•• الدول مثل الأفراد.. لكل منها صورة (Image) تستقبلها جماهير الناس في أنحاء العالم.. وتحيطها آلاف اللمسات والرتوش.
زمان: كانت صورة مصر هي صورة دولة الفساد التي غابت منها سلطة القانون أو
بالأدق كانت صورة "الدولة الرخوة" كما يقول مصطلح العلوم السياسية
السويدي.. بمعنى الدولة التي تطلق الحبل على الغارب لعصابات السارقين
والمتربحين وأزلام الحواشي وأرباع الطغاة وقبائل المستغلين.
ومن عجب أن هذه الرخاوة الى حد الابتذال والاستهتار في التعامل مع الحرامية
كان يقابلها صرامة تبلغ حد التوحش أحيانا في التعامل مع أطراف أخرى، لا من
أجل تطبيق القانون كما كانوا يدعون، ولكن بالدرجة الأولى من أجل إرضاء
السيد الأمريكاني وتابعه الصهيوني ومَن معهما من سادتهم أهل أوروبا الغربية
الذين كان يحلو لرأس النظام الخائب المباد زيارتهم في كل حين.
لهذا لطخوا سمعة مصر العظيمة بسلوكيات العمالة السوداء.. حين اشتغلوا
"خدامين" من الدرجة الثالثة لصالح سادتهم الأمريكان.. وإلا فقل لنا بربك
كيف استباحوا استقبال عناصر متهمة بالإرهاب لكي يمارسوا بحقها صنوف الإهانة
والتعذيب في أروقة التحقيقات السرية.. وكان هذا كله يتم لحساب واشنطون
وأجهزتها ومخابراتها التي حرصت من جانبها على تجنب ارتكاب هذه الأفاعيل
خوفا على سمعة أمريكا وتحاشيا لغضبة المعارضة الحزبية في كونجرس الولايات
المتحدة، فكان أن كلفت نظم العملاء الصغار بتنفيذ هذه "العمليات القذرة"
حسب مصطلح الاستخبارات نيابة عن واشنطون ودفعت لهم المعلوم "الأفدح
قذارة".. ثم عمدت واشنطون الى كسر عينهم فكان أن سربت الأنباء التي أفادت
بأن دولا بعينها في منطقة الشرق الأوسط تولت، بالنيابة عن أمريكا.. أمر
التحقيق مع عناصر متهمة بالإرهاب الدولي، وتم ذلك أحيانا تحت طائلة
التعذيب.. بل وتمادى السيد الأمريكاني في التشهير بالنظم التي ارتضت ذل
العمالة فكان أن حدد مواقعها في الأردن وفي المغرب وفي مصر.. نعم مصر للأسف
الشديد.
أتاك الربيع
من هنا يحق لسيادتك أن ترفع رأسك الآن عزةً وكبرياء بفضل هذه الانعطافة
الثورية التي بدأت مع آخر أيام يناير من العام الحالي.. ولا يزال عطرها
منتشرا في آفاق الوطن المصري والمنطقة العربية والإقليم الشرق أوسطي حتى
كتابة هذه السطور.
من هنا أيضا يحق لكبار محللي اتجاهات السياسة العالمية أن يصفوا ما شهدته
بلادنا (ومن قبلها بالذات تونس الشقيقة) بأنه "ربيع الشرق الأوسط".
لكن هؤلاء المحللين – خاصة في أمريكا – ما لبثوا أن أشاروا الى أن رياح هذا
الربيع لم تكون لتخلو من هزات.. "زلزالية" في بعض الأحيان على نحو ما تلمح
أكثر من دراسة منشورة في واحدة من أهم الدوريات السياسية الأمريكية وهي
مجلة "أمريكان انترست" التي يشرف على إصدارها المفكر الأمريكي، من أصل
ياباني، "فرانسيس فوكوياما" (عدد مايو/يونيه 2011).
صحيح أنهم أعربوا عن قدر لا يخفى من الإعجاب بما أنجزه ثوار 25 يناير، وفي
طليعتهم شباب مصر وبسطاء شعبها حيث كانوا رأس الحربة لهذا التحول العظيم
الذي أسقط الشريحة الأعلى والأخطر من رأس النظام الفاسد البائد.
لكن مع تطور الأحداث وخاصة خلال الأيام الأخيرة من شهر ابريل والأيام
الأولى من مطالع مايو.. فقد تحولت رؤيتهم من مجرد الإعجاب.. الى مشاعر
التشفي في السقوط المدوي للشريحة إياها، وهي بالمناسبة مشاعر غريبة لا
تفسرها سوى أساليب التحليل النفساني.. حيث يتشفى السيد في سقوط عملائه فإذا
به يتبرأ منهم ويقصيهم عن اهتمامه ولا يطيق سماع سيرتهم (راجع بعبرة
التأمل مصائر كل من "ماركوس" في الفلبين و"نميري" في السودان و"رضا بهلوي"
في ايران و"دفالييه" في تاهيتي و"نرويجا" في بنما .. ولا تنسى بالطبع مصير
"بن علي" في تونس الخضراء).
صفحات وول ستريت
لكن المهم أن هذا التحول في النظرة المستجدة الى صورة مصر أفضى بدوائر
إعلامية مسموعة في أمريكا الى رصد السلبيات الخطيرة التي باتت تهدد ثمار
الثورة المصرية.. صحيح أن منهم من بداأ متحمسا لما وصفه بأنه نشوء طبقة
سياسية جديدة في مصر بعد الثورة (ويندل ستيفنسون في مجلة ذي نيويوركر) لكن
صحيح أيضا، وهو الأخطر في تصورنا، ما ذهبت إليه واحدة من أهم الصحف
الأمريكية وهي "وول ستريت جورنال" ذات الاتجاه اليميني أو الجمهوري أو
المحافظ.. سمّها ما شئت، عندما أفردت صفحتي الوسط من عددها الصادر بتاريخ
23/4 لنشر موضوع بالغ الإسهاب تحت عنوان لا تخفى دلالته بحال وهو:
•• ربيع عربي يتحول الى العنف.. (حيث) دعاة الديمقراطية يواجهون تحديات كبيرة..
وفيما عرضت "الوول ستريت" لتطورات الأحداث الأخيرة في ساحات عربية متعددة
ما بين ليبيا الى اليمن، وما بين سورية الى تونس والبحرين، فقد كان طبيعيا
أن تتصدر مصر الطيبة هذا التحقيق الصحفي الحافل الذي شارك في إعداده
وتحريره 6 من كبار صحفيي الجريدة الأمريكية.
ولم يكن صدفة أن يتصدّر موضوع مصر العنوان التالي:
•• عامل الديانة (أو العامل الديني).
وسطوره الأولى تقول بالحرف:
لقد قضت الأعراف المتبعة بالنظر الى مصر بوصفها زعيمة العالم العربي.
ثم مضت السطور لتعرض الى ما بدأت تحفل به ساحة الفعل والتطور الثوري في مصر
من تداخل المنظمات والجماعات والشراذم والدعوات والشخصيات التي ترفع
الشعارات الدينية – شعارات التدين كما قد نسميها وهو ما جسدته نتائج
استفتاء التعديلات الدستورية، إياها.. أو هو "غزوة الصناديق" على حد
التعبير الشعبوي الذي مازالت أصداؤه الخطيرة والمتخلفة أيضا تتردد في
الأسماع والأفهام.
حكاية أختي.. وأخواتها
ثم تأتي تظاهرات الجلاليب البيضاء والذقون الطويلة المرسَلة المصبوغة بحمرة
الحناء والحناجر الزاعقة والأوداج المنتفخة بنداءات من قبيل هاتوا أختي..
وهي بداهة الأخت "كاميليا" ومن بعدها الأخت "عبير".. ومن قبلها الأخت
"وفاء" وغدا وبعد غد الأخت "عفيفة" أو الأخت "فكتوريا".. الى آخر التعلات
والترهات التي يتمحك فيها قوم ليس لهم "شغلة ولا مشغلة" كما يقال ومن عجب
أن يجدوا لديهم وقتا وساعات طوالا لشعارات وتظاهرات ومطالبات بينما دولاب
العمل متوقف وعجلة الإنتاج لا تدور وأرزاق العباد في خطر واقتصاد الوطن
متجه نحو كارثة عشناها بأنفسنا في أحدث لقاءات جمعت بيننا (في أيام ابريل
الماضي) وبين دوائر الأمم المتحدة في نيويورك والبنك وصندوق النقد الدولي
في واشنطون.
أما بعد.
فالأمريكان ومَن في حكمهم لهم أجنداتهم ومصالحهم الخاصة.. وهذا أمر طبيعي وبديهي بكل مقياس.
ولكنهم لا يفترون عندما يعرضون للصورة التي تحولت أبعادها وتغيرت رتوشها من
مجد الثورة وفخر الإنجاز.. الى سواد الصراعات التافهة وتظاهرات المتنطعين
الذين شوهوا وجه الثورة عن حسن نية أحيانا وعن سوء طوية في أحياة أخرى.
أليس من حقنا وحق شهداء وطننا علينا، أن نطالب بسرعة تفعيل الضوابط وتطبيق
صحيح القانون وبكل حزم قد يصل من جانب الدولة الى قسوة لها ما يبررها،
لأنها قسوة الطبيب المعالج أو حزم الطرف الساهر المسئول عن تجنيب الوطن
ومواطنيه، كل مواطنيه، عقابيل أزمة يمكن أن تطيح بآمال المستقبل؟