الأعراض:
احمرار في الوجه.. انسداد في الأذن.. رفع الحاجبين دائمًا إلى أعلى.. النظر إلى سقف الحجرة باستمرار.. بروز حادّ في الأنف.. علو الصوت.. النحنحة المستمرة.. احتقار للآخرين.. التشدق بالكلمات الصعبة غير المستخدمة لغويًا، فضلاً عن الاسترشاد بالمصطلحات الأجنبية التي غالبًا ما لا يفهم صاحب المرض معناها؛ من أمثال: الراديكالية.. البراجماتية.. الملوخية.. المهلبية.. إلخ.
اسم المرض:
اسفكسيا حب الذات ونبذ الآخر والانفراد بالرأي، ويعترض صاحب المرض على أي رأي آخر، حتى لو كان متوافقًا مع رأيه..
أحببت أن أبدأ بأعراض المرض ووصفه قبل ذكر اسمه، ولهذا الأمر أسبابه، والمعنى في مخ الكاتب "مش في بطنه"..
وحتى لا "ألفّ ولا أدُور".. فإن غالبيتنا عندما نقرأ اسم مرض دون قراءة توصيف أعراضه فإننا -الغالبية- نحمد الله ونقول: "بعِد الشر! ماعنديش الحاجة الوحشة دي.."، لذلك بدأت بكتابة الأعراض أولاً.. "شفتوا إزاي؟!!".
وسأقصّ عليكم متى اكتشفت هذا المرض العضال "اللي هيودي البلد في داهية"، لو لم يتم علاجه بسرعة..
ذات يوم جلست أمام أحد برامج التوك شو -التي أصبحت مادة جيدة لحرق الدم وارتفاع الضغط أو انخفاضه هذه الأيام- وكان يتناول موضوعَ أيّهما أوّلاً؛ الدستور الجديد أم البرلمان..؟
أول سؤال بدر إلى ذهني: ألم تُحسم هذه القضية؟! ألم يُعرض الأمر على استفاء عام وافق فيه الشعب بأغلبية 77.2% على التعديلات التي بموجبها تجرى الانتخابات البرلمانية أوّلاً، ويقوم البرلمان بدوره بانتخاب لجنة تأسيسية من 100 عضو تعمل على صياغة دستور جديد للبلاد؟! و"لّلا أنا كنت بحلم" أو "كنت في غيبوبة وحصل في البلد حاجات جديدة ماعرَفهاش؟!".
تصفحتُ المواقع الإخبارية سريعًا للتأكد من صحة معلوماتي، وتأكدت من أنه لم يحدث شيء جديد.. "الله! طب إيه إللي حصل؟! لماذا يتناول برنامج "محترم زي ده" موضوعًا قد حسم الشعب فيه أمره بأغلبية؟!".
ليست هذه المشكلة..
تابعت الحلقة لاهتمامي بمعرفة وجاهة تناول هذا الموضوع المحسوم، وهنا كان اكتشافي لهذا المرض العضال "اسفكسيا حب الذات ونبذ الآخر والانفراد بالرأي"..
استضاف البرنامج ثلاثة أشخاص؛ محللاً سياسيًّا كان يلعب دور المحايد، وأحد الشباب الذي يلعب دور المعترض على إجراء الانتخابات البرلمانية قبل الدستور، وشابًّا آخر موافقًا على إجراء الانتخابات البرلمانية أوّلاً ثم إعداد الدستور..
وهنا كانت المشكلة..
الجميع كانوا متفقين في الرأي، ولكنهم مختلفون.. "إزاي ده؟!!"
كان ضيوف الحلقة يدورون حول مبادئ واحدة، ورأي واحد، ولكنهم يظهرون أنهم مختلفون، فقط من أجل الاختلاف، وإظهار أن لكلٍّ رأيًا مختلفًا عن الآخر، وأن كل واحد عنده وجاهه لرأيه.." والكلام إللي احنا عارفينه ده"..
على سبيل المثال؛ كان أحد المتكلمين يتحدث حول وجوب تفعيل دور مؤسسات الدولة واستقلالها، بأن يقوم مجلس الشعب بدوره في إصدار التشريعات، ويقوم القضاء بدوره في فصل القضايا دون تدخّل من السلطة التنفيذية وهي الحكومة (والله كلام زي الفل)..
فجأة وجدت المتكلم الآخر يقلل المسافة التي بين حاجبيه ويرفعهما معًا إلى أعلى، مع ظهور احمرار شديد في الوجه، وبروز أنفه إلى الأمام ( وبقية أعراض المرض إياه) قائلاً: "لا.. أناأختلف معك تمامًا، يجب تطبيق الديمقراطية"..
فسأله المحاور: "وكيف يتم تطبيق الديمقراطية من وجهة نظرك؟".
فردّ قائلاً: "الديمقراطية يجب أن تطبق بمعناها الحقيقي التطبيقي والديناميكي" (والاستاتيكي والدبلوماتيكي وبطوط وميكي)؛ "حتى لا نسمح للحركات الراديكالية بالسيطرة على الساحة السياسية، ومن ثم ينشأ في الحكم نوع من الثيوقراطية" (وشوية بتنجانية على مهلبية.. وأي كلام مجعلص وخلاص)..
فسأله المحاور: "يعني إيه؟"..
فأجاب بسرعة حادة ومقاطعًا المحاور قبل أن يكمل كلامه: "بمعنى أن نجعل الشعب هو سيد قراره، ويقوم المجلس التشريعي بإصدار التشريعات، ويكون قضاء محايدًا ومستقلاً.."!!
فردّ الضيف الذي يلعب دور المحايد قائلاً: "ما هو ده الرأي اللي إنتَ معترض عليه! طب إيه وجه اعتراضك؟".
فأجاب بكلام مشابه للذي قاله من قبل.. (المهم هو معترض وخلاص)، والأدهى من ذلك أن صاحب الرأي الأول اعترض بعد ذلك وبنفس الموقف، وخرجت الحلقة وكلهم معترضون على كلام بعض، وتقريبًا كان رأيهم واحدًا!!!
مرض عضال.. إذا استشرى في المجتمع فعليه السلام.. يختلف بعضنا مع بعض من أجل الاختلاف، نختلف حتى لو كان رأينا واحدًا، ونبحث عن مواضع الاختلاف ونتحدث فيها، نبحث عن الأمور المحسومة لنناقشها (حاجة تغيييييييييظ).
لست هنا بصدد الحديث عن وجاهة رأي وتغليبه على رأي، ولست ضد مناقشة ما يدور على الساحة السياسية، ولكني ضد تجاوز الأصول التي يرتكز عليها أي حوار بنّاء، والتي منها:
1. نسمع لبعض، ونعطي فرصة للآخر أن يتكلم، وفرصة للمستمع لكي يصغي، لأن بمقاطعتك للآخر لن يُسمع من الحوار إلا "خناقة"، وسيخرج المشاهد من الحوار بصداع نصفي من عُلوّ الصوت.
2. عدم التقليل من شأن الآخر حتى لو كان لديك مؤهلات علمية أعلى منه.
3. الأصل في الحوار البحث عن نقاط الاتفاق وتفعيلها، بدلاً من البحث عن نقاط الاختلاف؛ حتى نخرج في النهاية بحلول للقضية موضع الحوار.
4. نبذ أسباب التعصب، مع التمسك باللين والحكمة في الخطاب: {ادفعْ بِالتي هيِ أحسنُ فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوةٌ كأنه وليٌّ حميمٌ} (سورة فصلت، من الآية: 34).
5. اتخاذ مبدأ الإمام الشافعي في الحوار "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وفي هذه الحالة سيكون عندك استعداد تام لتقبل رأي الآخر لإدراكه، والاقتناع به إن أثبت وجاهته.
وينبغي في النهاية الإشارة إلى حلقة الأستاذ بلال فضل الرائعة، التي استضاف فيها نخبة من خيرة شباب مصر، لديهم أفكار واختراعات يطلبون تفعيلها وتمويلها، فكان حوارًا رائعًا، أعطانا أملاً في الغد، أشعرني بأنه ما زال هناك أناس -حتى وإن كانوا قليلين- يفكرون في الغدِ لا في الأمس، تناسَوْا الصراعات القديمة التي بينهم، ونبذوا الخلافات حتى يصلوا ببلادنا إلى بر الأمان.
ولنأخذ ممن سبقونا..
- "من حقي أن أقول كلمتي، ولكني على استعداد بأن أضحي بحياتي في سبيل أن تقول كلمتك"
الفليسوف الفرنسي "فرانسو فولتير"
- "يا بنيّ، إذا جالست العلماء؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلّم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحدٍ حديثًا -وإن طال- حتى يُمسك".
الحسن بن عليّ لابنه، رضي الله عنهم أجمعين
- "تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول".
ابن المُقفع
- ولا خير ختامًا من قوله -صلى الله عليه وسلم- "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا"..
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.