مترجمة عن المستر ديكر شام المحامي بمدينة نيويورك بأمريكا
وواردة بمجلة هار فارد القانونية عدد نوفمبر سنة 1922
وواردة بمجلة هار فارد القانونية عدد نوفمبر سنة 1922
يُقدر عدد محامي الولايات المتحدة بنحو مائة وثلاثين ألف أدى كل واحد منهم إلا من استثني من محامي (إنديانا) امتحانًا خاصًا وضعت نظامه المحاكم ونص عليه القانون ليتبين منه سعة مداركه وقيمته الأدبية، وليس الأمر قاصرًا على هذا بل ينبغي على كل محامٍ أن يحافظ على شرف مهنته وأن يراعي الروابط الأدبية التي تضمن دوام التفاهم بين القضاء والدفاع،
ومما ساعد على تحقيق السير بمقتضى هذه القواعد ما للمحاكم من حق فصل المحامي الذي يأتي أمرًا يمس شرف مهنته أو كرامتها ومن ثم فقد جمع هذا النظام الذي لا مثيل له في أنظمتنا بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو ديمقراطي لأنه أفسح باب الدخول في المحاماة لكل من توفرت فيه الشروط الواجبة وأرستقراطي بالمعنى الصحيح لاقتصاره على فئة معينة من أهل العلم والأدب يستعان بهم على فهم قوانين البلاد ويركن إليهم في تمثيل الخصوم أمام القضاء.
على أنه يجب اعتبار مهنة المحاماة من وجهتين الأولى أنها تجمع بين الاستشارة وتمثيل الموكلين في مسائلهم القضائية والثانية أنها تضم نخبة من المتعلمين يمتازون بصفات خاصة فيهم لإلمامهم المتين بقوانين البلاد ودرايتهم بالوسائل المنطقية التي تساعد على التفكير وعلمهم بالنظام الدستوري وشكل الحكومة ولكفاءتهم التي تمكنهم من الاشتراك بطرق عدة في توجيه المجتمع في خطته السياسية.
ولذلك نجد طالب القانون أشد ما يكون حاجة إلى أمرين أولهما الإلمام بالقوانين إلمامًا يؤهله للنجاح فيما وضع من الاختبارات كشرط للاندماج في سلك المحاماة مع قوة فكر وغزارة مادة يساعدانه على إبداء أصوب الآراء للمسترشدين وإجادة درس القضايا والقيام بواجبه على الوجه الأكمل وبهذا يستطيع التغلب على صعوبات العيش الذي هو في الحقيقة منتهى أمل السواد الأعظم من طلاب الحقوق وإن تنوعت بقية الآمال لأن الأغلبية الساحقة لا تدرس القانون إلا لاتخاذه وسيلة من خير الوسائل وأفضل الطرق لاكتساب العيش، ولكن ما لهذا كانت المحاماة، والواجب أن يكون هم المحامي غير ذلك، لأنها مهنة أشرف مما يظن, وإلا لما اختلفت عن غيرها من المهن قيمة ولساوتها شأنًا ولكانت هي وصناعة السباك سواء.
والاشتغال بالقانون يتطلب الرسوخ فيه مع تعمق في البحث بعزيمة لا تعرف الكلل.
وينبغي أيضًا على المحامي أن يكون ملمًا بتاريخ البلاد وحضارتها، وعلى الأخص معرفة مدنية البلاد التي استمدت منها قواعد قانوننا الحديث مع دراية بالفلسفة حتى لا يخطئ في تطبيق القانون على الأعمال التي يأتيها الإنسان حتى درس العوامل الداخلية التي تجول في خاطره وعلم أخلاقه في المجتمع الذي يعيش فيه وعاداته وحالاته النفسية وفهم كل أسباب التطورات وماهيتها.
ليس القانون بتلك الكلمات الصامتة ينطق بها الشارع فتصبح قانونًا بل هو قابل للتطور والنمو تبعًا لنظام التطور الاجتماعي.
نعم قد تكون هناك بعض مبادئ دلتنا عليها التجارب يجب أن تبقى ثابتة ولكن هذا لا يمنع أن تكون معظم أحكام القانون في تقدم مستمر وأن المحامي الذي يودي الاستمرار في مهنته طبقًا لما تقتضيه الذمة يجب أن يتتبع تلك التطورات عن كثب وإلا عجز عن معاونة موكليه في معضلات أمورهم.
ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المحامي متانة الخلق، لأن كثيرًا ما يكون لأخلاق من يتولى تسوية الشؤون بين الأفراد وبعضهم أو بينهم وبين الحكومة أثر كبير في حسم النزاع الذي قد يقصر عن الفصل فيه مجرد تطبيق القانون، وأن خير ما يضرب من الأمثلة على ذلك حالة المحامي ذي الضمير الحي الذي يسعى بنفوذه في فض خصومة قد يعلم أن الفوز فيها له ولكنها ربما كلفت موكله نفقات يثقل كاهله بها وتقضي مضجعه وتقل راحته وتفصم عرى الصداقة بينه وبين رفاق هم له غنية في الحياة لا لشيء سوى شفاء غليل حقد أو إشباع نهمة كيد، على أن مجاراة الموكلين في أميالهم قد تدر نفعًا للمحامي وتكسبه الشهرة الواسعة في مهنته ولكن إذا كانت أخلاق المحامي على ما وصفنا فإنه لن يتأثر في إرشاده لموكله بالمطامع المادية أو الرغبة في ذيوع الصيت.
ولئن كان أول واجب على المحامي أن يبذل قصارى جهده في إعداد نفسه للمهنة التي سيشتغل فيها ولما تتطلبه هذه المهنة من الجهود العظيمة في أول عهده بها فإن هناك أمرًا آخر أهم من هذا اعتبارًا يجب أن يكون نصب عين كل محامٍ مبتدئ ذلك هو الواجب الذي يدين به كل محامٍ للمجموع الذي هو أحد أفراده، فإن درس المحامي للقانون النظامي والقانون الوصفي درسًا متقنًا يجعله أقرب من غيره إلى إدراك تأثير ما يقترح من التدابير التي تتخذها الحكومة على الصالح العام وهذا يحتم عليه أن يقوم بنصيبه من الاشتراك في الشؤون العامة وأن يساعد مواطنيه على فهم الفرق ما بين التدابير النافعة وغير النافعة من أعمال الحكومة، فالتدريب على الزعامة وقيادة الجمهور هو ركن من أهم أركان العمل الذي يجب على كل محامٍ أن يعد نفسه له، وليس من الضروري أن يسعى لتقلد المناصب العامة، فإن المحامي الصغير الذي يعتمد في رزقه على مهنته قل إن يستطيع حمل أعباء وظيفة عامة ولكن أمامه أعمالاً كثيرة أخرى في إمكانه الاشتراك فيها كالعمل مع الحزب السياسي الذي ينتمي إليه أو حضور الاجتماعات السياسية المحلية وفي وسعه أيضًا أن يشترك من آن لآن فيما يسبق الانتخابات من المناقشات العامة وأن يكون دائمًا ملمًا بالأمور التي تكون موضع البحث والمناقشة بين الجمهور كالمسائل التشريعية التي لم يبت فيها والمزايا النسبية في الأشخاص الذين يرشحون أنفسهم للوظائف فإن في الأمة كثيرًا من الممالئين والمأجورين الذي يضرون بالناس تحت ستار النصح لهم كذلك كثيرًا ما تكون إرشادات الصحف وانتقاداتها منبعثة عن اعتبارات هي أبعد ما تكون عن فائدة المجموع فالمحامي النابه الذكي الفؤاد الذي يكلف نفسه مشقة فهم هذه المسائل يغلب أن يكون في استطاعته إمداد الجمهور برأي سديد واضح مقنع بعيد عن الأهواء والغايات فيسود رأيه هذا على رأي غيره من الكتاب المتحيزين أو الخطباء المأجورين مهما كثر عددهم.
وهناك طرق أخرى عديدة يستطيع أن يسلكها المحامون ليخدموا الجمهور، ولقد اشتهر عن المحامين في الجيل الأخير أنهم يؤثرون الفائدة الشخصية وإن تعارضت مع المصلحة العامة وأن حب المال وإن كان في الوصول إليه ما يمس بكرامة المهنة كثيرًا ما كان رائد أولئك النفر الذي بلغوا ذروة المجد في مهنة المحاماة، غير أن هذا النقد لا يخلو من شيء من التحامل والمبالغة لأن الغرض الأساسي من المهنة القيام بالواجب بصدق نحو الموكل وخدمة القضية وقلما رأينا محاميًا دعي إلى خدمة عامة فتأثرت أمياله وعواطفه بمصالح موكليه السابقين بل بالعكس نراه يبذل قصارى جهده في خدمة موكله الجديد وهو الشعب بمثل الإخلاص والنشاط اللذين هما أُس نجاحه في خدمة الأفراد الخاصة، وبقدر ما يستخدم المحامي وتجاربه لخدمة الجمهور تتحقق رغبته في نيل الشرف الرفيع وإعلاء شأن المهنة وأن صاحب الثروة أو العلم أو الكفاءة يحمل في عنقه واجبًا لمواطنيه هو أن يستخدم هذه الأمور للمصلحة العامة وأن الرغبة في تحمل المسؤوليات العامة ومشاركة الغير في أوطارهم وميولهم وأعمالهم المشتركة لمصلحة المجموع لا كبر مظاهر الأرستقراطية كما أبان ذلك إميل فاجيه.
إن ما للمحاماة في الولايات المتحدة من مكانة سامية راجع إلى ما يقدمه أفرادها من الخدمة العامة, فهذا المبدأ وهو مداومة العمل على خدمة الجمهور خدمة خالية من الغرض يجب أن يكون وجهة نظر كل طالب في الحقوق وكل محامٍ حديث العهد بالمحاماة فإنه هو السبيل الموصل للنجاح الذي يصبو إليه كل منهما.