الثورة هدم نظام فاسد، وبناء نظام واعد، وقد اقتربت نهاية مرحلة الهدم،
و"الرئيس المخلوع" بات "الرئيس المحبوس"، وكذلك كبار حاشيته طيور الظلام،
سارقي المال العام، عملاء الأعداء، وقاتلي الشهداء، وحزب الرئيس المخلوع قد
ذهب معه إلى مزبلة التاريخ، واتخذ شعار "سجن طرة من أجلك أنت!"، ولم يتبقى
من عملية الهم سوى بعض الكنس والتنظيف، ورفع المهملات، التي لا تعيق البدء
فورا في عملية بناء واسعة، بنفس عزيمة الثوار، وبروح ميدان التحرير.
ولأن النظام البائد ترك لنا بلدا ليس في مشكلة، بل في مأساة!، بلدا كان هو
قلب التاريخ، فجعله نظام مبارك خارج التاريخ لمدة ثلاث عقود عجاف، ٣٠ سنة
سوداء كقرن الخروب!، فإن عملية البناء لابد أن تكون في ثلاث محاور متوازية،
وبنفس السرعة، والدقة والإنجاز، كم هي مهمة شاقة!، لكن هذا الشعب قادر
دائما على صنع المعجزات، ومن أول أهرام الفراعنة، إلى سحق العدو الصهيوني
في ١٩٧٣م، إلى طرد العدو المباركي في ٢٠١١م، تتضح عظمة المصريين.
المحور الأول: النظام السياسي والتحول الديمقراطي
أول إصلاحات النظام السياسي هو التحول في النظام الانتخابي من النظام
الفردي إلى نظام القائمة النسبية غير المشروطة، فالنظام الفردي - المعمول
به حاليا - يعتمد على العصبيات، ويغذي استخدام البلطجة والمال، اما نظام
القائمة النسبية يضمن أن يعود البرلمان، إلى دوره السياسي والتشريعي
والرقابي، لا أن يصبح نائب البرلمان محصورا في قضايا من نوعية حفر ترع،
وبناء كوبري للمشاة!، أيضا نحتاج إلى تغيرات في قوانين مجلس الشعب ومباشرة
الحقوق السياسية، ليُُـسمح للشباب بالترشح في البرلمان من سن ٢٥ سنة،
فالشباب المصري أثبت أنه يستحق مكانة رفيعة في مرحلة بناء الوطن بعد تلك
الثورة العظيمة، وكذلك ينبغي أن نخفض سن التصويت في الانتخابات
والاستفتاءات من ١٨ إلى ١٦ سنة، أي أن كل من يمتلك بطاقة رقم قومي يصبح له
الحق في الإدلاء بصوته، ويصبح له الحق في تقرير مصير بلاده، فالشباب هم
عماد الوطن ومستقبله، كذلك لا يجوز على الإطلاق حرمان المصريين المقيمين في
الخارج من الحق في التصويت، وينبغي فورا وضع تشريع ينظم تصويتهم في كل
بلدان العالم المتواجد بها جاليات مصرية، وتأمين وصول أصواتهم للجنة
الانتخابات في مصر، ومن الأعداد الهائلة التي شاركت في الاستفتاء الأخير
على تعديل الدستور، يتضح استحالة إجراء اي انتخابات سواء برلمانية أو
رئاسية في يوم واحد، ولابد من وضع مراحل على ثلاث أيام حتى نضمن أن تتم
الانتخابات بيسر وسلاسة، ونضمن تحقيق أكبر قدر من الرقابة القضائية، ومن
المجتمع المدني في كل الجمهورية في الخارج.
المحور الثاني: المجال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية
لا يمكن إنجاز تحول ديمقراطي بشكل حقيقي في مصر إلا إذا حققنا عدالة
اجتماعية تضمن أن يشعر المواطن بكرامته، وتجعله قادرا أن يكون صوته في
الانتخابات غير قابل للتأثير عليه بالمال أو المصالح، مصر بحاجة إلى البدء
فورا في عملية إصلاح واسعة لهيكل الأجور والمعاشات، بما يضمن حد أدنى
للأجور، وحد أقصى لمنع التفاوت الرهيب بين الطبقات، وأن تتبنى مصر مشروعات
قومية كبرى كثيفة العمالة على غرار الصين، تنهض تلك المشروعات بالاقتصاد
القومي، وفي نفس الوقت توفر فرص عمل، نحتاج إلى تطوير طابع انتاجي
للاقتصاد، قائم على التصنيع، بدلا من الاقتصاد الريعي الطفيلي المعتمد
أساسا على موارد قناة السويس والسياحة والمعونات الأجنبية!، مصر لديها
الكثير من الموارد البشرية والطبيعية تؤهلها لتكون بلدا صناعيا زراعيا
عملاقا، وبوجود إرادة سياسية قوية، مع تضامن شعبي واسع يستلهم روح ميدان
التحرير في البناء والتطوير، فإن مصر ستكون في خلال ١٠ سنوات فقط قوة
اقتصادية مهمة ذات تأثير واسع في المحيط العربي والإقليمي والدولي أيضا.
المحور الثالث: الدور العربي والإقليمي والسياسة الخارجية
"مصر أهم بلد في الدنيا"، هذه الكلمة قالها أحد المستعمرين حينما جهز جيوشه
لاحتلاها!، هو نابليون بونابرت، على مر التاريخ عرف أعداء مصر قيمتها،
ربما أكثر من أهلها!، ولأن مصر ذات دور بالغ التأثير في أمتها العربية
والعالم الإسلامي، ومحيطها الأقليمي، فإن استعادة نهضتها بكل تأكيد لن يرضي
قوى الغرب وأمريكا وإسرائيل، وعلينا أن نعي أن العالم لا تقف حدوده عند
أوروبا وأمريكا، فعودة مصر إلى دورها العربي القومي، ودورها كقائد لأمتها
العربية وللعالم الإسلامي أمر بالغ الأهمية، كذلك بناء تحالف على غرار كتلة
عدم الانحياز كما فعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، نحن بحاجة إلى تحالف
عربي، وإقليمي من دول الجوار مثل إيران وتركيا، وكذلك تحالف دولي يمتد من
فنزويلا والبرازيل وتشيلي، إلى الصين والهند وماليزيا، تكون مصر ذات دور في
الفعل الدولي، وليس رد فعل لسياسيات الغرب، وخادم مطيع لمصالح أمريكا
وإسرائيل كما فعل النظام البائد للحفاظ على كرسيه، ومن الإجمال إلى
التحديد، ينبغي على مصر أن تقوي علاقاتها بشكل عميق بالسودان على المستوى
العربي، لاعتبارات كثيرة ليس فقط من أجل مياه النيل شريان الحياة في مصر،
لكن أيضا اعتبارات الأمن القومي المصري اقتصاديا وسياسيا تحتم علينا تكامل
مع السودان التي كانت معظم فترات التاريخ جزءا من مصر!، كذلك بناء علاقات
قوية وعميقة مع إيران وتركيا لدعم جبهة صمود في وجه تمدد السياسية
الإسرائيلية بالخطر على مصر عند منابع النيل، ودعم قضية فلسطين التي هي
قضية ذات أهمية قصوى للأمن القومي العربي عموما والمصري خصوصا، فعصر "
مبارك كنز إسرائيل الاستراتيجي" على حد تعبير بن آلي عاذر قد انتهى، فإن
كانت إسرائيل تحاول خنق مصر من الجنوب عند منابع النيل، فإن مصر بموقعها
الجغرافي، وبتحالف بالطريقة المذكورة قادرة على لي ذراع إسرائيل من
الأطراف، والضغط بقوة عليها من القلب!
إن التاريخ يؤكد أن مصر لا تنهض نصف نهضة، مصر دائما كانت إما إمبراطورية
كبرى تغير سياسات العالم، من رمسيس الثاني وتحتمس الثالث، إلى صلاح الدين
الأيوبي وقطز، ثم محمد علي وجمال عبد الناصر، أو كانت محتلة!، ساهمت قوى
الاستعمار بكل قوتها في ضربها لإضعاف دورها الرائد، ومصر اليوم بإزاحة نظام
مبارك العميل لأمريكا وإسرائيل في مرحلة تحرر، وفي الطريق للعودة إلى
مكانتها الطبيعية، كما قال نابليون بونابرت، مصر أهم بلد في الدنيا!
بقلم : الدكتور رمضان الغندور المحامي