إسلام الفقهاء سبب تخلف المسلمين.. وإسلام الشريعة يؤسس لقواعد اليسر والحرج
التشدد حماقة يهودية أصابت العقل المسلم..والدليل انشغال الفقهاء بالتفرقة بين «المذى والمنى»
◄ المحرمات فى القرآن قليلة جدا.. والشريعة الإسلامية رحبة ولا تخلف وراءها إنسانا مبرمجا
لا شك أن جانب العقيدة والتوحيد كان الهدف الأسمى لكل الديانات القديمة مما قبل اليهودية, ثم فى مرحلة لاحقة انتقلت الديانات مع نزول الوصايا فى الألواح على النبى «موسى» إلى منحى مواز للعقيدة، ما تبلور فى وقت لاحق باسم الشريعة, والشريعة فى أى دين هى أوامر ونواه وعبادات ومعاملات تمثل التطبيق العملى لحقيقة التوحيد, بمعنى أن إظهار التوحيد لله انتقل إلى مرحلة التعبد بشريعة هذا الإله مما كان يستوجب بداهة نتيجتين هامتين, الأولى أن الله بداهة لا يريد الحرج والعنت والضيق لعباده من خلال التعبد بهذه الشريعة لأن مرمى وهدف نزول الشرائع ليس لذاك, والثانية أن الله لم يرد من عباده التعبد بالشريعة كغاية فى ذاتها بل هى وسيلة لهداية هذا الإنسان نفسا وروحا ومجتمعا.
ولكن بنى إسرائيل مع بدايات تلقى أول شريعة مكتوبة ظهرت فيهم حماقات كثيرة، لكن أكبر حماقتين مؤثرتين فى طريقة التعاطى والتعامل مع مفهوم الشريعة كانتا تتمثلان فى «التشدد وتوليد الأسئلة فى الأمر الواحد»، أو بمعنى مقارب هو الولوج فى تفاصيل العموم للشريعة، مما يجعل كل أمر فيها يتجزأ لآلاف الأوامر فينتج منه فى خلاصة الأمر شريعة مضاعفة، بمئات آلاف الأحكام التابعة واللاحقة للحكم الواحد, ما يؤدى بالضرورة إلى تقييد وتكبيل وضيق بالغ فى التعبد بهذه الشريعة ما قد يخرج الإنسان منها بالكلية.
وقد قص علينا القرآن للتدبر ألوانا من هاتين الحماقتين, ففى قصة البقرة الشهيرة الواردة فى سورة «البقرة» أمرهم الله على لسان «النبى موسى» أن يذبحوا بقرة وهو أمر إلهى على عمومه لا يحمل تفصيلا متعنتا, بل يحمل أمراً إلهياً يسيراً, فكان الواجب عند أهل العقل أن يذبحوا أى بقرة, ولكن الحماقة الأولى والكبرى ظهرت فبدأو عملية «توليد الأسئلة» الغبية, فيخبرنا القرآن عن سؤالهم الأول: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِىَ», ثم تلاه الثانى: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا», ثم الثالث: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا», ولا شك أن الأسئلة المتولدة عن هذه الأسئلة جائزة عند هؤلاء الحمقى مثال كيف نذبح؟ وبم نذبح؟ وباستخدام أى يد نذبح؟ ومن أين نذبح البقرة؟ وهنا يكون نتاج الحماقة الأولى الحماقة الثانية وهى «التشدد» حيث أصبح ما فعلوه دينا موازيا لمن بعدهم, ولو كان هؤلاء قد ذبحوا أى بقرة وبأى شكل لنجوا ونجا مَن بعدهم.
لذا فإننا نجد التعقيب القرآنى على ذلك الحمق، يؤكد أن «توليد الأسئلة» لم يكن بغية الاطمئنان على كيفية تنفيذ أوامر الله, بمعنى أن «توليد الأسئلة» لا ينم أو يعبر عن زيادة تقوى, بل عن جهل وحمق وقلة إيمان فيقول الله: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ», لكى يؤكد رب العزة أنه بعد كل ذلك كانوا على وشك عصيان الأمر كله لولا أن تداركهم العقل قليلاً.
وفى هذا السياق جاءت الآيات الكثر عن بنى إسرائيل تنعى عليهم الجهالة والتشدد, فقال الله: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ» آل عمران 93, وقال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» النساء 160, وقال: «وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» الجاثية (16-17), وعلى ذلك استمر اليهود فى التضييق المطلق بدءاً من قصة البقرة وحتى شرائع يوم السبت, فلنا أن نعرف أن يوم السبت عند اليهود يحرم فيه تقريبا كل شىء إلا التنفس ففى يوم سبتهم: «العمل بكل أنواعه حرام، فالزراعة حرام والصناعة حرام والتجارة حرام - إشعال النار للأكل حرام - إشعال النار للتدفئة حرام - نقل وتحريك الأشياء من مكانها حرام - الكتابة أو حمل الأقلام حرام - أعمال البناء حرام - تجهيز الطعام حرام - إنفاق النقود أو تسلمها حرام - السفر حرام - وحتى المشى أكثر من ميل ونصف حرام وبعض الطوائف لا تعده بالميل ولكن بعدد الخطوات».
إذن ماذا خلف هذا التشدد الجاهل, خلف وراءه تدينا بغيضا كريها أو ما نسميه «تدين الإنسان الآلى» كل حركة بحساب، كل لفتة بعقاب كل شىء مشكوك فيه حتى يستبين عكسه, وكل شىء حرام أصلا حتى نتأكد من حليته.
هل تعدت هذه المفاهيم للشريعة الإسلامية؟
اهتم القرآن وكما هو الحال فى تراتبية الدين، أولا بتنقية العقيدة من الشرك والكفر فى مكة بتأكيد عقيدة التوحيد, ثم بدأت الشريعة فى تبيين مراد الدين فى الأرض من هداية الإنسان للخير، وإقامة المجتمع الفاضل من خلال إعلاء القيم الإنسانية الكبرى كالحق، والعدل والخير والرحمة والإحسان والأمانة والصدق, هذا هو هدف الدين وروح الشريعة, ولذا نجد رب العزة يخط ويحدد فى آياته السماحة والبساطة فى هذا الدين، فنجد العبادات الخمس الكبرى فى الإسلام بسيطة وقليلة، كما نجد الأمر والنهى فى القرآن دائما ينحى بناحية صلاح المجتمع، والتأكيد على القيم العليا: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» النساء 58, «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل 90, وكذا نجد المحرمات فى القرآن قليلة ومحددة جداً, إذن نحن أمام شريعة رحبة لا تضييق فيها ولا عنت ولا حرج, وبالتالى لا تخلف بأى حال وراءها إنساناً آلياً مبرمجاً ومقيداً بقيود حمقاء كما فعل اليهود بدينهم وأنفسهم. وقد حددت آيات القرآن صفتين وسمتين حاكمتين لشريعة الإسلام فى كل زمان ومكان:
الأولى: اليسر:
فنجد رب العزة وصَّف هذه الشريعة التى أنزلت على المصطفى بوصف وخط مطلق لها موجها الخطاب نحو المقارنة بتشدد وضيق بنى إسرائيل فقال: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ» الأعراف157, وهذه الآية ألمت بالوصف الجامع المانع لهذه الشريعة التى جاءت لتضع عن أتباعها الإصر والأغلال والسلاسل - التشدد الأحمق - الذى وضعه بنو إسرائيل على تابعى شريعتها.
الثانية: رفع الحرج والمشقة:
وتلك الصفة المطلقة للشريعة إنما تستوضح وتتأكد من المفهوم الذى أسس له القرآن عن معنى ومظنة الحرج فيقول الله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» المائدة6, وهنا يؤسس القرآن لمفهوم الحرج وحدوده فى شرع الله, فبعد ذكر فرضية التطهر بالماء, ثم ذكر فرضية بديلة عند فقْد الماء وهى التيمم, يعقب رب العزة فى نهاية الآية وكأنه تبرير أو تفسير - وهو غنى عنهما لعباده أن فرضية الغسل والوضوء أو التيمم قبل الصلاة قد يظن بهما مظنة الحرج والتضييق, فيبين رب العزة أنها وسيلة لغاية التطهر: «وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ», وهو ما يؤكد أن تلك العبادات البسيطة جدا قد عدها الله قريبة من الحرج والتضييق, ما يدلل أن دأب الشريعة وخطها هو الابتعاد التام عن الحرج والضيق.
للحديث باقيه تابع معنا بعده
التشدد حماقة يهودية أصابت العقل المسلم..والدليل انشغال الفقهاء بالتفرقة بين «المذى والمنى»
◄ المحرمات فى القرآن قليلة جدا.. والشريعة الإسلامية رحبة ولا تخلف وراءها إنسانا مبرمجا
لا شك أن جانب العقيدة والتوحيد كان الهدف الأسمى لكل الديانات القديمة مما قبل اليهودية, ثم فى مرحلة لاحقة انتقلت الديانات مع نزول الوصايا فى الألواح على النبى «موسى» إلى منحى مواز للعقيدة، ما تبلور فى وقت لاحق باسم الشريعة, والشريعة فى أى دين هى أوامر ونواه وعبادات ومعاملات تمثل التطبيق العملى لحقيقة التوحيد, بمعنى أن إظهار التوحيد لله انتقل إلى مرحلة التعبد بشريعة هذا الإله مما كان يستوجب بداهة نتيجتين هامتين, الأولى أن الله بداهة لا يريد الحرج والعنت والضيق لعباده من خلال التعبد بهذه الشريعة لأن مرمى وهدف نزول الشرائع ليس لذاك, والثانية أن الله لم يرد من عباده التعبد بالشريعة كغاية فى ذاتها بل هى وسيلة لهداية هذا الإنسان نفسا وروحا ومجتمعا.
ولكن بنى إسرائيل مع بدايات تلقى أول شريعة مكتوبة ظهرت فيهم حماقات كثيرة، لكن أكبر حماقتين مؤثرتين فى طريقة التعاطى والتعامل مع مفهوم الشريعة كانتا تتمثلان فى «التشدد وتوليد الأسئلة فى الأمر الواحد»، أو بمعنى مقارب هو الولوج فى تفاصيل العموم للشريعة، مما يجعل كل أمر فيها يتجزأ لآلاف الأوامر فينتج منه فى خلاصة الأمر شريعة مضاعفة، بمئات آلاف الأحكام التابعة واللاحقة للحكم الواحد, ما يؤدى بالضرورة إلى تقييد وتكبيل وضيق بالغ فى التعبد بهذه الشريعة ما قد يخرج الإنسان منها بالكلية.
وقد قص علينا القرآن للتدبر ألوانا من هاتين الحماقتين, ففى قصة البقرة الشهيرة الواردة فى سورة «البقرة» أمرهم الله على لسان «النبى موسى» أن يذبحوا بقرة وهو أمر إلهى على عمومه لا يحمل تفصيلا متعنتا, بل يحمل أمراً إلهياً يسيراً, فكان الواجب عند أهل العقل أن يذبحوا أى بقرة, ولكن الحماقة الأولى والكبرى ظهرت فبدأو عملية «توليد الأسئلة» الغبية, فيخبرنا القرآن عن سؤالهم الأول: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِىَ», ثم تلاه الثانى: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا», ثم الثالث: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا», ولا شك أن الأسئلة المتولدة عن هذه الأسئلة جائزة عند هؤلاء الحمقى مثال كيف نذبح؟ وبم نذبح؟ وباستخدام أى يد نذبح؟ ومن أين نذبح البقرة؟ وهنا يكون نتاج الحماقة الأولى الحماقة الثانية وهى «التشدد» حيث أصبح ما فعلوه دينا موازيا لمن بعدهم, ولو كان هؤلاء قد ذبحوا أى بقرة وبأى شكل لنجوا ونجا مَن بعدهم.
لذا فإننا نجد التعقيب القرآنى على ذلك الحمق، يؤكد أن «توليد الأسئلة» لم يكن بغية الاطمئنان على كيفية تنفيذ أوامر الله, بمعنى أن «توليد الأسئلة» لا ينم أو يعبر عن زيادة تقوى, بل عن جهل وحمق وقلة إيمان فيقول الله: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ», لكى يؤكد رب العزة أنه بعد كل ذلك كانوا على وشك عصيان الأمر كله لولا أن تداركهم العقل قليلاً.
وفى هذا السياق جاءت الآيات الكثر عن بنى إسرائيل تنعى عليهم الجهالة والتشدد, فقال الله: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ» آل عمران 93, وقال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» النساء 160, وقال: «وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» الجاثية (16-17), وعلى ذلك استمر اليهود فى التضييق المطلق بدءاً من قصة البقرة وحتى شرائع يوم السبت, فلنا أن نعرف أن يوم السبت عند اليهود يحرم فيه تقريبا كل شىء إلا التنفس ففى يوم سبتهم: «العمل بكل أنواعه حرام، فالزراعة حرام والصناعة حرام والتجارة حرام - إشعال النار للأكل حرام - إشعال النار للتدفئة حرام - نقل وتحريك الأشياء من مكانها حرام - الكتابة أو حمل الأقلام حرام - أعمال البناء حرام - تجهيز الطعام حرام - إنفاق النقود أو تسلمها حرام - السفر حرام - وحتى المشى أكثر من ميل ونصف حرام وبعض الطوائف لا تعده بالميل ولكن بعدد الخطوات».
إذن ماذا خلف هذا التشدد الجاهل, خلف وراءه تدينا بغيضا كريها أو ما نسميه «تدين الإنسان الآلى» كل حركة بحساب، كل لفتة بعقاب كل شىء مشكوك فيه حتى يستبين عكسه, وكل شىء حرام أصلا حتى نتأكد من حليته.
هل تعدت هذه المفاهيم للشريعة الإسلامية؟
اهتم القرآن وكما هو الحال فى تراتبية الدين، أولا بتنقية العقيدة من الشرك والكفر فى مكة بتأكيد عقيدة التوحيد, ثم بدأت الشريعة فى تبيين مراد الدين فى الأرض من هداية الإنسان للخير، وإقامة المجتمع الفاضل من خلال إعلاء القيم الإنسانية الكبرى كالحق، والعدل والخير والرحمة والإحسان والأمانة والصدق, هذا هو هدف الدين وروح الشريعة, ولذا نجد رب العزة يخط ويحدد فى آياته السماحة والبساطة فى هذا الدين، فنجد العبادات الخمس الكبرى فى الإسلام بسيطة وقليلة، كما نجد الأمر والنهى فى القرآن دائما ينحى بناحية صلاح المجتمع، والتأكيد على القيم العليا: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» النساء 58, «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل 90, وكذا نجد المحرمات فى القرآن قليلة ومحددة جداً, إذن نحن أمام شريعة رحبة لا تضييق فيها ولا عنت ولا حرج, وبالتالى لا تخلف بأى حال وراءها إنساناً آلياً مبرمجاً ومقيداً بقيود حمقاء كما فعل اليهود بدينهم وأنفسهم. وقد حددت آيات القرآن صفتين وسمتين حاكمتين لشريعة الإسلام فى كل زمان ومكان:
الأولى: اليسر:
فنجد رب العزة وصَّف هذه الشريعة التى أنزلت على المصطفى بوصف وخط مطلق لها موجها الخطاب نحو المقارنة بتشدد وضيق بنى إسرائيل فقال: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ» الأعراف157, وهذه الآية ألمت بالوصف الجامع المانع لهذه الشريعة التى جاءت لتضع عن أتباعها الإصر والأغلال والسلاسل - التشدد الأحمق - الذى وضعه بنو إسرائيل على تابعى شريعتها.
الثانية: رفع الحرج والمشقة:
وتلك الصفة المطلقة للشريعة إنما تستوضح وتتأكد من المفهوم الذى أسس له القرآن عن معنى ومظنة الحرج فيقول الله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» المائدة6, وهنا يؤسس القرآن لمفهوم الحرج وحدوده فى شرع الله, فبعد ذكر فرضية التطهر بالماء, ثم ذكر فرضية بديلة عند فقْد الماء وهى التيمم, يعقب رب العزة فى نهاية الآية وكأنه تبرير أو تفسير - وهو غنى عنهما لعباده أن فرضية الغسل والوضوء أو التيمم قبل الصلاة قد يظن بهما مظنة الحرج والتضييق, فيبين رب العزة أنها وسيلة لغاية التطهر: «وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ», وهو ما يؤكد أن تلك العبادات البسيطة جدا قد عدها الله قريبة من الحرج والتضييق, ما يدلل أن دأب الشريعة وخطها هو الابتعاد التام عن الحرج والضيق.
للحديث باقيه تابع معنا بعده