سؤال
يتردد همسا بين قطاعات كثيرة من المصريين.. وهناك شواهد ودلالات أدت إلى
طرح هذا السؤال وانتشاره، رغم الحذر الشديد من بطش مجهول المصدر، أو تحقيق
خشن فى حالة تصنيف السؤال على أنه إشاعة مغرضة أو فعل عدوانى القصد منه
إحداث بلبلة وإحداث وقيعة أو فتنة بين الشعب والمجلس العسكرى، وفى كل الحالات،
فإن تجريم هذا السؤال وأى سؤال آخر فى هذا الشأن سيكون كارثة على
الديمقراطية التى ننشدها وكارثة على الوطن كله بجميع فصائله ومختلف
اتجاهاته، بما فيها الاتجاهات الإسلامية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان..
وإذا
كانت هناك أسباب عديدة وظاهرة لطرح هذا السؤال ليس من بينها حالة
الاستقواء والتجبر التى تعيشها الجماعة الآن، لأن القارئ المتأنى للتاريخ
القريب يدرك أن الجماعة منذ نشأتها وحتى الآن تنشط وتشتد ويعلو صوتها وتظهر
قوتها فى عهد الحكومات الضعيفة الواهنة والمتهالكة، فلا عجب أن ترى
الجماعة فى نفسها القوة الوحيدة الفاعلة والمؤثرة، وبالتالى تقدم نفسها على
أنها الداعم الأساسى للنظام وللحكومة أو بلغة الإعلانات «الراعى الرسمى»،
وقد لعبت الجماعة هذا الدور بكفاءة عالية مع حكومات ما قبل ثورة يوليو عام
١٩٥٢ باستثناء حكومات بعينها، كان الفداء بينها وبين الجماعة شديداً ولا
يسمح بأى تقارب.. وكأن التاريخ يعيد نفسه فعندما قامت ثورة يوليو لم يبتعد
الإخوان عنها وإنما حرصوا على أن يكونوا جزءاً منها وأخذوا على عاتقهم مهمة
قطع الطريق على قوات الجيش الإنجليزى إذا تحركت من معسكرات الإسماعيلية
إلى القاهرة لقمع الثورة لكن الإنجليز لم يتحركوا من الأصل وكفى الله
«الإخوان» شر قتال الإنجليز.. إلا أن هذا الأمر هو الذى جعلهم شركاء فى
الثورة بشكل أو بآخر..
وعلينا أن نتوقف قليلاً أمام قيادات ثورة يوليو
واتجاهاتهم السياسية والدينية، التى لم تكن خفية أو سرية، فمثلاً كان
عبدالمنعم عبدالرؤوف وأبوالمكارم عبدالحى عضوين فى الجماعة، وقد رفضا أن
يكون الولاء والإخلاص لتنظيم الضباط الأحرار دون غيره، أيضاً كان كمال
الدين حسين وأنور السادات وحتى جمال عبدالناصر نفسه - كانت علاقتهم طيبة مع
الجماعة، أما المجلس العسكرى القائم على إدارة البلاد الآن، فنحن لا نعلم
شيئاً عن اتجاهات أعضائه، وبالتالى لا نعرف من منهم الإخوانى ومن منهم
العلمانى ومن منهم سلفى الهوى، ولا يجب أن نصفهم حسب حالة الانتعاش التى
تصيب التيارات المختلفة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية إلى أن يكشفوا عن
أنفسهم ويعلنوا عن هويتهم.. هذا لأن ما يحدث على الساحة الآن يكاد يكون
صورة مشابهة تماماً لما حدث فى أعقاب ثورة ١٩٥٢، حيث تم فتح صفحة بيضاء
تماماً مع الجماعة على اعتبار أنه عهد جديد يتطلب التعامل مع جميع أطياف
الشعب المصرى بمكيال واحد، بل إن الجماعة حصدت الكثير من الدلال،
فتم
الإفراج عن جميع المعتقلين وأيضاً أطلق سراح السجناء من الإخوان المحكوم
عليهم فى قضايا جنائية بواسطة محاكم مدنية، ومنهم قتلة المستشار الخازندار
ورئيس الوزراء النقراشى باشا، وأكثر من ذلك رحبت الثورة بمشاركة الجماعة فى
الحكم وخصصت ثلاث وزارات يتولى أمرها ثلاثة من رجال الجماعة، إلا أن
المرشد العام وقتها المستشار الهضيبى ومن معه، لم يقنعوا بكل هذا وأرادوا
السيطرة الكاملة على الثورة وإخضاعها لطاعتهم وفرض وصايتهم عليها، وعندما
رشح جمال عبدالناصر ثلاثة من الإخوان لتولى ثلاث حقائب وزارية قبلت الجماعة
بشرط أن يختار مكتب الإرشاد الوزراء الثلاثة، وأن يحدد المكتب أيضاً
الوزارات الثلاث، والمنطقى جداً أن يرفض عبدالناصر رغم حاجته إلى دعم
الإخوان وعدم انتقالهم من خانة الأصدقاء إلى خانة الخصوم، خصوصاً أن ثورته
كانت محاطة بالأعداء من الداخل والخارج.. إلا أن الإخوان لا يرون إلا
الإخوان ولا شىء غير ذلك وحساباتهم دائماً وأبداً تكون معنية أولاً وأخيراً
بالجماعة..
الوزير الشيخ الإخوانى عضو مجلس الإرشاد الذى قبل أن يكون
وزيراً للأوقاف تم فصله من الجماعة تماماً.. ولأن العقلاء يدركون أن لا
مبادئ فى السياسة ولا أخلاق ولا دين، فإن الجماعة غاصت بقدميها فى وحل
السياسة حسب قواعدها وثوابتها وهى المفتونة بقوتها وتقديراتها الخاطئة بأن
الثورة لن تستمر دون دعم الإخوان ومساندتهم لها.. لكن جمال عبدالناصر كان
زعيماً بحق.. قوياً بحق لا يعرف الخضوع، كما أنه أدرك بسرعة أغراض الإخوان
الخفية والحقيقية، وكان عليه أن يصمد ويواجه ويلعب مع الإخوان بنفس
طريقتهم، متحاشياً الصدام المباشر معهم، إلا أن الدلائل كانت تشير بقوة إلى
حدوث هذا الصدام، كان رأس الجماعة ومرشدها هو المستشار الهضيبى وهو من
هو..
رجل قانون من أسرة ثرية لها مكانة اجتماعية مرموقة، اشتغل
بالمحاماة فى مدينة سوهاج، ثم انتقل إلى سلك القضاء بمرسوم أصدره الملك
فؤاد، وكان شديد الإعجاب بالمرحوم حسن البنا، فصار من أتباعه، إلا أن
علاقته بالإخوان ظلت مستترة، نظراً لعمله بسلك القضاء، وأول من رحب به
لخلافة حسن البنا - وأرجو ألا يندهش القارئ المحترم - هو الملك فاروق نفسه
عدو الإخوان الأول والمحرض بل والآمر بقتل المرشد حسن البنا، ذلك أن حكومة
«إبراهيم عبدالهادى» استمرت قائمة لمدة ثلاثة أشهر بعد مقتل البنا ثم جاءت
حكومة «حسين سرى» التى أجرت انتخابات فاز فيها حزب الوفد باكتساح، وجاءت
حكومة وفدية على غير رغبة الملك الذى أصابه الرعب.. وعُقد مجلس البلاط لبحث
هذه المسألة، فكان الرأى هو إعادة جماعة الإخوان إلى الساحة على اعتبار
أنها القوة التى تقدر على مواجهة الوفد،
ونظراً لانعدام الثقة بين الملك
والجماعة لم يكن متحمساً لهذا الاقتراح، وأعلن أنه غير موافق إلا إذا كان
المرشد تابعاً له ومؤيداً لجلالته، وعليه تم طرح اسم الشيخ أحمد حسن
الباقورى، لأنه زوج ابنة الشيخ «دراز»، عضو مجلس البلاط ونسيب القصر،
وعندما وصل إلى علم الملك أن الجماعة تنوى الدفع بالمستشار الهضيبى لمنصب
المرشد، كانت مباركة الملك جاهزة، لأن المرشد الجديد فى عنقه دين للملك
فؤاد الذى عينه قاضياً، ولأن ابنه (مأمون الهضيبى) متزوج من ابنه «محمد
نجيب باشا سالم»، ناظر الخاصة الملكية، عضو مجلس البلاط.. وبهذا ارتبط
القصر مع الجماعة بعلاقة مصاهرة.. وهكذا السياسة دائماً.. المهم بعد انتهاء
شهر العسل بين عبدالناصر والإخوان أعطى الهضيبى وفريقه كل الدعم والمساندة
لمحمد نجيب فى صراعه مع عبدالناصر، وهذا كان يعلمه الأخير ويتحول عنده إلى
رصيد من الغضب.
زعيم إخوانى آخر له مكانة شامخة وتأثير ممتد حتى يومنا
هذا، هو الأستاذ سيد قطب الذى كان صديقاً ومعاوناً لعبدالناصر فى هيئة
التحرير، ومغالياً ومتشدداً فى ثوريته، إلا أنه انقلب على الثورة فجأة، حيث
كان يطمع فى منصب وزير التربية والتعليم، الذى ذهب إلى غيره، فكان السخط
والتمرد على الثورة، ثم الانقلاب الحاد والانضمام إلى جماعة الإخوان، وتحول
الصديق إلى خصم عنيد وحاقد، والمؤيد فى إسراف وحماس، إلى معارض شرس، وهو
الذى ابتكر «قرفان أفندى» وبدأ فى توجيه سهام السخط والكراهية إلى ثورة
يوليو ورجالها، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر.
والآن..
لو
تأملنا ما يجرى على الساحة المصرية منذ ثورة الشباب الشعبية ومشوارها
القصير منذ نهاية يناير وحتى الآن، نجد أن جماعة الإخوان كانت بعيدة تماماً
عن المشاركة فى الثورة عند اندلاعها، كانت تراقب وترصد فى حذر وحيطة،
وعندما ظهر أن الثورة تتصاعد وأن عودها يشتد ويقوى وتأكدت أن الناس مع هذه
الثورة، أقدمت على المشاركة والدكتور عصام العريان، المتحدث باسم الجماعة،
قال فى تصريح بثته قناة العربية أو الجزيرة، إن الجماعة تشارك فى الثورة
شأنها شأن بقية الثوار على اختلاف اتجاهاتهم، ولا يوجد أى اعتراض على هذا
الكلام لأنه حقيقى ولم يشارك الإخوان فى الثورة مستخدمين شعاراتهم الزاعقة
والمعروفة، ولم يستخدموا أدوات التعريف الخاصة بهم، وكان من الصعب تمييزهم
وسط الجموع الثائرة التى تصرخ فى طلب الحرية،
وبمجرد رحيل النظام وقدوم
المجلس العسكرى بدأت الجماعة تلعب لحسابها وبنفس طرق اللعب القديمة، حيث
بدأ الانسحاب التدريجى والانسلاخ عن فصائل الثورة المتعددة، وبدأت تعدو، بل
وتقفز، إعلامياً، حتى تحتل صدارة الثورة، ولاسيما أنها وجدت من يدعمها
بشكل واضح، وهو المجلس العسكرى الذى باركها يجعل لجنة تعديل الدستور
إخوانية الطابع والمنهج، وسرى الهمس فى الشارع المصرى بأن الإخوان قادمون،
وبقدرة قادر تحول الإعلام الذى كان يطبل ويزمر للحزب الوطنى إلى الطبل
والزمر لجماعة الإخوان، وزاد عليه الرقص أيضاً، وهكذا أصبحت جماعة الإخوان
هى الليمونة فى «البلد القرفانة»، وفى هذه الأيام تحديداً تقوم الجماعة
بوضع المطبات الصناعية أمام
جميع القوى السياسية والوطنية التى تعلم
يقيناً أنها لن تتفق معها فكرياً وسياسياً، وفى جرأة ممجوجة يعلن زعماء
الجماعة فى لقاءاتهم الإعلامية أن الثورة كانت ثورة إخوانية، وأن كتائبهم
القتالية هى التى قامت بالحماية والرعاية، ولأن الجماعة تسعى إلى سرقة
الثورة، فإن الدهشة لا تصيبنا كثيراً، ولكن الذى يدهشنا حقاً هو عملية
السطو العلنى التى أقدمت عليها الجماعة فى جسارة غير النبلاء، صحيح أن
الجماعة الآن هى «الجميلة» التى يغازلها الجميع، حتى خصومها، وحتى الذين لا
يملكون القدرة على الغزل، بالإضافة إلى الذين يلتزمون الصمت، خوفاً ورهبة،
وأيضاً الذين تعودوا على المهادنة على طريقة «أفلح إن صدق»، وكأنهم يصدقون
مراوغات الجماعة التى لا تنتهى، فى هذا المناخ الطيب جداً بالنسبة لها،
وحالة الانتصاب المفاجئ التى ألمت بقياداتها، انسلخت تماماً عن ثورة
الشباب، التى كانت فصيلاً منها يوم أن كان أهل مصر جميعاً كتلة بشرية واحدة
موحدة الأهداف ومشبعة بالوطنية الخالصة،
بدأت الجماعة تلعب لحسابها
فقط، من الذى يفرض عليها أن تكون دائماً فى خصومة من أى نوع ومع أى فريق
ولأى سبب، ولكن لم يكن أحد يتصور أن تكون الخصومة مع فصائل الثورة الأخرى،
حتى لو كانت هناك اختلافات جوهرية تستدعى الانسلاخ أو الانسحاب ولا يجب
الطعن والتخوين وتوجيه الاتهامات إلى الأطراف الأخرى بلا سند، فالبيان الذى
أصدرته الجماعة بمناسبة جمعة الغضب الثانية ورفض الجماعة المشاركة، تجاوز
الرفض وذهب مباشرة إلى اتهام الآخرين بتهم مطابقة تماماً للتهم التى كانت
توجه إليهم من قبل النظام السابق وحزبه الوطنى، ولم يقتصر الأمر على ذلك،
بل تم توزيع منشورات صفيقة تنهال على المؤيدين للمظاهرة، بأنهم شيوعيون
وعلمانيون، بالإضافة إلى بذاءات أخرى، وهكذا عملت الجماعة على تحطيم حالة
التوحد التى شملت الشعب المصرى كله ورفعت سيفها وضربت به الثورة، فقسمتها
إلى أجزاء مختلفة ومتنافرة، لقد غاب عن الجماعة أن قسوة النظام السابق وشدة
فساده ورغبة الجماهير فى محاسبة رموزه والقصاص العادل منهم جميعاً، لا
تجعلنا كمصريين نقبل بكل ما يفرضه علينا المجلس العسكرى، وأن نقول «آمين»
لحكومة المبشر الدكتور عصام شرف، بلاها ثورة إذا كنا سنصبح على ما كنا
عليه، وأن مبدأ الطاعة المطلقة يخص جماعة الإخوان وحدها ولا يخص أهل مصر
بكل فئاتهم وانتماءاتهم..
وليس المهم هنا هو الخطأ أو الصواب، وإنما
الرأى والرأى الآخر، وكشف الأخطاء وأوجه القصور والمطالبة بكل ما هو أفضل،
ولكن جماعة الإخوان مازالت تعيش فى نفس جلبابها القديم، فربما تكون قد
أوهمت المجلس العسكرى الحاكم بأن لديها القدرة على دعمه وصد معارضيه وتأديب
منتقديه، وبالتالى تحصل على مكاسب جديدة، وهذا أمر عادى بالنسبة للجماعة،
فهى التى كانت تدعم حكومات مثل حكومة صدقى باشا وحكومة محمد محمود وأيضاً
على ماهر، وكلها حكومات كانت تخشى حزب الوفد وتهابه، وحتى حزب الوفد نفسه
أرهبته وابتزته وحصلت على مكاسب عديدة فى ظل حكومته..
ويبدو أن الجماعة
باعت الثورة وتريد أن تكون فتوة النظام الحالى، وكأنها لم تستوعب درس الحزب
الوطنى الذى اعتمد على البلطجية، ويسرقها الخيال المأفون إذا توهمت أن
الجيش قد يحتاجها، والوهم الأكبر أن تعتقد أن هناك من هو ضد القوات
المسلحة.. وعلى قادة الجماعة أن يراجعوا رائعة «نجيب محفوظ» (الحرافيش) حتى
يدركوا أن كل الفتوات تم دحرهم على أيدى أهل الحارة.. ولو أن الجماعة
أعلنت عدم المشاركة، واكتفت ولم تشارك دون أن تجعل من نفسها عدواً لمن
يريدون المشاركة لكان الأمر غاية الديمقراطية ويقابل بالاحترام.. إلا أن
الجماعة هى الجماعة.. وكأنها لا تعرف المثل الروسى الذى يقول «لا تبصق فى
البئر فقد تحتاج أن تشرب منه مرة ثانية».
وعن نفسى فأنا لم أكن متحمساً
لهذه المظاهرة بالقدر الكافى، خاصة أن لها مطالب لا أوافق عليها، منها
الإسراع بمحاكمة رموز النظام.. العدالة يجب أن تأخذ مجراها، ويجب أن يأخذ
كل متهم حقه الكامل فى الدفاع عن نفسه، وتوفير جميع ضمانات العدالة،
والإسراع هذا لو تم فإنه كفيل بالطعن على الأحكام الصادرة بالبطلان، وإساءة
إلى النظام القضائى نفسه..
كما أننى، وأنا شديد الصلة بالشارع المصرى،
أتألم بشدة لوقف الحال الذى يعانى منه الغنى والفقير، ولكن عندما شاهدت
القيادى الإخوانى الذى يتعمد الظهور إلى جانب أى مسؤول حالى، وهو يقول فى
برنامج تليفزيونى إن مظاهرة الغضب الثانية سوف تفشل ولن يذهب إلى الميدان
إلا أعداد قليلة، حتى تمنيت أن يكون الخروج فى هذا اليوم رداً على هذا
التعالى، وأن يكشف أهمية القوى الوطنية التى لا تنتمى للإخوان.. ورغم حرارة
الجو والحملة الإعلامية التى شملت كل وسائل الإعلام وتحذر من الخروج إلى
المظاهرة، فإن الشباب الذى خرج يوم ٢٥ يناير هو نفسه الذى تواجد فى الميدان
يوم الجمعة ٢٧ مايو.. شباب يريدون لمصر الخير والعزة والكرامة حتى لو
أخطأوا قليلاً، وحتى لو انفعلوا كثيراً.. يكفى أنهم يخرجون من أجل وطن لا
من أجل جماعة.
رمضان الغندور
يتردد همسا بين قطاعات كثيرة من المصريين.. وهناك شواهد ودلالات أدت إلى
طرح هذا السؤال وانتشاره، رغم الحذر الشديد من بطش مجهول المصدر، أو تحقيق
خشن فى حالة تصنيف السؤال على أنه إشاعة مغرضة أو فعل عدوانى القصد منه
إحداث بلبلة وإحداث وقيعة أو فتنة بين الشعب والمجلس العسكرى، وفى كل الحالات،
فإن تجريم هذا السؤال وأى سؤال آخر فى هذا الشأن سيكون كارثة على
الديمقراطية التى ننشدها وكارثة على الوطن كله بجميع فصائله ومختلف
اتجاهاته، بما فيها الاتجاهات الإسلامية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان..
وإذا
كانت هناك أسباب عديدة وظاهرة لطرح هذا السؤال ليس من بينها حالة
الاستقواء والتجبر التى تعيشها الجماعة الآن، لأن القارئ المتأنى للتاريخ
القريب يدرك أن الجماعة منذ نشأتها وحتى الآن تنشط وتشتد ويعلو صوتها وتظهر
قوتها فى عهد الحكومات الضعيفة الواهنة والمتهالكة، فلا عجب أن ترى
الجماعة فى نفسها القوة الوحيدة الفاعلة والمؤثرة، وبالتالى تقدم نفسها على
أنها الداعم الأساسى للنظام وللحكومة أو بلغة الإعلانات «الراعى الرسمى»،
وقد لعبت الجماعة هذا الدور بكفاءة عالية مع حكومات ما قبل ثورة يوليو عام
١٩٥٢ باستثناء حكومات بعينها، كان الفداء بينها وبين الجماعة شديداً ولا
يسمح بأى تقارب.. وكأن التاريخ يعيد نفسه فعندما قامت ثورة يوليو لم يبتعد
الإخوان عنها وإنما حرصوا على أن يكونوا جزءاً منها وأخذوا على عاتقهم مهمة
قطع الطريق على قوات الجيش الإنجليزى إذا تحركت من معسكرات الإسماعيلية
إلى القاهرة لقمع الثورة لكن الإنجليز لم يتحركوا من الأصل وكفى الله
«الإخوان» شر قتال الإنجليز.. إلا أن هذا الأمر هو الذى جعلهم شركاء فى
الثورة بشكل أو بآخر..
وعلينا أن نتوقف قليلاً أمام قيادات ثورة يوليو
واتجاهاتهم السياسية والدينية، التى لم تكن خفية أو سرية، فمثلاً كان
عبدالمنعم عبدالرؤوف وأبوالمكارم عبدالحى عضوين فى الجماعة، وقد رفضا أن
يكون الولاء والإخلاص لتنظيم الضباط الأحرار دون غيره، أيضاً كان كمال
الدين حسين وأنور السادات وحتى جمال عبدالناصر نفسه - كانت علاقتهم طيبة مع
الجماعة، أما المجلس العسكرى القائم على إدارة البلاد الآن، فنحن لا نعلم
شيئاً عن اتجاهات أعضائه، وبالتالى لا نعرف من منهم الإخوانى ومن منهم
العلمانى ومن منهم سلفى الهوى، ولا يجب أن نصفهم حسب حالة الانتعاش التى
تصيب التيارات المختلفة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية إلى أن يكشفوا عن
أنفسهم ويعلنوا عن هويتهم.. هذا لأن ما يحدث على الساحة الآن يكاد يكون
صورة مشابهة تماماً لما حدث فى أعقاب ثورة ١٩٥٢، حيث تم فتح صفحة بيضاء
تماماً مع الجماعة على اعتبار أنه عهد جديد يتطلب التعامل مع جميع أطياف
الشعب المصرى بمكيال واحد، بل إن الجماعة حصدت الكثير من الدلال،
فتم
الإفراج عن جميع المعتقلين وأيضاً أطلق سراح السجناء من الإخوان المحكوم
عليهم فى قضايا جنائية بواسطة محاكم مدنية، ومنهم قتلة المستشار الخازندار
ورئيس الوزراء النقراشى باشا، وأكثر من ذلك رحبت الثورة بمشاركة الجماعة فى
الحكم وخصصت ثلاث وزارات يتولى أمرها ثلاثة من رجال الجماعة، إلا أن
المرشد العام وقتها المستشار الهضيبى ومن معه، لم يقنعوا بكل هذا وأرادوا
السيطرة الكاملة على الثورة وإخضاعها لطاعتهم وفرض وصايتهم عليها، وعندما
رشح جمال عبدالناصر ثلاثة من الإخوان لتولى ثلاث حقائب وزارية قبلت الجماعة
بشرط أن يختار مكتب الإرشاد الوزراء الثلاثة، وأن يحدد المكتب أيضاً
الوزارات الثلاث، والمنطقى جداً أن يرفض عبدالناصر رغم حاجته إلى دعم
الإخوان وعدم انتقالهم من خانة الأصدقاء إلى خانة الخصوم، خصوصاً أن ثورته
كانت محاطة بالأعداء من الداخل والخارج.. إلا أن الإخوان لا يرون إلا
الإخوان ولا شىء غير ذلك وحساباتهم دائماً وأبداً تكون معنية أولاً وأخيراً
بالجماعة..
الوزير الشيخ الإخوانى عضو مجلس الإرشاد الذى قبل أن يكون
وزيراً للأوقاف تم فصله من الجماعة تماماً.. ولأن العقلاء يدركون أن لا
مبادئ فى السياسة ولا أخلاق ولا دين، فإن الجماعة غاصت بقدميها فى وحل
السياسة حسب قواعدها وثوابتها وهى المفتونة بقوتها وتقديراتها الخاطئة بأن
الثورة لن تستمر دون دعم الإخوان ومساندتهم لها.. لكن جمال عبدالناصر كان
زعيماً بحق.. قوياً بحق لا يعرف الخضوع، كما أنه أدرك بسرعة أغراض الإخوان
الخفية والحقيقية، وكان عليه أن يصمد ويواجه ويلعب مع الإخوان بنفس
طريقتهم، متحاشياً الصدام المباشر معهم، إلا أن الدلائل كانت تشير بقوة إلى
حدوث هذا الصدام، كان رأس الجماعة ومرشدها هو المستشار الهضيبى وهو من
هو..
رجل قانون من أسرة ثرية لها مكانة اجتماعية مرموقة، اشتغل
بالمحاماة فى مدينة سوهاج، ثم انتقل إلى سلك القضاء بمرسوم أصدره الملك
فؤاد، وكان شديد الإعجاب بالمرحوم حسن البنا، فصار من أتباعه، إلا أن
علاقته بالإخوان ظلت مستترة، نظراً لعمله بسلك القضاء، وأول من رحب به
لخلافة حسن البنا - وأرجو ألا يندهش القارئ المحترم - هو الملك فاروق نفسه
عدو الإخوان الأول والمحرض بل والآمر بقتل المرشد حسن البنا، ذلك أن حكومة
«إبراهيم عبدالهادى» استمرت قائمة لمدة ثلاثة أشهر بعد مقتل البنا ثم جاءت
حكومة «حسين سرى» التى أجرت انتخابات فاز فيها حزب الوفد باكتساح، وجاءت
حكومة وفدية على غير رغبة الملك الذى أصابه الرعب.. وعُقد مجلس البلاط لبحث
هذه المسألة، فكان الرأى هو إعادة جماعة الإخوان إلى الساحة على اعتبار
أنها القوة التى تقدر على مواجهة الوفد،
ونظراً لانعدام الثقة بين الملك
والجماعة لم يكن متحمساً لهذا الاقتراح، وأعلن أنه غير موافق إلا إذا كان
المرشد تابعاً له ومؤيداً لجلالته، وعليه تم طرح اسم الشيخ أحمد حسن
الباقورى، لأنه زوج ابنة الشيخ «دراز»، عضو مجلس البلاط ونسيب القصر،
وعندما وصل إلى علم الملك أن الجماعة تنوى الدفع بالمستشار الهضيبى لمنصب
المرشد، كانت مباركة الملك جاهزة، لأن المرشد الجديد فى عنقه دين للملك
فؤاد الذى عينه قاضياً، ولأن ابنه (مأمون الهضيبى) متزوج من ابنه «محمد
نجيب باشا سالم»، ناظر الخاصة الملكية، عضو مجلس البلاط.. وبهذا ارتبط
القصر مع الجماعة بعلاقة مصاهرة.. وهكذا السياسة دائماً.. المهم بعد انتهاء
شهر العسل بين عبدالناصر والإخوان أعطى الهضيبى وفريقه كل الدعم والمساندة
لمحمد نجيب فى صراعه مع عبدالناصر، وهذا كان يعلمه الأخير ويتحول عنده إلى
رصيد من الغضب.
زعيم إخوانى آخر له مكانة شامخة وتأثير ممتد حتى يومنا
هذا، هو الأستاذ سيد قطب الذى كان صديقاً ومعاوناً لعبدالناصر فى هيئة
التحرير، ومغالياً ومتشدداً فى ثوريته، إلا أنه انقلب على الثورة فجأة، حيث
كان يطمع فى منصب وزير التربية والتعليم، الذى ذهب إلى غيره، فكان السخط
والتمرد على الثورة، ثم الانقلاب الحاد والانضمام إلى جماعة الإخوان، وتحول
الصديق إلى خصم عنيد وحاقد، والمؤيد فى إسراف وحماس، إلى معارض شرس، وهو
الذى ابتكر «قرفان أفندى» وبدأ فى توجيه سهام السخط والكراهية إلى ثورة
يوليو ورجالها، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر.
والآن..
لو
تأملنا ما يجرى على الساحة المصرية منذ ثورة الشباب الشعبية ومشوارها
القصير منذ نهاية يناير وحتى الآن، نجد أن جماعة الإخوان كانت بعيدة تماماً
عن المشاركة فى الثورة عند اندلاعها، كانت تراقب وترصد فى حذر وحيطة،
وعندما ظهر أن الثورة تتصاعد وأن عودها يشتد ويقوى وتأكدت أن الناس مع هذه
الثورة، أقدمت على المشاركة والدكتور عصام العريان، المتحدث باسم الجماعة،
قال فى تصريح بثته قناة العربية أو الجزيرة، إن الجماعة تشارك فى الثورة
شأنها شأن بقية الثوار على اختلاف اتجاهاتهم، ولا يوجد أى اعتراض على هذا
الكلام لأنه حقيقى ولم يشارك الإخوان فى الثورة مستخدمين شعاراتهم الزاعقة
والمعروفة، ولم يستخدموا أدوات التعريف الخاصة بهم، وكان من الصعب تمييزهم
وسط الجموع الثائرة التى تصرخ فى طلب الحرية،
وبمجرد رحيل النظام وقدوم
المجلس العسكرى بدأت الجماعة تلعب لحسابها وبنفس طرق اللعب القديمة، حيث
بدأ الانسحاب التدريجى والانسلاخ عن فصائل الثورة المتعددة، وبدأت تعدو، بل
وتقفز، إعلامياً، حتى تحتل صدارة الثورة، ولاسيما أنها وجدت من يدعمها
بشكل واضح، وهو المجلس العسكرى الذى باركها يجعل لجنة تعديل الدستور
إخوانية الطابع والمنهج، وسرى الهمس فى الشارع المصرى بأن الإخوان قادمون،
وبقدرة قادر تحول الإعلام الذى كان يطبل ويزمر للحزب الوطنى إلى الطبل
والزمر لجماعة الإخوان، وزاد عليه الرقص أيضاً، وهكذا أصبحت جماعة الإخوان
هى الليمونة فى «البلد القرفانة»، وفى هذه الأيام تحديداً تقوم الجماعة
بوضع المطبات الصناعية أمام
جميع القوى السياسية والوطنية التى تعلم
يقيناً أنها لن تتفق معها فكرياً وسياسياً، وفى جرأة ممجوجة يعلن زعماء
الجماعة فى لقاءاتهم الإعلامية أن الثورة كانت ثورة إخوانية، وأن كتائبهم
القتالية هى التى قامت بالحماية والرعاية، ولأن الجماعة تسعى إلى سرقة
الثورة، فإن الدهشة لا تصيبنا كثيراً، ولكن الذى يدهشنا حقاً هو عملية
السطو العلنى التى أقدمت عليها الجماعة فى جسارة غير النبلاء، صحيح أن
الجماعة الآن هى «الجميلة» التى يغازلها الجميع، حتى خصومها، وحتى الذين لا
يملكون القدرة على الغزل، بالإضافة إلى الذين يلتزمون الصمت، خوفاً ورهبة،
وأيضاً الذين تعودوا على المهادنة على طريقة «أفلح إن صدق»، وكأنهم يصدقون
مراوغات الجماعة التى لا تنتهى، فى هذا المناخ الطيب جداً بالنسبة لها،
وحالة الانتصاب المفاجئ التى ألمت بقياداتها، انسلخت تماماً عن ثورة
الشباب، التى كانت فصيلاً منها يوم أن كان أهل مصر جميعاً كتلة بشرية واحدة
موحدة الأهداف ومشبعة بالوطنية الخالصة،
بدأت الجماعة تلعب لحسابها
فقط، من الذى يفرض عليها أن تكون دائماً فى خصومة من أى نوع ومع أى فريق
ولأى سبب، ولكن لم يكن أحد يتصور أن تكون الخصومة مع فصائل الثورة الأخرى،
حتى لو كانت هناك اختلافات جوهرية تستدعى الانسلاخ أو الانسحاب ولا يجب
الطعن والتخوين وتوجيه الاتهامات إلى الأطراف الأخرى بلا سند، فالبيان الذى
أصدرته الجماعة بمناسبة جمعة الغضب الثانية ورفض الجماعة المشاركة، تجاوز
الرفض وذهب مباشرة إلى اتهام الآخرين بتهم مطابقة تماماً للتهم التى كانت
توجه إليهم من قبل النظام السابق وحزبه الوطنى، ولم يقتصر الأمر على ذلك،
بل تم توزيع منشورات صفيقة تنهال على المؤيدين للمظاهرة، بأنهم شيوعيون
وعلمانيون، بالإضافة إلى بذاءات أخرى، وهكذا عملت الجماعة على تحطيم حالة
التوحد التى شملت الشعب المصرى كله ورفعت سيفها وضربت به الثورة، فقسمتها
إلى أجزاء مختلفة ومتنافرة، لقد غاب عن الجماعة أن قسوة النظام السابق وشدة
فساده ورغبة الجماهير فى محاسبة رموزه والقصاص العادل منهم جميعاً، لا
تجعلنا كمصريين نقبل بكل ما يفرضه علينا المجلس العسكرى، وأن نقول «آمين»
لحكومة المبشر الدكتور عصام شرف، بلاها ثورة إذا كنا سنصبح على ما كنا
عليه، وأن مبدأ الطاعة المطلقة يخص جماعة الإخوان وحدها ولا يخص أهل مصر
بكل فئاتهم وانتماءاتهم..
وليس المهم هنا هو الخطأ أو الصواب، وإنما
الرأى والرأى الآخر، وكشف الأخطاء وأوجه القصور والمطالبة بكل ما هو أفضل،
ولكن جماعة الإخوان مازالت تعيش فى نفس جلبابها القديم، فربما تكون قد
أوهمت المجلس العسكرى الحاكم بأن لديها القدرة على دعمه وصد معارضيه وتأديب
منتقديه، وبالتالى تحصل على مكاسب جديدة، وهذا أمر عادى بالنسبة للجماعة،
فهى التى كانت تدعم حكومات مثل حكومة صدقى باشا وحكومة محمد محمود وأيضاً
على ماهر، وكلها حكومات كانت تخشى حزب الوفد وتهابه، وحتى حزب الوفد نفسه
أرهبته وابتزته وحصلت على مكاسب عديدة فى ظل حكومته..
ويبدو أن الجماعة
باعت الثورة وتريد أن تكون فتوة النظام الحالى، وكأنها لم تستوعب درس الحزب
الوطنى الذى اعتمد على البلطجية، ويسرقها الخيال المأفون إذا توهمت أن
الجيش قد يحتاجها، والوهم الأكبر أن تعتقد أن هناك من هو ضد القوات
المسلحة.. وعلى قادة الجماعة أن يراجعوا رائعة «نجيب محفوظ» (الحرافيش) حتى
يدركوا أن كل الفتوات تم دحرهم على أيدى أهل الحارة.. ولو أن الجماعة
أعلنت عدم المشاركة، واكتفت ولم تشارك دون أن تجعل من نفسها عدواً لمن
يريدون المشاركة لكان الأمر غاية الديمقراطية ويقابل بالاحترام.. إلا أن
الجماعة هى الجماعة.. وكأنها لا تعرف المثل الروسى الذى يقول «لا تبصق فى
البئر فقد تحتاج أن تشرب منه مرة ثانية».
وعن نفسى فأنا لم أكن متحمساً
لهذه المظاهرة بالقدر الكافى، خاصة أن لها مطالب لا أوافق عليها، منها
الإسراع بمحاكمة رموز النظام.. العدالة يجب أن تأخذ مجراها، ويجب أن يأخذ
كل متهم حقه الكامل فى الدفاع عن نفسه، وتوفير جميع ضمانات العدالة،
والإسراع هذا لو تم فإنه كفيل بالطعن على الأحكام الصادرة بالبطلان، وإساءة
إلى النظام القضائى نفسه..
كما أننى، وأنا شديد الصلة بالشارع المصرى،
أتألم بشدة لوقف الحال الذى يعانى منه الغنى والفقير، ولكن عندما شاهدت
القيادى الإخوانى الذى يتعمد الظهور إلى جانب أى مسؤول حالى، وهو يقول فى
برنامج تليفزيونى إن مظاهرة الغضب الثانية سوف تفشل ولن يذهب إلى الميدان
إلا أعداد قليلة، حتى تمنيت أن يكون الخروج فى هذا اليوم رداً على هذا
التعالى، وأن يكشف أهمية القوى الوطنية التى لا تنتمى للإخوان.. ورغم حرارة
الجو والحملة الإعلامية التى شملت كل وسائل الإعلام وتحذر من الخروج إلى
المظاهرة، فإن الشباب الذى خرج يوم ٢٥ يناير هو نفسه الذى تواجد فى الميدان
يوم الجمعة ٢٧ مايو.. شباب يريدون لمصر الخير والعزة والكرامة حتى لو
أخطأوا قليلاً، وحتى لو انفعلوا كثيراً.. يكفى أنهم يخرجون من أجل وطن لا
من أجل جماعة.
رمضان الغندور