الوهابيون دلسوا فى معنى آية «يانساء النبى» فجعلوه يوجب منع الاختلاط
تحريم الاختلاط بين النساء والرجال فى الإسلام وهم كبير
◄العقلية الإسلامية بعد النبىصلى الله عليه وسلم عادت لمفاهيم الجاهلية التى تعتبر المرأة فتنة وعورة
◄ كانت النساء فى العهد النبوى يعملن ويحاربن.. والدليل تجارة أم المؤمنين السيدة خديجة
◄كان المجتمع النبوى نقيا فى تصور علاقاته الاجتماعية بين المرأة والرجل حتى لو أتيح اللقاء فى المسجد أو الحج أو العمل
فى حقبة الإسلام الوهابى المظلم التى يعيشها العقل المسلم المعاصر، دائما ما نجد خطابا موجها ومركزا على تدمير الحياة الاجتماعية الصحية بين طرفى المجتمع المسلم, خطابا أحمق يخترع ويبتدع مصطلحات مضافة لم يعرفها الإسلام فى عصر التطبيق النبوى، وهو عصر التطبيق «الأساس» الذى يبنى عليه ويؤخذ منه, ولا يضاف إليه أو يزاد عليه, لكن الدين «المتوهبن» اليوم صور للعقل المسلم أن خروج النساء من بيوتهن للعمل أو لغيره كان سببا مباشرا لفساد الدين والدنيا, بل إن الحمق المركب يتخطى ذلك، حيث يتخذ الجهل البهيم مساره التصاعدى الطبيعى لنجد أنصار الوهابية يدَّعون أن كل كوارث وهزائم المجتمعات الإسلامية اليوم سببها خروج النساء, حتى عودة القدس من محتليها ربطها السفهاء بعودة النساء إلى خدورها - بيوتها .
وحسب النهج الذى يتبعه الوهابيون، فهم يخترعون دوما فى الدين المضاف مصطلحات تؤسس لهم، وتمهد الطريق لاستتباب أركان تسلطهم بالغلبة على الوعى العام عند المسلمين, فاخترعوا وابتدعوا لهذا الشأن مصطلح «الاختلاط»، وهم يقصدون به توصيف حالة خروج المرأة المسلمة من بيتها للعمل أو للدراسة أو حتى للتنزه والتبضع, وقد أجاد الوهابيون كعادتهم - فى اختيار ونحت المصطلح، حيث توحى كلمة «الاختلاط» لسامعها بشىء حقير فى النفس، ليتخيل أن ممارسة المرأة المسلمة لحياتها الطبيعية ودورها الاجتماعى، هو اختلاط يمثل تمازجا جنسيا بين المتواجدين فى مكان واحد, بل إنهم قد زادوا عليه المصطلح التراثى الشهير «الخلوة المحرمة»، ليخلطوا الأوراق على السامعين, برغم أن «الخلوة» فى الشريعة ليست تتمثل فى وجود نساء ورجال، أو رجل وامرأة فى مكان واحد وحسب, ولكنها تعنى وجود رجل وامرأة باتفاق منهما فى مكان واحد، لا سبيل بأى شكل لدخول شخص ثالث عليهما أبداً.
ومن هذا وغيره اختلطت المفاهيم الأساسية للشريعة، واستقر فى نهاية الأمر الوعى المسلم على أن النساء جمرة من لهب, وقطعة من فتنة محققة, إذا ما ظهرت على الرجال ذهبت عقولهم، وهموا بمواقعة الحرام معهن, ما أدى بدوره لتوليد مجتمعات مريضة لا ترى المرأة إلا آلة جنسية وشرا مستطيرا ينتشر بين الرجال ليفسد عليهم دينهم ودنياهم.
وهكذا خرجت إلينا أجيال مريضة تبطن اعتقادا راسخا، أن الدين يحدد ويقصر على المرأة مكانها بالبيت، صيانة لها من الوحوش والذئاب, حيث رسخ الظلاميون مفاهيم المرضى بالجنس كمفهوم عام, فأصبحت ممارسة الحياة الاجتماعية بشكلها المعاصر للمرأة المسلمة، هى طريق مؤدية لا محالة للوقوع فى الحرام, وقد ساعدهم على تثبيت هذه المفاهيم، وتأكيد اختراع «الاختلاط المحرم» هذا الكم المتزايد من العلاقات الآثمة والزيجات السرية التى انتشرت فى المجتمعات الإسلامية, فنجحوا بدهاء معروف فى ربط تلك النتائج بمقدمات تسبقها وهو «الاختلاط», فصدق الوعى المسلم أن خروج النساء سبب لكل هذه المهالك التى نشهدها، وأن براءتنا من تلك الآفات والآثام، إنما تكمن فى الحل السحرى، وهو رجوع النساء لـ«الحرملك».
برغم إن كل هذه الآفات الاجتماعية، ما هى إلا نتاج وإنتاج من هذه المفاهيم, المفاهيم التى عطلت التواصل الاجتماعى بين شقى المجتمع بشكله الصحى، وأسست فى سبيل ذلك مفاهيم فتنة المرأة وأنها عورة كلها، لذا فالأصل وقارها فى البيت، ولفق الوهابيون - كعادتهم الأليفة - نصا قرآنيا لا علاقة له بهذا المعنى, وهى الآيات التى نزلت فى نساء النبى خاصة، وليست لكل نساء المؤمنين بعمومهم.
وقد قلنا فى مقالنا «السياق فى القرآن» تفسيرا لهذا النفاق الوهابى والتراثى من قبله ما نصه: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الأحزاب (32/34), فالآيات بلا شك كما هو موضح موجهة إلى نساء النبى خاصة، وذلك لعظم شأنهن ولمكانتهن الروحية والحكمية فى الإسلام، حيث هن أمهات المؤمنين, ورغم إن المعنى المراد من الآية والموجه لنساء النبى، لا يحتمل أبدا منعهن من الخروج من بيت النبوة, لكن الوهابيين دلسوا فى معنى الآية اللغوى، فجعلوه يوجب منع الاختلاط، وهو مصطلح من اختراعهم, ثم دلسوا للمرة الثانية فى توجيه السياق لكل النساء المسلمات ليضيقوا عليهن حياتهن ويحرموهن من الحياة الاجتماعية السليمة.
فلما خرجت المرأة وتحررت من قيود السبى الذى فرض عليها قرونا بفضل رؤية ذكورية فقهية وليس نظرة إلهية شرعية, ولما انتشرت وتمكنت فى بداية السبعينيات الآلة الوهابية, أنتج ذلك مجتمعا غير مؤهل للتواصل الصحى بين الرجل والمرأة, مجتمعا مضطربا لم يؤهل أبناؤه لإعادة تعريف العلاقات السليمة والصحية بين شقى المجتمع المسلم, فأصبح حائرا, بعضه يرى أن وجود المرأة وتواصلها مع الحياة فى العمل والشارع والبيت إنما هو أصل من أصول الحياة، وبعضه أصابته اللعنة الظلامية، فنجده يحرم ذلك التواصل, بل إنى رأيت بنفسى من يستقيل من عمله ويضيِّع وراءه من يعول، لأنه اقتنع بقول الوهابيين إن المال المكتسب من مكان عمل تختلط فيه النساء بالرجال هو مال حرام سحت.
إذن نحن أمام كارثة اجتماعية تتقاطع وتتضاد مع قيم الحياة الإنسانية من أساسها, وأيضا أمام كارثة دينية لا تعد إلا جزءا من براءة الاختراع المحفوظة باسم الوهابيين، لاختراع دين جديد يخالف النص القرآنى والسنة الصحيحة ويلتف حولهما التفاف الأفاكين والمنافقين, كما بينّا فى مدلول مصطلح «الخلوة», وكذلك فى إغفال السياق القرآنى فى آية نساء النبى، لذلك فليس لدينا وسيلة لمواجهة المرض الوهابى الذى أصاب الوعى المسلم فى مقتل، إلا أن نعود للمربع الأول لنرى كيف كانت الحياة الاجتماعية الصحية فى العهد النبوى، العهد الذى كان يعتمد المجتمع بطرفيه الرجال والنساء كأساس للبناء الحقيقى.
وسنورد الأمثلة التى توضح كيف كلمنا القرآن عن هذا التواصل، وكيف أكدته السنة النبوية, ثم نتوقف بالنظر عند آخرها، وهى رواية واحدة صحيحة وثابتة، لتوضح لنا كيف التف التراثيون ومن بعدهم الوهابيون حول النصوص الصريحة:
أولاً:
كان النساء والرجال يخرجون للصلاة فى عهد رسول الله, وقد استشف النبى واستشرف بفراسة النبوة بوادر للجلافة البدوية، والتشدد تجاه النساء فى ذلك الأمر، فقال قولا صريحا فى حديث ثابت صحيح قال:« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله« أخرجه أحمد (9362) وأبو داود (565), ولكن اللافت للنظر أن خط التشدد الذى فاق ما قاله النبى وأقره ليس وليد اليوم، بل فى عصور قريبة العهد بالنبى، فقد جاء بإسناد صحيح عند أبى داود (2213) وغيره رواية عن: عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا, قَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَسَبَّهُ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ أَسْوَأ مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ قَطُّ، وَقَالَ: سَمِعْتَنِى قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ, قُلْتَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ».
فهذا هو «بلال» ابن الصحابى الجليل «عبدالله بن عمر» يسمع قول رسول الله بخروج النساء ثم يقسم ألا يخرج النساء, ولكن رد أبيه كان حاسما فسبه ولطمه على وجهه كما فى روايات أخرى, ولكن الآن من يلطم الوهابيين على وجوههم ليستفيقوا كما فعل «ابن عمر».
ثانيا:
كان النساء والرجال يصلون فى مسجد الرسول مجتمعين صفوفا متراصة بلا ساتر ولا حاجب, ولم ينكر رسول الله ذلك الاجتماع بينهم قبل الصلاة وأثناءها وبعدها، لأن ذلك الاجتماع أصل من أصول الحياة الإنسانية عند العقلاء, وذلك لأن المجتمع حينها كان صحيا ونقيا فلم يفترض النبى أو غيره أن يشتهى رجل من المسلمين النساء اللاتى يصلين وراءه، لأن الإسلام لم ينزل إلى الدنيا لافتراض أن الرجال والنساء من مرضى القلوب، يتركون الصلاة ويتفرغون للشهوة، وحتى لو حدثت الشهوة فى هذا الموضع فى نفس أحدهم أو أحدنا فهى حالة فردية مَرَضية, والإسلام نزل لأصحاء القلوب, بل إن النبى أمر النساء فى صلاة العيدين أن يخرجن ولو كُنّ فى فترة عدم الصلاة, ولكن الآن، ولأن أجيالا تربت على دين الوهابية فلعلهم لا يستطيعون احتمال وجود المرأة معهم فى المسجد دون ساتر ولا حائل, وهكذا نجح الوهابيون فى انتزاع التواصل السليم والصحى بين الرجل والمرأة فى الإسلام، ووضعوا مكانه مفاهيم الفتنة والعورة، فأصبح العقل المسلم الذكورى لا يتخيل فى المرأة إلا وساوس وهلاوس جنسية حتى لو كانت تصلى خلفه فى المسجد, ولو كان الاختلاط رغم دناءة المصطلح - حراما لكان أولى أن يكون حراما فى مسجد رسول الله وبحضرته, بل إننا نجد الشعيرة الكبرى فى أعمدة الدين وهى الحج، قائمة فى أساسها على الاختلاط, فالنساء يطفن مع الرجال مختلطات، وقد كانت أمهات المؤمنين أنفسهن يفعلن ذلك كما ثبت ذلك عند البخارى وغيره, بل إن النساء فى الحرم يصلين قبل الرجال، وكثيرا ما يصلى الرجال خلف النساء الغرباء, ولكن الإسلام كما قلنا لم ينزل ليفترض أن كل الرجال من المرضى الذين يذهبون للحج أو العمرة لاختلاس النظر إلى النساء فى الحرم.
تابع معنا الباقيه
تحريم الاختلاط بين النساء والرجال فى الإسلام وهم كبير
◄العقلية الإسلامية بعد النبىصلى الله عليه وسلم عادت لمفاهيم الجاهلية التى تعتبر المرأة فتنة وعورة
◄ كانت النساء فى العهد النبوى يعملن ويحاربن.. والدليل تجارة أم المؤمنين السيدة خديجة
◄كان المجتمع النبوى نقيا فى تصور علاقاته الاجتماعية بين المرأة والرجل حتى لو أتيح اللقاء فى المسجد أو الحج أو العمل
فى حقبة الإسلام الوهابى المظلم التى يعيشها العقل المسلم المعاصر، دائما ما نجد خطابا موجها ومركزا على تدمير الحياة الاجتماعية الصحية بين طرفى المجتمع المسلم, خطابا أحمق يخترع ويبتدع مصطلحات مضافة لم يعرفها الإسلام فى عصر التطبيق النبوى، وهو عصر التطبيق «الأساس» الذى يبنى عليه ويؤخذ منه, ولا يضاف إليه أو يزاد عليه, لكن الدين «المتوهبن» اليوم صور للعقل المسلم أن خروج النساء من بيوتهن للعمل أو لغيره كان سببا مباشرا لفساد الدين والدنيا, بل إن الحمق المركب يتخطى ذلك، حيث يتخذ الجهل البهيم مساره التصاعدى الطبيعى لنجد أنصار الوهابية يدَّعون أن كل كوارث وهزائم المجتمعات الإسلامية اليوم سببها خروج النساء, حتى عودة القدس من محتليها ربطها السفهاء بعودة النساء إلى خدورها - بيوتها .
وحسب النهج الذى يتبعه الوهابيون، فهم يخترعون دوما فى الدين المضاف مصطلحات تؤسس لهم، وتمهد الطريق لاستتباب أركان تسلطهم بالغلبة على الوعى العام عند المسلمين, فاخترعوا وابتدعوا لهذا الشأن مصطلح «الاختلاط»، وهم يقصدون به توصيف حالة خروج المرأة المسلمة من بيتها للعمل أو للدراسة أو حتى للتنزه والتبضع, وقد أجاد الوهابيون كعادتهم - فى اختيار ونحت المصطلح، حيث توحى كلمة «الاختلاط» لسامعها بشىء حقير فى النفس، ليتخيل أن ممارسة المرأة المسلمة لحياتها الطبيعية ودورها الاجتماعى، هو اختلاط يمثل تمازجا جنسيا بين المتواجدين فى مكان واحد, بل إنهم قد زادوا عليه المصطلح التراثى الشهير «الخلوة المحرمة»، ليخلطوا الأوراق على السامعين, برغم أن «الخلوة» فى الشريعة ليست تتمثل فى وجود نساء ورجال، أو رجل وامرأة فى مكان واحد وحسب, ولكنها تعنى وجود رجل وامرأة باتفاق منهما فى مكان واحد، لا سبيل بأى شكل لدخول شخص ثالث عليهما أبداً.
ومن هذا وغيره اختلطت المفاهيم الأساسية للشريعة، واستقر فى نهاية الأمر الوعى المسلم على أن النساء جمرة من لهب, وقطعة من فتنة محققة, إذا ما ظهرت على الرجال ذهبت عقولهم، وهموا بمواقعة الحرام معهن, ما أدى بدوره لتوليد مجتمعات مريضة لا ترى المرأة إلا آلة جنسية وشرا مستطيرا ينتشر بين الرجال ليفسد عليهم دينهم ودنياهم.
وهكذا خرجت إلينا أجيال مريضة تبطن اعتقادا راسخا، أن الدين يحدد ويقصر على المرأة مكانها بالبيت، صيانة لها من الوحوش والذئاب, حيث رسخ الظلاميون مفاهيم المرضى بالجنس كمفهوم عام, فأصبحت ممارسة الحياة الاجتماعية بشكلها المعاصر للمرأة المسلمة، هى طريق مؤدية لا محالة للوقوع فى الحرام, وقد ساعدهم على تثبيت هذه المفاهيم، وتأكيد اختراع «الاختلاط المحرم» هذا الكم المتزايد من العلاقات الآثمة والزيجات السرية التى انتشرت فى المجتمعات الإسلامية, فنجحوا بدهاء معروف فى ربط تلك النتائج بمقدمات تسبقها وهو «الاختلاط», فصدق الوعى المسلم أن خروج النساء سبب لكل هذه المهالك التى نشهدها، وأن براءتنا من تلك الآفات والآثام، إنما تكمن فى الحل السحرى، وهو رجوع النساء لـ«الحرملك».
برغم إن كل هذه الآفات الاجتماعية، ما هى إلا نتاج وإنتاج من هذه المفاهيم, المفاهيم التى عطلت التواصل الاجتماعى بين شقى المجتمع بشكله الصحى، وأسست فى سبيل ذلك مفاهيم فتنة المرأة وأنها عورة كلها، لذا فالأصل وقارها فى البيت، ولفق الوهابيون - كعادتهم الأليفة - نصا قرآنيا لا علاقة له بهذا المعنى, وهى الآيات التى نزلت فى نساء النبى خاصة، وليست لكل نساء المؤمنين بعمومهم.
وقد قلنا فى مقالنا «السياق فى القرآن» تفسيرا لهذا النفاق الوهابى والتراثى من قبله ما نصه: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الأحزاب (32/34), فالآيات بلا شك كما هو موضح موجهة إلى نساء النبى خاصة، وذلك لعظم شأنهن ولمكانتهن الروحية والحكمية فى الإسلام، حيث هن أمهات المؤمنين, ورغم إن المعنى المراد من الآية والموجه لنساء النبى، لا يحتمل أبدا منعهن من الخروج من بيت النبوة, لكن الوهابيين دلسوا فى معنى الآية اللغوى، فجعلوه يوجب منع الاختلاط، وهو مصطلح من اختراعهم, ثم دلسوا للمرة الثانية فى توجيه السياق لكل النساء المسلمات ليضيقوا عليهن حياتهن ويحرموهن من الحياة الاجتماعية السليمة.
فلما خرجت المرأة وتحررت من قيود السبى الذى فرض عليها قرونا بفضل رؤية ذكورية فقهية وليس نظرة إلهية شرعية, ولما انتشرت وتمكنت فى بداية السبعينيات الآلة الوهابية, أنتج ذلك مجتمعا غير مؤهل للتواصل الصحى بين الرجل والمرأة, مجتمعا مضطربا لم يؤهل أبناؤه لإعادة تعريف العلاقات السليمة والصحية بين شقى المجتمع المسلم, فأصبح حائرا, بعضه يرى أن وجود المرأة وتواصلها مع الحياة فى العمل والشارع والبيت إنما هو أصل من أصول الحياة، وبعضه أصابته اللعنة الظلامية، فنجده يحرم ذلك التواصل, بل إنى رأيت بنفسى من يستقيل من عمله ويضيِّع وراءه من يعول، لأنه اقتنع بقول الوهابيين إن المال المكتسب من مكان عمل تختلط فيه النساء بالرجال هو مال حرام سحت.
إذن نحن أمام كارثة اجتماعية تتقاطع وتتضاد مع قيم الحياة الإنسانية من أساسها, وأيضا أمام كارثة دينية لا تعد إلا جزءا من براءة الاختراع المحفوظة باسم الوهابيين، لاختراع دين جديد يخالف النص القرآنى والسنة الصحيحة ويلتف حولهما التفاف الأفاكين والمنافقين, كما بينّا فى مدلول مصطلح «الخلوة», وكذلك فى إغفال السياق القرآنى فى آية نساء النبى، لذلك فليس لدينا وسيلة لمواجهة المرض الوهابى الذى أصاب الوعى المسلم فى مقتل، إلا أن نعود للمربع الأول لنرى كيف كانت الحياة الاجتماعية الصحية فى العهد النبوى، العهد الذى كان يعتمد المجتمع بطرفيه الرجال والنساء كأساس للبناء الحقيقى.
وسنورد الأمثلة التى توضح كيف كلمنا القرآن عن هذا التواصل، وكيف أكدته السنة النبوية, ثم نتوقف بالنظر عند آخرها، وهى رواية واحدة صحيحة وثابتة، لتوضح لنا كيف التف التراثيون ومن بعدهم الوهابيون حول النصوص الصريحة:
أولاً:
كان النساء والرجال يخرجون للصلاة فى عهد رسول الله, وقد استشف النبى واستشرف بفراسة النبوة بوادر للجلافة البدوية، والتشدد تجاه النساء فى ذلك الأمر، فقال قولا صريحا فى حديث ثابت صحيح قال:« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله« أخرجه أحمد (9362) وأبو داود (565), ولكن اللافت للنظر أن خط التشدد الذى فاق ما قاله النبى وأقره ليس وليد اليوم، بل فى عصور قريبة العهد بالنبى، فقد جاء بإسناد صحيح عند أبى داود (2213) وغيره رواية عن: عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا, قَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَسَبَّهُ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ أَسْوَأ مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ قَطُّ، وَقَالَ: سَمِعْتَنِى قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ, قُلْتَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ».
فهذا هو «بلال» ابن الصحابى الجليل «عبدالله بن عمر» يسمع قول رسول الله بخروج النساء ثم يقسم ألا يخرج النساء, ولكن رد أبيه كان حاسما فسبه ولطمه على وجهه كما فى روايات أخرى, ولكن الآن من يلطم الوهابيين على وجوههم ليستفيقوا كما فعل «ابن عمر».
ثانيا:
كان النساء والرجال يصلون فى مسجد الرسول مجتمعين صفوفا متراصة بلا ساتر ولا حاجب, ولم ينكر رسول الله ذلك الاجتماع بينهم قبل الصلاة وأثناءها وبعدها، لأن ذلك الاجتماع أصل من أصول الحياة الإنسانية عند العقلاء, وذلك لأن المجتمع حينها كان صحيا ونقيا فلم يفترض النبى أو غيره أن يشتهى رجل من المسلمين النساء اللاتى يصلين وراءه، لأن الإسلام لم ينزل إلى الدنيا لافتراض أن الرجال والنساء من مرضى القلوب، يتركون الصلاة ويتفرغون للشهوة، وحتى لو حدثت الشهوة فى هذا الموضع فى نفس أحدهم أو أحدنا فهى حالة فردية مَرَضية, والإسلام نزل لأصحاء القلوب, بل إن النبى أمر النساء فى صلاة العيدين أن يخرجن ولو كُنّ فى فترة عدم الصلاة, ولكن الآن، ولأن أجيالا تربت على دين الوهابية فلعلهم لا يستطيعون احتمال وجود المرأة معهم فى المسجد دون ساتر ولا حائل, وهكذا نجح الوهابيون فى انتزاع التواصل السليم والصحى بين الرجل والمرأة فى الإسلام، ووضعوا مكانه مفاهيم الفتنة والعورة، فأصبح العقل المسلم الذكورى لا يتخيل فى المرأة إلا وساوس وهلاوس جنسية حتى لو كانت تصلى خلفه فى المسجد, ولو كان الاختلاط رغم دناءة المصطلح - حراما لكان أولى أن يكون حراما فى مسجد رسول الله وبحضرته, بل إننا نجد الشعيرة الكبرى فى أعمدة الدين وهى الحج، قائمة فى أساسها على الاختلاط, فالنساء يطفن مع الرجال مختلطات، وقد كانت أمهات المؤمنين أنفسهن يفعلن ذلك كما ثبت ذلك عند البخارى وغيره, بل إن النساء فى الحرم يصلين قبل الرجال، وكثيرا ما يصلى الرجال خلف النساء الغرباء, ولكن الإسلام كما قلنا لم ينزل ليفترض أن كل الرجال من المرضى الذين يذهبون للحج أو العمرة لاختلاس النظر إلى النساء فى الحرم.
تابع معنا الباقيه