والمسيحيين، فئة ترى أن المسيحيين في مصر يأتون في العربة الأخيرة من قطار
الوطن؛ باعتبارهم ذميين، حتى دون أن يشرحوا للناس معنى كلمة "ذمِّي"،
والوضع الفقهي والتاريخي الذي جعل لهذا المسمى معنى ضروريا في حقبة من
الزمن.. لنستخلص أن المعنى الذي يلتصق بالعقول بأن المسيحيين ذميون، هو
أنهم لا يتساوون بالمسلمين في بلد إسلامي!
وفئة من المتعصبين
المسيحيين يرون أن الإسلاميين الذين ينادونهم بأهل الذمة يسيئون إليهم،
وأنه يجب ألا تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وحدها في بلد يجمع
بين المسيحيين والمسلمين..
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا للكاتب
والمفكر الإسلامي الكبير فهمي هويدي يضع أيدينا على هذا الجرح الغائر في
صدر الوطن.. ويشرح لكلا الطرفين ما هم فيه من ضيق في الأفق يمتزج بضيق في
الصدور، وهما مصدر إشعال الفتن..
وقبل أن نستطرد فيما ذهب إليه
كاتبنا نرى أنه من الأهمية بمكان أن نشرح بشيء من التبسيط، جزءا مهما تكلم
عنه الكاتب بإسهاب؛ ليقطع رأس الفتنة؛ ألا وهو:
ما معنى مصطلح "أهل الذمة" الذي يستخدمه المتشددون من الإسلاميين؟ وكيف تثير غضب المسيحيين في هذا البلد؟
معنى أهل الذمة
أهل
الذمة مصطلح فقهي إسلامي يُقصد به كل من اليهود والنصارى، وقد يشمل
الصابئة والمجوس (أو على حسب الوصف الإسلامي إجمالا أهل الكتاب الذين
يعيشون تحت الحكم الإسلامي أو في البلاد ذات الأغلبية المسلمة).
بمعنى أن أهل الذمة مصطلح لا يخصّ المسيحيين وحدهم، بل يشمل كلّ من هو على غير دين الإسلام، ويعيش في كنف الدولة الإسلامية..
فما معنى أن الذمِّي يعيش في كنف الدولة الإسلامية؟
معنى
أن الذمِّيين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية أي أنهم تحت الحماية
الإسلامية ومسئولية الدولة. بمعنى أنهم لا يتدخلون في حماية الوطن من أي
عدوان، وليس لأي ذمِّي أن يكون فردا من أفراد الجيش الذي يحمي الدولة..
وأنه مقابل ذلك يدفع الجزية -أي يدفع ثمن الحماية والأمن الذي توفّره له
الدولة..
السؤال هنا، والذي يطرحه الكاتب على أئمة وعلماء المسلمين، هل هذا الوضع ينطبق على المسيحيين الموجودين في مصر حاليا؟
الإجابة
القاطعة هي لا، فلا هم يدفعون جزية لحمايتهم، ولا هم يقفون موقف المشاهد
حين يهبّ اعتداء على الوطن؟ بل منهم الجنود والقادة الذين يقفون جنبا إلى
جنب بجوار الجندي المسلم والقائد المسلم؛ دفاعا عن الوطن.. من هنا يستخلص
الكاتب في بساطة ومنطق أن مصطلح "أهل الذمة" الذي يثير الضيق والحنق لدى
إخواننا من المسيحيين، مصطلح في حاجة لمراجعة، أو لنقل حذفه من قاموس
التعامل مع المسيحيين في مصر، ليُستبدل بمصطلح آخر أكثر واقعية هو أن
المسيحيين "مواطنون"..
مواطنون لأنهم يعيشون في هذا الوطن، ومواطنون
لأنهم يشتركون في حمايته، ويدافعون عنه، ولا يكتفون بدور المُشاهد الذي
يدفع ثمن الحماية تاركا الأرض عرضة للنهب؛ لأنها أرض إسلامية، بل هم
مواطنون مصريون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
تاريخ من الفتن وفتاوى شائكة
لا
يُغفل الكاتب الدور التاريخي الذي لعبه الصراع القديم بين المسيحيين
والمسلمين من وجود جراح غائرة، ويسرد في ذلك وقائع عدة، غير أنه يضعها في
سياقها التاريخي، معللا ومفندا وشارحا أسباب هذا الصراع، وموضحا في الوقت
نفسه أن على المسلم أن يدافع عن أرضه ودينه وعرضه ضد أي إنسان يعبث بهذه
المقدسات، أما إذا لم يكن هناك اعتداء حقيقي فلا مكان للكراهية والصراع
الوهمي باسم ديننا الحنيف..
ويسرد في ذلك عدة شواهد على أن الشريعة الإسلامية هي لصالح الفئتين إذا التزم بها المسلمون، وتفهّم مقاصدها المسيحيون:
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة".
وقال: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما".
أما إذا توجّهنا بقلوبنا وعقولنا نحو مصدر التشريع وهو القرآن الكريم سنجد أن الحقّ تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم: {لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وهذا هو الأصل الذي لا خلاف عليه، وهو الدستور الذي يجب أن نتبعه.
ومن
هذا المنطق يتعرّض الكاتب لفتاوى شائكة تؤجّج نار الفتن، ومن ذلك ما يدعو
إلى تقييد بناء الكنائس، وهي الفتاوى التي كانت بعيدة عن حقائق الواقع،
ويرى أن من الغرابة أن نفهم أن الإسلام يكفل حرية العقيدة ولا يكفل بناء
دور العبادة الخاصة بها، غير أنه يعود ليزن الأمور بوسطية حين يرى أنه يجب
مراعاة شعور الأغلبية، وعدم استفزازها حين يتم ممارسة هذا الحق.
الفتنة وسفينة الوطن
يتعرّض
الكاتب للفكرة الرئيسية التي يدور حولها كتاب أمين ناجي "لن نعيش ذميين"..
وأن الظنّ الذي يبني هذا الكتاب عليه قيمه وأفكاره أن الإسلام خيّر الناس
بين الدين والسكين، وهو مفهوم شائع، غير أن كاتبنا يسوق الأدلة والبراهين
على أن هذه الفكرة مغلوطة، وأن استخدام الأحاديث النبوية والآيات القرآنية
التي تدعو للقتال والجهاد بمعزل عن الزمان والمكان والحدث يؤدي إلى سوء
الفهم، الذي يؤدي بالضرورة إلى سوء العاقبة وسوء المصير..
الكتاب
قيّم للدرجة التي تجعلني أعتقد أن كثيرا من المصريين في حاجة لقراءته، سواء
أكانوا مسلمين أو مسيحيين.. فهو يناقش بمنطق وحكمة وتعقّل ما للمسلمين على
المسيحيين وما للمسيحيين على المسلمين.. يُحقّ كثيرا من الحقائق ويُبطل
كثيرا من المزاعم والأباطيل.. ولا ينتصر لفئة على فئة فليس هذا هدفه ولا
مبتغاه.. بل ينتصر للوحدة والخير والحب الذي يحتاجه المصريون..
وبعنوانه
نختتم مقالنا عنه وأن إخواننا المسيحيين "مواطنون لا ذميون" أيها
العقلاء.. وأن المسلمين في مصر ليسوا أعداءكم أيها المسيحيون.. وأننا لو
افترضنا أن أحد الطرفين مسلمين أو مسيحيين في سفينة الوطن قد خرقوا فيها
خرقا أو عاثوا فيها فسادا فالغارق في النهاية هو الوطن.. والخراب سيطال
الجميع ولن يستثني أحدا.