يدفع المواطن المصرى ثمنًا فادحا للصراع بين جناحى العدالة القضاة
والمحامين، وهو صراع لم يكن المواطن فى أى لحظة من اللحظات طرفا فيه، كونه
صراعا فئويا باقتدار، اشتعل لتراكمات فى العلاقات بين الجانبين، وغذته
أطراف عدة، وكلما أطفأ عقلاء فى الجانبين النيران فى جزء منه، عاد البعض من
الطرفين ليشعلها من جديد، مثلما فاجأ رئيس نادى القضاة المستشار أحمد
الزند الجميع ببيان شديد اللهجة رفض فيه التراجع عن قرار تعليق العمل فى
المحاكم، ووصف الترويج لصدور قرار بذلك بأنه أمر مغلوط يستهدف النيل من
القضاة وشق صفوفهم.
الأزمة التى بدأت فى التصاعد قبل نحو الشهر اندلعت على خلفية إعلان القضاة
انتهائهم من إعداد مشروع جديد لقانون السلطة القضائية، وهو القانون الذى
أثار خلافا بين القضاة أنفسهم، حيث أعد نادى القضاة برئاسة المستشار أحمد
الزند مشروعا، فيما كان مجلس القضاء الأعلى برئاسة المستشار حسام الغريانى
كلف المستشار أحمد مكى أحد رموز تيار الاستقلال القضائى بإعداد مشروع
لقانون السلطة القضائية، وبعيدا عن الخلافات التى أثيرت بين القضاة حول سعى
كل فريق لإقرار ما أنجز من تعديلات قبل إجراء الانتخابات البرلمانية فى
البلاد، فقد دخل المحامون طرفا فى الصراع احتجاجا على نصوص تضمنها مشروع
القانون المقدم من نادى القضاة ورأى المحامون أنها تنتقص من حصانتهم خلال
جلسات التقاضى، كما أعلنوا احتجاجهم على نصوص أخرى أكدوا أنها تقود لتوريث
المناصب القضائية لأبناء القضائية وذويهم وتقصرها عليهم.
وعلى الرغم من صدور تصريحات منسوبة لكل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة
وحكومة الدكتور عصام شرف تؤكد عدم إصدار قانون للسلطة القضائية قبل انتخاب
مجلس تشريعى يتولى إقرار مثل هذا القانون إلا أن هذا لم يثن المحامين عن
الاستمرار فى احتجاجاتهم، وبدا أن الأزمة أشعلت فى نفوسهم تراكمات السنوات
الماضية فى العلاقة بين الطرفين، فشعارات احتجاجات المحامين تباينت تارة
بين الهجوم على ما يصفونه بانتقاص مشروع القانون القضائى لحصانتهم، وأخرى
تتضمن الشكوى مما يصفونه بسوء المعاملة لهم من قبل القضاة، وثالثة ترفع
شعارات تطهير القضاء، ووصل الأمر ذروته فى الجمعية العمومية الطارئة للقضاة
يوم الجمعة الماضى حين تجمع العشرات من المحامين ونشطاء الحركات السياسية
أمام نادى القضاة حيث مقر انعقاد عمومية القضاة، ورددوا هتافات مناهضة
للقضاة ومشروعهم، وحاول البعض من المحتجين اقتحام مقر انعقاد الجمعية
العمومية، فيما منع البعض الآخر المستشار أحمد مكى نائب رئيس محكمة النقض
السابق و أحد أبرز رموز تيار الإصلاح القضائى من الخروج من النادى.
وتتركز انتقادات المحامين على نص المادة 18 من مشروع قانون السلطة القضائية
والتى تقضى بمعاقبة كل من يخل بنظام جلسات المحاكمات مهما كانت حصانته،
وهو أمر يرى المحامون أنه يستهدفهم على وجه التحديد وينتقص من حصانتهم خلال
جلسات التقاضى، ويقول عنه جمال تاج عضو مجلس نقابة المحامين السابق
لـ"اليوم السابع" إنه"نص يجعل من القاضى خصما وحكما فى ذات اللحظة، حيث
يتيح له أن يقرر حبس المحامى بدعوى إخلاله بنظام الجلسة، فى الوقت الذى لا
يوضح فيه الموقف فى حال ما إذا اعتدى قاض على محام أو أحد أطراف التقاضى أو
أخل بنظام الجلسة"، وفى المقابل يعتبر القضاة أن النص لا يعنى المحامين
ولا يستهدفهم، وإنما يهدف إلى ضبط المحاكم، وحماية المتهمين والشهود فى ظل
ما شهدته الفترة الماضية من تجاوزات واعتداءات على القضاة من قبل أطراف
التقاضى، فيما يرى بعض المحامين أن قضيتهم لا تتركز عند هذا النص وحسب،
وإنما تمتد إلى ملفات أوسع تتعلق بتطهير القضاء، ورفض ما يسعى القضاة إلى
إقراره من الحصول على نسبة من بين التعيينات فى سلك النيابة لأبنائهم، ما
يعتبره المحامون خطوات فى اتجاه توريث مهنة القضاة، إضافة إلى مواجهة ما
يصفونه بتعامل الجانب القضائى بنوع من الاستعلاء مع المحامين، والتعامل مع
مهنة المحاماة على أنها مجرد "معاون" للسلطة القضائية وليست مهنة شريكة فى
تحقيق العدالة.
ولا يخلو الصراع المشتعل بين القضاة والمحامين من وجود دوافع هنا وأخرى
هناك فى الجانبين تتعلق بمنافسات انتخابية على وجه الأخص، فنقابة المحامين
تترقب إجراء انتخابات لاختيار نقيب ومجلس جديد لإدارتها، ويقود المرشحون –
وخاصة على منصب النقيب – احتجاجات المحامين والدعوات إلى تصعيدها ضد
القضاة، وهو ما يصفه الفريق الأخير بالمزايدات الانتخابية التى لا تراعى
الصالح العام، وفى المقابل فإن رئيس نادى القضاة المستشار أحمد الزند دعا
إلى إجراء انتخابات للتجديد الثلثى بمجلس إدارة نادى القضاة، ورفض الدعوات
الى إجراء انتخابات تجديد كلى لجميع أعضاء المجلس، بما فى ذلك مقعد رئيس
النادى، وهى دعوة يراها منافسو الزند وقضاة الاستقلال مخالفة للقانون.
ويرى مراقبون أن كثيرا من المحامين المتنافسين فى انتخابات نقابتهم استغلوا
بالفعل الأزمة مع القضاة – وساهموا فى إذكائها بتصريحاتهم النارية – لكسب
شعبية بين ناخبيهم، حتى أن كثيرا من المرشحين لم تعد دعاياتهم الانتخابية
تتناول سوى عبارات الرد على مشروع قانون السلطة القضائية، وتجاهل بقية
القضايا التى لا تقل أهمية لدى المحامين ومن بينها انتشار البطالة فى
صفوفهم وتدنى أحوالهم الاقتصادية وغير ذلك من القضايا، وفى المقابل فإن
رئيس نادى القضاة المستشار الزند تلاحقه مطالب تيار الإصلاح القضائى
بالتغيير، على اعتبار أنه تولى منصبه بدعم كامل من النظام السابق فى مواجهة
تيار الإصلاح القضائى، كما أن مشروع القانون المقدم من الزند بشأن السلطة
القضائية لا يحظى بدعم كامل الصف القضائى، وثار خلاف واسع حوله، فى ظل وجود
مشروع آخر أعدته اللجنة المكلفة من مجلس القضاء الأعلى والتى يرأسها
المستشار أحمد مكى القاضى الأبرز داخل تيار الاستقلال القضائى، إضافة إلى
ما يردده قضاة من أن مجلس المستشار الزند لم ينفذ ما وعد به من إصلاحات
مادية فى برنامجه الانتخابى.
ويسعى الزند إلى تجاوز تلك الأزمات وغيرها عبر شحن الصف القضائى ضد
المحامين حتى أنه استخدم أقسى الألفاظ فى وصف احتجاجات المحامين، فتارة
يصفها بالوضيعة وأخرى يقول إنها احتجاجات همجية، وعندما لاح فى الأفق توصل
الجانبين إلى حل للأزمة بتدخل رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف ولقائه رموزا
وشيوخا من الجانبين وإعلان رئيس مجلس القضاء الأعلى المستشار حسام الغريانى
انتهاء الأزمة بالفعل، سارع المستشار الزند إلى إصدار بيان شديد اللهجة من
مكة المكرمة حيث يؤدى فريضة الحج أكد فيه رفض القضاة التراجع عن قرار
تعليق العمل بالمحاكم وهدد بمعاقبة من وصفهم بالمعتدين والمتطاولين على
القضاة، وبين المنافسات الانتخابية فى نقابة المحامين والأزمات الداخلية فى
صفوف القضاة
والصراع بين القضاة والمحامين وصل أيضا إلى حد إغلاق المحاكم ووضع لافتات
على بعضها مكتوب عليها "مغلق بأمر المحامين"، ومنع القضاة من الدخول إليها،
إضافة إلى تبادل عبارات التهديد والسب والقذف ،وتقديم بلاغات متبادلة
لجهات التحقيق يتهم فيها كل طرف الآخر بالاعتداء عليه، وإصدار كل طرف
للبيانات التى تهاجم الآخر وتتهمه بالمسئولية عن الأزمة، بل وشهدت الجمعية
العمومية الأخيرة للقضاة إطلاق نيران خارج ناديهم من قبل بلطجية تم القبض
عليهم، وقال القضاة إنهم فعلوا ذلك بدعم من أطراف فى المحامين.
وكانت عمومية القضاة الطارئة اتخذت قرارات بتعليق العمل بالمحاكم حتى يتم
تأمينها بشكل فعال ومستدام "يقدر القضاة أنفسهم من خلال جمعياتهم العمومية
مدى كفايته لتحقيق أمنهم وأمانهم"، كما قررت مقاطعة انتخابات نقابة
المحامين وعدم الإشراف عليها، وطالبت القضاة أعضاء اللجنة المؤقتة المشرفة
على إدارة النقابة لحين انتخاب مجلس جديد إلى التنحى عن مهمتها، مشيرة فى
ذلك إلى الاتهامات التى وجهها المحامون لأعضاء اللجنة، وهى اتهامات قال
القضاة إنها تطال الذمة والشرف والاعتبار لأعضاء اللجنة، فيما طالبت
الجمعية السلطات المصرية بالإسراع لتشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الأزمة
وأسبابها وحجمها والخسائر المادية والمعنوية التى نجمت عنها، ومعرفة
المتسبب فى ذلك والمحرض عليه، وتقديم من ترى اللجنة إدانته إلى النيابة
العامة لمحاسبته، واستنكر القضاة ما وصفوه بتقاعس سلطات الدولة المختصة عن
أداء دورها المنوط بها فى حماية السلطة القضائية ودور العدالة.
ويؤكد القضاة سواء فى جمعيتهم العمومية الطارئة أو فى تصريحاتهم لوسائل
الإعلام تمسكهم بمشروع تعديل قانون السلطة القضائية وضرورة استصداره قبل
إجراء الانتخابات البرلمانية ملوحين برفض الإشراف على الانتخابات حال عدم
الاستجابة لطلبهم باستصداره قبلها، مبررين ذلك بأن مشروع القانون يتضمن
نصوصا تقضى برفع يد السلطة التنفيذية ممثلة فى وزارة العدل عن القضاة
وشؤونهم، ما يتيح لهم – حال إقرار القانون – الإشراف على الانتخابات وهم
متحررون من أى سلطان للحكومة عليهم.
بعض القضاة ومنهم المستشار الغريانى رئيس مجلس القضاء الأعلى وأحد رموز
تيار الاستقلال قادوا جهودا للمصالحة بين الطرفين، حيث يرى الغريانى أن
الأزمة أكبر من أن تكون بين طرفى العدالة "القضاة والمحامين" وأن هناك من
يدبر بليل للنيل من مصر عبر المساس بمرفق القضاء، معتبرا أن ما يحدث للقضاة
لا يعبر عن القاعدة العريضة للمحامين، وأن ما حدث من اعتداءات "يقوم به
بعض المأجورين والمدفوعين أو التابعين غير الواعين"، محذرا من أن هناك
أمرًا يدبر لمصر فى صورة القضاة، وذلك من جهات يهمها عدم بناء الدولة
المصرية؛ لأنه لم يعد سوى السلطة القضائية للوطن، مؤكدا أن القضاة استهدفوا
من السعى إلى إقرار قانون جديد للسلطة القضائية أن يقدموا لمصر قضاء
مستقلا يقود انتخابات برلمانية نزيهة.
وفيما كان لرئيس نادى القضاة المستشار الزند النصيب الوافر من حملات الهجوم
من قبل المحامين، فقد كان له أيضا النصيب الأوفر فى الرد، والعمل على شحن
القضاة معتبرا أنهم يمرون بلحظة فارقة فى تاريخهم وتاريخ مصر، واصفا قيام
المحامين بتعطيل المحاكم وإغلاق بعضها فى وجه القضاة وأعضاء النيابات بأنه
أمر "شديد القذارة والانحطاط، وينال من عرض القضاة وشرفهم"، مؤكدا أن
القضاة لم يبادروا إلى اتخاذ قرار بتعليق العمل بالمحاكم سوى بعد أن وجدوا
أنفسهم يتعرضون لـ"اعتداءات آثمة"، فيما سخر الزند من مطالب بعض المحامين
باستبدال القضاة المضربين عن العمل بمحكمين يتولون تسيير أمور التقاضى،
وقال إن من ينادون بذلك "عليهم أن يبحثوا عن عدد كاف من المصاطب ليجلسوا
عليها بدلاً من المحاكم"، متهما بعض المراكز الحقوقية التى تعمل فى مجال
دعم استقلال القضاء بتلقى تمويلات من الخارج بهدف العمل على النيل من
القضاء المصرى.
الشاهد فى النهاية هو أن من يدفع ثمن ذلك الصراع الفئوى الخالص هو المواطن
الذى كان يشكو من قبل من بطء إجراءات التقاضى فى ظل ضخامة أعداد الدعاوى
القضائية المنظورة فى المحاكم المصرية، وصار يشكو من انعدام تلك الإجراءات
تماما فى الوقت الحالى بسبب لافتة "مغلق حتى إشعار آخر" المعلقة على الكثير
من أبواب المحاكم فى مصر، ما يعتبره مراقبون حلقة جديدة فى سلسلة استهداف
الدولة المصرية ومحاولات هدم مؤسساتها والنيل منها وإجهاض ثورة شعبية وضعت
فى مقدمة أهداف ثورتها إصلاح جميع تلك المؤسسات لا غلقها أو هدمها.