إن الإدعاء بأن الحدود تطبيقها لا يلائم العصر ولا يتفق مع المدنية الحديثة إدعاء قائم على تصور يشوبه القصور فى فهم النظام العقابى فى الإسلام ، فالحدود السابق الإشارة إليها تحمى مصالح المجتمع ، كما أنها محاطة بضمانات تجعل تطبيقها محدوداً وقاصرا على الحالات التى تهدد أمن المجتمع وتهدد مصالحة . وإن كانت قاسية كما يدعى البعض ، فلينظر الجميع إلى معدلات الجريمة فى ظل تطبيق القوانين الوضعية ، وعدد الأرواح التى تزهق ،والأموال التى تسرق ، وما يتحمله المجتمع من مفاسد نتيجة ذلك . ونذكر فى هذا المقام شهادة القانونى فارس الخورى إذ يقول " تذكرون ولا شك عندما تضعون فى الموازنة العامة للدولة المباغ الطائلة التى تخصص للأمن العام ،والشرطة ،والدرك ،والمحاكم كرواتب ونفقات ... فلو طبق الشرع الإسلامى وقطعت يد فى حلب مثلا ... وجلد آخر فى دير الزور ورجم ثالث فى دمشق ، وكذلك فى بقيية المحافظات ، لإنقطع دبر هذه الجرائم ،ولتوفر ثلاثة أرباع الموازنة العامة "
وإن استقرار المجتمعات لهو الهدف المنشود والتى ترمى اليه جميع السياسات ، وجميع النظم ، وتحاول بشتى السبل والمناهج لتحقيقه ، والناظر إلى المجتمعات المعاصرة ، يدرك ما تفعله ، وما تنشأه من أدوات وأجهزة ووسائل ، وما تستحدثه من فلسفات ومناهج واساليب ، يقوم بوضعها مؤسسات علمية ،وتربوية وفنية ، الى جانب الؤسسات السياسة والتشريعية والتنفيذية ... ورغم كل ذلك وكل هذا الجهد فإن هذه المجتمعات المعاصرة - دون استثناء – تعانى فى المجال الإجتماعى إضطراباً شديداً وعدم استقرار يتمثل فى إنتشار الجريمة بكل صورها من سرقة وقتل وسطو وسرقة بالإكراه، وهتك للأعراض ،واغتصاب بالقوة ، بل واغتيالات جريئة فى تحدى لكل أجهزة الأمن القائمة .
ومن يرى كل هذه الوسائل التى تستخدم فى المجتمعات المعاصرة من أجل تحقيق الإستقرار ، ثم يجد هذه هى النتيجة حيث لا إستقرار ولا أمان بل باتت الجريمة ظاهرة طبيعية فى المجتمعات ، يدرك يقيناً قصور تلك الأدوات التى ارتكنت إليها المجتمعات المعاصرة .
وفلسفة العقاب فى التشريع الإسلامى فلسفة رائعة ، ذلك أنها راعت أن الإنسان يعيش صراعاً داخليا بين الشر والخير، ومن ثم جمعت الشريعة بين الترغيب والترهيب ، لأجل تقوية الباعث على الإقدام على الخير ، والإحجام عن الشر.
وإقامة الحدود تحمى مقومات الإنسان ، فمرادها حماية المقومات الضرورية لحياة الإنسان ، ذلك الإنسان الذى صوره الله بيده وكرمه وفضله . وحياة الإنسان قوامها على مايعرف بالضرورات الخمس وهى مقومات الوجود للفرد وهى الدين - النفس- العقل - العرض- المال.
ولقد اتفقت سائر الديانات السماوية على تقديس هذه الحرمات ، بل شاركهم فى ذلك القوانين الوضعية فهاهى المادة الثانية من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان تنص على (أن الغاية من كل مجتمع سياسى هى حفظ الحقوق والحريات الطبيعية للإنسان) وإن كان الشريعة الإسلامية وضعت من القواعد والضوابط ما من شأنه أن يحافظ بحق وصدق على تلك المقومات ، ذلك لأن الحفاظ عليها ، هو أولى أولويات التشريع الإسلامى ، فحيت تخلفت القوانين الوضعية ،ولم تستطع توفير الحماية الحقيقية لصيانة تلك الحقوق الطبيعية .
كما أن ترتيب تلك الحقوق يختلف فى الشريعة الإسلامية عنه فى الشرائع الوضعية ، فالدين أعز على المسلم وأقدس من كل ما عداه ، ثم تأتى بعد ذلك حرمة النفس ، ومن بعدها العقل ثم العرض ثم المال.وما الحدود إلا مانعا دون التجرأ على هذه الحقوق والحرمات .
ومع أهمية الحدود وأهمية تطبيقها إلا أنها محاطة بضمانات عجيبة تجعل من النادر تطبيقها ، وهو ما جعل علماء الشريعة يقولون "إن إدعاء القسوة والشدة فى حدود الشريعة الإسلامية ، مظهر من مظاهر السطحية فى فهمها ، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها .
يعلم كل دارس للشريعة الإسلامية وعقوباتها أن ما يبدوا فى حدودها من القسوة ، لا يعدو أن يكون قسوة تهديد وتلويح ، فهو أسلوب تربوى وقائى أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو علاجاً بعد الوقوع ، وهى بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة فى المجتمع "
وبإستقراء شروط إقامة كل حد من الحدود المقررة فماذا نرى ؟
فحد الزنا مثلاً أعلنت الشريعة أن الزانى المحصن يعاقب بالرجم ، وهو إعلان مخيف ، وتلويح بسلاح رهيب ولاشك ، لكن لننظر إلى ما اشترطه التشريع الإسلامى لتطبيق الحد فلقد اشترط لإيقاع هذه العقوبة أحد شرطين : الأعتراف القاطع الصريح ، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته ، ويشترط جمهور الفقهاء أن تتفق شهادتهم ولا تتخالف.
ولنقف وقفة بتدبر أمام الشرطين سنجد أن هذا الحد شبه مستحيل ثبوته بغير الإعتراف والإقرار الصريح .
الإقراركذلك نادر فمن ذا الذى سيذهب ليقر على نفسه بإثم ارتكبه ، مقرر له مثل هذه العقوبة ، اللهم إلا شخص تاب وأناب ، ودفعه ضميره الحى إلى أن يطهر عسى أن يكفر الله عنه ذنبه . ثم إنه إذا أقر على نفسه فإن القاضى يجب أن يراجعه فى اقراره ، عسى أن يرجع عنه ، وحكاية ماعز رضى الله عنه كافية لبيان الحقيقة ، وكيف حاول صلى الله عليه وسلم مراجعته فى اقراره. وكيف نصحه بالتوبة والتستر .
واثبات مثل هذا الحد بشهادة الشهود أكثر ندرة بل هو شبه مستحيل ، فمن ذا الذى يرتكب مثل هذه الجريمة - هو يعلم بعقوبتها- دون أن يأخذ من الحيطة والحذر ، ويرتكبها على نحو يمكن أن تقع عليه أعين أربعة العدول مقبولى الشهادة .
وحسبك أن تعلم أن الشهود إن لم يكتملوا أربعة أو ظهر كذبهم اعتبروا متلبسين بجريمة قذف تستوجب عقابهم .
واذا ما ارتكب شخص جريمته هذه على هذا النحو من العلانية بحيث يراه أربعة رجال عدول ، يرون الفعل على حقيقته ، فإن ذلك يدل على تحد للمجتمع لا يقدم عليه إلا شخص لا يقيم للمجتمع وزناً . ولا يرعى له حرمة ، وهو بذلك يكون مستهين بكرامة الأمة وسمعة المجتمع ، وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء الفاحشة فى المجتمع كما تنتشر النار فى الهشيم .
ومن هنا ندرك أن مناط العقوبه وإقامة الحد ليس مجرد فعل الفاحشة ، وإنما الإستهانة بكرامة المجتمع وتلويث صفحته ، واشاعة الفاحشة فيه
وما يقال فى حد الزنا يقال فى باقى الحدود فلقد وضعت الشريعة شروطا وضمانات عديدة لتطبيقها .
كما أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وهى قاعدة إسلامية أصيلة أجمع على الأخذ بها الفقهاء ، روى الترمزى عن عائشة رضى الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادرؤا الحدود عن المسلمين بالشبهات فإن وجدتم مخرجاً فخلوا سبيله ، فإن الإمام لأن يخطىء فى العفو خير من أن يخطىء فى العقوبة "