كنا فى أحد أيام شتاء النصف الأول من الثمانينات من القرن الماضى وكانت قاعة المحكمة مكتظة بروادها ، ورغم برودة الجو إلا أن الإزدحام الشديد أشاع حالة من الدفء داخل القاعة ، وعندما جلست فى الصف الأول بجانب نفر من زملائى أخذت أجول ببصرى أبحث عن أحمد نبيل الهلالى ذلك المحامى الفذ العملاق والذى كان من المقدور أن يترافع فى هذا اليوم فى إحدى القضايا الهامة التى شغلت الرأى العام والمتعلقة بمجموعة من المنتسبين للحركة الإسلامية ، وكان كل الذى يدور فى مخيلتى آنذاك هو أنه كيف لرجل نشأ فى كنف الحركة الشيوعية المصرية حتى أنه أصبح رمزاً من رموزها وعلماً من أعلامها كيف له أن يقف اليوم مدافعاً ومترافعاً عن فريق يعد من أكثر الإسلاميين تطرفاً ، وكان وجه العجب الذى اعترانى وملأ جوانحى هو تاريخ هذا الرجل الغريب الذى كنت أعتبره أعجوبة من الأعاجيب ذلك أن أحمد نبيل الهلالى كان إبناً لنجيب الهلالى باشا الذى كان رئيساً للوزراء فى مصر قبل الثورة ، ليس هذا فحسب ولكن أباه أيضاً كان أحد الرموز الرأسمالية إبان ذلك العهد وكان البعض يصنفه كأحد كبار الإقطاعيين حيث كان يمتلك آلاف الأفدنة الزراعية والتى كانت هى مقياس الثروة فى مصر وقتها ، ورغم أن هذا الإبن – الذى لم يستلفت فى صغره نظر أحد – كان قد شب عن الطوق بين جنبات قصر أبيه يلتف من حوله الخدم ويستجيب لرغباته الجميع ، إلا أن أحداً لم ينتبه إلى أن حالة الصمت التى كانت تلازمه ما هى إلا لحظات تأمل يغوص خلالها فى أفكار ورؤى تستعصى على كبار المفكرين ، وأشد ما كان يقض مضجع هذا الصبى هو ذلك التفاوت الرهيب بين أصحاب الثروة والسلطة وبين هؤلاء الفقراء البسطاء الذين تموج بهم الحياة من حوله فى مصر ، ولطالما أصابته العديد من الأمراض فى طفولته الباكرة ولكأنما كان هذا الجسد النحيل يرفض الظلم الإجتماعى الصارخ الذى كان – ومازال – سمة من سمات الحياة المصرية.
لم ينتبه الأب السياسى الداهية الذى وصل إلى أعلى المواقع السياسية فى مصر إلى أن إبنه سيسير حتماً فى طريق مختلف وسيظل عمره كله يحمل بين جوانحه آلام هؤلاء الفقراء الحفاة العراة الذى يقتاتون الفتات ويكتسون الأثمال البالية ، وفى كلية الحقوق كان الطريق الآخر الذى إختاره أحمد نبيل الهلالى طريق الكفاح والجهاد من أجل الفقراء ومن أجل طبقة العمال الكادحين ، ونفذ الهلالى إلى عمق الحركة الشيوعية المصرية مجاهداً ومفكراً ومنظراً وحركياً... ومن أجل مبادئه عرفته حوائط السجون القاحلة المظلمة الكئيبة حيث زج به خلف قضبانها فى كل عصور الحكم فى مصر بدءاً من عهد فاروق وحتى أحداث سبتمبر 1981 ، ولم يكن من المستغرب أن يطلق عليه الجميع لقب "قديس الحركة الوطنية فى مصر" فقد درج منذ نعومة أظفاره على قيم ومبادئ قلما توافرت فى رجل واحد ، فمع نسبه الرفيع وسلطة أبيه إلا أنه كان قمة فى البساطة والتواضع وكأنه خرج من بيت ريفى فقير ولم يخرج من قصر عصرى مشيد ، وكأنه كان إبناً لعامل أو فلاح بسيط ولم يكن إبناً لرئيس الوزراء الإقطاعى ، ولذلك لم يأخذ العجب رفقاءه حينما تنازل عن الثروة التى آلت إليه من أبيه ، فمثل هذا الرجل لم يخلق لكى يكتنز أو ينفق ولكنه خلق لكى يجاهر بنصرة مبادئه التى آمن بها ، فلم ينافق أو يتنازل ، ولم يفرط فى مبادئه ولم يبخل طوال عمره مع تلاميذه ولم يبع أصحابه كما فعل الآخرون ، وكان مكتبه مفتوحاً لجميع الفقراء مجاناً حيث كان يترافع وينافح عن حقوق العمال بلا أتعاب بل ودون حتى أن يتقاضى مصاريف الدعوى ، كان هذا الرجل صادقاً وصدوقاً ظاهره كباطنه ومظهره كمخبره.
كانت هذه هى كل الأفكار التى اعترتنى وأنا جالس فى الصف الأول من قاعة محكمة جنايات القاهرة منتظراً تلك اللحظة التى ألمح فيها هذا المحامى الشهير عندما يتقدم ليترافع عن إسلاميين متشددين.
وعندما نودى على القضية إذا بى أفاجئ برجل نحيل يأتى من آخر القاعة مسرعاً لكى يقف أمام المحكمة ... يا الله!!! لقد كان هذا الرجل هو أحد الجالسين فى الصف الأخير منكباً على أوراقه فى دأب وإهتمام ولم أعرف وقتها أنه هو أحمد نبيل الهلالى إذ كان يرتدى تحت روب المحاماه معطفه الشهير الذى يشهد على زهده وتعففه عن مغانم الحياة الدنيا ومباهجها.
وكانت مرافعة الهلالى فى هذه القضية من أروع مرافعاته وأعظم مواقفه التى ذاد فيها عن حرية الإنسان فى أن يعتقد ما يشاء وأن يعبر عما يشاء ، وقد صب جام مرافعته على من أهدر حقوق الإنسان فى مصر وأضاع أدمية بنيها ، ورغم نحول جسد الهلالى إلا أنه أمام الجميع كان عملاقاً هصوراً يصول ويجول فى الدفاع ، وكأن المحاماه ما خلقت إلا له ، وكأن القانون كالخاتم بين أصبعه يحركه كيف يشاء.
ومن وقتها نشأت بينى وبين هذا العملاق أحمد نبيل الهلالى علاقة حميمية رغم إختلاف التوجهات الفكرية ورغم إختلاف الأجيال والأعمار ... وفى كل الأوقات كان مكتب الهلالى مفتوحاً لكل أصحاب التوجهات السياسية ، بل كان مكتبه هو الذى جمعنا يوم أن بدأنا فى معركتنا ضد الحراسة القضائية التى فرضت على نقابة المحامين ، وقد عرفته مصر نقابياً متفرداً وعضواً فى مجلس نقابة المحامين عبر عهود مختلفة إلى أن آثر الإبتعاد عن عضوية مجلس نقابة المحامين باختياره التام إيماناً منه بحتمية أن يخلى مكانه لجيل جديد فأعطى الهلالى بذلك مثلاً للجميع بالإيثار والتجرد ، ويوم أن ماتت زوجته ورفيقة عمره وكفاحه شعرت أن جسده النحيل الضعيف يحمل قلبا رقيقا شفافاً , وأحسست أن كيانه بدأ يهفوا للقاء زوجته وكأنه مل وضجر من هذه الحياة , وبالرغم من ذلك كانت إبتسامته الرقيقة الحانية تغمرنا جميعا وتظلل علينا ... رحم الله أحمد نبيل الهلالى الذي علمني التسامح مع المختلفين معي في الرأي ....... فقد مات وتركنا. منقول من النص الاصلى المكتوب بمعرفة الاستاذ ثروت الخرباوى وللتاريخ نشهد أن هذا الرجل العملاق كان مدرسة فى كل شىء وكانت بحار علمه وادبه وزهده بحار لايحدها شطآن رحمة الله عليه صاحب مدرسة السلوك العف والترفع عن كافة الدنايا. محمد راضى