ويراها البعض تفوق ثورة يوليو 52أو ربما ثورة 19 وما بينهما من احتجاجات وتقلبات، لقد تميزت عن الثورات التقليدية القديمة بأدواتها التكنولوجية التي فاجأ بها الشباب النظام والعالم كله مثل الفيس بوك وتويتر وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي .
لقد كانت الطرق التقليدية من عمليات التغير المتبعة هي : ـ
1) الانقلابات
2) حرب العصابات
3) الخروج المسلح وعمليات الاغتيال
أما الآن فقد نجحت الطريق الجديدة في حشد ما لا يحلم به أكبر أحزاب العالم تنظيما، وما لم تستطع التنظيمات السرية والخلايا العنقودية فعله و التحرك به ساعة الصفر.
وهذا ما يجعلنا نسأل كيف يمكن أن يكتب المؤرخ بعد انقضاء الحدث تاريخ مثل هذه الثورة، ثم كيف نوثق لها ونستمد من هذا التوثيق لكي نعرف بها المدلولات و المعاني والأهداف.
25 يناير الثورة
"الثورة" فعل استثنائي يكسر القيود في تعامله مع الأشياء، ورصد تاريخ المراحل الثورية أحد تجليات هذه الثورة، تترك عليه آثارها، من حيث طريقة كتابة هذا التاريخ، طبيعة أدوات المؤرخ الذي يتصدي له.
الحدث
عندما تكثر التناقضات في المجتمع تخرج الثورة من رحم الأحزان ، وهذا يصوره لنا بدقة " برنتون " في دراسته التحليلية عن الثورات فيقول (إن السنوات التي تسبق اندلاع الثورات تشهد سيلاً من الاحتجاجات ضد طغيان الحكومة ، وأكداسا من الكتيبات، والخطب والأفلام وتفجرا في نشاط الجماعات الضاغطة صاحبة المصلحة ) ومن هنا تأتي الثورة ، فالحدث معبراً ويحمل إرهاصات كثيرة ودلائل أكثر وهذا ما ربما يتنبأ به الحكماء والوعاظ والعلماء في أحيات كثيرة.
التوثيق
هي عملية جديدة ، فعمليات التوثيق القديمة كانت الوثائق المكتوبة في الأرشيفات الحكومية والأوراق الشخصية والمدونات الحكومية والمصادر المكتوبة ، أما الآن فكاميرات الديجيتل و الموبيلات وهتافات الثور وشواهد الحوائط والفيديوهات والأفلام التسجيلية والأفلام السينمائية ، كلها من أدوات التوثيق الحديثة ، فضلاً عن شهود العيان ، وأخيراً ودلائل الأمور ولربما تصبح كما يقول الجاحظ المعتزلي " دلائل الأمور أشد تثبيتا من شهادات الرجال "
مكونات الثورات من العناصر والأفكار والاتجاهات
العناصر الشخصية وهم (الثائرون ) وهم المتسببون في الثورة وإحداث الشرارات الأولي ، وليس المهم من أشعلوا فتيل التحرك الميكانزمي ، ولكن ممكن أن تجلس جماعة أو تيار يدعوا إلي تثوير الجماهير ويضحي ويسجن أتباعه ويتعرضون لتعذيب والتهميش الاجتماعي والهجوم الإعلامي ويصبحون فعليا هم دعاة الثورة الحقيقية أمثال بعض الإسلاميين وبعض الاتجاهات اليسارية وفريق محدود من الليراليين .
(المؤيدون) وهم الذين لم يشتركوا في فعل الثورة ، ولكنهم عندما عرضت عليهم أيدوها وساندوها بعد الشرارة الأولي وممكن في الخطوات المتقدمة لها أن يكونوا فاعلين ، وهؤلاء هم وقود الثائرون ومن اعتمدوا عليهم بعد التحركات الأولي ، وهم في الغالب الطلاب والمهمشين والمعدمين وأصحاب الإيديولوجيات المناضلة ممن سحقهم النظام في مرحل سابقة عن الثورة ، وبعض هؤلاء انسحابيون وقت الأزمات ولكن مادام هؤلاء يشعرون أن البعض يحرز تقدم، فنجدهم في المقدمة.
(المتفرجون) وهم مايطلق عليهم مؤخراً حزب (الكنبة والبطانية) ، والذين يشاهدون المباراة ، وربما يشجعون اللعبة ـ الحلوة كما يقال ـ ولكنهم يجلسون علي مقاعد المتفرجين ، ولا ينتقلون أبدا إلي أي من المستويات الأخرى ، هؤلاء في الغالب هم الخطر علي الثورة لأنه عندما تتعارض مصالحهم مع الثورة يخرجون وينالون من الثوار ويطلقون الصيحات والتصريحات.
(المعارضون) وهم الأعداء الذين يصرحون ليل نهار أنهم اعداء لعمليات التغير ، وإلي أي تطور في المجتمع ، (إلا نعرفه أحسن من إلي منعرفوش) ، وهؤلاء الأشخاص مناوئون يتصيدون الأخطاء ويعملون علي ترويج الإشاعات وإثارة الرأي العام دائما ، ودائماً يقولون (أننا إلم نقل لكم هؤلاء هم العملاء يأكلون الكنتاكي ويقبضون الدولارات ويحصلون علي كذا وكذا .
المجتمع المصري والثورة
أخرج المجتمع المصري ثورات وثائرين فعندنا ثورة عرابي أو ما أطلق عليها الناس في بر مصر (هوجة عرابي ) 1881ثم ثورة1919، والتي كانت تدعو لرحيل الإنجليز وأظهرت قوة المجتمع المصري وتواؤما ته الاجتماعية والفكرية .
وهناك ثورة 1952للضباط الأحرار والتي خرجت علي استبداد الملك وفساد الحاشية .
وهناك محاولات انقلابية ، كانت أولاها محاولة حركة الفنية العسكرية بقيادة المرحوم صالح سرية ورفاقه ، ثم كانت عملية اغتيال الرئيس الراحل السادات ومحاولات الخروج المسلح علي نظام مبارك والاستيلاء علي السلطة عام 1981، ثم الحركات الاحتجاجية منذ 6أبريل عام 2005، حتي ثورة 25 يناير المباركة .
الصناعة الثورية صناعة وطنية أم خارجية
كلمة ثوري نعني لأكثر المصريين معني غير مستحب ، ترادف أحيانا كلمة شيوعي أو إخواني او مركسي او في بعض الأحيان إرهابي متطرف ، صاحب لحية ، ورث الثياب ، متردد في أغلب الأحيان علي مقرات امن الدولة ، واقرب من يزوره باستمرار هم زوار الفجر من فروع امن الدولة الخاص بمنطقته ، كما أنه يجيد الخطابة والتأمر علي الحكومة ومستعد للعنف .
وفي كتابه الهام والشيق "الحركات الجماهيرية "يري إريك هوفر ( أن الثورات يعدها رجال يجيدون الكلام (الثوار ) ويحققها المتحمسون والمتعصبون ، ويروضها رجال عمليون ، اما الرجال الذين يجيدون الكلام هم المثقفون والنخبة والذين يفضحون التناقضات ومستويات الفساد الاجتماعي والسياسي ، أما المتحمسون الذين يندفعون بدون حسابات و قواعد العمل السياسي المتعارف عليه ، اما الذين يروضون الثورات فهم في الغالب من يرجع الثورات إلي مستوي المجتمعات العادية.
وهؤلاء في الغالب أيضا من يحكمون في مقدمات الثورات وتطوراتها الأولي ، فالذي يتولي الحكم في البداية يكون ثوريا ويصبح إصلاحيا وينتهي مستبدا دكتاتوريا ، لذلك يجب ان لا يحكم الثوار أبدا قطاعات الجماهير الغير ثائرة لان ردة الواقع تجعل الثائر يعود في الفعل الثوري إلي مربع الصفر أو إلي أفعال الحاكم المستبد مرة أخري .
لذلك من الممكن ان نجد كثير من الثورات والثائرين يتهمون بالخيانة العظمي او عندهم علاقات خارجية أو ممولين من الخارج .
المؤرخ المصري والثورة
إن عملية تأريخ وتوثيق الثورة كما يقول الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة ، تغيرت كما تغير المجتمع المصري لقد عبر الشعب المصري عن نفسه وإرادته بطريقة مختلفة في الفترات السابقة ، لذلك تغيرت حركة كتابة التاريخ في خلال العشرين عاما الماضية .
فحتي الوثائق الرسمية لم تعد هي الوثيقة التي تعلن بالصحف، كذلك وثائق ويكيليكس والفضائح، أيضا التعامل مع الخطب واللقاءات لعبد الناصر والسادات وتحليلها، كل هذا تغير، مما استلزم أن يتغير المؤرخ هو الآخر من حيث وسائله ومصادره .
ثورة "25 يناير" هي الأكثر صعوبة، فمثلا إذا تم الاستعانة بجريدتي "الأهرام" و"الأخبار" لن نجد ثورة، وأيضا تعدد الرؤي ووجهات النظر الرسمية وغير الرسمية، كذلك وثائق السفارات فالسفارة الأمريكية كانت سريعة جدا يليها الفرنسية والإنجليزية.
كما أنه لابد من الجلوس مع عمر سليمان وأحمد شفيق لمعرفة الكواليس في الأيام الأخيرة للرئيس المخلوع "مبارك"، ومهم جدا الدكتور حسام بدراوي لأنه هو آخر من رأي مبارك في آخر ثلاثة أيام قبل التنحي، كذلك يوميات الشباب بميادين التحرير وفي السويس والإسكندرية، فلا بد من جمع المادة من الآن.
ويؤكد أنه ستحدث تغيرات عميقة في طرق التناول للتاريخ، خاصة أن تاريخ الزعامات قد انتهي، بالتالي المنهج القديم وهو كتابة الثورة من خلال الزعيم مثل ثورة عرابي ويوليو 1952، وهو ما اعتمدت عليه المدرسة التاريخية القديمة سوف يتغير بشدة مع ثورة "25 يناير" لأنها بلا زعيم فالزعيم الحقيقي هو "الشعب" ، وهو ما لم تتعود عليه المدرسة التاريخية، لذا علينا أن تغير المنهج بشدة مما سيوجد حالة تنافسية وسيفرز أكثر من مؤرخ جيد".
أما الدكتور إيمان عامر أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة ، فتري أن الرؤية لاتزال ضبابية بالتالي يصعب كتابة التاريخ الآن، وكان أستاذي يقول لي دائما التاريخ مثل الورقه المكتوبة عندما تقترب من العين لا نرها وعندما تبتعد رويدا رويدا نرها وتتضح الرؤية وتظهر ، وهكذا التاريخ ، وعلينا في هذه الفترات ان نوثق بعملية الرصد .
وعلينا أن نرصد أحداث الثورة، من خلال مصادرها المختلفة والمتنوعة، التي تعد من متغيرات العصر كالمدونات والشبكات الإليكترونية، وجمع الشهادات من شهود العصر، من المهم الشيخ حافظ سلامة في المقاومة الشعبية بالسويس.
كذلك المواد الصحفية الخبرية والمقالات، والتي أؤمن بها -بشكل شخصي- كمصدر تاريخي مهم جدا للمؤرخ ولن يموت مطلقا.
فيديوهات الثورات نموذجاً
ويضع د. عبد الغني منديب أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس- الرباط الصور المتحركة للثورات العربي علي ثلاث مستويات توثيقية : ـ
النوع الأول ونسميه بالساخن ـ وسوف نشرح في السطور الآتية, الخلفيات النظرية والإبستمولوجية لهذه التسميات ـ ونقصد به الفيديوهات التي أنتجت, على مستوى الشكل, في غالبها بواسطة هواتف محمولة, أما على مستوى المضمون فإنها تحمل صورا من قلب المعارك, حيث يعمّ القتل ويسود التعذيب, وحيث تنطوي عملية تسجيل هذه الفيديوهات على خطر الموت.
النوع الثاني وندعوه بالبارد, ونقصد به مقتطفات من تغطية بعض القنوات الفضائية العربية, سواء الداعم منها والمساند للانتفاضات العربية كقناة الجزيرة, أو المعادي لها كالقنوات الرسمية لكل من ليبيا واليمن وسوريا او حتي مصر في بدايات الثورة .
وتتميز هذه الصور, على مستوى الشكل, بكونها ملتقطة من قبل مصورين محترفين وبمعدات احترافية, أما على مستوى المضمون فإنها تندرج في إطار الصراع السياسي بشكليه الصريح والمضمر بين الجهات الداعمة للتغيير في البلدان العربية أو المناهضة له، والمستعملة للصورة، والصورة المتحركة على سبيل التحديد كأداة حرب ومواجهة وإستراتجية صراع.
النوع الثالث وننعته بالرمزي الفني, ونقصد به بعض الأفلام القصيرة الموضوعة على الشبكة العنكبوتية, والتي تتميز بكل خصائص العمل الفني السينمائي من تأليف، وإخراج، وتمثيل، ورمزية، وجمالية فنية ؛ كفيلم الثورات العربية بجزأيه الأول والثاني من تأليف وإخراج "صفوان ناصر الدين".
لا يدعي هذا التصنيف البتة الإحاطة والشمولية, وإنما هو لا يعدو كونه مجرد نموذج تحليلي تمثيلي بالمعنى الفيبيري للكلمة, أي مجرد إطار تحليلي مقترح في إطار محاولة جمع شتات هذه الصور المتحركة وإنتاج المعنى الذي تحبل به, أو دعونا نقول من باب التنسيب, بعضا منه على الأقل.
علي الأقل لقد وضعنا تصوراً مبدئيًّا لكيفية توثيق الأحداث ، تمهيدا لتدوينها ، انه لجهد شاق وعمل مضني .
لقد حكي لي د/ أحمد هارون أستاذ اللغة التركية بجامعة المنصورة أنه شاهد في مركز توثيق الجهاد الليبي مئات الشهادات الموثقة بالفيديو لقيادات وشخصيات ليبية مهمة ، أجراها معهم مجموعة من الشباب الوطني المخلص لفكرة التاريخ الشفاهي أو الرواية الشفهية ، فهل نستطيع ان نمر في مصر حارة حارة وزقاق زقاق وزنجة ونجة لنستقي من هذا التاريخ المنسي حقائق غاب عنها التاريخ ؟؟؟!!