حالة
الانفجار الرهيب في إخلاء السبيل للضباط المتهمين بقتل المتظاهرين
بالإسكندرية والسويس، ثم البراءة لعدد من وزراء العهد البائد، خطأ لا يمكن
تجاهله أو إبداء حسن الظن تجاهه؛ فقد نرى في مرحلة لاحقة براءة السيد
الرئيس من جميع التهم المنسوبة إليه، وقرار بانضمام الشعب كله إلى حزب
"آسفين يا ريس"!!
ودون فيضانات عاطفية يجب أن نفكّر في الأمر
بعقلانية، وموضوعية، وذكاء؛ حتى نصل إلى أسباب ما يحدث، وكيف السبيل إلى
إدانة من يستحق، دون ألاعيب قانونية واللعب بعدالة قاصرة عن تطبيق المنطق..
ونبدأ بالأسباب:
أولا: قانون عاجز
المحكمة فوق دماغي من فوق ولكن أي محكمة؟ المحكمة اليوم تحكم بمعطيات
قانونية وضعها "المخاليع"؛ بحيث تقنن الفساد وتشرعن السرقة، وتجعل من
موافقة عصابة برلمان مزيف ستارا لكل عمليات النهب والسلب المنظمة لخيرات
البلاد.. أنا لا أتهم القانون كل القانون، ولكني أناقش قوانين مفصلة وكجهزة
أعدها ترزية خبراء ومتخصصون في صنع الثغرات؛ لخدمة أصحاب المصالح..
لا شك أن البنية القانونية والتشريعية في مصر تعرضت خلال الفترة البائدة
إلى حالة من التعديلات المعيبة؛ لتوائم حالة الفساد العام، وتستره
بالقانون.. ومطلوب من هذا القانون الآن أن يحكم على صانعيه.. أي منطق إذن؟!
قوانين أباحت التعذيب إلا أن يشهد به شاهد من أهلها، وأتاحت صفقات
الفساد ما دام قد أيّدها أغلبية أعضاء مجلس غير موقّر. وسمحت بنسبة سمسرة
للرئيس وأسرته في بيع ممتلكات الشعب، وتركت البلد نهيبة سقع للحرامية ولا
الحزب الواطي!
القانون الحالي لا يوجد ضمان واحد على نزاهته وشرفه، ولا يوجد رقيب على تطبيقه، ولا يوجد شاهد واحد على تزويره..
باختصار
هذه هي حالة القانون الذي تُحاكم به اليوم ثلة أفسدت البلاد ولعبت بأرزاق
وأرواح العباد.. فهل يصح أن يحاكم متهم أمام قانون صممه ليبرئه دائما؟؟
ثانيا: يد قصيرة
دعونا
نعترف أن يد العدالة قصيرة، وقدراتها مكبلة، وسرعتها محدودة.. فمع ثقتنا
في قضائنا الذي يُضرب به المثل في النزاهة والشفافية، فإن القضاة أنفسهم
يعترفون بأنهم ملاحَقون وغير مستقلين، وأن هناك قيودا جمة تمارس على حريتهم
في تطبيق القانون..
وقد رأينا جميعا كيف تأخرت الجهات المعنية في
إصدار قرارات تجميد أموال الحرامية السباقين في الخارج، فهدرت الملايين،
وتأخرت في إصدار أحكام بالمنع من السفر، فهرب بعض الفئران قبل انهيار
الحائط..
هل أحد منكم يصدّق الزعم بأن مبارك لا يملك إلا كام مليون
شايلهم في بنك مصري؟؟ بالطبع لا أحد.. فكيف إذن يثبت عليه التهمة قانون
عاجز وإجراءات ميتة من أجهزة ذات مصداقية ولكنها مكبلة، من الضبط والتحري
واتخاذ قرارات سريعة تحاسب المسئول فعلا..
ثالثا: التهمة الخطأ
الشيء
الثالث اللافت للنظر فيما يجري حاليا من محاكمات هي أنها توجه دائما
التهمة الخطأ، فاللامسئولون السابقون لا يختلف اثنان على ما اقترفوه في حق
البلاد من فساد واستعباد.. منهم من أضاع هيبة المصريين، وأهان كرامتهم،
ومنهم من ضيع استقرار البلاد وشقّ صف وحدتها، ولعب بنار الفتنة الطائفية
فيها، ومنهم من ضلل الرأي العام، وساق الجماهير كالنعاج خلف خرافاته، ومنهم
من أفسد بنية المجتمع وسبب خللا في تركيبته، ونشر الرذيلة، ومنهم من أمرض
الملايين واستوورد أعتى الأوبئة... ومنهم ومنهم ومنهم.
وها هم اليوم يحاسبون على تهم التربح وإهدار مليون هنا ومليون
هناك.. مع أن هناك فوادح وكوارث أجرموا بها في حق البلاد والعباد.. فأي
تهمة أولى أن توجه لهم إن كان المنشود هو الحق والحق فقط؟
فليخبرني عاقل أين القانون الذي يحاسب مبارك على تخلف مصر، وضياع
ريادتها، وشق الصف العربي، وضياع الحلم القومي، أو يحاكم العادلي على الرعب
الذي سببه لكل مواطن، أو يحاكم الفقي على البلاهة والبلادة التي زرعها في
عقول المصريين.. دَيْن ثقيل يقف القانون عاجزا عن سداده..
لماذا دائما توجه التهمة الخطأ، وتُتجاهل التهمة الحقيقية؟
أنا لست معنيا هنا بمعرفة من السبب، ولكن المهم بالنسبة لي أني لن أثق في حكم لم يستوف شرعيته، ولذا فما ينبني على باطل فهو باطل..
العلاج
أما العلاج فهو في رأيي يتمثل في كلمتين: الشرعية الثورية..
أخطأنا
جميعا حين قبلنا بنصف ثورة، وحين استجبنا تحت ضغط النزيف الاقتصادي وطوفان
توبة التماسيح إلى التوقف، فسبقتنا الأحداث، وتاهت منا ثورتنا في زحام
التفاصيل العشوائية..
كان يجب أن يستمر الشعب كله ويصر على هدفه
بإسقاط النظام، فما سقط ليس إلا رأس تعفّن مع الوقت فسقط في أيام، ولكن
بقية الجسد "الخنزيري" ما زال يحتاج إلى مزيد من الضغط والكيّ حتى يسقط..
نحتاج
إلى بناء شرعية جديدة، تُسقط القديم كله، وتعيد الأمور إلى نصابها، وتفكك
قانونا عجز عن استرداد أموالنا وحقوقنا ودماء أبنائنا..
نحتاج إلى شرعية جديدة تعدّل مسار العدالة..
نحتاج إلى ألا نخضع لأحكام أنصاف الثورات التي يجب أن تنتهي عشان نروح الشغل الصبح!!
نحتاج إلى جبهة موحّدة تتناقش وتتحاور وتنقل للمسئولين مطالب الثورة
المتوافق عليها، وتلتزم الجهات الحاكمة بتحقيق هذه المطالب الواضحة بلا
مواربة، بحكم موقعها كمؤيدة للثورة ومنحازة لمطالبها المشروعة.
نحتاج إلى تعديلات في قانون الإجراءات الجنائية، وإدارة التفتيش
القضائي، واستقلالها وعدم تبعيتها لوزارة العدل، وقبول مشروع قانون استقلال
القضاء.. بما يسمح بمساحة أكبر لتوجيه التهم، وتسريع المحاكمات، ومراعاة
الحالة الثورية التي تمر بها البلاد، وإدراك القانون واستيعابه لحجم الضرر
الذي سببه المخلوع وأعوانه بحق البلاد..
نحتاج إلى عدالة حقيقية وليست عدالة ورقية بيروقراطية..
نحتاج إلى العقل لا العاطفة.. وألا نقبل اعتذارات وهمية من أجهزة
تغلغل فيها الفساد فتشبعت به قياداتها، وإن تمسكنوا من باب "اضحك على شوية
العيال دول"..
يجب ألا يقبل الشعب بأن تُسرق ثورته.. يجب ألا يكون
حسن النية مع نظام أفسد ثلاثين عاما، ويُرتجى أن يتوب خلال أيام.. يجب أن
يقيم الشعب قوانينه وقواعده ولا يصح إلا الصحيح..
نحتاج إلى شرعية
ثورية.. تنسف الحمام القديم، وتعدّل وتصحح مسار العدالة والحرية، وتنشئ
حالة دستورية وقانونية جديدة، تعتمد على المنطق، ولا تعمي عيونها عن
الحقيقة من أجل بيروقراطية حمقاء تقول إن ده مش ثابت في الورق!!
لم
يمت ألف مصري من أجل فزلكة محامين، ولم يخرج الملايين من أجل اعتذار وهمي
أو دمعة تمساح.. لم نحلم بدولة ناقصة العدالة باسم العدالة، ولن نقبل بحرية
مجتزئة باسم الحرية، ولن نقبل بدولة تزدري الحق باسم القانون..
دولة
القانون ليست سيفا مصلتا على رقابنا، فبإمكاننا -نحن الثوار- أن نغيّر
القانون، وبإمكاننا ما دام الحق معنا أن نقيم الحق الذي يرتضيه المحكومون،
فما اجتمعت أمة على باطل..
أنا لا أدعو إلى إسقاط القانون فدولة بلا قانون ليست دولة، ولكني
أدعو إلى تنظيف القانون من مخلفات النظام البائد، وتنقية العدالة من العوار
والقيود التي فرضت عليه عمرا، وإلى استقلال القضاء، وتطبيق العدالة كما
يجب لا كما تقول الأوراق التي لا يخفى أن النظام المخلوع نجح كثيرا في
حرقها وفرمها كما أحرق وفرم المصريين..
لن يقبل الشعب بنصف ثورة، ولن يحترم قانونا يحرمه حقه، ولن يعترف
بمؤسسات وضعها القتلة، سيحمي الشعب ثورته وسيعدل مسار حلمه، الذي التفّ
عليه الذئاب ونام عنه الودعاء الطيبون.. سنعيد حلم مصر إلى فَلَكه مهما
كلّف الأمر..
وعلى هذا فالكل يجب أن يرهف حواسه ويحبس
أنفاسه ويقف مشدوها إلى ثورة جديدة.. تقيم الحق على أنقاض الباطل، وربما
على أنقاض بعض الحق.. لتقيم الحق كل الحق.