--------------------------------------------------------------------------------
العزيمه
من بين جموع المحامين المصريين يحتل المحامي محمد أبو جاعوص ابن قرية “ناهيا” في محافظة الجيزة ذو الخمسين ربيعاً مكانة بارزة، ليس فقط لكونه استطاع خلال فترة وجيزة أن يجعل من نفسه واحداً من أشهر المحامين في القضايا التجارية في المحاكم المصرية، ومجلس الدولة، حتى اختارته إحدى كبريات الشركات المصرية ليعمل لديها مستشاراً قانونياً، ولكن أيضا لأنه ضرب مثلا رائعا في تحصيل العلم وقهر الأمية.
حتى سن الثامنة عشرة كان “أبو جاعوص” مثله مثل كثير من أبناء قريته حينذاك، مجرد فلاح أمي لا يجيد القراءة والكتابة، ولم يلتحق بمدرسة، فقط كان كل ما يعرفه في الحياة هو حرث الأرض وجني الزرع، لكن عندما واتته الفرصة لتحرير نفسه من أغلال الأمية، لم يضيعها رغم كبر سنه، بل راح ينهل من العلم، ويبرع في حصد الشهادات العلمية بتفوق منقطع النظير.
بعد أن حصل على شهادة محو الأمية وخلال فترة وجيزة حصل على الشهادة الابتدائية بنظام الانتساب من الخارج، وبعدها على الشهادة الإعدادية ثم الثانوية، ثم التحق بالجامعة ليدرس التخصص الذي أحبه وهو الحقوق، ويتخرج في الجامعة بتفوق لينضم بعدها إلى ممارسي مهنة المحاماة، ويصبح واحداً من أشهر المحامين المصريين.
أول فصول قصة “أبو جاعوص” مع قهر الأمية تعود إلى ما قبل خمسين عاماً تقريباً، وبالتحديد في أكتوبر/تشرين الأول 1958 عندما ولد لأب فلاح أجير لا يملك من الدنيا إلا ساعديه، وتوفي الأب ولم يكمل الطفل عامه الثاني، ويقول “أبو جاعوص”: بعد وفاة أبي ونظرا لحاجة أسرتي الشديدة إلى دخل يؤمن احتياجاتنا الأساسية، التحقت بسوق العمل في قريتي عندما وصلت إلى سن الخامسة، وبدأت أعمل صبياً في صناعة “الدوبارة” التي اشتهرت بها قريتي، ثم ونظرا لقلة العائد المادي في هذه الصنعة اتجهت للعمل في جني المحاصيل والخضروات وفلاحة الأرض، وكان من الطبيعي لعدم وجود من ينفق عليّ وحاجة أسرتي الشديدة لما احصل عليه من أجر ولو صغير أن استمر في العمل بدلا من الذهاب إلى المدرسة في صناعة “الدوبارة” ومن بعدها الفلاحة.
قضى “أبو جاعوص” طفولته وسنوات صباه راضيا بما قسمه الله له، غير مكترث بكونه يذهب للعمل وأقرانه يذهبون للمدرسة، يحصلون هم على الشهادات وهو لا يعرف حتى كتابة اسمه. على هذا المنوال مرت السنون على “أبو جاعوص” حتى بلغ سن السادسة عشرة، عندها ومثل كل أقرانه استخرج بطاقة إثبات الشخصية، وكان من الطبيعي أن تسجل في خانة المهنة عبارة “عامل زراعي”، وأن يبصم بإصبعه بدلاً من التوقيع عليها لأنه أمي لا يجيد حتى كتابة اسمه، وعندما بلغ سن الثامنة عشرة شاهد موقفا كان نقطة تحول في حياته.
عن ذلك الموقف يحكي “أبو جاعوص”: ذات مرة دعيت وأصدقائي من طلاب المدارس من أبناء قريتي إلى حضور حفل عقد قران صديق لنا، وأثناء عقد القران طلب المأذون من صديقنا العريس أن يوقع على وثيقة الزواج وأن يتلو على الجميع ما فيها من شروط، وبخاصة قيمة مؤخر الصداق، عندها غطى الخجل وجه العريس، وبصوت خفيض أسر إلى المأذون بأنه لا يجيد القراءة والكتابة، وأنه فقط يبصم بإصبعه.
ورغم صوت العريس الخفيض، سمع أصدقاؤنا الحضور من طلبة المدارس ما يقوله للمأذون، فراحوا في نوبة ضحك، وعندها شاهدت في عيني صديقنا مشاعر ضيق نادراً ما أراها، وأحسست به وكأنه يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه أو إنه لم يكن من الأصل يقبل على الزواج، وقد اثر فيّ هذه الموقف أشد التأثير، فأقسمت على نفسي أن يأتي موعد عقد قراني وأنا قد تعلمت القراءة والكتابة ولا أضع نفسي في موقف صديقي أبداً.
استغل “أبو جاعوص” فكرة وجود فصول ليلية لمحو الأمية في قريته وراح يعمل بالنهار في الحقل وبالليل يواظب على حضور دروس فصول محو الأمية، وبنهم شديد وحب للعلم والتعليم راح يتقن وبسرعة ما يعلمه إياه مدرسوه، وخلال فترة وجيزة استطاع أن يتعلم حروف الهجاء، وبعدها كتابة بعض الكلمات ثم كتابة الحروف الإنجليزية، مستعيناً في ذلك بكتاب لتعليم هذه اللغة بلا معلم وخلال شهور قليلة كان قد حصل وبتفوق شديد على شهادة محو الأمية.
وأمام تفوقه في التعلم أوصاه مدرسوه في فصول محو الأمية بأن يكمل دراسته الابتدائية ومن بعدها الإعدادية والثانوية مؤكدين له أنه سوف يجتاز كل هذه المراحل بتفوق نظراً لما يمتلكه من قدرة فائقة على التحصيل وعزيمة قوية ومثابرة في طلب العلم، وانه يستطيع التقدم للدراسة بنظام الدراسة من المنزل، وهو ما يجعله يجمع بين عمله في الحقل وتحصيله للعلم، وأخذ “أبو جاعوص” بنصيحة مدرسيه وراح يكمل سنوات تعليمه. يقول: في البداية اجتزت امتحان الابتدائية بتفوق وكان ذلك بعد عامين تقريباً من بداية التحاقي بفصول محو الأمية، بعدها التحقت بالإعدادية بطريقة الدراسة من الخارج نفسها، صادف ذلك أنني التحقت في هذا الوقت بالخدمة العسكرية وخلالها كنت متفرغا تماما للعلم، إضافة إلى وقوف زملائي من حملة المؤهلات العليا بجانبي حيث ساعدوني كثيراً في استذكار دروسي، مما منحني الفرصة للحصول على الشهادة الإعدادية بتفوق ومن بعدها الالتحاق بالصف الأول الثانوي والنجاح فيه.
وبعد انتهاء فترة تجنيده عاد “أبو جاعوص” إلى العمل في الحقل نهاراً والمذاكرة ليلاً وفي ذلك الوقت بحث عن شريكة حياته ووفقه الله وتزوج، مواصلا مشوار تعليمه حتى حصل على الثانوية العامة بتفوق.
ولأنه تمنى أن يدرس الطب أو الحقوق لكي يساعد المحتاجين مرضى كانوا أم ممن ضاعت حقوقهم ولا يستطيعون استردادها، فعندما لم يمكنه مجموعه في الثانوية العامة من أن يلتحق بكلية الطب التحق بكلية الحقوق وبدأ الدراسة فيها بنهم شديد مثل عادته في طلب العلم، وظل يتفوق في الدراسة الجامعية عاماً بعد عام ليحصل على شهادة الليسانس في الحقوق وتبدأ مرحلة كفاح جديدة في حياته من خلال عمله في مهنة المحاماة. وطوال سنوات تعليمه لم يشعر “أبو جاعوص” يوماً بالخجل كون فارق السن بينه وبين أقرانه ممن يدرسون معه كبيراً يقول في ذلك: شغلني عن التفكير في تلك الأمور أنني كنت مقبلاً بكل جوارحي على التعلم، وكان أمامي هدف كنت أسعى لإنجازه، فضلا عن أن أسلوب التعامل مع كل زملائي رغم فارق السن كان الاحترام المتبادل.
متاعب “أبو جاعوص” ومشكلاته لم تكن نهايتها حصوله على ليسانس الحقوق يقول: كان عمري عندما حصلت على ليسانس الحقوق 34 عاماً وفي حينها كان قد رزقني الله بولدين ولم يكن الأمر سهلا أن ابدأ في ممارسة مهنة المحاماة، حيث لم أملك وقتها حتى ثمن “كارنيه” النقابة، عندها تحايلت على الأمر واستغللت فرصة أني أحفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم تجويداً وترتيلاً وافتتحت “كتّابا” لتحفيظ القرآن لكي أستطيع جمع المبلغ، بعدها عملت لمدة سنة كفترة تدريب في مكتب محاماة لدى احد كبار المحامين، ثم فتحت مكتبا خاصا لي ما أزال اعمل فيه حتى الآن.
طموح جديد
هكذا مضت حياة “أبو جاعوص” الذي ما إن استقل بذاته في عمله وافتتح مكتباً خاصاً به لممارسة مهنة المحاماة، حتى راح طموح جديد وحلم آخر يداعب خيال أبو جاعوص، فقد طمح أن يصبح في يوم من الأيام محامياً ذا شأن يشار إليه بالبنان، ينصف المظلوم ويدافع عن حقوق غير القادرين، ويعلي من قدر مهنة المحاماة بقدر إعلائها لقيمة العدل بين الناس، وفي سبيل تحقيق طموحه الجديد راح “أبو جاعوص” يتخصص في نوعيات معينة من القضايا حتى يبرع فيها من دون أن يشتت نفسه في كل القضايا، كل ذلك بما يتفق مع طبيعة تربيته القروية وأخلاقه التي نشأ عليها، فحاول أن يتخصص في الشق التجاري من المشكلات القانونية رافضاً أن يزج بنفسه في القضايا الجنائية، لا لسبب سوى انه يخشى أن يطالب يوماً ببراءة مرتكب جريمة ارتكبها فعلاً، متخذاً مبدأ “الصلح أفضل الحلول” في كل ما يعرض عليه من قضايا أحوال شخصية وخلافات أسرية.
على هذا النهج سار “أبو جاعوص” حتى أصبح واحدا من أشهر المحامين في الشق التجاري مما جعل عشرات الشركات الكبرى تختاره مستشاراً قانونياً لها.
وخلال سنوات ممارسته مهنة المحاماة حاول “أبو جاعوص” أن يلزم نفسه بعدة مبادئ يقول عن ذلك: منذ تخرجت في كلية الحقوق وفكرت أن اعمل بالمحاماة وأنا أدعو ربي أن يستجيب لي ثلاث دعوات أعتبرها مبادئ عامة أسير عليها في مهنتي وهي: “اللهم اجعلني للفقير سندا، وللغني صاحب فضل، وأعنّي على رد الجميل لوطني الذي أعطاني الفرصة في التعليم”، وقد منّ الله عليّ بأن حقق لي هذا الدعوات الثلاث، ففي مجال الفقراء بحثت في القوانين فوجدت القانون (112) لسنة 1980 الخاص بالتأمين الشامل على العمالة غير المنتظمة، يمنح معاشاً شهرياً بمبلغ 80 جنيهاً لمن بلغ سنة 65 عاماً أو توفي في أي سن وترك أسرة من دون عائل فأخذت هذا القانون وشرحته للفقراء من أهل قريتي والذين ينطبق عليهم وساعدتهم مجانا في الحصول على هذا المعاش من هيئة التأمينات.
يتابع “أبو جاعوص”: ووجدت أيضا أن القانون (12) لسنة 1996 “قانون الطفل والأحداث” يقضي بأن يحصل كل طفل يتيم على 20 جنيها شهرياً بحد أدنى ارتفع الآن إلى 60 جنيهاً فأرشدت العشرات من الأيتام إلى ذلك وساعدت اغلبهم في الحصول على هذا الحق.
و”أبو جاعوص” المحامي الناجح هو أيضا أب ناجح، فقد رزقه الله بولدين وابنتين رباهم ولا يزال أفضل تربية، فتخرج الأكبر في كلية الهندسة، ويعمل الآن مهندساً مدنياً في إحدى أكبر الشركات الهندسية، وتخرجت الابنة الثانية في كلية الحقوق ورزقها الله بزوج من أصل طيب يحترمها ويحبها، كذلك الابن الثالث هو الآن طالب في كلية الحقوق ويستعد لأن يصبح ممارسا للمحاماة، أما الابنة الصغرى فهي الآن بالتعليم الابتدائي.
العزيمه
من بين جموع المحامين المصريين يحتل المحامي محمد أبو جاعوص ابن قرية “ناهيا” في محافظة الجيزة ذو الخمسين ربيعاً مكانة بارزة، ليس فقط لكونه استطاع خلال فترة وجيزة أن يجعل من نفسه واحداً من أشهر المحامين في القضايا التجارية في المحاكم المصرية، ومجلس الدولة، حتى اختارته إحدى كبريات الشركات المصرية ليعمل لديها مستشاراً قانونياً، ولكن أيضا لأنه ضرب مثلا رائعا في تحصيل العلم وقهر الأمية.
حتى سن الثامنة عشرة كان “أبو جاعوص” مثله مثل كثير من أبناء قريته حينذاك، مجرد فلاح أمي لا يجيد القراءة والكتابة، ولم يلتحق بمدرسة، فقط كان كل ما يعرفه في الحياة هو حرث الأرض وجني الزرع، لكن عندما واتته الفرصة لتحرير نفسه من أغلال الأمية، لم يضيعها رغم كبر سنه، بل راح ينهل من العلم، ويبرع في حصد الشهادات العلمية بتفوق منقطع النظير.
بعد أن حصل على شهادة محو الأمية وخلال فترة وجيزة حصل على الشهادة الابتدائية بنظام الانتساب من الخارج، وبعدها على الشهادة الإعدادية ثم الثانوية، ثم التحق بالجامعة ليدرس التخصص الذي أحبه وهو الحقوق، ويتخرج في الجامعة بتفوق لينضم بعدها إلى ممارسي مهنة المحاماة، ويصبح واحداً من أشهر المحامين المصريين.
أول فصول قصة “أبو جاعوص” مع قهر الأمية تعود إلى ما قبل خمسين عاماً تقريباً، وبالتحديد في أكتوبر/تشرين الأول 1958 عندما ولد لأب فلاح أجير لا يملك من الدنيا إلا ساعديه، وتوفي الأب ولم يكمل الطفل عامه الثاني، ويقول “أبو جاعوص”: بعد وفاة أبي ونظرا لحاجة أسرتي الشديدة إلى دخل يؤمن احتياجاتنا الأساسية، التحقت بسوق العمل في قريتي عندما وصلت إلى سن الخامسة، وبدأت أعمل صبياً في صناعة “الدوبارة” التي اشتهرت بها قريتي، ثم ونظرا لقلة العائد المادي في هذه الصنعة اتجهت للعمل في جني المحاصيل والخضروات وفلاحة الأرض، وكان من الطبيعي لعدم وجود من ينفق عليّ وحاجة أسرتي الشديدة لما احصل عليه من أجر ولو صغير أن استمر في العمل بدلا من الذهاب إلى المدرسة في صناعة “الدوبارة” ومن بعدها الفلاحة.
قضى “أبو جاعوص” طفولته وسنوات صباه راضيا بما قسمه الله له، غير مكترث بكونه يذهب للعمل وأقرانه يذهبون للمدرسة، يحصلون هم على الشهادات وهو لا يعرف حتى كتابة اسمه. على هذا المنوال مرت السنون على “أبو جاعوص” حتى بلغ سن السادسة عشرة، عندها ومثل كل أقرانه استخرج بطاقة إثبات الشخصية، وكان من الطبيعي أن تسجل في خانة المهنة عبارة “عامل زراعي”، وأن يبصم بإصبعه بدلاً من التوقيع عليها لأنه أمي لا يجيد حتى كتابة اسمه، وعندما بلغ سن الثامنة عشرة شاهد موقفا كان نقطة تحول في حياته.
عن ذلك الموقف يحكي “أبو جاعوص”: ذات مرة دعيت وأصدقائي من طلاب المدارس من أبناء قريتي إلى حضور حفل عقد قران صديق لنا، وأثناء عقد القران طلب المأذون من صديقنا العريس أن يوقع على وثيقة الزواج وأن يتلو على الجميع ما فيها من شروط، وبخاصة قيمة مؤخر الصداق، عندها غطى الخجل وجه العريس، وبصوت خفيض أسر إلى المأذون بأنه لا يجيد القراءة والكتابة، وأنه فقط يبصم بإصبعه.
ورغم صوت العريس الخفيض، سمع أصدقاؤنا الحضور من طلبة المدارس ما يقوله للمأذون، فراحوا في نوبة ضحك، وعندها شاهدت في عيني صديقنا مشاعر ضيق نادراً ما أراها، وأحسست به وكأنه يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه أو إنه لم يكن من الأصل يقبل على الزواج، وقد اثر فيّ هذه الموقف أشد التأثير، فأقسمت على نفسي أن يأتي موعد عقد قراني وأنا قد تعلمت القراءة والكتابة ولا أضع نفسي في موقف صديقي أبداً.
استغل “أبو جاعوص” فكرة وجود فصول ليلية لمحو الأمية في قريته وراح يعمل بالنهار في الحقل وبالليل يواظب على حضور دروس فصول محو الأمية، وبنهم شديد وحب للعلم والتعليم راح يتقن وبسرعة ما يعلمه إياه مدرسوه، وخلال فترة وجيزة استطاع أن يتعلم حروف الهجاء، وبعدها كتابة بعض الكلمات ثم كتابة الحروف الإنجليزية، مستعيناً في ذلك بكتاب لتعليم هذه اللغة بلا معلم وخلال شهور قليلة كان قد حصل وبتفوق شديد على شهادة محو الأمية.
وأمام تفوقه في التعلم أوصاه مدرسوه في فصول محو الأمية بأن يكمل دراسته الابتدائية ومن بعدها الإعدادية والثانوية مؤكدين له أنه سوف يجتاز كل هذه المراحل بتفوق نظراً لما يمتلكه من قدرة فائقة على التحصيل وعزيمة قوية ومثابرة في طلب العلم، وانه يستطيع التقدم للدراسة بنظام الدراسة من المنزل، وهو ما يجعله يجمع بين عمله في الحقل وتحصيله للعلم، وأخذ “أبو جاعوص” بنصيحة مدرسيه وراح يكمل سنوات تعليمه. يقول: في البداية اجتزت امتحان الابتدائية بتفوق وكان ذلك بعد عامين تقريباً من بداية التحاقي بفصول محو الأمية، بعدها التحقت بالإعدادية بطريقة الدراسة من الخارج نفسها، صادف ذلك أنني التحقت في هذا الوقت بالخدمة العسكرية وخلالها كنت متفرغا تماما للعلم، إضافة إلى وقوف زملائي من حملة المؤهلات العليا بجانبي حيث ساعدوني كثيراً في استذكار دروسي، مما منحني الفرصة للحصول على الشهادة الإعدادية بتفوق ومن بعدها الالتحاق بالصف الأول الثانوي والنجاح فيه.
وبعد انتهاء فترة تجنيده عاد “أبو جاعوص” إلى العمل في الحقل نهاراً والمذاكرة ليلاً وفي ذلك الوقت بحث عن شريكة حياته ووفقه الله وتزوج، مواصلا مشوار تعليمه حتى حصل على الثانوية العامة بتفوق.
ولأنه تمنى أن يدرس الطب أو الحقوق لكي يساعد المحتاجين مرضى كانوا أم ممن ضاعت حقوقهم ولا يستطيعون استردادها، فعندما لم يمكنه مجموعه في الثانوية العامة من أن يلتحق بكلية الطب التحق بكلية الحقوق وبدأ الدراسة فيها بنهم شديد مثل عادته في طلب العلم، وظل يتفوق في الدراسة الجامعية عاماً بعد عام ليحصل على شهادة الليسانس في الحقوق وتبدأ مرحلة كفاح جديدة في حياته من خلال عمله في مهنة المحاماة. وطوال سنوات تعليمه لم يشعر “أبو جاعوص” يوماً بالخجل كون فارق السن بينه وبين أقرانه ممن يدرسون معه كبيراً يقول في ذلك: شغلني عن التفكير في تلك الأمور أنني كنت مقبلاً بكل جوارحي على التعلم، وكان أمامي هدف كنت أسعى لإنجازه، فضلا عن أن أسلوب التعامل مع كل زملائي رغم فارق السن كان الاحترام المتبادل.
متاعب “أبو جاعوص” ومشكلاته لم تكن نهايتها حصوله على ليسانس الحقوق يقول: كان عمري عندما حصلت على ليسانس الحقوق 34 عاماً وفي حينها كان قد رزقني الله بولدين ولم يكن الأمر سهلا أن ابدأ في ممارسة مهنة المحاماة، حيث لم أملك وقتها حتى ثمن “كارنيه” النقابة، عندها تحايلت على الأمر واستغللت فرصة أني أحفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم تجويداً وترتيلاً وافتتحت “كتّابا” لتحفيظ القرآن لكي أستطيع جمع المبلغ، بعدها عملت لمدة سنة كفترة تدريب في مكتب محاماة لدى احد كبار المحامين، ثم فتحت مكتبا خاصا لي ما أزال اعمل فيه حتى الآن.
طموح جديد
هكذا مضت حياة “أبو جاعوص” الذي ما إن استقل بذاته في عمله وافتتح مكتباً خاصاً به لممارسة مهنة المحاماة، حتى راح طموح جديد وحلم آخر يداعب خيال أبو جاعوص، فقد طمح أن يصبح في يوم من الأيام محامياً ذا شأن يشار إليه بالبنان، ينصف المظلوم ويدافع عن حقوق غير القادرين، ويعلي من قدر مهنة المحاماة بقدر إعلائها لقيمة العدل بين الناس، وفي سبيل تحقيق طموحه الجديد راح “أبو جاعوص” يتخصص في نوعيات معينة من القضايا حتى يبرع فيها من دون أن يشتت نفسه في كل القضايا، كل ذلك بما يتفق مع طبيعة تربيته القروية وأخلاقه التي نشأ عليها، فحاول أن يتخصص في الشق التجاري من المشكلات القانونية رافضاً أن يزج بنفسه في القضايا الجنائية، لا لسبب سوى انه يخشى أن يطالب يوماً ببراءة مرتكب جريمة ارتكبها فعلاً، متخذاً مبدأ “الصلح أفضل الحلول” في كل ما يعرض عليه من قضايا أحوال شخصية وخلافات أسرية.
على هذا النهج سار “أبو جاعوص” حتى أصبح واحدا من أشهر المحامين في الشق التجاري مما جعل عشرات الشركات الكبرى تختاره مستشاراً قانونياً لها.
وخلال سنوات ممارسته مهنة المحاماة حاول “أبو جاعوص” أن يلزم نفسه بعدة مبادئ يقول عن ذلك: منذ تخرجت في كلية الحقوق وفكرت أن اعمل بالمحاماة وأنا أدعو ربي أن يستجيب لي ثلاث دعوات أعتبرها مبادئ عامة أسير عليها في مهنتي وهي: “اللهم اجعلني للفقير سندا، وللغني صاحب فضل، وأعنّي على رد الجميل لوطني الذي أعطاني الفرصة في التعليم”، وقد منّ الله عليّ بأن حقق لي هذا الدعوات الثلاث، ففي مجال الفقراء بحثت في القوانين فوجدت القانون (112) لسنة 1980 الخاص بالتأمين الشامل على العمالة غير المنتظمة، يمنح معاشاً شهرياً بمبلغ 80 جنيهاً لمن بلغ سنة 65 عاماً أو توفي في أي سن وترك أسرة من دون عائل فأخذت هذا القانون وشرحته للفقراء من أهل قريتي والذين ينطبق عليهم وساعدتهم مجانا في الحصول على هذا المعاش من هيئة التأمينات.
يتابع “أبو جاعوص”: ووجدت أيضا أن القانون (12) لسنة 1996 “قانون الطفل والأحداث” يقضي بأن يحصل كل طفل يتيم على 20 جنيها شهرياً بحد أدنى ارتفع الآن إلى 60 جنيهاً فأرشدت العشرات من الأيتام إلى ذلك وساعدت اغلبهم في الحصول على هذا الحق.
و”أبو جاعوص” المحامي الناجح هو أيضا أب ناجح، فقد رزقه الله بولدين وابنتين رباهم ولا يزال أفضل تربية، فتخرج الأكبر في كلية الهندسة، ويعمل الآن مهندساً مدنياً في إحدى أكبر الشركات الهندسية، وتخرجت الابنة الثانية في كلية الحقوق ورزقها الله بزوج من أصل طيب يحترمها ويحبها، كذلك الابن الثالث هو الآن طالب في كلية الحقوق ويستعد لأن يصبح ممارسا للمحاماة، أما الابنة الصغرى فهي الآن بالتعليم الابتدائي.