١٥ مليوناً و٨٩٦ ألفاً و٥٩٤ قضية تداولتها المحاكم المصرية خلال العام ٢٠٠٤، بزيادة قدرها مليون و٣٢٦ ألف قضية عن تلك التي نظرتها قبل أقل من عشر سنوات مضت.
الأرقام التي وثقها آخر تقرير للإحصاء القضائي بوزارة العدل، تكشف بوضوح عن التزايد المرعب في معدلات الجريمة في مصر، التي طالما وصفت بأنها أرض طيبة وأهلها مسالمون!
أسباب عديدة يرصدها خبراء القانون وعلماء النفس والاجتماع في محاولاتهم تفسير ذلك الارتفاع المطرد في معدلات الجريمة، منها الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتزايد وطأتها يوماً بعد يوم دافعة «أناساً عاديين»، لطريق الجريمة التي قد يرتكبها أحدهم - حتي - ضد نفسه!
رصد تقرير الإحصاء القضائي الأحدث - والخاص بعام ٢٠٠٤، ١٥ مليوناً و٩٠٠ ألف قضية تقريباً، وبمقارنته بتقرير ١٩٩٦ سنجد أن نسبة الفصل في القضايا تراجعت إلي ٨٠.٨٧% في الأول،
بينما كانت عام ٩٦ تبلغ ٨٣.٤%، وبينما كانت القضايا المدنية عام ٩٦ مليوناً و٧٩٣ ألفاً، والجنائية ١١ مليوناً و٥٨٧ ألفاً و٥٨١ قضية، والأحوال الشخصية مليوناً و١٨٩ ألفاً و٥٠١ قضية، بلغ عدد القضايا المدنية عام ٢٠٠٤ مليوناً و٨٤٢ ألفاً و٨٧٦ قضية وارتفع عدد القضايا الجنائية إلي ١٢ مليوناً و٥٤٣ ألفاً و١١٣ قضية، والأحوال الشخصية مليوناً و٥١٠ آلاف و٦٠٥ قضايا!
وأشار التقرير إلي أن جرائم القتل العمد زادت بنسبة ١١.١٢%، وزادت جرائم الشروع في القتل بنسبة ٥٤.٧%، أما جرائم الضرب المفضي لموت فزادت بنسبة ٨٧.٣%، بينما زادت جرائم الضرب بنسبة ١٣.٨%، ووصلت الزيادة في جرائم السرقات ٢٣.٨%، و٦٤% فيما يخص جرائم الشروع في السرقة، وزادت نسبة قضايا الرشوة بمعدل بلغ ٥٩.٦%،
وزاد معدل جرائم تزييف النقود بنسبة ١١٦.٤٥%، وبلغت الزيادة في نسبة جرائم الاختلاس خلال هذه السنوات ١٩.٤%، وزادت قضايا العنف وهتك العرض بنسبة ٣٣.٢٢%، فيما بلغت نسبة الزيادة في جرائم الاغتصاب ٧٤.٦٦%.
التزايد المذهل في معدلات الجرائم طال أيضاً قضايا الأحداث حيث زادت جرائم القتل العمد بين الأحداث بنسبة ٣١.٥%، بينما زادت قضايا الضرب المفضي لموت بنسبة ٨٣.٣٣%، أما جرائم السرقات فزادت نسبتها بمعدل ٦.٢٥%، وارتفعت نسبة قضايا السلاح بمعدل ٦٥.٨٥%،
وارتفع معدل جرائم الشروع في السرقة بنسبة ٤٦.٦٦%، وبلغ عدد قضايا «الجواهر المخدرة»، وهو المصطلح الذي يطلق علي الأطفال العاملين في مجال تجارة المخدرات، بنسبة ٦٦%.
ومن الجنايات إلي الجنح، مازالت معدلات الزيادة تدق نواقيس الخطر، حيث ارتفع معدل قضايا التزوير بنسبة ٩٠%، وبلغ معدل الزيادة في قضايا الضرب ١٤.٣٤%، وزادت جرائم النصب وخيانة الأمانة بمعدل ٩٩.٩%، وتوقفت نسبة الزيادة في جرائم الإصابة الخطأ عند ٤.٨%،
ووصل معدل الزيادة في قضايا الشروع في السرقة إلي ١٢.٩%، وزادت قضايا السكة الحديد بنسبة ٦١.٩٥%، وقضايا التنظيم والإدارة - البلدية - بنسبة ٣.٤٧%.
قضايا التشرد تراجعت بمقدار ١٥.٥٤%، في حين زادت نسبة قضايا جنح الصيدليات بمعدل ٢٠.٨٣%.
وإلي جنح الأحداث ننتقل مع التقرير، لنضع أيدينا علي ارتفاع جرائم الهروب من المراقبة بنسبة ٨٢.٢٤%، بينما زادت قضايا المحال العامة والصناعية بنسبة ٢٧٥%، ووصل معدل الزيادة في جرائم القتل الخطأ إلي ١١.٥%، بينما تراجعت قضايا الضرب بنسبة ٤٣.٥٦%، في مقابل زيادة مرعبة في جرائم النصب وخيانة الأمانة بلغ معدلها ٦٤٨%،
ووصل معدل الزيادة في قضايا السرقات والشروع فيها إلي ٢٩.٩٨%، ووصلت الزيادة في قضايا السكة الحديد إلي ١٢٧.٨%، ترتفع إلي ٢٦٦% فيما يخص قضايا التنظيم، وزادت قضايا التشرد بمعدل ٧٨.٧٩%.
المخالفات لم تسلم من ذلك الارتفاع المرعب في زيادة نسبتها، حيث ارتفعت نسبة المخالفات المرورية لتصل إلي ما يفوق الثلاثة ملايين ونصف المليون مخالفة!
ورصد التقرير أيضاً أعداد وسمات المحكوم عليهم الشخصية والأسرية، ليكشف عن ارتفاع نسبة الرجال «العزاب» المحكوم عليهم بمعدل ٢٤٢%، بينما ارتفعت نسبة الآنسات المحكوم عليهن بمعدل ٢١٨%.
ملف الأحوال الشخصية يكشف عن ارتفاع قضاياها بالنسبة للمسلمين بمعدل ٣٠.٥%، بينما بلغت نسبة الزيادة بالنسبة لغير المسلمين ١٠٣%، فيما تناقصت قضايا الحبس للنفقات بمعدل ٢.٦%.
وبالانتقال إلي جزء شديد الأهمية من التقرير، وهو الخاص بجرائم الكسب غير المشروع، نجد أن لجان فحص إقرارات الذمة المالية كشفت عن ٤٦١٤٨٠ جريمة كسب غير مشروع، بمعدل زيادة يبلغ ١٤٣.٧% عن الجرائم المماثلة عام ١٩٩٦.
الأرقام السابقة والتي تكشف واقعاً مرعباً رأت فيها د.عزة كريم الخبيرة الاجتماعية مؤشراً عاماً، يعكس حجم الاضطرابات التي يعاني منها المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو الأمر الذي أدي إلي تمزق أنظمته الداخلية، وفي مقدمتها الأنظمة الاقتصادية، التي أصبح الكل يعاني منها، خاصة بعد أن أطاحت تلك الأنظمة والسياسات بطبقته المتوسطة،
وساهمت في تزايد معدلات البطالة والفقر، بالإضافة لعدم استقرار النظام السياسي، وانتشار الفساد، وعدم قدرة الفرد علي المشاركة فيما يدور حوله من أحداث، وهو الأمر الذي يجعل الفرد يفقد الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه، ويصاب بالإحباط والتوتر اللذين يحولانه إلي إنسان انفعالي في جميع تصرفاته وسلوكياته،
وغالباً ما يتحول هذا الانفعال إلي انفعال هائج، يفقد فيه الإنسان السيطرة علي نفسه، ليتحول لإنسان عنيف قادر علي ارتكاب مختلف الجرائم بهدف التخفيف من حدة الضغوط الواقعة عليه.
وذكرت د.عزة أن استمرار الارتفاع الجنوني للأسعار وتزايد احتياجات الأفراد وعدم التوازن بين الطبقات خلق نوعاً خطيراً من الجرائم هو الجرائم المهنية، التي يخالف مرتكبوها شرف مهنتهم مقابل بعض المكاسب مثل الصيادلة، الذين يقومون ببيع الأدوية المغشوشة والمهربة والمخدرة للمواطنين، بعد أن أصبح الربح هو القيمة السائدة في مجتمعنا، وعلي أساسها يتم احترام وتقدير الأفراد.
وعن تزايد معدلات الجرائم بين الشباب الذين لم يسبق لهم الزواج مقارنة بالمتزوجين توقفت د.عزة لتقول: الشاب الأعزب هو ذلك الذي يفتقد القدرة المادية علي الزواج، ويعاني من ضغوط اجتماعية ونفسية عديدة، نتيجة شعوره بفقدان أحد حقوقه الحياتية «الزواج»،
وبالتالي يسيطر عليه الشعور بالظلم والقهر الاجتماعي، وتتولد لديه دوافع للانتقام من هذا المجتمع، الذي لم يلب له احتياجاته الاجتماعية، هذا بالإضافة إلي أن عدم تحمله المسؤولية يولد لديه درجة من درجات التهور، الذي يدفعه إلي ارتكاب بعض الجرائم، التي قد تكون ضد نفسه مثل الانتحار.
وفيما يتعلق بأسباب زيادة معدلات جرائم القتل والسرقة والشروع في كليهما بالإضافة إلي قضايا الاختلاس والرشوة وتزييف النقود والكسب غير المشروع، أشارت الدكتورة عزة إلي أن قلة الدخول مقارنة بحجم ومستوي الأسعار يدفع لارتكاب كل هذه الجرائم بحثاً عن المال،
ويستخدم الناس ألفاظاً ومسميات تجعل من ارتكاب هذه الجرائم أمراً مقبولاً اجتماعياً مثل الرشوة، التي يطلقون عليها مصطلح «عمولة»،
والمثير للدهشة، لإن هذه الجرائم يرتكبها الآن الحاصلون علي المؤهلات المتوسطة والعليا علي حد سواء، ورغم أن قضايا تزييف النقود تزايدت بسبب التكنولوجيا الحديثة إلا أنها كانت مجرد دافع أثار حاسة الاستعداد المبيت لدي مرتكبيها.
ورغم تزايد معدلات الجرائم بين الأحداث بصورة غير طبيعية فإن الدكتورة عزة تتوقع المزيد منها، مؤكدة أن هذه الفئة تتصرف دائماً حسبما تدفعهم غرائزهم، مفتقدين المبادئ والأخلاق والضوابط والقيم، التي يفترض أن يتعامل بها الأفراد داخل المجتمع، مستبدلين هذه القيم بالسرقة والنهب كأساس تربوي نشأوا عليه، ولم يعرفوا غيره، وهو الأمر الذي يجعلنا نتنبأ بمستقبل سيقوده مجرمون محترفون.
وعن أسباب تزايد معدلات جرائم الفسق وهتك العرض في مجتمعنا تقول د.عزة: ربما يرجع هذا إلي تزايد اليأس الناتج عن تأخر سن الزواج وارتفاع معدلات العنوسة، بالإضافة إلي انحدار القيم التي تبثها وسائل الإعلام للشباب - من خلال المشاهد المثيرة للغرائز،
وتراجع دور الأسرة في تربية الأبناء بنسبة ٣٠%، بسبب تعدد وسائل الاتصال والمعلومات، وغياب القدوة الحسنة، حيث إن المعلم في هذا العصر أصبح يحث الطلبة علي الغش، ويتعامل معهم وفقاً للقيم الاقتصادية البحتة، وقد يستخدم الألفاظ البذيئة داخل الفصل.
وأكدت الدكتورة عزة أن ما تقوم الهيئات والمصالح المختلفة برصده من أرقام ونسب عن معدلات الجرائم في المجتمع المصري لا يعبر عن الحجم الحقيقي لهذه الجرائم، وذلك وفقاً لما أثبته بحث أجرته بنفسها بعنوان «ضحايا الجريمة في المجتمع المصري»، صدر في أواخر التسعينيات عن المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، قامت بإجرائه، علي عينة من ١٠٠٠ فرد، ممن تعرضوا لمختلف الجرائم،
وتوصلت من خلاله إلي أن ٨٠% من الأشخاص لا يقومون بالإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدهم، لعدم ثقتهم في الشرطة أو القضاء،
كما أثبت البحث أن ٨% فقط ممن تعرضن لجرائم الاغتصاب قمن بالإبلاغ عنها، بينما امتنعت الباقيات عن الإبلاغ خوفاً من «الفضائح»، وبسبب أسلوب الشرطة في التعامل مع تلك الجرائم، الذي لا يراعي السرية رغم أننا في مجتمع محافظ.
وتتوقع الدكتورة عزة أنه إذا ظلت أوضاع المجتمع علي هذا الحال، فإن الجريمة ستصبح واحدة من العلامات الأساسية المخيفة، لهذا المجتمع، وستظهر أنواع جديدة أكثر خطورة من الجرائم الحالية.
ربيع عبدالمنعم حسين، مدير عام الإحصاء القضائي بوزارة العدل ذكر أن سبب ارتفاع معدلات القضايا التي تقوم الإدارة برصدها كل عام يرجع إلي قلة فرص العمل الشريف، التي قد تنعدم تماماً في بعض الأحيان، الأمر الذي يجعل الخريجين يقعون في فخ الفراغ، وقد يدفعهم لارتكاب الجرائم، خاصة قضايا النصب وخيانة الأمانة، التي تزايدت معدلاتها بمتوالية هندسية، خلال العقود الأخيرة الماضية.
فقد بلغ عدد هذه القضايا علي سبيل المثال سنة ١٩٦٢ (١٠٣١٠٦) قضايا، وفي عام ١٩٧٦ بلغ (٢٥٥٥٤٤)، في حين بلغ عددها عام ١٩٨٤ نحو (١٦٣٨٩٠) قضية،
وفي عام ١٩٩٧ بلغ (٥٢٤٥٦٩) قضية، حتي وصلت هذه الزيادة إلي ذروتها عام ٢٠٠٤، حيث بلغ عدد قضايا النصب وخيانة الأمانة وفقاً لما جاء بتقرير الإحصاء القضائي السنوي لهذا العام (٨٦٥٣٧٢) قضية، وهو الأمر الذي يشير إلي أن معاناة الشباب من الفراغ والبطالة قد تجعلهم يستغلون ذكاءهم، وخبراتهم العلمية والتعليمية في النصب علي الآخرين،
خاصة أن جرائم النصب لا تتطلب عنفاً ويقف سوء الأحوال الاقتصادية دائماً كـ«حائل» أمام الالتزام بسداد المبالغ التي يوقعون عليها وهو الأمر المتوقع تزايد معدلاته، إذا لم ينتبه المسؤولون لضرورة الإصلاح الداخلي.
وعن أسباب تزايد معدلات القضايا أمام ساحات المحاكم المصرية، يري الدكتور محمد مرغني خيري، أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة عين شمس، أن تباطؤ المحاكم في الفصل في القضايا يؤدي للشعور باليأس لدي الأفراد، وهو الأمر الذي قد يدفع لارتكاب الجرائم، كمعادلة لنيل الحقوق الضائعة،
كما أن القانون عندما حدد مدداً للفصل في القضايا جعلها «تنظيمية» وليست قانونية، وبالتالي فهي غير ملزمة للقضاة، بالإضافة إلي أن وضوح بعض القوانين وتعدد الثغرات بها أدي لافتعال بعض المحامين ألاعيب قانونية، بهدف إطالة زمن التقاضي، وهناك بعض القضايا التي يتم تحويلها إلي لجان فض المنازعات،
وعندما يرفض البعض تنفيذ قراراتها غير الملزمة تعود لساحات القضاء مرة أخري، وكذلك فإن انتداب المستشارين للعمل لدي الوزارات واللجان الحكومية في أعمال خارجة عن نطاق العمل القضائي، يؤدي لاستنزاف وقتهم وجهدهم ويعطل الفصل في القضايا.
ويرصد د.محمد مرغني، انتشار بعض الظواهر الغريبة داخل ساحات القضاء المصري مثل الكذب، الذي أصبح حقاً من حقوق الدفاع رغم كونه جريمة دينية وأخلاقية خطيرة، وللأسف فإنه في حال اكتشافه لا يعاقب مرتكبه،
رغم أن القضاء في أوروبا يعتبره جريمة ويقنن له عقوبات مشددة، والقضاء البريطاني مثلاً يعتبر الكذب ضمن الجرائم الجنائية، وكذلك أدي اللدد في الخصومة إلي تزايد معدلات القضايا المطروحة، عن طريق طلب الطعن والنقد والاستئناف والمعارضة.
وعن أسباب تزايد معدلات القضايا المرفوعة ضد الحكومة ذكر الدكتور محمد مرغني أن الحكومة تقوم باستخدام نفس أساليب التحايل علي القضاء، التي يستخدمها بعض المحامين وذلك بإخفاء مستندات وأوراق مطلوبة وعندما يؤدي هذا لتعطل الفصل في القضايا المنظورة تفرض المحكمة غرامة تأخير لا تزيد علي ١٠٠ جنيه،
ورغم أنها غرامة بسيطة للغاية فإنها يتم دفعها في نهاية الأمر من خزينة الدولة وليس من راتب الموظف المسؤول عن التأخير.