والاختبار
الحقيقي لقدرة أية جماعة بشرية أو أمة على التعلم بشكل جيد من دروس
التاريخ هو موقعها فيما بعد من دروسه، هل تصبح نموذجًا يُحتَذَى، أم عبرة
يتجنب اللاحقون الوقوع في أخطائها..
ولأننا نعيش مرحلة ثورية تستحق
هذا النظر، فإن علينا أن ننظر في ثورات من سبقونا؛ لكي نتعلم من الأخطاء
التي أفشلت ثورات البعض، والإيجابيات التي أنجحت البعض الآخر..
وهذه بعض النماذج..
الثورة الفرنسية
عندما
يحتاج شعب أقام أشهر وأول ثورة في التاريخ الحديث لحوالي ثمانين عامًا
ليستقر وطنه، فإن تجربة هذا الشعب تستحق أن نتعلم منها كيف نخلق لثورتنا
استقرارًا أفضل..
ففرنسا التي اشتهرت بثورتها على الملكية والإقطاع
وسيطرة الفرد باسم "الحق الإلهي في الحكم" لم تستقر ثورتها الجمهورية التي
قامت سنة 1789 إلا سنة 1871!
كانت الثورة الفرنسية نتيجة قرون من
سيطرة الطبقة المالكة وطبقة النبلاء ورجال الكنيسة -متحالفين- على مقدّرات
شعب يطحنه الفقر والجهل والتدهور في مستويات الحياة الإنسانية، قامت الثورة
في أغسطس 1789 بيد الجماهير الجائعة للخبز والكرامة، واحتلت سجن الباستيل
الشهير، منهية عهدًا من الرعب والتعذيب، وخلعت الملك لويس السادس عشر،
لتدينه بخيانة شعبه، وتعدمه على المقصلة سنة 1793 هو وأسرته ونبلاؤه، وألغت
سلطة الكنيسة على السياسة؛ لتقرر علمانية الدولة الفرنسية، كما قامت
بإلغاء الإقطاع وسيطرة النبلاء على الأراضي الزراعية، وأسّست في فرنسا
نظامًا جمهوريًا يقوم على شعارات الثورة الفرنسية الثلاث "المساواة -
الإخاء - الحرية".
كما يبدو لنا فكل هذه الإنجازات عظيمة تستحق
التقدير، فكيف دخلت فرنسا في دوامة فوضى الحكم، وانتقالها بين عدة أنظمة
غير مستقرة خلال 80 سنة؟ وكيف كان عمر التجربة الثورية الأولى مجرد 10
سنوات من تلك الحقبة حتى انقلب عليها الجيش بقيادة بونابرت، مقيمًا نظامًا
إمبراطوريًا فرديًا جديدًا؟
كانت مشكلة قادة الثورة الفرنسية أنهم
سكروا بنشوة انتصارهم، فنسوا أنهم بشر يخطئون ويصيبون، مما جعلهم يتوسعون
في تصنيف كل من يقول ما لا يروقهم أنه "عدو للثورة".. والنتيجة الطبيعية
كانت إهدار مبادئ الثورة، فقد تحوّلت محاكم الثورة -المخصصة أساسا لمن
أساؤوا بالفعل لفرنسا في العهد الملكي- إلى وسيلة لتصفية الحسابات بين
الخصوم، فما كان أسهل أن يلفّق أحدهم للآخر تهمة "التآمر على الثورة"
لتسارع المحاكم الثورية بالقبض عليه وإرساله للمقصلة، هكذا دون تفكير أو
تدبر فيما إذا كان بريئًا، بل بالعكس، كان المتهم مدانًا حتى تثبت براءته
-إن ثبتت- فقد تبنّت المحاكم الثورية مبدأ شاذًا هو أن إصرار المتهم على
براءته ما هو إلا دليل قوي على خيانته!
نصب الثوريون إذن أنفسهم
آلهة يحكمون على البشر وفق أهوائهم.. فأهدروا مبدأ "المساواة" الذي نادوا
به، وأما مبدأ "الإخاء" فراح في خبر كان، حيث انقلب الثوريون على أنفسهم
جراء الأطماع الشخصية في السلطة والنفوذ، ورغبة كل منهم في إزاحة منافسيه
عن مقاعد الحكم، ونسوا أنهم إخوة في الكفاح ضد الظلم والطغيان، وأما
الحرية، فضاعت مع تكميم كل الأفواه المنتقدة لتلك الممارسات التي استحق
عصرها وصف "عصر الإرهاب" بجدارة، حتى قالت إحدى ضحايا الثورة تلك العبارة
الشهيرة: "أيتها الحرية.. كم من المهازل ترتكب باسمك" قبل أن يهوي النصل
على عنقها، فيلحقها بضحايا أبرياء كانوا أكثر ممن استحقوا بالفعل العقاب..
كان من الطبيعي إذن أن يلملم فلول أعداء الثورة من البرجوازيين المعتدلين
وأصحاب الميول الملكية أشلاءهم، ويوحّدوا صفوفهم، وينجحوا في التحالف مع
الجيش ليجعلوه ينقلب سنة 1799 بقيادة جنرال طموح هو نابليون بونابرت على
النظام الثوري الذي الْتهم نفسه، ليصبح ديكتاتورًا جديدًا ويعيّن نفسه -بعد
انقلابه بخمس سنوات- إمبراطورًا على فرنسا، ويُدخل بلاده حروبًا توسّعية
طاحنة امتدت من شمال أوروبا لمصر والشام جنوبًا، وانتهت بانهيار الدولة
وهزيمتها، ثم عودة الملكية مرة أخرى على يد أسرة البوربون!
ثم بعد
ذلك دخلت فرنسا عقودًا من الأنظمة المختلفة بين ملكية وإمبراطورية ثم
أخيرًا قامت الجمهورية الفرنسية الثالثة سنة 1871 لتعرف الثورة بعض
الاستقرار!
لماذا حدث كل هذا لثورة كانت واعدة ومبشرة بحمل مشعل
الحرية لأوروبا كلها؟ ثورة ألهمت ثوار العالم كلهم فيما بعد، وجعلت ملوك
أوروبا المعاصرين لها يرتجفون؛ خوفًا على عروشهم فيسارعون إما لمحاربتها أو
للقيام بإصلاحات تمنع تسللها لنفوس شعوبهم المتعطشة للحرية؟
هل
كان السبب هو ضعف الخبرة السياسية والفكرية للثوار؟ بالعكس، فقد سبقت
الثورة الشعبية ثورة فكرية قادها مفكرو فرنسا أمثال جان جاك روسو
ومونتسكيو وفولتير.. هل كانت الحماسة الثورية ناقصة؟ بالعكس تمامًا؛
فالحماسة الثورية كانت في أعلى معدلاتها..
إنما أضعف الثورة
الفرنسية أن زعماءها ركّزوا على تغيير النظام الحاكم، ولكنهم لم يغيّروا
من أنفسهم، لم يصبحوا أكثر تقبّلاً للآخر، ولا تذكّروا أنهم في النهاية
إنما قاموا بالثورة لإعادة الحرية لشعبهم، لا ليكونوا هم الزعماء والسادة
ويستبدلوا طغيانا بطغيان.. تعاملوا مع عامة الشعب الفرنسي على أنهم قُصَّر
لا يعرفون مصلحتهم، فصنع هذا من كل منهم ديكتاتورًا يرفض أي فكر مغاير
ويقصيه.. ويحمل تهمة جاهزة بالخيانة لكل من يختلف معه.. وتعاملوا جميعًا
مع وطنهم باعتباره كعكة يستحق كل منهم نصيبًا منها، أو ربما يرغب في
التهامها كلها وحده!
باختصار.. تنازعوا.. ففشلوا.. فذهب
ريحهم.. فأضاعوا تضحيات شهداء ثورتهم وجنوا بأيديهم على بلادهم التي
احتاجت عقودًا طويلة حتى تتعلم الوحدة والاتفاق والتفاهم.. وتخرج من
الفوضى التي كانت ثمنًا لعدم تعقل الثوار وإدراكهم أنهم في النهاية.. بشر.