روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    قانونية التجريم والعقاب في القانون والشريعة فارس حامد عبد الكريم

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 قانونية التجريم والعقاب في القانون والشريعة فارس حامد عبد الكريم

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الجمعة ديسمبر 18, 2009 11:20 pm

    مقدمة:

    يتميز القانون الجنائي بتأثره بالفكر السياسي السائد وقت تشريعه، وبقوة تأثيره على أنماط السلوك الاجتماعي ومدى الحريات العامة، ويتجلى ذلك في فرعي القانون الجنائي، قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية.

    وعلى هذا النحو يمكن تلمس الفروق الجوهرية بين نظام الدولة القانونية الديمقراطية وبين الدولة البوليسية أو الاستبدادية من خلال السياسة الجنائية السائدة. وهذا الفرق هو الذي يفسر اهتمام الفلاسفة والمفكرين والمثقفين عموماً منذ قديم الزمان بالفكر القانوني وخاصة بفرعه الجنائي. لما له من تأثير جوهري على إطلاق أو تقييد الحريات العامة وخاصة حرية المعتقد والتعبير.

    وينفذ الأثر السياسي الى القانون الجنائي عبر الدستور من خلال ما يتبناه المشرع الدستوري من سياسة جنائية وما يفرضه من مبادئ دستورية عامة تحكم قواعد هذا القانون وتنظم عملية صياغة الأفكار القانونية او الفلسفة الجنائية التي يتضمنها وهي في حقيقتها تعبير عن ايديولوجية سياسية سائدة سواء كانت رأسمالية او اشتراكية او دينية او علمانية.

    ونظراً لان الوثيقة الدستورية تتصف بالعمومية والمرونة في الصياغة يتطلب الأمر الكشف على ما تنطوي عليه من مبادئ عامة ومدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية وهذه مهمة الفقه على الصعيد النظري ومهمة القضاء على الصعيد العملي.

    والتبادل المعرفي بين الفقه والقضاء مؤكد عبر التاريخ، وغالباً ما يتبنى القضاء نظرية فقهية في التفسير والتحليل وكثيراً ما تبنى الفقهاء أحكام قضائية مبدعة استنبطوا منها نظريات عامة وليحولوها من الخاص الى العام.ويأتي بعد ذلك المشرع ليتبنى النظرية الفقهية ويدمجها في نظامه القانوني عبر التشريع.

    ومن جانب اخر يفرض قانون العقوبات أنماطا من السلوك الاجتماعي مقترنة بجزاء قانوني على من يخرج عنها، بهدف حماية المصالح العامة والخاصة والقيم الاجتماعية فضلاً عن حماية الحقوق والحريات العامة.

    بينما يتولى قانون أصول المحاكمات الجزائية،الذي يعرف في فقه القانون بأنه قانون الحريات العامة، تنظيم الحماية الدستورية للحقوق والحريات العامة في إطار المبادئ الدستورية التي تنظم إجراءات الدعوى الجزائية أثناء التحقيق والاتهام والمحاكمة القضائية وتنفيذ الأحكام وقواعد التوقيف والتفتيش وإلقاء القبض وغير ذلك من إجراءات قضائية.

    ان الهدف النهائي لقانون الأصول هو الموازنة بين الحرية الشخصية والمصلحة العامة، بمعنى اخر الموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق الفرد في الدفاع عن نفسه عن تهمة قد تكون باطلة.

    ونتناول في بحثنا هذا أصل من الأصول القانونية المتصلة بالحقوق والحريات العامة الا وهو مبدأ قانونية الجريمة والعقاب.

    المبحث الأول

    مبدأ قانونية التجريم والعقاب

    في المفهوم والأصل التاريخي

    من المبادئ المسلم بها دستورياً قاعدة (لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون) وتعرف هذه القاعدة في فقه القانون الجنائي بمبدأ الشرعية او مبدأ قانونية الجريمة والعقاب.

    ويشكل مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أحد مبادئ القانون الجزائي الضامنة للحريات العامة وحقوق الإنسان.

    ومفاد هذا المبدأ، إن اي فـعـل لا يمكن اعتباره جريمة تترتب عليه عقوبة الا اذا نص القانون على اعتباره جريمة معاقباً عليها، وبخلاف ذلك فان كل فـعـل لـم تحدد أركانه بوضوح في نص وتوضع لـه عقوبة مقررة، لا يمكن ان يعاقب فاعله. لأن الاصل فـي الأشياء الإباحة، وكل فعل لـم يجرم صراحة بنص، لا يجوز المعاقبة عليه ولو خرج على القواعد الأخلاقية وقيم المجتمع. وهذه هـي دولة القانون.

    والمبدأ هو نتاج تطور تاريخي طويل يمثل في احد أوجه صورة الصراع بين الشعوب والسلطات الحاكمة لنيل الحرية ومقاومة الاستبداد.

    ففي العصور القديمة لم تكن القوانين مكتوبة وكـان كبار رجال القبيلة يفصلون في الجرائم مستندين الى مصلحة الجماعة ولم تكن تخلو في احيان كثيرة من القسوة والتعسف والمزاجية الانية كالصلب والقتل والجلد وتقطيع الأوصال والرمي فـي البحر والإلقاء مـن مكان شاهق، او الالقاء الى الوحوش الـمفترسة.

    وكانت هذه العقوبات مبنية اساساً على رغبة الانتقام ولا تعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة، وعبر الزمن ثم تحولت تلك الاحكام الى اعراف اجتماعية.

    وابتدع العراقيون القدماء فكرة القوانين المكتوبة، وعلى هذا النحو سار قانون اورنمو(2111 ـ 2103 ق. م) وقانون لبت عشتار (1934 ـ 1924 ق. م)وقانون حمورابي (1694 ق.م)، وعلى هذا يمكن القول ان جذور المبدأ هي من نتاج الفكر العراقي القديم.

    ثم تبعتها لاحقاَ قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م).

    ولم يكن المبدأ مضمون التطبيق ولم يترسخ الا بعد نشوء وتطور فكرة الفصل بين السلطات،وان اشارت الى المبدأ بعض المواثيق التي فرضت على الملوك بالقوة مثل ميثاق هنري الاول (1100م) والعهد الاعظم في انكلترا(1215م) ومما جاء فيه (لن يسلب أي رجل حر أملاكه أو يسجن على يد رجال آخرين مساوين له إلا إذا خضع لمحكمة عادلة أو لن نبيع العدالة لأحد ولن ننكرها على أحد، ولن نؤخرها عن أحد.)، فقد كان الملوك يضعون القوانين الصارمة ولكنهم سرعان ما يتخلون عنها في اللحظة التي تتعارض مع مصالحهم، ففي عصور الملكية المطلقة كانت رغبات الملك واوامره بمثابة قانون غير ملزم له، وفي القرون الوسطى كان للقضاة سلطة التجريم والعقاب بصورة تحكمية ودون نص من القانون.

    ان الظلم المتولد عن الاحكام التعسفية والجائرة هز ضمير الفلاسفة والمفكرين والادباء فاشتدت الدعوات تدريجياً الى تحكيم مبادئ العدل والأنصاف.

    وفي العصور الحديثة تبنى كبار الفلاسفة والمفكرين مبدأ قانونية الجريمة والعقوبة، مثل روسو ومونتسكيو وفولتير وتلامذتهم الذين اسسوا العلوم الجنائية واقاموهـا عـلـى فكرة العدل والحق، ويقف عـلـى راس هؤلاء الايطالي بيكاريا.

    فقد ذهب بيكاريا الى ان القوانين هـي وحدهـا الـتـي تستطيع ان تضع العقوبـات، الـمطبقة عـلـى الجرائم.

    وتنسب صياغة القـاعـدة القانونـيـة، بشكلها الحديث الى الالـماني فيرباخ الـذي عاش فـي القرن الثامن عشر.

    ومنذ اواخر القرن الثامن عشر اصبح المبدأ مبدأً دستورياً حين تبنته الولايات الـمتحدة الامريكية فـي دستورهـا عـام 1774، وتبعتهـا فرنسا بعد ثورتهـا عـام 1789.

    كما اضحى المبدأ من الحقوق المنصوص عليها في الوثيقة الدولية لحقوق الانسان ممثلة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في المادة 11 / 2 منه.كما ونصت عليه لاحقاً العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، فضلاً عن اغلب دساتير دول العالم.

    ان فلسفة مبدأ قانونية الجريمة والعقاب تتمحور حول فكرة اساسية مفادها الموازنة بين المصلحة العامة والحريات العامة وتهدف في آن واحد الى حماية المصلحة العامة وحماية الحريات الفردية.

    ان حماية المصلحة العامة تتجسد في اسناد وظيفة التشريع الى المشرع وحده تطبيقاً لمبدأ انفراد المشرع بالاختصاص التشريعي في تنظيم الحقوق والحريات العامة لتكون بيد ممثلي الشعب لا بيد رجال السلطة التنفيذية.

    بينما تتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الافراد بما هو غير مشروع من الافعال قبل الاقدام عليها بما يضمن لهم الطمأنينة والامن الشخصي ويحول بذلك دون تحكم القاضي بحرياتهم الشخصية.

    وقد يرد المبدأ بالصيغة الاتية (لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون او بناءاً على قانون)، ويترتب على اختلاف الصيغتين اثار قانونية مهمة سنوضحها لاحقاً.

    ويترتب على هذا المبدأ عدة اثار،هي احتكار المشرع لسلطة التجريم والعقاب وان الاصل في الافعال الاباحة وعدم رجعية القانون الجنائي وان ليس للقاضي ان يخلق جريمة او عقوبة لم ينص عليها القانون ونتناول ذلك في اربعة مباحث يضاف اليها مبحث عن المبدأ في الشريعة الاسلامية.

    المبحث الثاني

    سلطة التجريم والعقاب

    يهدف قانون العقوبات الى حماية المجتمع على نحو يضمن ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم بطريقة سلمية. ووسيلة قانون العقوبات الى ذلك هو احداث التوازن بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة من خلال تحديد نطاق التجريم والعقاب بوضوح تام، واذا نص الدستور على حرية او حق معينين فلا يجوز ان تمتد اليهما يد التجريم من قبل السلطة التشريعية، كما ان ممارستها لا تتوقف على سن تشريع تطبيقاً لمبدأ علوية الدستور.

    ووفقاً لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب فان المشرع لوحده هو الذي يحتكر سلطتي التجريم والعقاب في المجتمع، بمعنى اخر ان مصدر قانون العقوبات هو التشريع حصراً، والى هذا التشريع يرجع فقط لبيان ما إذا كان فعل ما او امتناع عن فعل ما يخضع للتجريم ام لا ومن ثم تحديد الجزاء المترتب على ذلك الفعل اذا تبين انه يشكل بالفعل جريمة.

    وينبغي ان تكون نصوص التجريم دقيقة وواضحة وغير قابلة للتأويل لان الغموض في قواعدالتجريم والعقاب قد يكون سبباً في تجريد هذا المبدأ من قيمته الدستورية وسبباً للتعسف في الاحكام.

    وتطبيقاً لمبدأ الشرعية، لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، فان التشريع هو المصدر الوحيد لقانون العقوبات، الا انه بصدد تطبيق مبدأ الشرعية، يميز فقه القانون الجزائي بين نوعين من القواعد الجزائية:

    أـ القواعد الجزائية الايجابية: وهي القواعد التي تبين الجرائم والعقوبات المقررة لها، مثل القاعدة التي تعاقب على القتل والسرقة والرشوة وغيرها.

    وهذه مصدرها التشريع لوحده تطبيقاً لمبدأ الشرعية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص)، فان لم يوجد نص يحكم واقعة معينة، ومهما كانت الواقعة مضرة او مسيئة للنظام العام والاداب العامة في المجتمع، فان على القاضي ان يحكم بالبراءة وليس له في اية حال ان يخترع جريمة او ان يقرر عقوبة لها، لان المشرع لوحده هو القادر على ذلك في مثل هذه الاحوال. فضلا عن ان هذه القواعد يجب ان تفسر تفسيراً ضيقاً، لان القواعد الجزائية انما تأتي خلاف الاصل، والاصل هو حرية الانسان والاستثناء هو تقييد حريته، وكل تفسير يؤدي الى اضافة جريمة او عقوبة لم يقررها المشرع يعتبر مخالفة للدستور والقانون، لان مبدأ الشرعية، مبدأ نص عليه الدستور والقانون.

    ب ـ القواعد الجزائية السلبية: وهي القواعد الجزائية التي تقرر قواعد البراءة واسباب الاباحة وموانع المسؤلية وكذلك احكام العفو العام والعفو الخاص مالم ينص على خلافه، وكل قاعدة تؤدي الى افلات المتهم من العقاب أي تعالج اوضاعاً لصالح المتهم كتلك التي تستبعد العقاب او تخفف منه.

    وهذه القواعد لا تعتبر استثناء من الاصل، بل انها صورة من صور الاصل،لانها تنحو نحو الحرية والبراءة، ومن ثم لا يسري عليها مبدأ الشرعية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) لانها لاتوجد اسباباً للجريمة وانما اسباباً للبراءة والحرية، هذا من جانب ومن جانب اخر فانها تخضع للتفسير الواسع لارتفاع قيد الاستثناء الذي يرد على القواعد الجزائية الايجابية، فهي قواعد تنحو نحو الحرية، والحرية لا تعد استثناء بل اصل، واذا زال المانع عاد الممنوع، أي اذا سقط القيد عاد حكم ما كان ممنوعا.

    وعلى هذا جاز التوسع في تفسيرها والقياس عليها على اتفاق من الفقه والقضاء.

    ومن تطبيقات ذلك ان القضاء والفقه في مصر استقر على اعتبار الدفاع الشرعي سبباً عاما لاباحة كافة الجرائم وان كان نص المادة (245) عقوبات مصري قد نص على اباحة القتل والضرب والجرح في حالة الدفاع الشرعي، فاذا نص القانون على اباحة القتل في حالة الدفاع الشرعي، واكتفى المدافع بفعل دون القتل، كالضرب او الجرح، فلا شك في اباحة الضرب والجرح قياساً على اباحة القتل من باب اولى، لان من يباح له الاشد يباح له الاخف،ومن يملك الاكثر يملك الاقل. وعلى هذا لا يعتبر سارقاً من جرد من شرع بقتله من سلاحه واحتفاظه به مؤقتا، ولا يعتبر تقييداً للحرية من حجز في غرفة من حاول قتله او قيده، او من حاول اضرام النار في في مكان عام او خاص، بشرط توفر جميع اركان وشروط الدفاع الشرعي وابلاغ السلطات فوراً او في اقرب فرصة متاحة.

    وفي باب موانع العقاب كانت المادة (312) عقوبات مصري تنص قبل تعديلها على مانع عقاب فيما يتعلق بالسرقة بين الاقرباء والزوجين، ولكن القضاء المصري مد تطبيق مانع العقاب على سبيل القياس الى جرائم النصب وخيانة الامانة والغصب والتهديد بين الاقرباء والزوجين.

    وهذا ما سار القضاء الفرنسي عليه ايضاً. وقد وضع الفقه الالماني والايطالي لنفسه قاعدة في هذا الصدد تقضي بالتفرقة بين نوعين من القياس هما قياس لصالح المتهم وقياس لغير صالحه، فالاول جائز والثاني غير جائز مع وجود مبدأ قانونية الجرائم والعقاب.

    المبحث الثالث

    الاصل في الافعال الاباحة

    يترتب على مبدأ قانونية الجريمة والعقاب ان الاصل في الأفعال الإباحة، وان الاستثناء هو التجريم، لان قانون العقوبات يحدد فقط ما يعتبر جريمة ولا يحدد ما هو مباح، وهذا يعني ان ماعدا ذلك هو فعل مباح. ويترتب على ذلك نتيجتين هما:

    أـ ان اي فعل او سلوك مخالف للاخلاق العامة او الاداب الاجتماعية او ضارأ باي مصلحة من المصالح العامة يصدر من فرد من الافراد لا يجوز المعاقبة عليه الا اذا وجد نص قانوني يجرم ذلك الفعل، فلو خلا قانون العقوبات من نص يعاقب على الزنا او اللواط فلا يمكن تجريم او معاقبة مرتكبي هذه الافعال باية حال من الاحوال. لان قواعد القانون اضيق نطاقاً من قواعد الاخلاق.

    ب ـ ان الاعتراف بمبدأ ان الاصل في الافعال الاباحة وان الاستثناء هو التجريم ينطوي على الاعتراف بقاعدة ان الاصل في المتهم البراءة حتى تثبت ادانته. لان الاحكام او الاوصاف تبنى ابتداءاً على الاصل لا على الاستثناء حتى يثبت العكس.

    وتترتب على مبدأ أصل البراءة عدة نتائج بالغة الأهمية، هي:

    اولا: لا يلزم المتهم باثبات براءته

    لا يرغم المتهم على اثبات برائته وبخلافه يعتبر مذنبا، لأن الاصل فيه انه بريء.

    فيقع عبأ اثبات التهمة على عاتق سلطة التحقيق او الاتهام وفقاً لقواعد الاثبات في القضايا الجزائية، ولا يلتزم المتهم بتقديم اي دليل على براءته ولا يجوز اعتبار ذلك دليلا على ارتكاب الجرم، وكذلك الحال عند التزامه الصمت، الا ان له الحق في أن يناقش ألادلة التي تتجمع ضده وان يفندها او ان يشكك في قيمتها. كما له ان يقدم طواعية اية ادلة تثبت برائته. او ان يعترف بالتهمة.

    كما ان مهمة قاضي التحقيق او الادعاء العام او المحكمة المختصة لا تقتصر على اثبات التهمة فهي في النهاية اجهزة من اجهزة العدالة مهمتها الاصلية اثبات الحقيقة، ذلك ان فكرة العدالة لا يمكن ان تبنى على الوهم او القناعات الزائفة. ومن ثم ينبغي على هذه الاجهزة العدلية ان تتحرى عن هذه الحقيقة من خلال تدقيق وتمحيص الادلة، وعملية التحري هذه تدور حول التحقق مما اذا كانت هناك ادلة كافية يمكن ان تدحض اصل البراءة من عدمها.

    وفي نطاق موانع العقاب او اسباب الاباحة كالدفاع الشرعي عن النفس اوالمال او عن نفس او مال الاخرين، فانه يجب على المتهم ان يتمسك بالدفع بمانع العقاب او سبب الاباحة دون ان يلتزم بأثبات صحته الا طواعية لأن الاصل في الاشياء الاباحة. كذلك الحال بالنسبة لكل دفع يدفع به المتهم لو صح لتخلفت اركان الجريمة.

    ثانيا: الشك يفسر لصالح المتهم لانه يقوي اصل البراءة فيه والاصل لايزال الا بيقين.

    فأذا شك القاضي في ان المتهم قد اتى الفعل او لم يأته بناءا على ادلة غير كافية او كان يناقض بعضها البعض، فالأصل انه لم يأته.

    واذا شك ان كان قد اتاه استعمالا لحق ام عدوان فالاصل انه استعمالا لحق تأكيداً لاصل البراءة.

    واذا كانت الوقائع المسندة للمتهم ثابتة الا انه قام شك في تكييفها هل هي سرقة ام خيانة امانة ام حيازة مال مسروق مثلا، فالعبرة بالوصف الاخف لانه القدر المتيقن.

    ثالثا: اي ضعف في الادلة يقوي اصل براءة المتهم ولاتفترض ادانته ولاتجوز ادانته بناءا على اعتقاد قوي وانما بناءا على الجزم واليقين.

    إن الجمع بين مبدأ أصل البراءة مع مبدأ ان الحكم بالإدانة لا يكون الا بناءاُ على الجزم واليقين يترتب عليه أن يكون هناك فرق جوهري بين الحكم بالإدانة والحكم بالبراءة، فحكم الإدانة يجب أن يبنى على الاقتناع بأدلة الإثبات، بينما يكتفي بالنسبة لحكم البراءة أن يؤسس على الشك في الاقتناع بهذه الأدلة.

    رابعا: لايجوز ادانة المتهم بناءا على قول المدعي وحده.

    لان المدعي يدعي خلاف الاصل والمتهم محصن بأصل براءته وبالتالي فالقول قوله لموافقته هذا الاصل وفي ذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم (لو يعطى الناس بدعاواهم لادعي ناس دماء رجال واموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من انكر).

    خامساً: يجوز الاستناد الى دليل استخلص او تم الوصول إليه بطريق غير قانوني للحكم بالبراءة، بينما لا يجوز الاستناد إليه للحكم بالإدانة، حسب الأصل.

    سادساً: تعد مخالفة دستورية جسيمة ان يضمن المشرع تشريعاته قرائن قانونية تتعارض مع اصل البراءة.

    كاعتبار فعل او سلوك قرينة اثبات على ارتكاب الذنب مما يرتب على المتهم التزاماً بدفع هذه القرينة ابتداءاً، لان اصل البراءة كمبدأ دستوري يجب ان يغطي كل الاجراءات وكل مراحل الدعوى الجزائية، ولا يجوز نقض هذا الاصل الا بادلة جازمة تتكون بواسطتها عقيدة المحكمة.

    ومع ذلك جوز المجلس الدستوري الفرنسي تضمين النصوص العقابية قرائن على توافر الخطأ في بعض الاحوال وخاصة بالنسبة للمخالفات بشرط كفالة حق المتهم في اثبات عكس هذه القرائن وبشرط ان تكون نسبة الخطأ الى المتهم واضحة ومعقولة. ومن امثلة القرائن القانونية التي اقرها المشرع الفرنسي التي تنفي اصل البراءة قرينة (القوادة) وتفترض توفر الركن المادي لجريمة في قانون العقوبات، القرينة المفترضة بالنسبة لشخص يعيش مع من تمارس البغاء ولم يستطع تقديم ما يثبت مصدر مشروع لموارده المالية، وكذلك بالنسبة لشخص له علاقة معتادة مع مروج او مروجين للمخدارات ولم يستطع تقديم ما يثبت مصدر مشروع لموارده المالية. وبالنسبة للقرائن التي تفترض توفر الركن المعنوي ماورد في قانون الصحافة لسنة 1981، من افتراض سوء النية بالنسبة لاعادة انتاج مواد تتضمن قذفاً بحق الغير.

    الا ان المحكمة الدستورية العليا المصرية رفضت اقرار مثل هذه القرائن واعتبرتها غير دستورية، حيث ذهبت الى القول بانه في الجريمة غير العمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التي تكونها. وهي عناصر لا يجوز افتراضها او انتحالها.

    وقضت هذه المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته المواد (37، 38، 117) من قانون الكمارك رقم 66 لسنة 1963 التي نصت على قرينة تحقق التهريب على مجرد النقص في عدد الطرود المفرغة او محتوياتها عما ادرج في قائمة الشحن.

    كما قضت بعدم جواز ادانة شخص على اساس الاشتهار بأرتكاب جرائم معينة، كما قضت بعدم دستورية النصوص التي تتبني قرينة افتراض العلم المسبق وتوافر القصد الجنائي لدى المتهم لان في ذلك هدر لاصل البراءة وباعتبار ان ذلك مخالف للدستور الذي نص على هذا الاصل.

    ومن المعلوم ان رقابة المجلس الدستوري الفرنسي هي رقابة سياسية وليست قضائية وسابقة لصدور التشريع في حين ان رقابة المحكمة الدستورية المصرية هي رقابة قضائية لاحقة لصدور التشريع، ومن الطبيعي ان يقبل السياسي ما لا يقبله القاضي.

    سابعاً: تمتد الحماية القانونية لتغطي أصل البراءة حتى خارج نطاق الإجراءات القضائية.

    حيث يعتبر المساس بأصل البراءة عن طريق النشر والإعلام في أية وسيلة متاحة للعامة جريمة يعاقب عليها القانون وفقاً لنصوص القذف والسب حسب الأحوال. وفي نطاق القانون المدني يعتبر النشر الذي يتضمن قذفاُ او سباً خطأً تقصيرياً يستوجب التعويض.

    ثامناً: حق التعويض عن التوقيف عند غلق الدعوى أو الحكم بالبراءة.

    أقرت بعض التشريعات حق التعويض عن التوقيف (الحبس الاحتياطي) عند غلق الدعوى أو الحكم بالبراءة دون حاجة لإثبات حصول ضرر كما كان مقرر سابقاً، ولم يعد ذلك مجرد رخصة للقاضي فالحكم بالتعويض فيها واجب، وطبقاً لقانون الاجراءات الفرنسي لسنة 2000، والذي توسع في التعويض عن التوقيف، لا يجوز رفض طلب التعويض الا في ثلاث حالات هي، تأسيس غلق الدعوى على توافر عاهة عقلية عند المتهم، أو صدور عفو عن المتهم عقب حبسه احتياطياً، أو أن يثبت أن المتهم قد اتهم نفسه لتمكين الغير من الإفلات من الاتهام.

    يرى فقهاء القانون ان اقرار هذا المبدأ يستند الى اعتبارات اخرى عديدة تبرره من اهمها:

    1ـ ان افتراض الجرم مقدماً يترتب عليه نتائج تهدد امن الأفراد وحريتهم الشخصية حيث يؤدي ذلك الى تحكم رجال السلطة العامة في مقدرات الناس.

    2ـ ان جعل عبأ إثبات البراءة على عاتق المتهم يؤدي إلى ازدياد نسبة ضحايا العدالة، فقد لا تتوفر الوسائل اللازمة للأبرياء لإثبات براءتهم.

    3ـ ان هذا الاصل العام بافتراض البراءة لا الجرم يتفق مع الأفكار الدينية والاجتماعية والاخلاقية التي تعنى بحماية الضعفاء.

    4ـ استحالة تقديم الدليل السلبي في الغالب الاعم، وفي هذا الشأن يقول الفقهاء انه اذا لم تفترض براءة المتهم فان مهمة الاخير ستكون اكثر صعوبة لانه سيلزم بتقديم دليل غالبا ما يستحيل تقديمه وفقاً للقواعد المنطقية، فالمتهم سيلزم بأثبات وقائع سلبية، أي إثبات ان وقائع لم تقع (معدومة) ولم تبرز للعالم الخارجي. وهو دليل يستحيل تقديمه غالباً ويترتب على ذلك ان المتهم سيكون غير قادر على اثبات براءته مما يؤدي الى التسليم بجرمه حتى لو لم تقدم سلطة الاتهام دليلا عليه. ولكن حين يفترض أصل البراءة ينتقل عبأ الإثبات إلى سلطة التحقيق أو الاتهام وستكون مهمتها اثبات ان واقعة جرمية وجدت في العالم الخارجي، واثبات الوجود أيسر بكثير من اثبات العدم.

    ومن جانبنا نرى ان سلطة الاتهام والقضاء هم الاقدر على الاثبات بما يتاح لهم من سلطة الامر لاستحضار الادلة تحت أية يد كانت فضلا عما هو متاح لديهم من وسائل متنوعة للتقصي والتحري تمتد لتغطي كل اقليم الدولة ولهم سلطة استخدام كل إمكانيات الدولة البشرية والفنية المتطورة لاستحضار الحقيقة.

    المبحث الرابع

    عدم رجعية القانون الجنائي

    عدم رجعية القانون الجنائي نتيجة منطقية لمبدأ قانونية التجريم والعقاب فضلاً عن كونه مبدأ مهم من مبادئ حقوق الانسان وسمة بارزة من سمات الدولة القانونية، ويبدو لي ان المبدأ قد عرف اول ما عرف عن طريق القرآن الكريم والشريعة الاسلامية الغراء، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)الإسراء (15)، فلم يكن المبدأ معروفاً في الشريعة الرومانية وهي الاصل لاغلب الشرائع الغربية.

    وفي العصور الحديثة جاء المبدأ مع جملة المبادئ الانسانية التي تبناها رجال الثورة الفرنسية ومفكريها فنصت عليه المادة (Cool من اعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789.

    ونصت عليه بعد ذلك المادة (11) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 والعديد من المواثيق الدولية فضلاً عن اغلب دساتير العالم.

    واساس الفلسفة التي يقوم عليها المبدأ هو تحقيق الامن القانوني عبر حماية المراكز القانونية المستقرة والحقوق المكتسبة فضلا عن حماية الحريات الشخصية فلا يؤاخذ الانسان على فعل لم يكن مجرماً وقت ارتكابه.

    ومضمون المبدأ ان اثر القانون الجنائي لا يمتد الى الماضي ليحكم الوقائع التي كانت قد حدثت قبل نفاذه، بل يحكم فقط تلك الوقائع التي حدثت بعد نفاذه فقط.

    ويترتب على ذلك ان القانون واجب التطبيق على الجريمة هو القانون المعمول به والنافذ وقت ارتكابها لا وقت محاكمة مرتكبها.

    والمبدأ كقاعدة دستورية ما هو الا قيد على ارادة المشرع يمنعه من اقرار رجعية التشريعات التي يسنها تطبيقاً لمبدأ قانونية التجريم والعقاب. ويسري المبدأ على كل جزاء يتسم بطابع العقوبة ولو ترك تطبيقه لجهة غير قضائية كمجالس التحقيق الاداري وغيرها.

    الاصل والاستثناء: للمبدأ اصل واستثناء والاصل عدم رجعية القانون الاسوء للمتهم للماضي والاستثناء هو رجعية القانون الاصلح للمتهم للماضي فضلا عن رجعية القوانين التفسيرية.

    شروط تطبيق المبدأ

    يشترط لتطبيق المبدأ شرطين اولهما ان يكون القانون اسوء للمتهم وثانيها ان ينص على رجعية القانون الجنائي الجديد.

    اولاً: ان يكون القانون اسوء للمتهم.

    يكون القانون الجنائي الجديد اسوء للمتهم اذا استحدث تجريماً جديدأ او وضع قيوداً على ممارسة احد اسباب الاباحة او عدل من تكييف الواقعة المكونة للجريمة او رفع ركناً من اركان الجريمة لم تكن لتتحقق بدونه او رفع مانعاً من موانع المسؤولية او تشدد في شروطه، او مد القانون الجديد حمايته لتشمل حماية مصالح لم تكن محمية في ظل القانون القديم الذي ارتكبت في ظله الواقعة.او من خلال التوسع في التعريف القانوني لمفهوم قانوني معين.

    وفيما يتعلق بالعقاب يعد القانون اسوء اذا اوقع بالجاني عقوبة اشد مما كان يوقعها القانون القديم سواء من حيث المقدار او النوع او الحد الادنى او الاعلى للعقوبة او استحداث عقوبات تبعية او تكميلية او جعل الاخيرة وجوبية بعد ان كانت جوازية وكذلك استحداث ظروف مشددة او رفع مانع من موانع العقاب او جعلها جوازية بعد ان كانت وجوبية، او تشديد العقوبة على ظرف مشدد معين.

    ثانياً: ان ينص القانون الجديد على الاثر الرجعي صراحة او ضمناً

    يعتبر القانون الجديد معمولاً به بأثر رجعي اذا امتد نطاق تطبيقه من حيث الزمان ليشمل وقائع ابتدأت وتكونت وتمت في ظل القانون القديم او شمل بحكمه مراكز قانونية تمت واكتملت عناصرها في ظل القانون القديم.

    الا انه اذا وقعت الجريمة او بعض عناصرها واستمرت او تتابعت في ظل القانون الجديد فان تطبيق القانون الجديد عليها لا يعتبر ذلك تطبيقاً باثر رجعي. كما هو الحال في الجرائم المستمرة كما في جريمة استعمال محرر مزور وكذلك الحال بالنسبة للجرائم المتتابعة وجرائم الاعتياد، ما دامت الوقائع مستمرة او متتابعة بارادة صاحبها.كل ذلك ما لم ينص القانون على خلافه.

    وينبغي التمييز في هذا المقام بين الجريمة الوقتية ذات الاثار المستمرة والجريمة المستمرة،

    فالاولى تخضع لاحكام القانون القديم حسب الاصل وان بقت تنتج اثارها في ظل القانون الجديد، مثل جريمة اقامة بناء بدون ترخيص في ظل القانون القديم لان الاستمرار هنا ليس الا اثر للفعل الذي مضى وقوعه وليس لارادة الجاني اثر في استمراره، بينما تخضع الجريمة المستمرة التي ابتدأت في ظل القانون القديم واستمر العمل الارادي بوقائعها في ظل القانون الجديد الى احكام الاخير، كما هو الحال في جريمة استعمال جواز سفر في ظل القانون القديم والقانون الجديد.

    الاستثناءات الواردة على مبدأ عدم الرجعية

    هناك قوانين موضوعية لا تخضع الى مبدأ عدم الرجعية وانما تخضع لمبدأ رجعية القانون الجنائي على الماضي وهي القوانين المُفسِرة والقوانين الاصلح للمتهم.

    اولاً: القوانين المُفسِرة

    القانون المُفسِر هو ذلك القانون الذي يصدر لغرض تفسير قانون سابق له وكشف المراد من نصوصه وايضاح احكامه بسبب اختلاف القضاء او الادارة في تفسيره بسبب غموض نصوصه.وهذا القانون يسري على الوقائع التي وقعت قبل نفاذه باثر رجعي لانه يعتبر امتداد للقانون الاصلي المفُسَر ويتحد معه ويأخذ نفس نطاقه الزمني.

    والعبرة في هذا المقام بوصف القانون بانه تفسيري هو بحقيقة مضمون نصوصه لا بالوصف الذي يخلقه المشرع عليه، فان تضمن القانون المُفسِر احكاماً جديدة لم يتضمنها القانون الاصلي المُفسَر، فان الاحكام الجديدة تخضع لمبدأ عدم الرجعية.

    ثانياً: القوانين الاصلح للمتهم

    اذا ارتكب الجاني جريمة في ظل قانون قديم وصدر قانون جديد اصلح للمتهم اثناء التحقيق او المحاكمة وقبل صدور حكم نهائي بات فان القانون الجديد هو الذي يسري على الوقائع بأثر رجعي.

    ويقصد بالقانون الأصلح للمتهم هو القانون الذي ينشئ للمتهم مركزاً او وضعاَ افضل له من القانون المفترض تطبيقه عليه.

    ويتحقق ذلك اذا كان القانون الأصلح يلغي جريمة او يضيف ركناً لها او يلغي عقوبة او يقرر وجهاً للإعفاء من المسؤولية او سبباً للإباحة او لامتناع العقاب دون ان يلغي الجريمة ذاتها او يخفف العقوبة.

    والقانون الأصلح للمتهم يخضع لمبدأ رجعية القانون الجنائي على الماضي لتوافق ذلك مع حكمة قاعدة قانونية التجريم والعقاب وهي القاعدة التي تمخض عنها مبدأ عدم الرجعية ربغم اختلاف النتيجة من الناحية الظاهرية.

    فمن الظلم والتناقض في آن معاً ان تطبق عقوبة على متهم في الوقت الذي يعترف فيه المشرع بعدم فائدتها او بزيادتها عن الحد اللازم وتخلف المصلحة من إيقاعها وفي ذلك ضمان لحريات الافراد ايضاً.

    المبحث الخامس

    أصل المبدأ في الشريعة الإسلامية

    تُعرف الجريمة شرعاً بأنها (إتيان المكلف لفعل محرّم معاقب على فعله، أو ترك فعل محرّم الترك معاقب على تركه).

    قال تعالىSadوَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)الإسراء (15)

    وقال تعالى: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}غافر:50.

    وقال تعالىSadتَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) الملك:8-9.

    قال تعالى:

    (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) القصص:(59).

    ظاهر من هذه الآيات الكريمة أن الله جل وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار. ومن عظيم رحمته وعدله عز وجل أنه اشترط لوقوع العذاب بالناس أن يأتيهم الرسل وتأتيهم الحجة من عند الله تعالى.

    توصل فقهاء الشريعة الاسلامية قبل قرون عديدة الى ذات النتائج، التي توصل اليها الفقه القانوني المعاصر، وذلك بأعمال القواعد الفقهية الكلية والفرعية.

    وبحسب القواعد الفقهية فان (الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم) واصل القاعدة قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقوله عز وجل (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وقوله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وقوله تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون)

    كما قال رسول الله (ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا).

    ويترتب على هذه القاعدة ان الاصل هو حرية الانسان.فالجريمة امر عارض في حياة الانسان

    لذلك كان الاصل فيها العدم، والعدم يقين،. وهذا امر مبني على اليقين لانه اصل.و(اليقين لا يزول بالشك) واليقين لا يزول الا بيقين مثله اي أن الأمر المتيقن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع، ولا يحكم بزواله لمجرد الشك. كذلك الأمر المتيقن عدم ثبوته لا يحكم بثبوته بمجرد الشك ؛ لأن الشك أضعف من اليقين فلا يعارضه ثبوتاً وعدماً.

    واليقين هو الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه، اما الشك فهو مطلق التردد. بمعنى اخر أن الإنسان إذا تحقق من وجود الشىء ثم طرأ عليه بعد ذلك شك، هل هو موجود أم لا. فالأصل أنه موجود.وتدخل هذه القاعدة في جميع أبواب الفقه ومن ادلة القاعدة قوله تعالى (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئا).

    كما ان اليقين أقوى من الشك، لأن في اليقين حكماً قاطعاً فلا ينهدم بالشك. وهذا دليل عقلي. ويتفرع من هذه القاعدة الكلية عدة قواعد منها:

    1ـ الاصل بقاء ما كان على ما كان، اي لزوم حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه.

    2ـ الاصل براءة الذمة اي أن الإنسان بريء الذمة من وجوب شيء أو لزومه، وان مشغولية ذمته تأتي خلاف الأصل. قال الرسول الكريم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).

    فالمدعي متمسك بخلاف الأصل ولذا تلزمه البينة. ومن تطبيقاتها العملية، من أدعى على شخص مالاً لم يلزم المدعى عليه أن يحضر بينة لأن الأصل براءة ذمته مما ادعي عليه. وعلى المدعي أن يحضر البينة حتى يُحصِّل ما ادعاه.

    3ـ ما ثبت بيقين لا يرتفع الا بيقين فمن عليه دين وشك في قدره لزمه إخراج المتيقن به براءة للذمة. ومن شك هل طلق أو لا ؟ لم يقع الطلاق، لأن النكاح ثابت بيقين ولا يرتفع إلا بيقين.هذا في اطار الاحكام الشرعية واحكام المعاملات.

    ومن هذه الأصول المتقدمة استنبط الفقهاء المسلمون افتراض براءة الجسد من الحدود والقصاص والتعازير، واستخلص من هذه القاعدة أيضا، القاعدة الدستورية الجنائية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).

    اما في نطاق القانون الجنائي الاجرائي وقياساً على ما تقدم فان الاصل في المتهم البراءة ولا يزول هذا الاصل الا بيقين اي بدليل قاطع.

    التفويض التشريعي في اطار مبدأ قانونية الجريمة والعقاب

    إذا ورد مبدأ قانونية الجريمة والعقاب بصيغة (لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون او بناءاً على قانون)

    فهذا يعني ان المشرع الدستوري قد اجاز للسلطة التشريعية ان تفوض السلطة التنفيذية صلاحية خلق جرائم وعقوبات بصيغة انظمة او تعليمات (لوائح) تنفيذا لقانون صادر من السلطة التشريعية وفي حدود هذا القانون.

    واذا كانت الدساتير تجيز التفويض في اطار التجريم والعقاب، فانها لا تجيز التفويض في اطار الاجراءات الجزائية، والعلة في ذلك ان التفويض في اطار التجريم يمكن ضبطه في حدود معينة لا تؤثر على جوهر الحرية الشخصية للفرد، اما اذا فوضت السلطة التنفيذية صلاحية وضع انظمة وتعليمات ولوائح اجرائية فان ذلك سيمس جوهر الحرية الشخصية للفرد خاصة وانها غالباً ما تدخل في خصومات مع الافراد وتفويضها سلطة وضع قواعد اجراءات التقاضي سيكون ولا شك سبباً لتحيزها لنفسها تحت غطاء حجج وذرائع شتى وفي مقدمتها الادعاء التقليدي المرن (مقتضيات المصلحة العامة) مما يؤدي الى هدر المباديء العامة التي يقوم عليها قانون الاصول ومنها مبدأ اصل البراءة.

    كما إن التفويض في مجال القانون الإجرائي يمس استقلال القضاء كونه هو المعني بتطبيق تلك الاجراءات.

    وفي ضوء ماتقدم لا يجوز للمشرع ان يفوض اختصاصه في مجال تحديد قواعد الإجراءات الجنائية إلى أية سلطة أخرى، وأي تفويض من هذا القبيل يكون مخالفاً للدستور.

    خاتمة البحث

    قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). هود((117

    أي لم يكن الله تعالى ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق ورد المظالم والحكم بالعدل، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان, وقوم لوط باللواط. والله اعلم.

    * نائب رئيس هيئة النزاهة/ماجستير في القانون وباحث في فلسفة القانون

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:31 pm