تنص قوانين الطبيعة على أن لكل فعل ردّ فعل مساوياً له في المقدار ومعاكساً له في الاتجاه.. وهكذا كانت أحوال البشر في شئونهم الاجتماعية والسياسية؛ فالقمع لا يولّد إلا قمعاً، والقهر لا يولّد إلا ثورة، والاستعمار لا يولّد إلا مغالاة في التمسك بالجذور.
وبطلنا اليوم هو الذي قاد الحركة الإسلامية في أنحاء الشرق؛ في مواجهة الاستعمار وذيوله، وحَفِظ ميزان القوى الفكرية والعقدية؛ فكان لإخلاصه في دعوته عظيم الأثر في التفاف الجماهير الإسلامية حوله.. كان يسميه الأستاذ سيد قطب "المسلم العظيم".. وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي: "إنني لا أعرف رجلاً أثّر في الجيل الإسلامي الجديد فكرياً وعملياً مثل المودودي؛ فقد قامت دعوته على أسس علمية، أعمق وأمتن من أسس تقوم عليها دعوات سياسية، وردود فعل للاستعمار الأجنبي".. وقال عنه الدكتور القرضاوي: "كان المودودي طبيباً لأمته، عرف حقيقة دائها وجرثومته الأصلية".. ووصفه الأستاذ عمر التلمساني بأنه توأم الإمام حسن البنا؛ فكلاهما خرج من منطلق واحد، ونشد نتيجة واحدة هي استخلاف المسلمين في الأرض؛ وإن اختلف منهجاهما.
وبغضّ النظر عن الإيمان الكامل بمنهجه أو اختلاف الرؤية معه في بعض المناحي، يظلّ من العار ألا نعرف تاريخ بطولة هذا القائد المجدد، إنه الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي.
رحلة الكفاح والجهاد
أبو الأعلى المودودي من أسرة هندية تمتد جذورها إلى شبه جزيرة العرب.. وُلد في أورنك أباد (إحدى مدن الهند) سنة 1903م، وحرص ولده على أن ينشئه نشأة دينية، فعلّمه اللغة العربية والفارسية والقرآن الكريم والفقه والحديث؛ حتى اجتاز ما يعادل شهادة الليسانس.
ووجد الشاب نفسه مضطراً لحمل المسئولية مبكراً؛ حيث أصيب والده بالشلل، وضاقت سبل العيش بالأسرة؛ فعمد المودودي إلى قلمه يأكل به لقمة عيشه؛ فكتب في عدد من الصحف.
ومن خلال ذلك ذاع صيته فنافح عن الإسلام بمقالاته وكتبه التي ردّ بها على المشككين في منهج الإسلام وفلسفته؛ فكان له عظيم الأثر في انتشار التيار الإسلامي في الهند إبان النكسة العظيمة التي منيت بها الهند أثناء وبعد الاستعمار الإنجليزي الذي قضى على أخضرها ويابسها؛ فدمرها اقتصادياً واقتاد أهلها قسراً في حروبه مع الألمان.
وفي هذه الأثناء دعاه المفكر محمد إقبال سنة 1937 إلى لاهور ليمارس نشاطه الإسلامي البارز بها؛ فلبّى المودودي دعوة إقبال.
وعندما توفي إقبال توجهت الأفئدة إلى المودودي ليخلف صاحبه في الفكر والدعوة؛ فأسس "الجماعة الإسلامية" في لاهور، وتم انتخابه أميراً لها في 1941.
وأصرت الجماعة -بعدما نقلت مقرها إلى هناك بعد تشرذم المدن الهندية وضياع وحدتها وبداية دولة باكستان- على الضغط على الحكومة الباكستانية لوضع دستور إسلامي متكامل؛ لكن الحكومة رفضت واعتقلت عناصر الجماعة عدة مرات، ثم اضطرت مع ضغط الجماهير لقبول دستور ديني قام عليه 30 عالماً على رأسهم المودودي؛ لكنها ضاقت عن تطبيقه، ولجأت إلى الأحكام العسكرية؛ لكن ذلك لم يصرف المودودي وبقية أعضاء الحركة عن الاستمرار في المطالبة بتطبيق النظام الإسلامي.
وفي سنة 1953 حُكم عليه بالإعدام؛ فثار الرأي العام، وهبّت الدعاوى من كل أنحاء العالم تستنكر ذلك الحكم؛ فاضطرت الحكومة لتخفيفه إلى المؤبد، ثم العفو الكامل عنه.
وظل المودودي يُشرف على عمل الجماعة وعلى رسالته؛ حتى هدّه المرض؛ فاعتذر عن قيادة الجماعة سنة 1972، ثم حصل على جائزة الملك فيصل سنة 1979 عن فكره وفلسفته ومؤلفاته الإسلامية.
الجماعة الإسلامية والمودودي سياسياً
في قيود الاستعمار رسف الوطن العربي والإسلامي؛ حيث تقاسم الغرب منطقة الشرق واستعبدوا مسلميه، وساموهم سوء العذاب والهوان، وعملوا على محو الهوية الدينية والقومية، وأدى ذلك إلى اختفاء كثير من الجوانب الحياتية للإسلام والمعارف الإسلامية.. وإذا كان العالم العربي قد ذاق ويلات ذلك؛ فإن الهند ودول الشرق الأدنى قد ذاقت مرارة ذلك أضعافاً؛ فأعادوا تشكيل عقولهم على ما يبغون من تضليل وحرمان من جذور التاريخ والثقافة؛ فبحث المودودي عن النظريات الإسلامية التي ينبغي أن نُدرك كنهها؛ فالإسلام ليس مجموعة من الأفكار المبعثرة؛ بل هو منهج محكم تترابط أواصره ويفضي بعضها إلى الآخر فتخرج مسلماً متكاملاً.
تناول المودودي في كتاباته قضايا العقيدة والخصائص الأولية للدولة الإسلامية؛ كالحاكمية والتشريع ونحوهما.. وقام بشرح نظرية الإسلام وهديه في السياسية والقانون والدستور.
كما تكلم عن أهل الذمة في الإسلام، وعن حقوقهم في حدود القانون بحرية تامة في دياناتهم وعباداتهم وثقافاتهم وتعليمهم الديني، وكذلك يكون من حقهم أن يطالبوا بالقضاء في أحوالهم الشخصية حسب قانونهم الديني أو رسومهم وتقاليدهم.. وعلى هذا قامت المبادئ الأولى للجماعة الإسلامية.
من البنا إلى المودودي ونظرية الهرم المقلوب
إذا كان المودودي ينطلق مع حسن البنا من منطلق واحد، وينشدان نتيجة واحدة هي استخلاف المسلمين في الأرض كما جاء في المنهج القرآني {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ فإن الإمام البنا قد وضع أساسه قاعدة الهرم؛ أي بناء المجتمع والتزكية الروحية التي تؤهله لتقبل نظام إسلامي يطلبه المجتمع ذاته ولا يُفرض عليه؛ بينما كان أساس المودودي هو رأس الهرم؛ أي أن ثورة الإصلاح يجب أن تكون بجذور صالحة قوية، بتغيير شمولي لكل عناصر الفساد، والبدء بدستور وحكم إسلامي متكامل (رأس الهرم) يستطيع المجتمع في ظله أن يمارس حريته ويستلهم ثقافته.
ولعل هذه الأولوية هي ما دفعت بالجماعة الإسلامية بعد الشيخ المودودي، إلى المواجهة المسلحة أحياناً لتطبيق الإسلام الشمولي بالقوة، التي كان المودودي ينأى بنفسه عنها، ويرفضها.. غير أنه مع ذلك ظل مصرًّا على فكرة الإسلام الكامل والمجتمع الجاهلي التي استلهمها من بعده ونادى بها الأستاذ سيد قطب.
مؤلفاته
خلّف لنا الشيخ المودودي تراثاً ضخما، بث فيه أفكاره وفلسفته النافذة العميقة للفكر الإسلامي، وأرسى الكثير من مبادئه التي موّهها الاستعمار والغزو الغربي فكان له أكثر من سبعين مؤلفاً أشهرها:
- الجهاد في الإسلام.
- الحضارة الإسلامية أصولها ومبادئها.
- نظرية الإسلام السياسية.
- تجديد وإحياء الدين.
- المصطلحات الأربعة في القرآن
-الإسلام والجاهلية
- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية
- نظام الحياة الإسلامي
- حقوق أهل الذمة
- مطالب الإسلام تجاه المرأة المسلمة
- القاديانية
- تفسير تفهيم القرآن.
وانطفأ السراج
وفي نهاية عام 1979 انطفأت شعلة الحق التي أضاءت سنوات تدعو إلى الله على بصيرة وشجاعة وعلم ونفاذ بصيرة، ورحل الشيخ المودودي إلى رحاب ربه، ولكنه بقي قدوة ونبعاً صافياً من منابع الإسلام الصافي والعقيدة الخالصة.