذي و ابن ماجه ).
فليس من الأمور الشاذة في طبيعة الناس أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد
قرءوه، و هذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين، كما حدث مثله مع اتباع الديانات
الأخرى، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، و لكنهم مختلفون في فهمهم
لبعض آياته، و من هنا – مع تضافر عوامل أخرى – نشأت المذاهب المتعددة. و
انضواء فرق و تيارات تحت لواء الإسلام – شأنه شأن العقائد الكبرى – ليس في
حد ذاته ذو خطر كبير لا على الإسلام و لا على المسلمين، و لكن الخطورة تبزغ
حينما تفتقد هذه الفرق والتيارات الأسس القويمة للتحاور فيما بينها.
إن التطرف المذهبي يتبدى في أن يأخذ الشخص بطريقة معينة في الفهم أو بمذهب
معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، و أن الآخرين على خطأ. و لو وقف الأمر
عند هذا الحد، لما كان عليه غبار، لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهب معين دون
سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب في جانب هذا المذهب الذي اختاره، لكنه
ينقلب ” متطرفا ” إذا هو أراد أن يحمل الآخرين بالقوة – كائنة ما كانت صورة
القوة – على مشاركته فيما اعتقد.
إن التنوع و الاختلاف، الذي هو آية من آيات الله و قدرته، أبى بعض البشر –
عن ظلم و جهل – إلا أن يجعلوا من مدلولاته أسبابا للعصبية، و أن يقيموا
منه حدودا تفصل بينهم و بين غيرهم من البشر.
و لقد اختلف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، مثلما حدث في
مسألة “الصلاة في بني قريظة”، عندما أمر الرسول المجاهدين الخارجين من
المدينة ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فتأول بعضهم الأمر على أن ذلك
مفاده الإسراع، و صلوا في الطريق حين دخل عليهم وقت صلاة العصر. بينما أمضى
البعض الآخر النص على ظاهره، فصلوا العصر في العتمة عندما وصلوا إلي بني
قريظة، و قبل الرسول صلي الله عليه و سلم فهم الفريقين.
كما اختلف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم فيمن يخلفه، و في
قتال مانعي الزكاة، و في بعض المسائل الفقهية. و كان بين عمر بن الخطاب و
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما اختلافات مشهورة، لكنها كانت تدور في نطاق
أدب رفيع. كما اختلف عمر وعبد الله بن مسعود في كثير من المسائل، ذكر ابن
القيم أنها بلغت مائة مسألة، و بالرغم من ذلك ما نقص حب أحدهما لصاحبه، و
ما أضعف من تقدير و مودة أي منهما للآخر.
و حين وقعت الفتن الكبرى، ووقع السيف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، لم ينسوا أهل الفضل بينهم، ولا أنستهم الأحداث الجسام مناقب ذوي
المناقب منهم. إذ سُئل عليا رضي الله عنه عن ” أهل الجمل ” أمشركون هم؟
فأجاب: من الشرك فروا ، فسُئل : هل هم منافقون؟ فقال : إن المنافقين لا
يذكرون الله إلا قليلا ( أي أن هؤلاء يذكرون الله كثيرا ). قيل فمن هم إذن ؟
فقال: إخواننا بغوا علينا ( ورد بسنن البيهقي ).
وفقهاء المسلمين و أئمتهم الكبار، من أمثال: الحسن البصري، و أبو حنيفة
النعمان، و الأوزاعي، و سفيان الثوري، و الليث بن سعد، و مالك، و سفيان بن
عيينه، و الشافعي، و أحمد بن حنبل .. اختلفوا في كثير من الأمور
الاجتهادية، وهم جميعا على الهدي مادام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو رغبة في
الشقاق. ولذلك كان أهل العلم في سائر الأمصار يقبلون فتاوى المفتين في
المسائل الاجتهادية ماداموا مؤهلين، فيصوبون المصيب، و يستغفرون للمخطئ، و
يحسنون الظن بالجميع .. و كثيرا ما كانوا يصدّرون اختياراتهم بنحو قولهم: ”
هذا أحوط “، أو ” أحسن “، أو ” نكره هذا “، بلا تضييق و لا اتهام و لا حجر
على رأي، بل يسر و سهولة و انفتاح على الناس لتيسير أمورهم.
ومما يروى أن الإمام مالك رحمه الله لما انتهى من تأليف كتابه ” الموطأ ”
الذي يعتبر ثمرة جهده لمدة أربعين عاما، و أول كتاب في الحديث و الفقه يظهر
في الإسلام، أراد الخليفة المنصور كتابة عدة نسخ منه، و توزيعها على مختلف
الأقطار، و حمل الناس على الفقه الذي فيه حسما للخلاف، كان الإمام مالك هو
أول من رفض ذلك، و قال: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فان الناس قد سبقت لهم
أقاويل، و سمعوا أحاديث، و رووا روايات، و أخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع
الناس و ما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم .
فمادمنا كلنا طلاب حقيقة، نسعى إلى إدراكها و إلى العمل بمقتضاها، فلا ضير
في أن يصحح أحدنا للآخر، بل لا بد أن يصحح أحدنا الآخر لتتحرك حياتنا
الفكرية نحو ما هو أصح و أكمل، و إلا فمن هو ذا الذي يدعي لنفسه سعة من
العلم لا تنتهي حدودها، و عصمة من الخطأ لا موضع فيها للزلل و الخطأ؟!
وبالرغم من أن الاختلاف – من الوجهة الإسلامية – يعد بابا من أبواب الرحمة،
وبالرغم من الأمثال الحية جمة الرقي – في هذا المضمار – التي ضربها الرسول
صلى الله عليه و سلم و صحابته وكبار فقهاء المسلمين، إلا أن تاريخ الدولة
الإسلامية و ممارسات بعض المسلمين، لم تسر دائما على ذات النهج. ففي حالات
عدة تلبس الخلاف السياسي مسوحا فقهيا، و جرى شن حملات عنف متعصبة ضد ”
الآخر ” المختلف في الرأي أو المذهب.
ومن أسف، أن الوقائع التاريخية تنسب للمعتزلة، و هم معدودون روادا
للعقلانية في الفكر الإسلامي، ممارسات فظة و متطرفة اتجاه ” الآخر ”
المسلم. فعندما تبنت الدولة العباسية في عهد الخليفة المعتصم، ثم الخليفة
الواثق، أفكار المعتزلة و تصوراتهم، أباح المعتزلة لأنفسهم اضطهاد
المخالفين لهم، و على رأسهم الفقيه ابن حنبل و أتباعه، حيث كان المعتزلة
يرون أن القرآن مخلوق، و أن رؤية الله تعالى مستحيلة، و كان الحنابلة
يذهبون إلى أن القرآن غير مخلوق، و أن رؤية الله جائزة، و كان لكل فريق
أدلته من تأويل الآيات، و من الأحاديث التي توافق مذهبه.
و في عهد الخليفة الواثق المتبني لأفكار المعتزلة، حوكم أحمد بن نصر
الخزاعي أمام الخليفة، و قتله الخليفة بيده معتقدا أنه يتقرب إلى الله
بدمه!
على أنه حين اقتنع الخليفة العباسي المتوكل بفكر الحنابلة، تمكن الحنابلة
من اضطهاد خصومهم من الصوفيين و عندما دارت الأيام، و أصبحت للصوفية
المكانة و السيطرة، اضطهد الصوفيون خصومهم من الفقهاء الحنابلة!
إن الاختلاف و التنوع سنة من سنن الله في خلقه، و آية من آياته الكبرى.
وانقسام المجتمعات بين عدد من الجماعات القومية والعرقية و الدينية، هو
ظاهرة أصيلة في تكوين أغلب المجتمعات الإنسانية، و هذا – بالتالي – هو
الوضع الطبيعي للمجتمع الإنساني، و من ثم فإنه من الخطأ اعتبار الحالة
الطبيعية هي تلك الحالة التي لا يوجد فيها في المجتمع سوى جماعة أولية
واحدة. كما أنه لا يعد طبيعيا إلزام المنتمين لثقافة أو دين ما بتصورات
واحدة كلية و معممة، لا تسمح بأي هامش للاختلاف.
إن الثقافة التي تختار الانغلاق، إنما تفوّت على نفسها فرصة التطور
والنماء، فيكون حالها في هذا مشابها لحال القبيلة أو العائلة التي تفرض على
أبنائها وبناتها الزواج من بعضهم البعض، بحيث يكون مصير هؤلاء الذين
يتجرؤون على الزواج من خارج الجماعة الطرد أو العزل. فقد دلت علوم الوراثة
والطب على أن مثل هذه الجماعات والقبائل تعاني من تدهور مستمر في صفاتها
الوراثية، لأن زواج الأقارب يؤدي إلي زيادة فرصة ظهور الصفات السلبية، بحيث
أنه بينما يسير البشر نحو الأمام، فإن هذه الجماعات و القبائل تتقهقر في
اتجاه عكسي. ومثل هذا يكون حال الجماعات والأمم التي تنغلق على نفسها رافضة
التعامل مع الآخرين.
حقا، إن الإنسان – كما عبّر أحد الباحثين – ليس سوى إمكانات رقيقة كبخار
شفاف، يستوجب وجوده دائما وسطا، هو عالم الآخرين. فمهما اعتقد ” الأنا ”
أنه مساوٍ لنفسه وجودا بذاته، و مهما نفي ” الآخر “، إلا أنه يظل مفتقرا
إلى كل حقيقة، فالأنا في حاجة إلى الأنت، والوجود بالذات يستدعي ويستلزم
وجود الآخر، ولا وعي بالذات إلا عبر الوعي بالآخر و من خلاله.
إن الحكمة وراء التنوع هي تأكيد أهمية التلاقح بين الثقافات، و التعاون بين
الناس، فلا تقتصر منافع التنوع على تعاون الدول، و إنما تمتد لتشمل أيضا
العلاقات بين الجماعات الثقافية المختلفة سواء داخل الدولة الواحدة، أو عبر
حدود الدول المختلفة. و لا توجد ثقافة أو جماعة تستطيع أن تستغني عن مثل
هذا التعاون، بدعوى أنها مكتفية بذاتها، و ليس لديها حاجة للاستفادة من
تجارب وخبرات الآخرين. فالشعوب والثقافات يمكنها أن تكتسب مكانة متميزة في
العالم بقدر ما يمكنها التفاعل الخلاق والاقتباس من الثقافات الأخرى.
و لا يوجد دليل على فائدة التلاقح الثقافي، و قدرته على الإسهام في تقدم
الشعوب والإنسانية جمعاء خيرا من الخبرة العربية الإسلامية في هذا المجال.
إذ قام العرب بحمل لواء الإسلام و نشره بين شعوب العالم القديم في الأقاليم
المحيطة بموطن الإسلام الأول في شبه الجزيرة العربية. و قد أتاح الدين
الحنيف للعرب قوة إيمان وحماسة لم يعهدوها من قبل، حتى أنهم تغلبوا على
إمبراطوريات وحضارات عريقة، و كان يمكن للمسلمين أن ينحوا نحو احتقار
الحضارات التي انتصروا عليها، كما كان يمكن أن يذهب بهم الظن إلى أن آخر
الرسالات السماوية تغنيهم عن التعلم من حضارات الشعوب الأخرى، غير أن أيا
من هذا لم يحدث، و اختار المسلمون الانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، و لم
يستكبروا أن يتعلموا منها، و يأخذوا عنها كل ما تستطيع أن تقدمه و فيه نفع
لهم.
مليارات نسمة، يتوزعون على 189 دولة هم أعضاء الأمم المتحدة، كما يتوزعون
علي عدد هائل من الجماعات القومية واللغوية والدينية و العرقية.
ووفقا لبعض الباحثين، فإن الستة مليارات نسمة الذين يسكنون العالم ينقسمون
إلي حوالي ستة آلاف جماعة اثنية أو أولية، و الجماعة الأولية هي التي يشترك
أبنائها في صفة موروثة معينة، مثل الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة ..
وبإهمال الجماعات محدودة العدد، أحصى العلماء 575 جماعة أولية كبيرة موجودة
في عالم اليوم.
و لما كان عدد الجماعات الأولية يفوق بكثير عدد الدول الموجودة في العالم،
فإن أغلب دول ومجتمعات العالم هي مجتمعات تعددية، يعيش فيها جنبا إلى جنب
جماعات أولية مختلفة ومتنوعة. فالعالم لا يعرف سوى عدد محدود من الدول التي
تتسم بتجانس سكاني كامل. حتى أن حوالي المليار نسمة، أي حوالي سُدس سكان
العالم، هم عبارة عن أقليات عرقية أو دينية أو ثقافية تعيش في مجتمعات
ينتمي أغلب أبنائها إلى جماعة أولية مختلفة.
والتنوع لا يقتصر على اختلاف العرق أو اللون أو الثقافة أو اللغة أو الدين،
بل قد يتشارك البشر في كل أو بعض هذه الخصائص، و تظل بينهم مساحة من
التنوع والاختلاف، ترجع إلى اختلافهم في الآراء. فـ ” الآخر ” قد يكون
المختلف في الجنس أو اللون أو الثقافة أو الدين، و قد يكون المختلف في
الفهم أو الرأي.
و على الرغم من دعوة الإسلام لوحدة البشر وأخوتهم وأصلهم المشترك، إلا أنه
لم يتغافل ظاهرة التنوع الإنساني واختلاف الناس، و عدّها مظهرا من مظاهر
قدرة الله تعالي ، و آية من آياته : ” و من آياته خلق السماوات و الأرض و
اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ” ( الروم : 22 ).
و شأن البشر في اختلافهم و تنوعهم شأن مظاهر الكون الأخرى : ” ألم تر أن
الله أنزل من السماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من الجبال جدد
بيض وحمر مختلف ألوانها و غرابيب سود. و من الناس والدواب والأنعام مختلف
ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ” ( فاطر :
27 و 28 ) .
والحق أن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري
طبيعي، ذو صلة أكيدة بالفروق الفردية بين الناس. والاختلاف – في المفهوم
الإسلامي – حق طبيعي و عام لكل الناس، و هو حق أبدي و قائم إلى يوم
القيامة، يوم يفصل الله سبحانه وتعالى بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، و
القرآن الكريم يؤكد هذا حين يقول: ” و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و
لا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم و تمت كلمة ربك لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين ” (هود : 118 و 119 ) .. ” و ما كان الناس
إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه
يختلفون ” ( يونس : 19 ) .. ” .. و لو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة و لكن
ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما
كنتم فيه تختلفون ” ( المائدة : 48 ) .. ” إن ربك هو يفصل بينهم يوم
القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ” ( السجدة : 25 ).
فواقع الحياة يدل على أن الصراع الدائر دوران الليل والنهار بين قوى الخير
وقوى الشر لا سبيل إلى حسمه، و إلا تحولت المجموعة البشرية إلى أحد صنفين:
إما ملائكة و إما شياطين. و تمام عملية التحول هذه هي نوع من الباطل محال،
لأنه يلغي الحكمة من وجود الإنسان أصلا، و يبطل مفعول الحياة، و يفقدها
مغزاها.
فسنة الله قائمة في اختلاف حظوظ الناس من الهداية والإيمان : ” و لو شئنا
لآتينا كل نفس هداها و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس
أجمعين ” ( السجدة : 13 ). إن اختلاف الآراء و تباين المذاهب شيء لا يمكن
تجاهله، و لا الفرار منه، فتلك سنة الله في النصوص و العقول.
ذلك أن الله لما بعث الرسل، و أنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد
العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، و بعض التفاصيل الثانوية، و لم يشأ
الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف البشري، بل بين بعض ما يختلف الناس
فيه، وأعرض عن بعض، كما قال تعالى : ” و لما جاء عيسي بالبينات قال جئتكم
بالحكمة و لأبين بعض الذي تختلفون فيه ” ( الزخرف : 63 ) .. و قال تعالى :
“إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ” ( النمل :
76).
لقد اقتضت حكمة العليم القدير أن تبقى مفاوز ظنية مفعمة بالاحتمال، يذهب
الناس في تفسيرها كل مذهب، و تطلب القطع في هذه المساحات لون من تكلف
المحال، وستبقى مساحة من النص الديني لا يمكن القطع بتفسيرها، مصداقا لقوله
تعالى : ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات ” ( آل عمران : 7 ).
وإذن، سيبقى قدر من الأحكام الشرعية لا يتمكن كثير من الناس من التوصل إلي
حكم جازم فيها .. قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ” الحلال بين، و الحرام
بين، و بينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ” ( رواه البخاري ومسلم و
أبو داود و الترمذي و ابن ماجه ).
فليس من الأمور الشاذة في طبيعة الناس أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد
قرءوه، و هذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين، كما حدث مثله مع اتباع الديانات
الأخرى، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، و لكنهم مختلفون في فهمهم
لبعض آياته، و من هنا – مع تضافر عوامل أخرى – نشأت المذاهب المتعددة. و
انضواء فرق و تيارات تحت لواء الإسلام – شأنه شأن العقائد الكبرى – ليس في
حد ذاته ذو خطر كبير لا على الإسلام و لا على المسلمين، و لكن الخطورة تبزغ
حينما تفتقد هذه الفرق والتيارات الأسس القويمة للتحاور فيما بينها.
إن التطرف المذهبي يتبدى في أن يأخذ الشخص بطريقة معينة في الفهم أو بمذهب
معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، و أن الآخرين على خطأ. و لو وقف الأمر
عند هذا الحد، لما كان عليه غبار، لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهب معين دون
سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب في جانب هذا المذهب الذي اختاره، لكنه
ينقلب ” متطرفا ” إذا هو أراد أن يحمل الآخرين بالقوة – كائنة ما كانت صورة
القوة – على مشاركته فيما اعتقد.
إن التنوع و الاختلاف، الذي هو آية من آيات الله و قدرته، أبى بعض البشر –
عن ظلم و جهل – إلا أن يجعلوا من مدلولاته أسبابا للعصبية، و أن يقيموا
منه حدودا تفصل بينهم و بين غيرهم من البشر.
و لقد اختلف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، مثلما حدث في
مسألة “الصلاة في بني قريظة”، عندما أمر الرسول المجاهدين الخارجين من
المدينة ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فتأول بعضهم الأمر على أن ذلك
مفاده الإسراع، و صلوا في الطريق حين دخل عليهم وقت صلاة العصر. بينما أمضى
البعض الآخر النص على ظاهره، فصلوا العصر في العتمة عندما وصلوا إلي بني
قريظة، و قبل الرسول صلي الله عليه و سلم فهم الفريقين.
كما اختلف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم فيمن يخلفه، و في
قتال مانعي الزكاة، و في بعض المسائل الفقهية. و كان بين عمر بن الخطاب و
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما اختلافات مشهورة، لكنها كانت تدور في نطاق
أدب رفيع. كما اختلف عمر وعبد الله بن مسعود في كثير من المسائل، ذكر ابن
القيم أنها بلغت مائة مسألة، و بالرغم من ذلك ما نقص حب أحدهما لصاحبه، و
ما أضعف من تقدير و مودة أي منهما للآخر.
و حين وقعت الفتن الكبرى، ووقع السيف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، لم ينسوا أهل الفضل بينهم، ولا أنستهم الأحداث الجسام مناقب ذوي
المناقب منهم. إذ سُئل عليا رضي الله عنه عن ” أهل الجمل ” أمشركون هم؟
فأجاب: من الشرك فروا ، فسُئل : هل هم منافقون؟ فقال : إن المنافقين لا
يذكرون الله إلا قليلا ( أي أن هؤلاء يذكرون الله كثيرا ). قيل فمن هم إذن ؟
فقال: إخواننا بغوا علينا ( ورد بسنن البيهقي ).
وفقهاء المسلمين و أئمتهم الكبار، من أمثال: الحسن البصري، و أبو حنيفة
النعمان، و الأوزاعي، و سفيان الثوري، و الليث بن سعد، و مالك، و سفيان بن
عيينه، و الشافعي، و أحمد بن حنبل .. اختلفوا في كثير من الأمور
الاجتهادية، وهم جميعا على الهدي مادام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو رغبة في
الشقاق. ولذلك كان أهل العلم في سائر الأمصار يقبلون فتاوى المفتين في
المسائل الاجتهادية ماداموا مؤهلين، فيصوبون المصيب، و يستغفرون للمخطئ، و
يحسنون الظن بالجميع .. و كثيرا ما كانوا يصدّرون اختياراتهم بنحو قولهم: ”
هذا أحوط “، أو ” أحسن “، أو ” نكره هذا “، بلا تضييق و لا اتهام و لا حجر
على رأي، بل يسر و سهولة و انفتاح على الناس لتيسير أمورهم.
ومما يروى أن الإمام مالك رحمه الله لما انتهى من تأليف كتابه ” الموطأ ”
الذي يعتبر ثمرة جهده لمدة أربعين عاما، و أول كتاب في الحديث و الفقه يظهر
في الإسلام، أراد الخليفة المنصور كتابة عدة نسخ منه، و توزيعها على مختلف
الأقطار، و حمل الناس على الفقه الذي فيه حسما للخلاف، كان الإمام مالك هو
أول من رفض ذلك، و قال: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فان الناس قد سبقت لهم
أقاويل، و سمعوا أحاديث، و رووا روايات، و أخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع
الناس و ما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم .
فمادمنا كلنا طلاب حقيقة، نسعى إلى إدراكها و إلى العمل بمقتضاها، فلا ضير
في أن يصحح أحدنا للآخر، بل لا بد أن يصحح أحدنا الآخر لتتحرك حياتنا
الفكرية نحو ما هو أصح و أكمل، و إلا فمن هو ذا الذي يدعي لنفسه سعة من
العلم لا تنتهي حدودها، و عصمة من الخطأ لا موضع فيها للزلل و الخطأ؟!
وبالرغم من أن الاختلاف – من الوجهة الإسلامية – يعد بابا من أبواب الرحمة،
وبالرغم من الأمثال الحية جمة الرقي – في هذا المضمار – التي ضربها الرسول
صلى الله عليه و سلم و صحابته وكبار فقهاء المسلمين، إلا أن تاريخ الدولة
الإسلامية و ممارسات بعض المسلمين، لم تسر دائما على ذات النهج. ففي حالات
عدة تلبس الخلاف السياسي مسوحا فقهيا، و جرى شن حملات عنف متعصبة ضد ”
الآخر ” المختلف في الرأي أو المذهب.
ومن أسف، أن الوقائع التاريخية تنسب للمعتزلة، و هم معدودون روادا
للعقلانية في الفكر الإسلامي، ممارسات فظة و متطرفة اتجاه ” الآخر ”
المسلم. فعندما تبنت الدولة العباسية في عهد الخليفة المعتصم، ثم الخليفة
الواثق، أفكار المعتزلة و تصوراتهم، أباح المعتزلة لأنفسهم اضطهاد
المخالفين لهم، و على رأسهم الفقيه ابن حنبل و أتباعه، حيث كان المعتزلة
يرون أن القرآن مخلوق، و أن رؤية الله تعالى مستحيلة، و كان الحنابلة
يذهبون إلى أن القرآن غير مخلوق، و أن رؤية الله جائزة، و كان لكل فريق
أدلته من تأويل الآيات، و من الأحاديث التي توافق مذهبه.
و في عهد الخليفة الواثق المتبني لأفكار المعتزلة، حوكم أحمد بن نصر
الخزاعي أمام الخليفة، و قتله الخليفة بيده معتقدا أنه يتقرب إلى الله
بدمه!
على أنه حين اقتنع الخليفة العباسي المتوكل بفكر الحنابلة، تمكن الحنابلة
من اضطهاد خصومهم من الصوفيين و عندما دارت الأيام، و أصبحت للصوفية
المكانة و السيطرة، اضطهد الصوفيون خصومهم من الفقهاء الحنابلة!
إن الاختلاف و التنوع سنة من سنن الله في خلقه، و آية من آياته الكبرى.
وانقسام المجتمعات بين عدد من الجماعات القومية والعرقية و الدينية، هو
ظاهرة أصيلة في تكوين أغلب المجتمعات الإنسانية، و هذا – بالتالي – هو
الوضع الطبيعي للمجتمع الإنساني، و من ثم فإنه من الخطأ اعتبار الحالة
الطبيعية هي تلك الحالة التي لا يوجد فيها في المجتمع سوى جماعة أولية
واحدة. كما أنه لا يعد طبيعيا إلزام المنتمين لثقافة أو دين ما بتصورات
واحدة كلية و معممة، لا تسمح بأي هامش للاختلاف.
إن الثقافة التي تختار الانغلاق، إنما تفوّت على نفسها فرصة التطور
والنماء، فيكون حالها في هذا مشابها لحال القبيلة أو العائلة التي تفرض على
أبنائها وبناتها الزواج من بعضهم البعض، بحيث يكون مصير هؤلاء الذين
يتجرؤون على الزواج من خارج الجماعة الطرد أو العزل. فقد دلت علوم الوراثة
والطب على أن مثل هذه الجماعات والقبائل تعاني من تدهور مستمر في صفاتها
الوراثية، لأن زواج الأقارب يؤدي إلي زيادة فرصة ظهور الصفات السلبية، بحيث
أنه بينما يسير البشر نحو الأمام، فإن هذه الجماعات و القبائل تتقهقر في
اتجاه عكسي. ومثل هذا يكون حال الجماعات والأمم التي تنغلق على نفسها رافضة
التعامل مع الآخرين.
حقا، إن الإنسان – كما عبّر أحد الباحثين – ليس سوى إمكانات رقيقة كبخار
شفاف، يستوجب وجوده دائما وسطا، هو عالم الآخرين. فمهما اعتقد ” الأنا ”
أنه مساوٍ لنفسه وجودا بذاته، و مهما نفي ” الآخر “، إلا أنه يظل مفتقرا
إلى كل حقيقة، فالأنا في حاجة إلى الأنت، والوجود بالذات يستدعي ويستلزم
وجود الآخر، ولا وعي بالذات إلا عبر الوعي بالآخر و من خلاله.
إن الحكمة وراء التنوع هي تأكيد أهمية التلاقح بين الثقافات، و التعاون بين
الناس، فلا تقتصر منافع التنوع على تعاون الدول، و إنما تمتد لتشمل أيضا
العلاقات بين الجماعات الثقافية المختلفة سواء داخل الدولة الواحدة، أو عبر
حدود الدول المختلفة. و لا توجد ثقافة أو جماعة تستطيع أن تستغني عن مثل
هذا التعاون، بدعوى أنها مكتفية بذاتها، و ليس لديها حاجة للاستفادة من
تجارب وخبرات الآخرين. فالشعوب والثقافات يمكنها أن تكتسب مكانة متميزة في
العالم بقدر ما يمكنها التفاعل الخلاق والاقتباس من الثقافات الأخرى.
و لا يوجد دليل على فائدة التلاقح الثقافي، و قدرته على الإسهام في تقدم
الشعوب والإنسانية جمعاء خيرا من الخبرة العربية الإسلامية في هذا المجال.
إذ قام العرب بحمل لواء الإسلام و نشره بين شعوب العالم القديم في الأقاليم
المحيطة بموطن الإسلام الأول في شبه الجزيرة العربية. و قد أتاح الدين
الحنيف للعرب قوة إيمان وحماسة لم يعهدوها من قبل، حتى أنهم تغلبوا على
إمبراطوريات وحضارات عريقة، و كان يمكن للمسلمين أن ينحوا نحو احتقار
الحضارات التي انتصروا عليها، كما كان يمكن أن يذهب بهم الظن إلى أن آخر
الرسالات السماوية تغنيهم عن التعلم من حضارات الشعوب الأخرى، غير أن أيا
من هذا لم يحدث، و اختار المسلمون الانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، و لم
يستكبروا أن يتعلموا منها، و يأخذوا عنها كل ما تستطيع أن تقدمه و فيه نفع
لهم.