[size=24]
دور القاضي و الخصوم في توزيع عبئ الإثبات في المسائل المدنية(1)
: عبء الإثبات على من يدعي خلاف القرائن
تعد القرائن من الأمور التي ترجع جانب أحد المتداعيين ابتداءا و يطلب من الخصم إقامة الحجة على خلاف ما تدل عليه القرينة و إلا حكم لمن شهدت له القرينة مع يمينه، و القرائن تختلف من حيث القوة و الضعف فقد تكون قوية تفيد القطع و قد تنزل إلى درجة الاحتمال البعيد فهي في حيز التردد، و قد نصت المادة 331 من القانون المدني على أن القرائن القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أية طريق أخرى من طرق الإثبات دون أن يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك.
و قد نصت المادة 340 من القانون المدني على أن يترك للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة. و القرائن نوعان قاطعة و غير قاطعة، و القرينة القانونية هي التي لم يترك أمر تقديرها للقاضي و هي طريق معفي من الإثبات فإذا وجدت القرينة القانونية بنص ما فإن من يقع عليه عبء الإثبات هو الطرف الذي لا يستفيد منها[18] .
وقد أقر فقهاء الشريعة الإسلامية جملة من القواعد تحكم عبء الإثبات و جب علينا الإشارة إليها في هذا المقام و هي فضلا عما سبق بيانه:
اليقين لا يزول بالشك:
اليقين طمأنينة القلب على حقيقة الشيء و الشك استواء طرفي الشيء وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما، و بعبارة أخرى اليقين جزم بين القلب مع الاستناد إلى الدليل القطعي، ومعنى هذه القاعدة أن ما كان ثابتا بيقين لا يزول بالشك لأن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، مثالها أن " أ " له لدى " ب " 1000 دينار و برهن "ب" على الوفاء أو الإبراء ثم برهن " أ " على أنه له عليه 1000 دينار هنا لا يقبل حتى يبرهن أن هذا المبلغ وقع بعد الإبراء أو الوفاء الأول.
دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه:
ومثالها أن يشتري أحدهم من السوق بقرة و يجدها بعد ذلك مريضة فيشرع في دواءها، فالمداواة دليل على الرضاء بالعيب.
المبحث الثالث: محل عبء الإثبات
لقد سبق و أن انتهينا إلى أن إقامة الدليل أمام القضاء يكون على حق أو واقعة معينة و يعني هذا أن محل الإثبات هو الحق أو الواقعة التي يرتب عليها المشرع آثار معينة و المدعي مطالب بإقامة الحجة على هذه الواقعة أو ذلك الحق.
المطلب الأول: تحديد محل عبء الإثبات.
تتكون كل خصومة قضائية من عنصرين، عنصر الواقع و عنصر القانون، فالعنصر الأول هو الذي يكلف الخصوم بإثباته و أما الحكم الذي يصدره القاضي فهو تطبيق القانون على الواقع بناء على ما ثبت له من أدلة على هذا الواقع و منه فإن محل الإثبات الذي يتحمل المدعي عن القيام به إنما هو الواقع، أما القاضي فإن مهمته تنحصر في تطبيق القانون على الواقع[19].
أولا : إثبات الواقعة القانونية
الحق الذي يدعيه المدعي لا يصدق عليه هذا الوصف إلا لأنه يستند إلى قاعدة في القانون تقرر وجوده هذه القاعدة هي التي تجعل كسب الحق نتيجة لواقعة قانونية أي لوضع معين يوجد في الشخص صاحب الحق فإذا توافر هذا الوضع للمدعي صح له أن يطالب بهذا الحق و عندئذ يقع عليه عبء إثباته.
و الواقعة القانونية هي أمر يحدث فيترتب عليه كسب حق أو نقله أو تعديله أو انقضائه و هي بمعناها الواسع تشمل التصرف القانوني كالعقود و الوصايا و العمل المادي الذي يرتب عليه القانون أثرا كوضع اليد أو الفعل الضار فإذا ادعى شخص أنه تملك أرضا بعقد من العقود الناقلة للملكية وجب عليه إثبات وجود هذا العقد أو أدعى ملكيتها بطريق التقادم فهو ملزم بإثبات وضع يده عليها المدة التي يتطلبها القانون لكسب الملكية أو من يدعي دينا على آخر يجب عليه أن يثبت مصدر هذا الدين أهو عقد أم إرادة منفردة أم فعل ضار غير مشروع أم إثراء بلا سبب، و الشيء المدعى لا يقتصر على أن يكون قيام حق و إنما يمكن أن ينصرف الإدعاء إلى انقضاء هذا الحق و ذلك كما لو ادعى شخص على أخر دين و قام بإثبات مصدره فدفع المدعى عليه بالوفاء فهنا ينقلب المدعى عليه مدعيا.
و قد لا يكون المدعى به وجود حق أو زواله و إنما يكون وصفا قانونيا يلحق التصرف القانوني أو العمل المادي و ذلك كما لو كان التصرف القانوني عقدا و قام المدعي بإثباته فدفع المدعى عليه ببطلان العقد أو قابليته للإبطال أو بفسخه، أما ما يلحق العمل المادي فكما لو دفع المدعى عليه في الفعل غير المشروع بأنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس فهذا الوصف يعد واقعة قانونية يجب إثباته على النحو الذي تثبت به الواقعة الأصلية[20] و من ثم فإن حمل الإثبات بهذا المعنى هو السبب المنشئ للأثر القانوني المدعى به سواء كان هذا الأثر هو وجود الحق أو زواله.
و نظرا لنقل محل الإثبات من الحق إلى مصدره فإن الإثبات لا يمكن أن يؤدي إلى يقين كامل وإنما يؤدي فقط إلى درجة معينة من الاحتمال و من ثم فإنما يقوم به المدعي من إثبات يقف عند الظن القوي بصحة ما قام به دون الجزم بيقين ما وقع إثباته فإن معظم الحقائق الواقعية ليست حقائق خالدة لا تتغير.
إثبات القاعدة القانونية
إذا كان المدعي هو المنوط به إقامة الدليل على الواقعة القانونية التي نشأ عنها الحق الذي يطالب به، أما تطبيق النص القانوني فلا شأن للخصوم به و هذا هو دور القاضي.
و القاضي ملزم بمعرفته للقانون إذ أن هذا هو صميم مهامه و واجبه المفروض عليه باعتباره أحد أفراد السلطة القضائية التي من بين أهم المهام الملقاة عليها تطبيق القانون، و هناك عبارة لاتينية تتمثل في : " أعطيني الواقع أعطيك القانون " و أيضا شاعت العبارة التي كان يستخدمها القضاة الفرنسيون لتنبيه المحامين إلى ضرورة اقتصارهم على الوقائع "...انتقل يا سيدي إلى الوقائع فالمحكمة تعرف القانون ".
و منه فإن القاضي هو المكلف بالبحث من تلقاء نفسه عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت لديه من وقائع و هو يخضع في تطبيقها لرقابة المحكمة العليا. و منه كل خلاف حول تفسير قاعدة من القواعد القانونية فإن عبء التفسير يقع على القاضي و هذا هو الأصل و المبدأ لكن هذا الأصل استثناء يقول به جانب من الفقهاء بحيث تنقلب القاعدة القانونية إلى مسألة موضوعية و يطالب الخصوم بإثباتها و ذلك في حالة ما إذا كانت القاعدة المراد تطبيقها قانون أجنبي بحيث أنه إذا كان الأصل أن إثبات القاعدة و تطبيقها يعد من عمل القاضي و لا مجال للخصوم في هذا الشأن، إلا أن القاضي قد يجد نفسه أمام بعض النزاعات التي يكون أطرافها أجانب و يخضعون لأحكام قانون بلدانهم، و عملا بمبدأ شخصية القوانين فالقاضي ملزم بتطبيق قانون البلد الذي ينتمي إليه الشخص الأجنبي عملا بقواعد الإسناد، و تتعقد الأمور إذا كان الأطراف من عدة بلدان و من جنسيات مختلفة، هنا و حسب الرأي الراجع في الفقه و القضاء المقارن أن القانون الأجنبي لا يعدوا إلا أن يكون مسألة من مسائل الواقع يجب على الخصوم إثباتها لأنه من غير الممكن أن يلم القاضي بكافة قوانين العالم و القول به مبالغ فيه إلى حد الجهل و مهما وجد من أجهزة اتصال و تكنولوجية متطورة فإن اختلاف اللغات كاف بيان وجه الصعوبة.
المطلب الثاني:شروط محل عبء الإثبات
يضع الفقهاء عدة شروط في محل عبء الإثبات و لا يمكن أن يتم الإثبات بدون تحققها و ذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود منه و هو الوصول إلى مطابقة الواقع للحقيقة قدر الإمكان ورد الحقوق إلى أصحابها و إلا كان الإثبات عبثا لا فائدة من إجرائه.
أولا: أن تكون الواقعة محددة و ممكنة :
يقصد به أن تكون الواقعة محل عبء الإثبات واضحة المعالم و ممكنة التحقق بأن تكون معينة تعينا كافيا نافيا للجهالة و الغرر لأجل تقدير قبول الأدلة بشأنها و التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها حتى يسير الإثبات في حدود مرسومة سلفا بحيث يفوت على الخصم ما يكون لديه من قصد إطالة النزاع دون داع، فإن كان محل عبء الإثبات مثلا عقد فإنه يجب بيان نوعه و تعيين محله، مثلا بيع سيارة من نوع ما بأوصاف ما كما يجب تعيين الوقائع محل عبء الإثبات بشكل واضح حتى لا يكون هناك مجال للشك في ماهيتها و مداها و تعتبر مسألة تقدير الواقعة ما إذا كانت معينة تعيين كافيا و كانت ممكنة، و يسمح بإثباتها مسألة لا يخضع القاضي فيها إلى رقابة المحكمة العليا، و مسألة تحديد الواقعة لا يقتصر على كون الواقعة إجابية كوجود الشيء أو إمكانية القيام به، بل يصح أن يرد الإثبات على الوقائع السلبية متى كانت محددة تحديدا كافيا، و الواقعة السلبية هي التي تتضمن في الغالب نفيا لأمر وجودي كنفي التقصير في الالتزام بعمل معين و إثباتها يكون بطريق إثبات أمر وجودي منافي لها.
ثانيا: أن تكون الواقعة محل نزاع و متعلقة بالدعوى
وهذا الشرط يعد من الشروط البديهية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، ذلك لأنه يتطلب حتى يكون الخصم منكرا لما ادعاه المدعي، فيكون محل عبء الإثبات موضوع نزاع بين الخصمين، أما إذا كان الخصم مقر بما ادعاه المدعي و معترفا به فلا حاجة لإضاعة وقت القضاء في شيء معترف به لأن ذلك يعفي المدعي من عبء الإثبات و يجعل الواقعة ثابتة في حق المقر بها، و كونها ثابتة لا يعني أنها غير قابلة للإثبات لأنها تصح أن تكون محل عبء إثبات من الغير إذا قام بشأنها نزاع أخر[21]، إذ أن المستقر عليه فقها و قانونا أن الإقرار قاصر ولا يتعد صاحبه و هذا هو ما يميز الواقعة بكونها ثابتة أو أنها غير قابلة للإثبات، فإذا سلم الخصم بجزء من طلبات المدعي، فإن ما سلم به يستبعد من مجال الإثبات و تنحصر في ذلك الخصومة في الجزء المتنازع عليه، و مثالها ادعاء شخص معين أنه أصيب في الحادث ويطالب بالتعويض فدفع المدعى عليه بأن طلبه مبالغ فيه دون أن يدلي بشيء عن الحادث فإن هذا يعد إقرار منه بصحة وقوع الحادث كما أنه لا يكفي أن تكون الواقعة هي محل نزاع بل يجب أن تكون متعلقة بالدعوى، و مقتضى هذا الشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها وثيقة الاتصال بالحق المدعى به و لا تكون الواقعة متعلقة بالحق المدعى به إلا إذا كانت هي مصدر هذا الحق، و هذا في الاثبات المباشر كتمسك البائع بعقد البيع للمطالبة بثمن المبيع أو أن يدعي شخص على آخر دين و يقدم سند الدين، إلا أن الإثبات لا يقع دائما بطريقة مباشرة فقد يتعرض الكثير من الأحوال إثبات واقعة مباشرة فليجأ المكلف بعبء الإثبات إلى إقامة الدليل على واقعة أخرى بديلة ليست هي مصدر الحق المدعي به و لكنها وثيقة الإتصال بالواقعة الأصلية مما يترتب عليه أن تكون الواقعة الأصلية ثابتة أو قريبة الإحتمال، و هذا ما يطلق عليه بالاثبات غير المباشر، و مثالها أن يطلب المؤجر من المستأجر سداد الأجرة لشهر معين فيقدم المستأجر مخالصات شهور تلت الشهر المطالب بسداده، فإن هذه المخالصات تعتمد على الوفاء إلى أن يثبت المؤجر عكسها، و لكن يشرط في الواقعة البديلة أن يكون هناك تلازم لأن الإثبات يصبح عندها مجرد عبث إذا لم يوجد هذا التلازم.
أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى.
و يشترط فضلا عما سبق بيانه أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى بأن تكون من شأنها أن تسهم في تكوين عقيدة القاضي في الاقتناع بحقيقة النزاع المعروض.
ومنه فإنه لا يكفي أن تكون الواقعة متعلقة بموضوع الدعوى بل يجب أن يكون إثباتها متعلقا بموضوعها، و يجب أيضا أن تكون منتجة في الدعوى بمعنى أن يكون لها أثر في تغيير و التأثير على الفصل فيها بأن تكون حاسمة في إسناد الحق إلى المدعي أو عدم إسناده له. أما إذا كان يستوي في نظر القانون ثبوتها أو عدم ثبوتها فهي لا تكون منتجة في الإثبات حتى ولو كانت متصلة بالدعوى وذلك كمن يدعي ملكية عقار استنادا إلى وضع يده عليه مدة ثلاثة عشر سنة فهذه واقعة متصلة بالدعوى ولكنها غير منتجة في الإثبات، نظرا لأن القانون يشترط مرور خمسة عشر سنة لاعتباره سببا من أسباب كسب الملكية.
أو كمن يطالب آخر بسداد دين حل موعده فيدفع الخصم المدين بعدم التزامه بالسداد أخذا بالمقاصة على اعتبار أنه له في ذمة الدائن سابقا مبلغ من المال ولكن الأجل لم يحل بعد بهدم واقعة متصلة بالدعوى و لكنها غير منتجة فيها لأنه يشترط فيها أن يكون الدينين حاليين الأداء ومن ثم فإنه يستوي في نظر القانون إثبات مثل هذه الوقائع أو عدم إثباتها لأن هذا الإثبات لا يؤثر في وجه الحكم في الدعوى.
ومنه يتضح مدى التلازم والترابط بين شرطي التعلق والإنتاج ذلك أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لابد أن تكون متصلة بها و العكس غير صحيح بمعنى أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لا يعني أنها منتجة فيها.
أن تكون الواقعة جائزة الإثبات
يقصد بهذا الشرط أنه لا يوجد في القانون ما يمنع من إثبات الواقعة فالأصل في الواقعة القانونية جواز الإثبات، ما دام قد توافر لها الشروط السابقة، إلا أن المشرع قد يخرج عن هذا الأصل لاعتبارات معينة فيمنع الخصم من إثبات هذه الوقائع و هذا المنع قد يكون لاعتبارات تتعلق بالنظام العام، والآداب العامة أو لأن الإثبات يتعارض مع سبب من الأسباب التي تقتضيها الصياغة الفنية للإثبات.
و من الأمثلة: عدم السماح للدائن أن يثبت أن المدين اقترض منه مبلغا معينا بفائدة، لكن هذا غير مسموح به قانونا لأن هذا يخالف النظام العام أوعند عدم السماح لمن يطالب بفوائد ناجمة عن قمار، و كذلك لا يجوز إثبات عكس القرائن القانونية القاطعة مثل: الخطأ المفترض في جانب حارس الشيء أو الحيوان، فلا يقبل من الحارس إقامة الدليل على عدم ارتكابه خطأ و ذلك لأن القانون يقيم مسؤوليته على خطأ مفترض فرضا لا يقبل إثبات العكس[23]. والتحقق من كون الواقعة جائزة الإثبات أم لا يعد من مسائل القانون التي يخضع القاضي فيها لرقابة المحكمة العليا، لأن القانون هو الذي يحدد الوقائع التي لا يجوز إثباتها، ودور القاضي في ذلك محدود و هذا بخلاف سائر الشروط السابقة.
: الاستعانة في إثبات الواقعة بشهرتها العامة دون العلم الشخصي:
الإثبات يجب أن ينصب على الواقعة القانونية التي يراد تطبيق القانون عليها ويجب أن يتم ذلك بالاستناد إلى أدلة الإثبات التي حددها القانون, والتي يجب تقديمها من قبل الخصوم, لذا لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج قاعة المحكمة في وقائع النزاع, سواء كان هذا المنع راجعا إلى كون الوقائع هي مجال الخصوم ولا يصح للقاضي أن يثير واقعة لم يتمسك بها هؤلاء ولم يقدموا الدليل على صحتها, أو استند على القاعدة التي توجب احترام حقوق الدفاع والتي تستلزم ألا يأخذ القاضي إلا بالوقائع التي أظهرها الخصوم في المناقشات المتبادلة بينهم, أو لأن هذا المنع يمثل الحد الأدنى لمبدأ حياد القاضي.
ولكن هل يتعين إثبات هذه الواقعة حتى ولو كانت معروفة بالشهرة العامة؟
ذهب البعض إلى أن الواقعة التي تشكل موضوع النزاع والتي يستند إليها القاضي كأساس لحكمه يجب أن تكون محلا للإثبات بالطرق القانونية, لأن القانون في مواد الإثبات يقتضي صحة الواقعة لا شهرتها.
ثم إن الشهرة العامة ليست من بين طرق الإثبات التي نص عليها القانون. إن الشهرة لا تغني عن الحقيقة. فإذا كانت الواقعة مشهورة ولكنها غير ثابتة فلا تكون الشهرة جدية ويجب أن لا يعتد بها.
إلا أن الدكتور " حجازي" يرى أنه لا تجب المبالغة في هذا الصدد إلى حد إلزام المتقاضين بإثبات الواقعة التي تكون من الشهرة بحيث لا تحتمل الجدل فالحوادث التاريخية لا يلزم إثباتها بشهود أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات[27]، ويجب أن يعتبر القاضي مثل هذه الوقائع ثابتة على أساس الشهرة رغم أن خصم من يتمسك بها تكون مصلحته في أن ينكرها وخاصة إذا كانت الواقعة المشهورة معروفة عند الناس كافة فلا يمكن أن تكون غير معروفة عند القاضي.
أما الأستاذ " باتيفول" فيذهب إلى أنه يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي عن الوقائع العامة طالما كانت مشهورة أو كان العلم بها ميسورا بالكافة[28]
والحل الواجب الإتباع في هذا الصدد بإمكان التفرقة في هذا النطاق بين حالتين:
الحالة الأولى عندما تشكل الواقعة العامة أو المشهورة موضوع النزاع التي تحتجزها القاضي كأساس لحكمه ففي هذه الحالة يجب أن تكون محلا للإثبات, بغض النظر عن صفتها العامة أو الخاصة, بحيث لا يمكن للقاضي الحكم بعلمه الشخصي بالاستناد إلى شهرتها.
أما الحالة الثانية بالنسبة للواقعة العامة أو المشهورة التي لا تشكل موضوع النزاع ذاته والتي لم يحتجزها القاضي كأساس لحكمه, وإنما استخدمها فقط لتقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه, فيجوز للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي في شأنها بصفتها من قواعد الخبرة العامة.
ومن هنا يتضح لنا أن الوقائع المشهورة تخضع للإثبات إذا كانت محلا للنزاع وتكون أساس حكم القاضي, بينما يمكن للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي بشأنها إذا كانت صفة تدخلها في الدعوى تنحصر في كونها من عناصر تقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه. وهذا ما يذهب إليه الدكتور السنهوري حيث يقول: "ولكن هذا لا يمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بما هو معروف بين الناس ولا يكون علمه خاصا به مقصورا عليه, كالمعلومات التاريخية والجغرافية والعلمية والفنية الثابتة".
ويبدو أن هذه الحالة هي التي جعلت الفقهاء المسلمين يختلفون في جواز الحكم بمقتضى علم القاضي أو عدم الجواز، وهو ما سوف نعرض له في الفقه الإسلامي.
إن الفقه الإسلامي يتوسع في تفسير طرق الإثبات بهدف الوصول إلى الحقيقة الواقعية كلما أمكن، وللوهلة الأولى يبدو أن هذا التوسع إنما يوحي بجواز الحكم بعلم القاضي الشخصي, ولكن الحقيقة أن أهل العلم اختلفوا في المسألة بين من يمنع من ذلك ومن يجيز. فأكثر أهل العلم ذهبوا إلى أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي, فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف عن أبي بكر قوله:" لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته, ولا دعوت له حتى يكون معي غيره".
كما روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أيضا أن عمر بن الخطاب قال: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي".
و استدل القائلون بذلك بحديث جابر أنه قال: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه ثوب بلال به فضة, وكان يقبض منها يعطي الناس, فقال يا محمد أعدل, فقال صلى الله عليه وسلم:ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل, لقد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل, فقال عمر: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا و أصحابه يقرؤون القرآن لا يجوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية". رواه أحمد و مسلم.
و وجه استدلالهم بهذا الحديث على عدم جواز حكم القاضي بعلمه، أن *النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في عدم قتل هذا الرجل، الخوف من حدوث الفتنة، و كلام الناس أن محمدا يقتل أصحابه. في الوقت الذي يعلم بحقيقة هذا الرجل وأنه من المنافقين.
و قال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه، سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها، قال الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة. و يلزم من الجواز فتح هذا الباب على مصراعيه ليحكم كل قاضي بما يجب مدعيا علمه بذلك.و من ثم قال الشافعي:لولا قضاة السوء لقلت أن للحاكم أن يحكم بعلمه، قال البخاري:و هذا قول مالك و أكثر أصحابه.
قال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يمضي قضاء بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر من شهادة غيره، و لكن فيه تعرضا لتهمة نفسه عند المسلمين إيقاعا لهم في الظنون، و لهذا ما أجاز أبو بكر و عمر الحكم بمقتضى علمهما.
و عن أبي حنيفة قوله:"القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه، و لكن أدع القياس و استحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه، و حكى مثل ذلك في فتح عن بعض المالكية، فقالوا: أنه يقضى بعلمه في كل شيء إلا في الحدود. قال:و هذا هو الراجح عند الشافعية.
و استدل القائلون بالجواز بحديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي (ص) أن تأخذ من ماله ما يكفيها و ولدها بالمعروف.
ق
أولا: بالنسبة للقرائن القانونية القاطعة:
_ لقد عرف الفقه القانوني القرائن القانونية بأنها التي نص القانون على عدم جواز إثبات عكسها إلاّ في حالات خاصة كالإقرار القضائي و اليمين أو إثبات السبب الأجنبي، ومن هذا القبيل ما نصت عليه المادة 139من القانون المدني، في مسؤولية حارس الحيوان عن الضرر الذي يسببه للغير، فهي مسؤولية تقوم على خطأ الحارس، وهو خطأ مفترض لا يقبل إثبات العكس، وما تنص عليه المادة 138 من القانون المدني في مسؤولية حارس الأشياء و ما تنص عليه المادة496 من نفس التقنين من مسؤولية المستأجر عن حريق العين المؤجرة[40]
_أما الفقه الإسلامي فهو يعرف القرائن الشرعية القاطعة بأنها تلك التي تصل في دلالتها على الحكم إلى مرتبة القطع وهذه القرائن اعتبرها الشارع الحكيم مراعاة للمصلحة العامة و بالتالي فإن القاضي ليس له أن يبحث في مدى دلالة هذه القرينة على الحكم، وهذا النوع من أنواع القرائن يعد بينة نهائية كافية للقضاء.
من صور القرائن القاطعة:
1) نصت المادة 312 من القانون المدني على التقادم بسنة واحدة بالنسبة لحقوق التجار و الصناع على الأشياء التي وردوها لأشخاص لا يتاجرون فيها، و حقوق أصحاب الفنادق و المطاعم عن أجر الإقامة و ثمن الطعام و كل ما صرفوه لحساب عملائهم و المبالغ المستحقة للعمال الأجراء الآخرون مقابل عملهم. وقد أضافت هذه المادة انه يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا. وهذا ما يدل على أن المشرع قد جعل هذا التقادم القصير قائم على قرينة قاطعة تفيد الوفاء بالحق، ومن ثم أجاز دحض هذه القرينة بالنكول عن اليمين، فيجوز من باب أولى دحضها بالإقرار.
2) نصت المادة338 من القانون المدني على أن الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول أي دليل ينقض هذه القرينة[41].
- التفرقة بين القرائن القانونية القاطعة و القواعد الموضوعية:
التفرقة تدق بينهما في كثير من الأحيان لأن هناك قاسم مشترك أعظم بينهما و هو أن كلا منهما مبني على الغالب المألوف، لكن الفارق بينهما يكمن في الصياغة القانونية، ففي القاعدة الموضوعية يجعل المشرع الغالب المألوف حقيقة ثابتة لا يجوز إثبات عكسها بأي طريقة من الطرق إذ أنها لا تعد طريقا من طرق الإثبات وإنما أصبحت قاعدة موضوعية فبلوغ سن الرشد تتفاوت فيه الناس لكن الغالب المألوف أن الشخص يبلغ درجة النضج العقلي اعتبارا من سن (19) تسع عشرة سنة و ما فوق فيقوم الشارع باختبار سن معينة و يجعل بلوغ الرشد لجميع الناس عند هذه السن،هذا مثل عن القاعدة الموضوعية،و لذلك لا يجوز إثبات عكسها بأي طريق من الطرق، إذ لا تعد طريقا من طرق الإثبات، فمن يبلغ هذه السن فلا يعتبر رشيدا و لو كان عبقريا،أما القرينة القانونية القاطعة تعتبر قاعدة إثبات لا قاعدة موضوعية، لذلك يجوز إثبات عكسها أخذا بفكرة نقض الدليل بالدليل و لأنها حجة أقامها الشارع بناء على الغالب الراجح،فهي ليست إلا احتمالا قد يخطئ كما يتفق مع الحقيقية ، و من أمثلة القواعد الموضوعية التي تقوم على قرائن:حجية الأمر المقضي و التقادم و الحيازة في المنقول و مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع و غير ذلك.
-القرينة القانونية القاطعة يجوز دحضها بالإقرار و اليمين:
إذا قلنا أن القرينة القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس فليس معنى ذلك أنها لا تدحض أبدا، ذلك أن عدم القابلية للدحض لا يكون إلا للقواعد الموضوعية أما القرائن القانونية القاطعة فهي قواعد إثبات و أي كانت المرتبة التي أرادها المشرع لها في القطع و الحسم فهي لا تستعص أن تدحض بالإقرار و اليمين، ذلك أن القرينة القانونية القاطعة لا تزال دليلا من أدلة الإثبات، بل هي تعدو أن تكون دليلا سلبيا إذ تقتصر على الإعفاء من الإثبات فإذا نقضها من تقررت لمصلحته بإقراره أو يمينه فقد دحضها ، و أفضل مثال على ذلك ما سبق ذكره حول تقادم بعض الحقوق بمضي سنة و المنصوص عليها في المادة 312 من القانون المدني حيث أضافت هذه المادة أنه "يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا" مما يعني أنه يتم دحض هذه القرينة القاطعة بنكول الخصم عن أداء اليمين المقرر قانونا. كذلك نضرب مثالا آخر عن مسؤولية حارس الشيء المنصوص عليها في المادة 138 من القانون المدني و التي تقيم مسؤوليته على خطأ مفترض غير قابل لإثبات العكس إلا بإثبات السبب الأجنبي فإذا قام المدعي بإثبات مسؤولية المدعى عليه بإثبات الضرر و العلاقة السببية بين الشيء محل الحراسة و الضرر،وقع عبء نفي هذه المسؤولية على المدعى عليه بإثباته للسبب الأجنبي، فإذا عجز عن إثبات ذلك قامت ضده قرينة قاطعة على مسؤوليته اتجاه المدعي ،و لم يمكنه دحض هذه القرينة القانونية القاطعة إلا بإقرار قضائي يصدر عن خصمه(المدعي).
و بالتالي يمكن استنتاج أنه كل ما لا يجوز دحضه باليمين أو الإقرار هو من قبيل القواعد الموضوعية و ليس القرائن القانونية القاطعة.
و قد جاء في آخر نص المادة312 من القانون المدني:" و هذه اليمين توجه تلقائيا من القاضي إلى ورثة المدين أو إلا أوصياؤهم إن كان الورثة قاصرين على أنهم لا يعلمون بوجود دين أو يعلمون بحصول الوفاء"
و من خلال هذا النص يتبين لنا أنه رغم ضيق مجال توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية القاطعة إلا أنه قد يتجلى دور القاضي في عملية التوزيع بموجب بعض هذه القرائن خاصة منها التي يمكن دحضها باليمين و الإقرار القضائي و إثبات السبب الأجنبي، حيث يتبين من المثال السابق [42]
أن القاضي يقوم بتوجيه اليمين إلى المدين أو إلى ورثته أو أوصيائهم إذا كان الورثة قاصرين رغم أن هؤلاء يملكون دليلا معفيا من الإثبات و هو القرينة القانونية القاطعة المتعلقة بالتقادم القصير المدى و هو دليل كامل لا يحتاج تكملته باليمين المتممة في الأصل لكن في هذه الحالة أراد المشرع توزيع عبء الإثبات بين الدائن الذي يقوم بإثبات وجود الدين من جهة و المدين الذي يدفع بانقضائه بمضي مدة التقادم القصير.و هذا بهدف التخفيف من عبء الإثبات الملقى على عاتق الخصمين.
و فيما يخص دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن الشرعية القاطعة و التي سبق شرحها و تعريفها بأنها القرائن التي جاء بها الشارع الحكيم الله عز و جل و رسوله الكريم-صلى الله عليه و سلم- و رأي الفقهاء،و هو دليل قاطع معفي من الإثبات غير قابل لإثبات العكس، لكن المستقر عليه أنه يمكن دحض هذا الدليل في بعض أحوال باليمين أو الإقرار خاصة بالنسبة لبعض القرائن الشرعية القاطعة التي أوردها الشارع الحكيم و بالنسبة لأغلبها التي جاء بها فقهاء الشريعة الإسلامية و التي نذكر بعض الأمثلة منها فيما يلي: قوله صلى الله عليه و سلم :"الولد للفراش و للعاهر الحجر" هذه قرينة شرعية قاطعة على ثبوت نسب الولد بمجرد ثبوت البناء (الدخول) بين الزوجين، فما على الزوجة إلا أن تثبت ذلك،فلا يمكن للزوج إثبات عكس هذه القرينة ،لكن في إمكانه دحضها بوسيلة اللعان المنصوص عليها شرعا و هي حلفه لليمين أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين أن الولد ليس من صلبه [43] و بالتالي تستنتج دور القاضي في هذه المسألة و المتمثل في توزيع عبء إثبات واقعة نسب الولد بين الزوجين الخصمين بموجب القرينة الشرعية القاطعة السابق ذكرها و ذلك بتوجيه اليمين إلى الزوج،فإذا حلف هذا الأخير تنقل اليمين إلى الزوجة
ثانيا: بالنسبة للقرائن القانونية غير القاطعة (البسيطة):
-عرف الفقه القانوني القرائن القانونية غير القاطعة(البسيطة) بأنها تلك التي تجعل جانب أحد المتداعيين أقوى من الآخر، فهي تعفي الشخص الذي شهدت له من الإثبات، و تغنيه عن أي طريق آخر للإثبات و لكن يحق للخصم إثبات عكسها.
-في الفقه الإسلامي، سواء كانت قرائن شرعية بنص شرعي أو ثابتة بنص فقهي، تعتبر حكما شرعيا يلتزم القاضي بتطبيقه، فيطبق النصوص الشرعية أولا، ثم يقضي بنصوص مذهبه ثانيا ما لم يكن مجتهدا، و القرائن الشرعية غير القاطعة هي تلك التي استنبطها الفقهاء باجتهادهم و اعتبرها الشارع، و لكنه جعل الباب مفتوحا أمام من شهدت عليه لإثبات عكسها.
-من أمثلة القرائن القانونية غير القاطعة:
1. المادة 61 من القانون المدني:"ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه و يعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على العكس ذلك "فقد راعى المشرع أن الذي يحدث عادة هو أن يعلم الشخص بما يصل إليه وقت وصوله، فأقام هذه القرينة حتى يخفف عن موجه التعبير عبء إثبات العلم و هو أمر يتعذر إثباته. و يجوز لمن وجه إليه التعبير أن ينقض هذه القرينة بدليل عكسي، فيثبت أنه رغم وصول التعبير لم يحط به علما لغيابه(مثلا) أو مرض...إلخ.
2. المادة 98 من القانون المدني:" كل التزام مفترض أن له سببا مشروعا ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، و يعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه" أي أن المشرع قرر قرينة قانونية لصالح الدائن حيث لم يلزمه بإثبات أن الالتزام الذي يطالب به المدين سببا مشروعا، و هذه القرينة بسيطة تقبل النقض بالدليل العكسي، كذلك لم يلزم المشرع الدائن إثبات أن السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي، و إنما أقام قرينة قانونية على أن السبب الحقيقي المذكور في العقد. و لما كانت هذه القرينة غير قاطعة فيجوز للخصم أن ينقض الدليل المستفاد منها، بأن يثبت مثلا أن السبب المذكور في العقد صوري.
3. المادة 193 من القانون المدني:"إذا ادعى الدائن عسر المدين فليس عليه إلا أن يثبت مقدار ما في ذمته من ديون، و على المدين أن يثبت أن له مالا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها"أي أنه إذا ادعى الدائن عسر المدين، فليس عليه إلا أن يثبت ما في ذمة مدينه من ديون، و عند ذلك تقوم قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على أن المدين معسر، وينتقل عبء الإثبات بفضل هذه القرينة إلى المدين و عليه هو أن يثبت بأنه غير معسر، ويكون ذلك بإثبات أنم له أموال تساوي قيمة الديون أو تزيد عليها فإن لم يفلح في هذا الإثبات عد معسرا.
4. المادة 776 من القانون المدني، حيث جاء في معنى هذا النص أن كل تصرف يصدر من المورث في مال من أمواله و هو في مرض الموت يعد صادرا على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. فهذه القرينة القانونية الدالة على نية التبرع من شأنها تيسير الإثبات على الوارث فيكفي أن يثبت أن التصرف قد صدر من مورثه في مرض الموت حتى تقوم القرينة فيعد أنه صدر على سبيل التبرع.
و الأمثلة كثيرة ومتنوعة عن القرائن القانونية غير القاطعة في القانون الجزائري.
- طرق إثبات العكس في القرائن غير القاطعة: يتم نقض القرائن القانونية غير القاطعة وفقا للقواعد العامة في الإثبات فيجوز نقضها بإقرار من قامت القرينة القانونية لمصلحته أو بنكوله عن اليمين الحاسمة التي وجهت إليه أو عن طريق الدليل الكتابي أو بمبدأ الثبوت بالكتابة معززا بالبينة أو القرائن القضائية، كما يجوز الإثبات بالبينة و بالقرائن القضائية إذا استحال الحصول على دليل كتابي أو عند فقده بعد الحصول عليه، ويلاحظ أن القرينة القانونية البسيطة قد يتم استخدامها في إثبات واقعة مادية أو تصرف قانوني لا تزيد قيمته عن النصاب المحدد لشهادة الشهود، وفي هذه الحالة لا يثور أي شك في جواز إثبات عكس هذه القرينة بكل طرق الإثبات وذلك طبقا للقواعد العامة. ولكن قد تستخدم القرينة القانونية البسيطة في إثبات تصرف قانوني تزيد قيمته عن النصاب المحدد للإثبات بشهادة الشهود( ألف دينار جزائري 1000).
وفي هذه الحالة وبما أن القرينة القانونية البسيطة لا تعفي في حقيقتها من الإثبات و إنما تنقل محل الإثبات من الواقعة الأصلية المتنازع عليها إلى واقعة أخرى متصلة بها و هذه الواقعة الأخيرة هي التي يجب إثباتها طبقا للقواعد العامة في الإثبات و بالتالي تقوم القرينة القانونية و تثبت بقتضاها الواقعة الأخرى المتنازع عليها، وإذا أراد الخصم الآخر أن يدحض هذه القرينة فعليه التزام حكم القواعد العامة في هذا الصدد[44].
لكن المشرع عين في بعض الحالات طرق خاصة لإثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة و من أمثلتها:
1- في المثال الذي سبق ذكره حول نص المادة 193 من القانون المدني: حيث أنه إذا أثبت الدائن أي مقدار من الديون في ذمة مدينه قامت قرينة قانونية على إعساره وهذه القرينة تنقض عن طريق إثبات المدين أن لديه أموالا تساوي قيمة هذه الديون أو تزيد عليها.
2- المادة 127 من القانون المدني تنص على أن العلاقة السببية بين الخطأ و الضرر تقوم على قرينة قانونية غير قاطعة، يجوز نقضها بإثبات السبب الأجنبي كالقوة القاهرة أو خطأ المضرور أو عيب في الأشياء المنقولة...الخ.
3- المادة 496 من القانون المدني، تنص في معناها أن المستأجر يعد مسؤولة عن الحريق في العين المؤجرة مسؤولية قائمة على خطأ عقدي مفروض، ويجوز نفي هذا الخطأ المفترض بأن يثبت المستأجر أن النار قد بدأ نشوبها في الجزء الذي يشغله مستأجر آخر.
- إن كل قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس ليست في الواقع إلا توزيعا لعبء الإثبات بين الخصمين، ينص عليه القانون و يتكفل بتطبيقه القاضي، ونرى كذلك مما سبق أن من يحمل عبء الإثبات ليس مطالبا في الواقع من الأمر بإثبات كامل قاطع، ولا هو يكلف بإثبات كل عنصر من العناصر التي تتكون منها الواقعة مصدر الحق المدعى به، وليست الحقيقة القضائية التي يتولى إثباتها بالحقيقة المطلقة التي لا يداخلها الشك، فالقانون يطلب ممن يحمل عبء الإثبات أن يقنع القاضي بأن الأمر الذي يدعيه أمر مرجح الوقوع، وينفي القاضي ما بقي من شك يحوم حول الأمر بأن بنقل عبء الإثبات إلى الخصم الآخر. ليثبت أنه بالرغم من الظواهر التي ترجح وقوع الأمر، توجد قرائن أخرى تجعل الراجح مرجوحا،ثم يرد عبء الإثبات على الخصم الأول ليهدم هذه القرائن بقرائن أخرى، وهكذا يتبادل الخصوم عبء الإثبات، إلى أن يعجز أحدهما عن دحض الدليل الذي تقدم به الخصم الآخر، فيخسر بذلك الدعوى[45].
من الأمثلة عن دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية البسيطة ما يلي:
1- المادة 830 من القانون المدني، جاء في معناها انه عندما يريد الحائز أن يثبت أنه كسب الملكية بالتقادم، أي يثبت أن حيازته استمرت المدة التي حددها القانون لتمام التقادم، هنا يضع القانون قاعدة لتوزيع عبء الإثبات بين الخصوم، فالحائز يحمل عبء إثبات أن حيازته بدأت في وقت معين و أنها قائمة حالا، و هنا يقيم القانون قرينة على أن الحياز استمرت قائمة في المدة ما بين الزمنين، فيتولى القاضي مهمة تكليف الخصم الآخر بالإثبات، فيلقي عليه عبء إثبات أن مدة التقادم قد انقطعت، فانقطع التقادم لسبب من الأسباب.
2- عندما يطالب الدائن مدينه بوفاء التزام مترتب على عقد معين، هنا من المفروض أن يقع عبء إثبات الواقعة القانونية، و هي العقد على عاتق الدائن، فيثبت أن هناك عقدا توافرت فيه كافة عناصره القانونية من التراضي و تنزه الرضاء عن العيوب و وجود السبب المشروع و عدم استحالة مضمونه، و لا شك في ثقل عبء إثبات كافة هذه العناصر إذا ألقي هذا العبء على الدائن وحده، و لهذا و تحت دافع التخفيف من هذا العبء، يتولى المشرع تجزئة عبء الإثبات بين الدائن و المدين، فحسب الدائن هنا أن يثبت وجود الالتزام الذي لم ينفذه المدين، و يقيم المشرع بعد ذلك عدة قرائن تساعد على هذا التخفيف بإلقاء عبء إثبات بعض عناصر الواقعة القانونية على عاتق المدين. مثال ذلك أنه لا يجب على الدائن أن يثبت أن للالتزام سبب مشروع، فلقد تولت قرينة المادة 98 من القانون المدني هذه المهمة بافتراضها أنه إذا لم يذكر في العقد سبب الالتزام، فإنه يفترض أن له سببا مشروعا. ثم يقع على المدين عبء إثبات تخلف السبب المشروع. كما لا يجب على الدائن أن يثبت توافر التمييز و الإدراك أو أن الرضاء كان سليما، فكل هذه العناصر يفترض وجودها، و للمدين أن يثبت عكس ذلك، كما لا يجب على الدائن أن يثبت وجود محل الالتزام. فمثلا لا يجب عليه أن يثبت عدم هلاك المبيع وقت التعاقد و إنما يقع على المدين إثبات أن المحل كان غير موجود لهلاكه قبل التعاقد.
3- إذا باع شخص شيئا يملكه، و بعد موته تنازع ورثته المشتري في أن الثمن المذكور في عقد البيع صوري، و أن البيع قد صدر في مرض الموت فيكون وصية، و من ثم لا ينفذ إلا من ثلث التركة. يوزع القانون عبء الإثبات هنا أيضا بين الورثة و المشتري، فقد نصت الفقرتان الثانية و الثالثة من المادة776 على ما يأتي:" وعلى ورثة المتصرف أن يثبتوا أن التصرف القانوني قد صدر عن مورثهم وهو في مرض الموت و لهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ العقد إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتا. إذا أثبت الورثة أن التصرف صدر عن مورثهم في مرض الموت أعتبر التصرف صادرا على سبيل التبرع ما لم يثبت من صدر له التصرف خلاف ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه".
فالورثة إذن يحملون عبء إثبات أن البيع قد صدر في مرض الموت.
ومتى أثبتوا ذلك قامت قرينة قانونية على أن العقد مقصود به التبرع و أن ثمنا ما لم يدفع و عند ذلك ينتقل عبء الإثبات إلى المشتري. وعليه أن يثبت انه دفع للبائع ثمنا لا يقل عن قيمة المبيع بمقدار يجاوز ثلث التركة و إلا فإن البيع فيما تجاوز فيه زيادة قيمة المبيع على الثمن ثلث التركة، لا يسري في حق الورثة.
فمن خلال الأمثلة السابق ذكرها يظهر جليا دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بين الخصوم بموجب القرائن القانونية غير القاطعة.
- ومن الأمثلة في الشريعة الإسلامية مسألة اختلاف الزوجين في متاع البيت، حيث أنه إذا اختلف الزوجين في متاع البيت و ادعى كل منهما أن المتاع ملكه، ولم يستطع إحضار البينة، فقد ذهب الحنيفية و المالكية و الحنابلة و الزيدية و الإمامية في الأظهر و الإباضيّة إلى وضع قرينة فقهية متمثلة في أن متاع البيت الذي يصلح للرجال كالعمامة و الكتب و السيف يعطى للزوج و المتاع الذي يصلح للنساء كالحلي و الثياب يعطى للزوجة، للقرينة القائمة على العرف و العادة في صلاحية كل نوع لصاحبه، وأنه لا عبرة لليد الحسية فيها ثم اختلفوا في المتاع الذي يصلح للرجال و النساء معا كالآنية و الذهب و الفضة و العقار و الأثاث. فقال المالكية و الحنفية: يقضى به للرجال، لأن البيت بيت الرجل في العادة، و المرأة تحت يده واليد قرينة و دلالة من دلالات الظاهر على المالك، وقال الإمام أحمد بن حنبل وابن القاسم من المالكية و الإمامية وعثمان البتى وعبد الله بن الحسن والحسن بن زيد و زفر في أحد قوليه: إن ما يصلح لهما يقسم بينهما بعد اليمين لإشتراكهما في اليد[46]. و من خلال هذه القرينة الفقهية يقوم القاضي بتوزيع عبء الإثبات بين الزوجين، حيث ترجح القرينة كفة الزوج فيما يكون عادة ملكا للرجال من متاع البيت فلا يحتاج إلى إثبات ذلك بدليل آخر في حين ينتقل عبء الإثبات إلى الزوجة لتقديم البينة على ملكية هذه الأشياء فإذا نجحت في ذلك قضي لها بما طلبت و إذا أخفقت خسرت الدعوى، و نفس الحكم بالنسبة للمتاع الذي يصلح للنساء، و المتاع الصالح للرجال و النساء معا.
المطلب الثاني: دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القضائية :
- تنص المادة 340 من القانون المدني:" يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، و لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فبها القانون الإثبات بالبينة". فالقرينة القضائية هي نتيجة يستخلصها القاضي من واقعة معلومة لواقعة غير معلومة و لذلك تعد القرائن القضائية من أدلة الإثبات غير المباشرة، حيث تثبت الواقعة أو يثبت التصرف بطريق غير مباشر عن طريق ثبوت واقعة أخرى قريبة منها أو متصلة بها. فمثلا إذا أثبت المستأجر أنه قام بدفع الأجرة عن شهر معين، أمكن للقاضي أن يستخلص من ذلك دفع الأجرة عن الشهر السابق، وقد تكون الواقعة المتنازع عليها هي سرعة السيارة أثناء وقوع الحادث، فيقوم قاضي الموضوع بتحديد سرعة السيارة وذلك استنباطا من واقعة أو وقائع أخرى مثل أن تكون آثار جهاز التوقيف ( الفرامل) طويلة وحالة السيارة و حالة الطريق وهكذا. فإذا ثبت للقاضي الوقائع الأخيرة أمكنه أن يستنبط سرعة السيارة أثناء الحادث فنكون بصدد قرينة قضائية أقامها القاضي وبذلك تختلف القرينة القضائية عن القرينة القانونية، ففي القرينة الأخيرة يتولى المشرع بنفسه عملية الاستنباط ثم يفرض الواقعة التي استخلصها على القاضي و الخصوم فرضا.
أما في الشريعة الإسلامية فالقرائن القضائية هي تلك التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوى و ملابساتها، فأمر استخلاص هذه القرائن قد تركه الشارع للقاضي ليستنبطه كيفما شاء، وحسبما أراد وأطلق له الحرية، فكلما اقتنع القاضي باستنباط أمر حكم بمقتضاه وإلا فلا. وهذا الأمر يستلزم من القاضي ألا يحكم بهذا الاستنتاج إلا وضميره مطمئن، وهذا لا يكون إلا حيث تكون القرائن قوية، متصلة بالواقعة المتنازع فيها اتصالا مباشرا. و القرائن القضائية لا تقع تحت حصر لأنها وليدة الظروف و الحوادث، وعلى كل حال فالمدار في استخلاصها على ذكاء القاضي وفطنته، فينبغي عليه ألا يبعد في الاستنباط عما يظهر من الحوادث. و من قبيل هذا النوع من القرائن، ما يقضي به الرسول صلى الله عليه و سلم في قصة قتل أبي جهل، وذلك أن إبني عفراء تداعيا قتل أبي جهل فقال(ص):" هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فقال:" فأرياني سيفيكما" فلما نظرا فيهما، قال لأحدهما:" هذا قتله" وقضى له بسلبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب لأحدهما اعتمادا على أثر الدم على السيف، وأثر الدم قرينة من القرائن التي ترجح جانب أحد المتداعيين، ومن قبيل هذه القرائن – أيضا – ما قضى به نبي الله سليمان- عليه السلام- في أمر المرأتين اللتين ادعتا الولد، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله(ص) قال:" كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت لصاحبتها، إنما ذهب ابنك، و قالت الأخرى:إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود- عليه السلام- فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان –عليه السلام-فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فسمحت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى". و يظهر من سياق القصة أن سليمان قضى به للصغرى، مخالفا بذلك رأي أبيه، الذي قضى به للكبرى، بناءا على ما انفتح في ذهنه –عليه السلام- من أن الحامل للصغرى على الاعتراف بأن الولد ليس ابنها، وامتناعها عن المخاصمة إنما هو الشفقة و الحنان اللذان أودعاهما الله قلوب الأمهات، كما فهم من رضي الكبرى بشق الولد بينهما أنه ليس ابنها، وإنما أرادت الكيد للصغرى بقتل ولدها، كما ذهب الذئب بولدها هي حقدا و حسدا[47].
و سنتطرق في هذا المطلب إلى السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية في العنصر الأول و إلى سلطة القاضي في تقدير الإثبات بالقرائن القضائية و توزيع عبء الإثبات بموجبها.
أولا: السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية:
- يقتضي استنباط القرينة القضائية توافر عنصرين أو ركنين:
1) العنصر الأول:وجود واقعة أو وقائع ثابتة ذات صلة بالواقعة المتنازع عليها و يطلق على هذه الواقعة اصطلاح الدلائل أو الأمارات(Indices)، فلا بد إذن في هذه الواقعة أن تكون ثابتة فالقرنية هي استنباط أمر مجهول من واقعة ثابتة، بحيث إذا كانت هذه الواقعة محتملة و غير ثابتة فإنها لا تصلح مصدرا للاستنباط و نعرض فيما يلي إلى بعض صور الوقائع الثابتة و التي يمكن أن يستخلص منها الأمر المجهول و المتنازع عليه:
* يجوز الاعتماد على عقود الإيجار و إيصالات الأجرة عن مدة لا يدخل فيها شهر الأساس أو لأماكن أخرى مماثلة في ذات العقار قرينة قضائية لإثبات الأجرة القانونية.
* لمحكمة الموضوع أن تقول في حكمها على ما ورد في شكوى إدارية، أو ما مرد في محضر جمع الاستدلالات أو محضر الشرطة أو في أي تحقيقات إدارية أو قضائية، أو من أقوال شهود سمعوا في غير مجلس القضاء.
*يجوز المحكمة الموضوع التعويل في حكمها على حكم صادر في قضية أخرى لم يكن الخصم طرفا منها وذلك كقرينة قضائية.
*يجوز أن يعتمد القاضي في استنباط القرينة على أقوال شهود سمعوا في قضية أخرى حتى ولو أطرحت المحكمة الذي سمع أمامها الشهود التحقيق منها.
*يجوز استنباط القرائن من أقوال شهود سمعهم الخبير بدون حلف اليمين و من المعاينة ا
دور القاضي و الخصوم في توزيع عبئ الإثبات في المسائل المدنية(1)
: عبء الإثبات على من يدعي خلاف القرائن
تعد القرائن من الأمور التي ترجع جانب أحد المتداعيين ابتداءا و يطلب من الخصم إقامة الحجة على خلاف ما تدل عليه القرينة و إلا حكم لمن شهدت له القرينة مع يمينه، و القرائن تختلف من حيث القوة و الضعف فقد تكون قوية تفيد القطع و قد تنزل إلى درجة الاحتمال البعيد فهي في حيز التردد، و قد نصت المادة 331 من القانون المدني على أن القرائن القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أية طريق أخرى من طرق الإثبات دون أن يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك.
و قد نصت المادة 340 من القانون المدني على أن يترك للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة. و القرائن نوعان قاطعة و غير قاطعة، و القرينة القانونية هي التي لم يترك أمر تقديرها للقاضي و هي طريق معفي من الإثبات فإذا وجدت القرينة القانونية بنص ما فإن من يقع عليه عبء الإثبات هو الطرف الذي لا يستفيد منها[18] .
وقد أقر فقهاء الشريعة الإسلامية جملة من القواعد تحكم عبء الإثبات و جب علينا الإشارة إليها في هذا المقام و هي فضلا عما سبق بيانه:
اليقين لا يزول بالشك:
اليقين طمأنينة القلب على حقيقة الشيء و الشك استواء طرفي الشيء وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما، و بعبارة أخرى اليقين جزم بين القلب مع الاستناد إلى الدليل القطعي، ومعنى هذه القاعدة أن ما كان ثابتا بيقين لا يزول بالشك لأن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، مثالها أن " أ " له لدى " ب " 1000 دينار و برهن "ب" على الوفاء أو الإبراء ثم برهن " أ " على أنه له عليه 1000 دينار هنا لا يقبل حتى يبرهن أن هذا المبلغ وقع بعد الإبراء أو الوفاء الأول.
دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه:
ومثالها أن يشتري أحدهم من السوق بقرة و يجدها بعد ذلك مريضة فيشرع في دواءها، فالمداواة دليل على الرضاء بالعيب.
المبحث الثالث: محل عبء الإثبات
لقد سبق و أن انتهينا إلى أن إقامة الدليل أمام القضاء يكون على حق أو واقعة معينة و يعني هذا أن محل الإثبات هو الحق أو الواقعة التي يرتب عليها المشرع آثار معينة و المدعي مطالب بإقامة الحجة على هذه الواقعة أو ذلك الحق.
المطلب الأول: تحديد محل عبء الإثبات.
تتكون كل خصومة قضائية من عنصرين، عنصر الواقع و عنصر القانون، فالعنصر الأول هو الذي يكلف الخصوم بإثباته و أما الحكم الذي يصدره القاضي فهو تطبيق القانون على الواقع بناء على ما ثبت له من أدلة على هذا الواقع و منه فإن محل الإثبات الذي يتحمل المدعي عن القيام به إنما هو الواقع، أما القاضي فإن مهمته تنحصر في تطبيق القانون على الواقع[19].
أولا : إثبات الواقعة القانونية
الحق الذي يدعيه المدعي لا يصدق عليه هذا الوصف إلا لأنه يستند إلى قاعدة في القانون تقرر وجوده هذه القاعدة هي التي تجعل كسب الحق نتيجة لواقعة قانونية أي لوضع معين يوجد في الشخص صاحب الحق فإذا توافر هذا الوضع للمدعي صح له أن يطالب بهذا الحق و عندئذ يقع عليه عبء إثباته.
و الواقعة القانونية هي أمر يحدث فيترتب عليه كسب حق أو نقله أو تعديله أو انقضائه و هي بمعناها الواسع تشمل التصرف القانوني كالعقود و الوصايا و العمل المادي الذي يرتب عليه القانون أثرا كوضع اليد أو الفعل الضار فإذا ادعى شخص أنه تملك أرضا بعقد من العقود الناقلة للملكية وجب عليه إثبات وجود هذا العقد أو أدعى ملكيتها بطريق التقادم فهو ملزم بإثبات وضع يده عليها المدة التي يتطلبها القانون لكسب الملكية أو من يدعي دينا على آخر يجب عليه أن يثبت مصدر هذا الدين أهو عقد أم إرادة منفردة أم فعل ضار غير مشروع أم إثراء بلا سبب، و الشيء المدعى لا يقتصر على أن يكون قيام حق و إنما يمكن أن ينصرف الإدعاء إلى انقضاء هذا الحق و ذلك كما لو ادعى شخص على أخر دين و قام بإثبات مصدره فدفع المدعى عليه بالوفاء فهنا ينقلب المدعى عليه مدعيا.
و قد لا يكون المدعى به وجود حق أو زواله و إنما يكون وصفا قانونيا يلحق التصرف القانوني أو العمل المادي و ذلك كما لو كان التصرف القانوني عقدا و قام المدعي بإثباته فدفع المدعى عليه ببطلان العقد أو قابليته للإبطال أو بفسخه، أما ما يلحق العمل المادي فكما لو دفع المدعى عليه في الفعل غير المشروع بأنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس فهذا الوصف يعد واقعة قانونية يجب إثباته على النحو الذي تثبت به الواقعة الأصلية[20] و من ثم فإن حمل الإثبات بهذا المعنى هو السبب المنشئ للأثر القانوني المدعى به سواء كان هذا الأثر هو وجود الحق أو زواله.
و نظرا لنقل محل الإثبات من الحق إلى مصدره فإن الإثبات لا يمكن أن يؤدي إلى يقين كامل وإنما يؤدي فقط إلى درجة معينة من الاحتمال و من ثم فإنما يقوم به المدعي من إثبات يقف عند الظن القوي بصحة ما قام به دون الجزم بيقين ما وقع إثباته فإن معظم الحقائق الواقعية ليست حقائق خالدة لا تتغير.
إثبات القاعدة القانونية
إذا كان المدعي هو المنوط به إقامة الدليل على الواقعة القانونية التي نشأ عنها الحق الذي يطالب به، أما تطبيق النص القانوني فلا شأن للخصوم به و هذا هو دور القاضي.
و القاضي ملزم بمعرفته للقانون إذ أن هذا هو صميم مهامه و واجبه المفروض عليه باعتباره أحد أفراد السلطة القضائية التي من بين أهم المهام الملقاة عليها تطبيق القانون، و هناك عبارة لاتينية تتمثل في : " أعطيني الواقع أعطيك القانون " و أيضا شاعت العبارة التي كان يستخدمها القضاة الفرنسيون لتنبيه المحامين إلى ضرورة اقتصارهم على الوقائع "...انتقل يا سيدي إلى الوقائع فالمحكمة تعرف القانون ".
و منه فإن القاضي هو المكلف بالبحث من تلقاء نفسه عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت لديه من وقائع و هو يخضع في تطبيقها لرقابة المحكمة العليا. و منه كل خلاف حول تفسير قاعدة من القواعد القانونية فإن عبء التفسير يقع على القاضي و هذا هو الأصل و المبدأ لكن هذا الأصل استثناء يقول به جانب من الفقهاء بحيث تنقلب القاعدة القانونية إلى مسألة موضوعية و يطالب الخصوم بإثباتها و ذلك في حالة ما إذا كانت القاعدة المراد تطبيقها قانون أجنبي بحيث أنه إذا كان الأصل أن إثبات القاعدة و تطبيقها يعد من عمل القاضي و لا مجال للخصوم في هذا الشأن، إلا أن القاضي قد يجد نفسه أمام بعض النزاعات التي يكون أطرافها أجانب و يخضعون لأحكام قانون بلدانهم، و عملا بمبدأ شخصية القوانين فالقاضي ملزم بتطبيق قانون البلد الذي ينتمي إليه الشخص الأجنبي عملا بقواعد الإسناد، و تتعقد الأمور إذا كان الأطراف من عدة بلدان و من جنسيات مختلفة، هنا و حسب الرأي الراجع في الفقه و القضاء المقارن أن القانون الأجنبي لا يعدوا إلا أن يكون مسألة من مسائل الواقع يجب على الخصوم إثباتها لأنه من غير الممكن أن يلم القاضي بكافة قوانين العالم و القول به مبالغ فيه إلى حد الجهل و مهما وجد من أجهزة اتصال و تكنولوجية متطورة فإن اختلاف اللغات كاف بيان وجه الصعوبة.
المطلب الثاني:شروط محل عبء الإثبات
يضع الفقهاء عدة شروط في محل عبء الإثبات و لا يمكن أن يتم الإثبات بدون تحققها و ذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود منه و هو الوصول إلى مطابقة الواقع للحقيقة قدر الإمكان ورد الحقوق إلى أصحابها و إلا كان الإثبات عبثا لا فائدة من إجرائه.
أولا: أن تكون الواقعة محددة و ممكنة :
يقصد به أن تكون الواقعة محل عبء الإثبات واضحة المعالم و ممكنة التحقق بأن تكون معينة تعينا كافيا نافيا للجهالة و الغرر لأجل تقدير قبول الأدلة بشأنها و التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها حتى يسير الإثبات في حدود مرسومة سلفا بحيث يفوت على الخصم ما يكون لديه من قصد إطالة النزاع دون داع، فإن كان محل عبء الإثبات مثلا عقد فإنه يجب بيان نوعه و تعيين محله، مثلا بيع سيارة من نوع ما بأوصاف ما كما يجب تعيين الوقائع محل عبء الإثبات بشكل واضح حتى لا يكون هناك مجال للشك في ماهيتها و مداها و تعتبر مسألة تقدير الواقعة ما إذا كانت معينة تعيين كافيا و كانت ممكنة، و يسمح بإثباتها مسألة لا يخضع القاضي فيها إلى رقابة المحكمة العليا، و مسألة تحديد الواقعة لا يقتصر على كون الواقعة إجابية كوجود الشيء أو إمكانية القيام به، بل يصح أن يرد الإثبات على الوقائع السلبية متى كانت محددة تحديدا كافيا، و الواقعة السلبية هي التي تتضمن في الغالب نفيا لأمر وجودي كنفي التقصير في الالتزام بعمل معين و إثباتها يكون بطريق إثبات أمر وجودي منافي لها.
ثانيا: أن تكون الواقعة محل نزاع و متعلقة بالدعوى
وهذا الشرط يعد من الشروط البديهية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، ذلك لأنه يتطلب حتى يكون الخصم منكرا لما ادعاه المدعي، فيكون محل عبء الإثبات موضوع نزاع بين الخصمين، أما إذا كان الخصم مقر بما ادعاه المدعي و معترفا به فلا حاجة لإضاعة وقت القضاء في شيء معترف به لأن ذلك يعفي المدعي من عبء الإثبات و يجعل الواقعة ثابتة في حق المقر بها، و كونها ثابتة لا يعني أنها غير قابلة للإثبات لأنها تصح أن تكون محل عبء إثبات من الغير إذا قام بشأنها نزاع أخر[21]، إذ أن المستقر عليه فقها و قانونا أن الإقرار قاصر ولا يتعد صاحبه و هذا هو ما يميز الواقعة بكونها ثابتة أو أنها غير قابلة للإثبات، فإذا سلم الخصم بجزء من طلبات المدعي، فإن ما سلم به يستبعد من مجال الإثبات و تنحصر في ذلك الخصومة في الجزء المتنازع عليه، و مثالها ادعاء شخص معين أنه أصيب في الحادث ويطالب بالتعويض فدفع المدعى عليه بأن طلبه مبالغ فيه دون أن يدلي بشيء عن الحادث فإن هذا يعد إقرار منه بصحة وقوع الحادث كما أنه لا يكفي أن تكون الواقعة هي محل نزاع بل يجب أن تكون متعلقة بالدعوى، و مقتضى هذا الشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها وثيقة الاتصال بالحق المدعى به و لا تكون الواقعة متعلقة بالحق المدعى به إلا إذا كانت هي مصدر هذا الحق، و هذا في الاثبات المباشر كتمسك البائع بعقد البيع للمطالبة بثمن المبيع أو أن يدعي شخص على آخر دين و يقدم سند الدين، إلا أن الإثبات لا يقع دائما بطريقة مباشرة فقد يتعرض الكثير من الأحوال إثبات واقعة مباشرة فليجأ المكلف بعبء الإثبات إلى إقامة الدليل على واقعة أخرى بديلة ليست هي مصدر الحق المدعي به و لكنها وثيقة الإتصال بالواقعة الأصلية مما يترتب عليه أن تكون الواقعة الأصلية ثابتة أو قريبة الإحتمال، و هذا ما يطلق عليه بالاثبات غير المباشر، و مثالها أن يطلب المؤجر من المستأجر سداد الأجرة لشهر معين فيقدم المستأجر مخالصات شهور تلت الشهر المطالب بسداده، فإن هذه المخالصات تعتمد على الوفاء إلى أن يثبت المؤجر عكسها، و لكن يشرط في الواقعة البديلة أن يكون هناك تلازم لأن الإثبات يصبح عندها مجرد عبث إذا لم يوجد هذا التلازم.
أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى.
و يشترط فضلا عما سبق بيانه أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى بأن تكون من شأنها أن تسهم في تكوين عقيدة القاضي في الاقتناع بحقيقة النزاع المعروض.
ومنه فإنه لا يكفي أن تكون الواقعة متعلقة بموضوع الدعوى بل يجب أن يكون إثباتها متعلقا بموضوعها، و يجب أيضا أن تكون منتجة في الدعوى بمعنى أن يكون لها أثر في تغيير و التأثير على الفصل فيها بأن تكون حاسمة في إسناد الحق إلى المدعي أو عدم إسناده له. أما إذا كان يستوي في نظر القانون ثبوتها أو عدم ثبوتها فهي لا تكون منتجة في الإثبات حتى ولو كانت متصلة بالدعوى وذلك كمن يدعي ملكية عقار استنادا إلى وضع يده عليه مدة ثلاثة عشر سنة فهذه واقعة متصلة بالدعوى ولكنها غير منتجة في الإثبات، نظرا لأن القانون يشترط مرور خمسة عشر سنة لاعتباره سببا من أسباب كسب الملكية.
أو كمن يطالب آخر بسداد دين حل موعده فيدفع الخصم المدين بعدم التزامه بالسداد أخذا بالمقاصة على اعتبار أنه له في ذمة الدائن سابقا مبلغ من المال ولكن الأجل لم يحل بعد بهدم واقعة متصلة بالدعوى و لكنها غير منتجة فيها لأنه يشترط فيها أن يكون الدينين حاليين الأداء ومن ثم فإنه يستوي في نظر القانون إثبات مثل هذه الوقائع أو عدم إثباتها لأن هذا الإثبات لا يؤثر في وجه الحكم في الدعوى.
ومنه يتضح مدى التلازم والترابط بين شرطي التعلق والإنتاج ذلك أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لابد أن تكون متصلة بها و العكس غير صحيح بمعنى أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لا يعني أنها منتجة فيها.
أن تكون الواقعة جائزة الإثبات
يقصد بهذا الشرط أنه لا يوجد في القانون ما يمنع من إثبات الواقعة فالأصل في الواقعة القانونية جواز الإثبات، ما دام قد توافر لها الشروط السابقة، إلا أن المشرع قد يخرج عن هذا الأصل لاعتبارات معينة فيمنع الخصم من إثبات هذه الوقائع و هذا المنع قد يكون لاعتبارات تتعلق بالنظام العام، والآداب العامة أو لأن الإثبات يتعارض مع سبب من الأسباب التي تقتضيها الصياغة الفنية للإثبات.
و من الأمثلة: عدم السماح للدائن أن يثبت أن المدين اقترض منه مبلغا معينا بفائدة، لكن هذا غير مسموح به قانونا لأن هذا يخالف النظام العام أوعند عدم السماح لمن يطالب بفوائد ناجمة عن قمار، و كذلك لا يجوز إثبات عكس القرائن القانونية القاطعة مثل: الخطأ المفترض في جانب حارس الشيء أو الحيوان، فلا يقبل من الحارس إقامة الدليل على عدم ارتكابه خطأ و ذلك لأن القانون يقيم مسؤوليته على خطأ مفترض فرضا لا يقبل إثبات العكس[23]. والتحقق من كون الواقعة جائزة الإثبات أم لا يعد من مسائل القانون التي يخضع القاضي فيها لرقابة المحكمة العليا، لأن القانون هو الذي يحدد الوقائع التي لا يجوز إثباتها، ودور القاضي في ذلك محدود و هذا بخلاف سائر الشروط السابقة.
: الاستعانة في إثبات الواقعة بشهرتها العامة دون العلم الشخصي:
الإثبات يجب أن ينصب على الواقعة القانونية التي يراد تطبيق القانون عليها ويجب أن يتم ذلك بالاستناد إلى أدلة الإثبات التي حددها القانون, والتي يجب تقديمها من قبل الخصوم, لذا لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج قاعة المحكمة في وقائع النزاع, سواء كان هذا المنع راجعا إلى كون الوقائع هي مجال الخصوم ولا يصح للقاضي أن يثير واقعة لم يتمسك بها هؤلاء ولم يقدموا الدليل على صحتها, أو استند على القاعدة التي توجب احترام حقوق الدفاع والتي تستلزم ألا يأخذ القاضي إلا بالوقائع التي أظهرها الخصوم في المناقشات المتبادلة بينهم, أو لأن هذا المنع يمثل الحد الأدنى لمبدأ حياد القاضي.
ولكن هل يتعين إثبات هذه الواقعة حتى ولو كانت معروفة بالشهرة العامة؟
ذهب البعض إلى أن الواقعة التي تشكل موضوع النزاع والتي يستند إليها القاضي كأساس لحكمه يجب أن تكون محلا للإثبات بالطرق القانونية, لأن القانون في مواد الإثبات يقتضي صحة الواقعة لا شهرتها.
ثم إن الشهرة العامة ليست من بين طرق الإثبات التي نص عليها القانون. إن الشهرة لا تغني عن الحقيقة. فإذا كانت الواقعة مشهورة ولكنها غير ثابتة فلا تكون الشهرة جدية ويجب أن لا يعتد بها.
إلا أن الدكتور " حجازي" يرى أنه لا تجب المبالغة في هذا الصدد إلى حد إلزام المتقاضين بإثبات الواقعة التي تكون من الشهرة بحيث لا تحتمل الجدل فالحوادث التاريخية لا يلزم إثباتها بشهود أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات[27]، ويجب أن يعتبر القاضي مثل هذه الوقائع ثابتة على أساس الشهرة رغم أن خصم من يتمسك بها تكون مصلحته في أن ينكرها وخاصة إذا كانت الواقعة المشهورة معروفة عند الناس كافة فلا يمكن أن تكون غير معروفة عند القاضي.
أما الأستاذ " باتيفول" فيذهب إلى أنه يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي عن الوقائع العامة طالما كانت مشهورة أو كان العلم بها ميسورا بالكافة[28]
والحل الواجب الإتباع في هذا الصدد بإمكان التفرقة في هذا النطاق بين حالتين:
الحالة الأولى عندما تشكل الواقعة العامة أو المشهورة موضوع النزاع التي تحتجزها القاضي كأساس لحكمه ففي هذه الحالة يجب أن تكون محلا للإثبات, بغض النظر عن صفتها العامة أو الخاصة, بحيث لا يمكن للقاضي الحكم بعلمه الشخصي بالاستناد إلى شهرتها.
أما الحالة الثانية بالنسبة للواقعة العامة أو المشهورة التي لا تشكل موضوع النزاع ذاته والتي لم يحتجزها القاضي كأساس لحكمه, وإنما استخدمها فقط لتقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه, فيجوز للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي في شأنها بصفتها من قواعد الخبرة العامة.
ومن هنا يتضح لنا أن الوقائع المشهورة تخضع للإثبات إذا كانت محلا للنزاع وتكون أساس حكم القاضي, بينما يمكن للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي بشأنها إذا كانت صفة تدخلها في الدعوى تنحصر في كونها من عناصر تقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه. وهذا ما يذهب إليه الدكتور السنهوري حيث يقول: "ولكن هذا لا يمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بما هو معروف بين الناس ولا يكون علمه خاصا به مقصورا عليه, كالمعلومات التاريخية والجغرافية والعلمية والفنية الثابتة".
ويبدو أن هذه الحالة هي التي جعلت الفقهاء المسلمين يختلفون في جواز الحكم بمقتضى علم القاضي أو عدم الجواز، وهو ما سوف نعرض له في الفقه الإسلامي.
إن الفقه الإسلامي يتوسع في تفسير طرق الإثبات بهدف الوصول إلى الحقيقة الواقعية كلما أمكن، وللوهلة الأولى يبدو أن هذا التوسع إنما يوحي بجواز الحكم بعلم القاضي الشخصي, ولكن الحقيقة أن أهل العلم اختلفوا في المسألة بين من يمنع من ذلك ومن يجيز. فأكثر أهل العلم ذهبوا إلى أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي, فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف عن أبي بكر قوله:" لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته, ولا دعوت له حتى يكون معي غيره".
كما روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أيضا أن عمر بن الخطاب قال: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي".
و استدل القائلون بذلك بحديث جابر أنه قال: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه ثوب بلال به فضة, وكان يقبض منها يعطي الناس, فقال يا محمد أعدل, فقال صلى الله عليه وسلم:ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل, لقد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل, فقال عمر: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا و أصحابه يقرؤون القرآن لا يجوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية". رواه أحمد و مسلم.
و وجه استدلالهم بهذا الحديث على عدم جواز حكم القاضي بعلمه، أن *النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في عدم قتل هذا الرجل، الخوف من حدوث الفتنة، و كلام الناس أن محمدا يقتل أصحابه. في الوقت الذي يعلم بحقيقة هذا الرجل وأنه من المنافقين.
و قال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه، سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها، قال الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة. و يلزم من الجواز فتح هذا الباب على مصراعيه ليحكم كل قاضي بما يجب مدعيا علمه بذلك.و من ثم قال الشافعي:لولا قضاة السوء لقلت أن للحاكم أن يحكم بعلمه، قال البخاري:و هذا قول مالك و أكثر أصحابه.
قال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يمضي قضاء بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر من شهادة غيره، و لكن فيه تعرضا لتهمة نفسه عند المسلمين إيقاعا لهم في الظنون، و لهذا ما أجاز أبو بكر و عمر الحكم بمقتضى علمهما.
و عن أبي حنيفة قوله:"القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه، و لكن أدع القياس و استحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه، و حكى مثل ذلك في فتح عن بعض المالكية، فقالوا: أنه يقضى بعلمه في كل شيء إلا في الحدود. قال:و هذا هو الراجح عند الشافعية.
و استدل القائلون بالجواز بحديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي (ص) أن تأخذ من ماله ما يكفيها و ولدها بالمعروف.
ق
أولا: بالنسبة للقرائن القانونية القاطعة:
_ لقد عرف الفقه القانوني القرائن القانونية بأنها التي نص القانون على عدم جواز إثبات عكسها إلاّ في حالات خاصة كالإقرار القضائي و اليمين أو إثبات السبب الأجنبي، ومن هذا القبيل ما نصت عليه المادة 139من القانون المدني، في مسؤولية حارس الحيوان عن الضرر الذي يسببه للغير، فهي مسؤولية تقوم على خطأ الحارس، وهو خطأ مفترض لا يقبل إثبات العكس، وما تنص عليه المادة 138 من القانون المدني في مسؤولية حارس الأشياء و ما تنص عليه المادة496 من نفس التقنين من مسؤولية المستأجر عن حريق العين المؤجرة[40]
_أما الفقه الإسلامي فهو يعرف القرائن الشرعية القاطعة بأنها تلك التي تصل في دلالتها على الحكم إلى مرتبة القطع وهذه القرائن اعتبرها الشارع الحكيم مراعاة للمصلحة العامة و بالتالي فإن القاضي ليس له أن يبحث في مدى دلالة هذه القرينة على الحكم، وهذا النوع من أنواع القرائن يعد بينة نهائية كافية للقضاء.
من صور القرائن القاطعة:
1) نصت المادة 312 من القانون المدني على التقادم بسنة واحدة بالنسبة لحقوق التجار و الصناع على الأشياء التي وردوها لأشخاص لا يتاجرون فيها، و حقوق أصحاب الفنادق و المطاعم عن أجر الإقامة و ثمن الطعام و كل ما صرفوه لحساب عملائهم و المبالغ المستحقة للعمال الأجراء الآخرون مقابل عملهم. وقد أضافت هذه المادة انه يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا. وهذا ما يدل على أن المشرع قد جعل هذا التقادم القصير قائم على قرينة قاطعة تفيد الوفاء بالحق، ومن ثم أجاز دحض هذه القرينة بالنكول عن اليمين، فيجوز من باب أولى دحضها بالإقرار.
2) نصت المادة338 من القانون المدني على أن الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول أي دليل ينقض هذه القرينة[41].
- التفرقة بين القرائن القانونية القاطعة و القواعد الموضوعية:
التفرقة تدق بينهما في كثير من الأحيان لأن هناك قاسم مشترك أعظم بينهما و هو أن كلا منهما مبني على الغالب المألوف، لكن الفارق بينهما يكمن في الصياغة القانونية، ففي القاعدة الموضوعية يجعل المشرع الغالب المألوف حقيقة ثابتة لا يجوز إثبات عكسها بأي طريقة من الطرق إذ أنها لا تعد طريقا من طرق الإثبات وإنما أصبحت قاعدة موضوعية فبلوغ سن الرشد تتفاوت فيه الناس لكن الغالب المألوف أن الشخص يبلغ درجة النضج العقلي اعتبارا من سن (19) تسع عشرة سنة و ما فوق فيقوم الشارع باختبار سن معينة و يجعل بلوغ الرشد لجميع الناس عند هذه السن،هذا مثل عن القاعدة الموضوعية،و لذلك لا يجوز إثبات عكسها بأي طريق من الطرق، إذ لا تعد طريقا من طرق الإثبات، فمن يبلغ هذه السن فلا يعتبر رشيدا و لو كان عبقريا،أما القرينة القانونية القاطعة تعتبر قاعدة إثبات لا قاعدة موضوعية، لذلك يجوز إثبات عكسها أخذا بفكرة نقض الدليل بالدليل و لأنها حجة أقامها الشارع بناء على الغالب الراجح،فهي ليست إلا احتمالا قد يخطئ كما يتفق مع الحقيقية ، و من أمثلة القواعد الموضوعية التي تقوم على قرائن:حجية الأمر المقضي و التقادم و الحيازة في المنقول و مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع و غير ذلك.
-القرينة القانونية القاطعة يجوز دحضها بالإقرار و اليمين:
إذا قلنا أن القرينة القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس فليس معنى ذلك أنها لا تدحض أبدا، ذلك أن عدم القابلية للدحض لا يكون إلا للقواعد الموضوعية أما القرائن القانونية القاطعة فهي قواعد إثبات و أي كانت المرتبة التي أرادها المشرع لها في القطع و الحسم فهي لا تستعص أن تدحض بالإقرار و اليمين، ذلك أن القرينة القانونية القاطعة لا تزال دليلا من أدلة الإثبات، بل هي تعدو أن تكون دليلا سلبيا إذ تقتصر على الإعفاء من الإثبات فإذا نقضها من تقررت لمصلحته بإقراره أو يمينه فقد دحضها ، و أفضل مثال على ذلك ما سبق ذكره حول تقادم بعض الحقوق بمضي سنة و المنصوص عليها في المادة 312 من القانون المدني حيث أضافت هذه المادة أنه "يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا" مما يعني أنه يتم دحض هذه القرينة القاطعة بنكول الخصم عن أداء اليمين المقرر قانونا. كذلك نضرب مثالا آخر عن مسؤولية حارس الشيء المنصوص عليها في المادة 138 من القانون المدني و التي تقيم مسؤوليته على خطأ مفترض غير قابل لإثبات العكس إلا بإثبات السبب الأجنبي فإذا قام المدعي بإثبات مسؤولية المدعى عليه بإثبات الضرر و العلاقة السببية بين الشيء محل الحراسة و الضرر،وقع عبء نفي هذه المسؤولية على المدعى عليه بإثباته للسبب الأجنبي، فإذا عجز عن إثبات ذلك قامت ضده قرينة قاطعة على مسؤوليته اتجاه المدعي ،و لم يمكنه دحض هذه القرينة القانونية القاطعة إلا بإقرار قضائي يصدر عن خصمه(المدعي).
و بالتالي يمكن استنتاج أنه كل ما لا يجوز دحضه باليمين أو الإقرار هو من قبيل القواعد الموضوعية و ليس القرائن القانونية القاطعة.
و قد جاء في آخر نص المادة312 من القانون المدني:" و هذه اليمين توجه تلقائيا من القاضي إلى ورثة المدين أو إلا أوصياؤهم إن كان الورثة قاصرين على أنهم لا يعلمون بوجود دين أو يعلمون بحصول الوفاء"
و من خلال هذا النص يتبين لنا أنه رغم ضيق مجال توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية القاطعة إلا أنه قد يتجلى دور القاضي في عملية التوزيع بموجب بعض هذه القرائن خاصة منها التي يمكن دحضها باليمين و الإقرار القضائي و إثبات السبب الأجنبي، حيث يتبين من المثال السابق [42]
أن القاضي يقوم بتوجيه اليمين إلى المدين أو إلى ورثته أو أوصيائهم إذا كان الورثة قاصرين رغم أن هؤلاء يملكون دليلا معفيا من الإثبات و هو القرينة القانونية القاطعة المتعلقة بالتقادم القصير المدى و هو دليل كامل لا يحتاج تكملته باليمين المتممة في الأصل لكن في هذه الحالة أراد المشرع توزيع عبء الإثبات بين الدائن الذي يقوم بإثبات وجود الدين من جهة و المدين الذي يدفع بانقضائه بمضي مدة التقادم القصير.و هذا بهدف التخفيف من عبء الإثبات الملقى على عاتق الخصمين.
و فيما يخص دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن الشرعية القاطعة و التي سبق شرحها و تعريفها بأنها القرائن التي جاء بها الشارع الحكيم الله عز و جل و رسوله الكريم-صلى الله عليه و سلم- و رأي الفقهاء،و هو دليل قاطع معفي من الإثبات غير قابل لإثبات العكس، لكن المستقر عليه أنه يمكن دحض هذا الدليل في بعض أحوال باليمين أو الإقرار خاصة بالنسبة لبعض القرائن الشرعية القاطعة التي أوردها الشارع الحكيم و بالنسبة لأغلبها التي جاء بها فقهاء الشريعة الإسلامية و التي نذكر بعض الأمثلة منها فيما يلي: قوله صلى الله عليه و سلم :"الولد للفراش و للعاهر الحجر" هذه قرينة شرعية قاطعة على ثبوت نسب الولد بمجرد ثبوت البناء (الدخول) بين الزوجين، فما على الزوجة إلا أن تثبت ذلك،فلا يمكن للزوج إثبات عكس هذه القرينة ،لكن في إمكانه دحضها بوسيلة اللعان المنصوص عليها شرعا و هي حلفه لليمين أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين أن الولد ليس من صلبه [43] و بالتالي تستنتج دور القاضي في هذه المسألة و المتمثل في توزيع عبء إثبات واقعة نسب الولد بين الزوجين الخصمين بموجب القرينة الشرعية القاطعة السابق ذكرها و ذلك بتوجيه اليمين إلى الزوج،فإذا حلف هذا الأخير تنقل اليمين إلى الزوجة
ثانيا: بالنسبة للقرائن القانونية غير القاطعة (البسيطة):
-عرف الفقه القانوني القرائن القانونية غير القاطعة(البسيطة) بأنها تلك التي تجعل جانب أحد المتداعيين أقوى من الآخر، فهي تعفي الشخص الذي شهدت له من الإثبات، و تغنيه عن أي طريق آخر للإثبات و لكن يحق للخصم إثبات عكسها.
-في الفقه الإسلامي، سواء كانت قرائن شرعية بنص شرعي أو ثابتة بنص فقهي، تعتبر حكما شرعيا يلتزم القاضي بتطبيقه، فيطبق النصوص الشرعية أولا، ثم يقضي بنصوص مذهبه ثانيا ما لم يكن مجتهدا، و القرائن الشرعية غير القاطعة هي تلك التي استنبطها الفقهاء باجتهادهم و اعتبرها الشارع، و لكنه جعل الباب مفتوحا أمام من شهدت عليه لإثبات عكسها.
-من أمثلة القرائن القانونية غير القاطعة:
1. المادة 61 من القانون المدني:"ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه و يعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على العكس ذلك "فقد راعى المشرع أن الذي يحدث عادة هو أن يعلم الشخص بما يصل إليه وقت وصوله، فأقام هذه القرينة حتى يخفف عن موجه التعبير عبء إثبات العلم و هو أمر يتعذر إثباته. و يجوز لمن وجه إليه التعبير أن ينقض هذه القرينة بدليل عكسي، فيثبت أنه رغم وصول التعبير لم يحط به علما لغيابه(مثلا) أو مرض...إلخ.
2. المادة 98 من القانون المدني:" كل التزام مفترض أن له سببا مشروعا ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، و يعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه" أي أن المشرع قرر قرينة قانونية لصالح الدائن حيث لم يلزمه بإثبات أن الالتزام الذي يطالب به المدين سببا مشروعا، و هذه القرينة بسيطة تقبل النقض بالدليل العكسي، كذلك لم يلزم المشرع الدائن إثبات أن السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي، و إنما أقام قرينة قانونية على أن السبب الحقيقي المذكور في العقد. و لما كانت هذه القرينة غير قاطعة فيجوز للخصم أن ينقض الدليل المستفاد منها، بأن يثبت مثلا أن السبب المذكور في العقد صوري.
3. المادة 193 من القانون المدني:"إذا ادعى الدائن عسر المدين فليس عليه إلا أن يثبت مقدار ما في ذمته من ديون، و على المدين أن يثبت أن له مالا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها"أي أنه إذا ادعى الدائن عسر المدين، فليس عليه إلا أن يثبت ما في ذمة مدينه من ديون، و عند ذلك تقوم قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على أن المدين معسر، وينتقل عبء الإثبات بفضل هذه القرينة إلى المدين و عليه هو أن يثبت بأنه غير معسر، ويكون ذلك بإثبات أنم له أموال تساوي قيمة الديون أو تزيد عليها فإن لم يفلح في هذا الإثبات عد معسرا.
4. المادة 776 من القانون المدني، حيث جاء في معنى هذا النص أن كل تصرف يصدر من المورث في مال من أمواله و هو في مرض الموت يعد صادرا على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. فهذه القرينة القانونية الدالة على نية التبرع من شأنها تيسير الإثبات على الوارث فيكفي أن يثبت أن التصرف قد صدر من مورثه في مرض الموت حتى تقوم القرينة فيعد أنه صدر على سبيل التبرع.
و الأمثلة كثيرة ومتنوعة عن القرائن القانونية غير القاطعة في القانون الجزائري.
- طرق إثبات العكس في القرائن غير القاطعة: يتم نقض القرائن القانونية غير القاطعة وفقا للقواعد العامة في الإثبات فيجوز نقضها بإقرار من قامت القرينة القانونية لمصلحته أو بنكوله عن اليمين الحاسمة التي وجهت إليه أو عن طريق الدليل الكتابي أو بمبدأ الثبوت بالكتابة معززا بالبينة أو القرائن القضائية، كما يجوز الإثبات بالبينة و بالقرائن القضائية إذا استحال الحصول على دليل كتابي أو عند فقده بعد الحصول عليه، ويلاحظ أن القرينة القانونية البسيطة قد يتم استخدامها في إثبات واقعة مادية أو تصرف قانوني لا تزيد قيمته عن النصاب المحدد لشهادة الشهود، وفي هذه الحالة لا يثور أي شك في جواز إثبات عكس هذه القرينة بكل طرق الإثبات وذلك طبقا للقواعد العامة. ولكن قد تستخدم القرينة القانونية البسيطة في إثبات تصرف قانوني تزيد قيمته عن النصاب المحدد للإثبات بشهادة الشهود( ألف دينار جزائري 1000).
وفي هذه الحالة وبما أن القرينة القانونية البسيطة لا تعفي في حقيقتها من الإثبات و إنما تنقل محل الإثبات من الواقعة الأصلية المتنازع عليها إلى واقعة أخرى متصلة بها و هذه الواقعة الأخيرة هي التي يجب إثباتها طبقا للقواعد العامة في الإثبات و بالتالي تقوم القرينة القانونية و تثبت بقتضاها الواقعة الأخرى المتنازع عليها، وإذا أراد الخصم الآخر أن يدحض هذه القرينة فعليه التزام حكم القواعد العامة في هذا الصدد[44].
لكن المشرع عين في بعض الحالات طرق خاصة لإثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة و من أمثلتها:
1- في المثال الذي سبق ذكره حول نص المادة 193 من القانون المدني: حيث أنه إذا أثبت الدائن أي مقدار من الديون في ذمة مدينه قامت قرينة قانونية على إعساره وهذه القرينة تنقض عن طريق إثبات المدين أن لديه أموالا تساوي قيمة هذه الديون أو تزيد عليها.
2- المادة 127 من القانون المدني تنص على أن العلاقة السببية بين الخطأ و الضرر تقوم على قرينة قانونية غير قاطعة، يجوز نقضها بإثبات السبب الأجنبي كالقوة القاهرة أو خطأ المضرور أو عيب في الأشياء المنقولة...الخ.
3- المادة 496 من القانون المدني، تنص في معناها أن المستأجر يعد مسؤولة عن الحريق في العين المؤجرة مسؤولية قائمة على خطأ عقدي مفروض، ويجوز نفي هذا الخطأ المفترض بأن يثبت المستأجر أن النار قد بدأ نشوبها في الجزء الذي يشغله مستأجر آخر.
- إن كل قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس ليست في الواقع إلا توزيعا لعبء الإثبات بين الخصمين، ينص عليه القانون و يتكفل بتطبيقه القاضي، ونرى كذلك مما سبق أن من يحمل عبء الإثبات ليس مطالبا في الواقع من الأمر بإثبات كامل قاطع، ولا هو يكلف بإثبات كل عنصر من العناصر التي تتكون منها الواقعة مصدر الحق المدعى به، وليست الحقيقة القضائية التي يتولى إثباتها بالحقيقة المطلقة التي لا يداخلها الشك، فالقانون يطلب ممن يحمل عبء الإثبات أن يقنع القاضي بأن الأمر الذي يدعيه أمر مرجح الوقوع، وينفي القاضي ما بقي من شك يحوم حول الأمر بأن بنقل عبء الإثبات إلى الخصم الآخر. ليثبت أنه بالرغم من الظواهر التي ترجح وقوع الأمر، توجد قرائن أخرى تجعل الراجح مرجوحا،ثم يرد عبء الإثبات على الخصم الأول ليهدم هذه القرائن بقرائن أخرى، وهكذا يتبادل الخصوم عبء الإثبات، إلى أن يعجز أحدهما عن دحض الدليل الذي تقدم به الخصم الآخر، فيخسر بذلك الدعوى[45].
من الأمثلة عن دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية البسيطة ما يلي:
1- المادة 830 من القانون المدني، جاء في معناها انه عندما يريد الحائز أن يثبت أنه كسب الملكية بالتقادم، أي يثبت أن حيازته استمرت المدة التي حددها القانون لتمام التقادم، هنا يضع القانون قاعدة لتوزيع عبء الإثبات بين الخصوم، فالحائز يحمل عبء إثبات أن حيازته بدأت في وقت معين و أنها قائمة حالا، و هنا يقيم القانون قرينة على أن الحياز استمرت قائمة في المدة ما بين الزمنين، فيتولى القاضي مهمة تكليف الخصم الآخر بالإثبات، فيلقي عليه عبء إثبات أن مدة التقادم قد انقطعت، فانقطع التقادم لسبب من الأسباب.
2- عندما يطالب الدائن مدينه بوفاء التزام مترتب على عقد معين، هنا من المفروض أن يقع عبء إثبات الواقعة القانونية، و هي العقد على عاتق الدائن، فيثبت أن هناك عقدا توافرت فيه كافة عناصره القانونية من التراضي و تنزه الرضاء عن العيوب و وجود السبب المشروع و عدم استحالة مضمونه، و لا شك في ثقل عبء إثبات كافة هذه العناصر إذا ألقي هذا العبء على الدائن وحده، و لهذا و تحت دافع التخفيف من هذا العبء، يتولى المشرع تجزئة عبء الإثبات بين الدائن و المدين، فحسب الدائن هنا أن يثبت وجود الالتزام الذي لم ينفذه المدين، و يقيم المشرع بعد ذلك عدة قرائن تساعد على هذا التخفيف بإلقاء عبء إثبات بعض عناصر الواقعة القانونية على عاتق المدين. مثال ذلك أنه لا يجب على الدائن أن يثبت أن للالتزام سبب مشروع، فلقد تولت قرينة المادة 98 من القانون المدني هذه المهمة بافتراضها أنه إذا لم يذكر في العقد سبب الالتزام، فإنه يفترض أن له سببا مشروعا. ثم يقع على المدين عبء إثبات تخلف السبب المشروع. كما لا يجب على الدائن أن يثبت توافر التمييز و الإدراك أو أن الرضاء كان سليما، فكل هذه العناصر يفترض وجودها، و للمدين أن يثبت عكس ذلك، كما لا يجب على الدائن أن يثبت وجود محل الالتزام. فمثلا لا يجب عليه أن يثبت عدم هلاك المبيع وقت التعاقد و إنما يقع على المدين إثبات أن المحل كان غير موجود لهلاكه قبل التعاقد.
3- إذا باع شخص شيئا يملكه، و بعد موته تنازع ورثته المشتري في أن الثمن المذكور في عقد البيع صوري، و أن البيع قد صدر في مرض الموت فيكون وصية، و من ثم لا ينفذ إلا من ثلث التركة. يوزع القانون عبء الإثبات هنا أيضا بين الورثة و المشتري، فقد نصت الفقرتان الثانية و الثالثة من المادة776 على ما يأتي:" وعلى ورثة المتصرف أن يثبتوا أن التصرف القانوني قد صدر عن مورثهم وهو في مرض الموت و لهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ العقد إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتا. إذا أثبت الورثة أن التصرف صدر عن مورثهم في مرض الموت أعتبر التصرف صادرا على سبيل التبرع ما لم يثبت من صدر له التصرف خلاف ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه".
فالورثة إذن يحملون عبء إثبات أن البيع قد صدر في مرض الموت.
ومتى أثبتوا ذلك قامت قرينة قانونية على أن العقد مقصود به التبرع و أن ثمنا ما لم يدفع و عند ذلك ينتقل عبء الإثبات إلى المشتري. وعليه أن يثبت انه دفع للبائع ثمنا لا يقل عن قيمة المبيع بمقدار يجاوز ثلث التركة و إلا فإن البيع فيما تجاوز فيه زيادة قيمة المبيع على الثمن ثلث التركة، لا يسري في حق الورثة.
فمن خلال الأمثلة السابق ذكرها يظهر جليا دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بين الخصوم بموجب القرائن القانونية غير القاطعة.
- ومن الأمثلة في الشريعة الإسلامية مسألة اختلاف الزوجين في متاع البيت، حيث أنه إذا اختلف الزوجين في متاع البيت و ادعى كل منهما أن المتاع ملكه، ولم يستطع إحضار البينة، فقد ذهب الحنيفية و المالكية و الحنابلة و الزيدية و الإمامية في الأظهر و الإباضيّة إلى وضع قرينة فقهية متمثلة في أن متاع البيت الذي يصلح للرجال كالعمامة و الكتب و السيف يعطى للزوج و المتاع الذي يصلح للنساء كالحلي و الثياب يعطى للزوجة، للقرينة القائمة على العرف و العادة في صلاحية كل نوع لصاحبه، وأنه لا عبرة لليد الحسية فيها ثم اختلفوا في المتاع الذي يصلح للرجال و النساء معا كالآنية و الذهب و الفضة و العقار و الأثاث. فقال المالكية و الحنفية: يقضى به للرجال، لأن البيت بيت الرجل في العادة، و المرأة تحت يده واليد قرينة و دلالة من دلالات الظاهر على المالك، وقال الإمام أحمد بن حنبل وابن القاسم من المالكية و الإمامية وعثمان البتى وعبد الله بن الحسن والحسن بن زيد و زفر في أحد قوليه: إن ما يصلح لهما يقسم بينهما بعد اليمين لإشتراكهما في اليد[46]. و من خلال هذه القرينة الفقهية يقوم القاضي بتوزيع عبء الإثبات بين الزوجين، حيث ترجح القرينة كفة الزوج فيما يكون عادة ملكا للرجال من متاع البيت فلا يحتاج إلى إثبات ذلك بدليل آخر في حين ينتقل عبء الإثبات إلى الزوجة لتقديم البينة على ملكية هذه الأشياء فإذا نجحت في ذلك قضي لها بما طلبت و إذا أخفقت خسرت الدعوى، و نفس الحكم بالنسبة للمتاع الذي يصلح للنساء، و المتاع الصالح للرجال و النساء معا.
المطلب الثاني: دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القضائية :
- تنص المادة 340 من القانون المدني:" يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، و لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فبها القانون الإثبات بالبينة". فالقرينة القضائية هي نتيجة يستخلصها القاضي من واقعة معلومة لواقعة غير معلومة و لذلك تعد القرائن القضائية من أدلة الإثبات غير المباشرة، حيث تثبت الواقعة أو يثبت التصرف بطريق غير مباشر عن طريق ثبوت واقعة أخرى قريبة منها أو متصلة بها. فمثلا إذا أثبت المستأجر أنه قام بدفع الأجرة عن شهر معين، أمكن للقاضي أن يستخلص من ذلك دفع الأجرة عن الشهر السابق، وقد تكون الواقعة المتنازع عليها هي سرعة السيارة أثناء وقوع الحادث، فيقوم قاضي الموضوع بتحديد سرعة السيارة وذلك استنباطا من واقعة أو وقائع أخرى مثل أن تكون آثار جهاز التوقيف ( الفرامل) طويلة وحالة السيارة و حالة الطريق وهكذا. فإذا ثبت للقاضي الوقائع الأخيرة أمكنه أن يستنبط سرعة السيارة أثناء الحادث فنكون بصدد قرينة قضائية أقامها القاضي وبذلك تختلف القرينة القضائية عن القرينة القانونية، ففي القرينة الأخيرة يتولى المشرع بنفسه عملية الاستنباط ثم يفرض الواقعة التي استخلصها على القاضي و الخصوم فرضا.
أما في الشريعة الإسلامية فالقرائن القضائية هي تلك التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوى و ملابساتها، فأمر استخلاص هذه القرائن قد تركه الشارع للقاضي ليستنبطه كيفما شاء، وحسبما أراد وأطلق له الحرية، فكلما اقتنع القاضي باستنباط أمر حكم بمقتضاه وإلا فلا. وهذا الأمر يستلزم من القاضي ألا يحكم بهذا الاستنتاج إلا وضميره مطمئن، وهذا لا يكون إلا حيث تكون القرائن قوية، متصلة بالواقعة المتنازع فيها اتصالا مباشرا. و القرائن القضائية لا تقع تحت حصر لأنها وليدة الظروف و الحوادث، وعلى كل حال فالمدار في استخلاصها على ذكاء القاضي وفطنته، فينبغي عليه ألا يبعد في الاستنباط عما يظهر من الحوادث. و من قبيل هذا النوع من القرائن، ما يقضي به الرسول صلى الله عليه و سلم في قصة قتل أبي جهل، وذلك أن إبني عفراء تداعيا قتل أبي جهل فقال(ص):" هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فقال:" فأرياني سيفيكما" فلما نظرا فيهما، قال لأحدهما:" هذا قتله" وقضى له بسلبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب لأحدهما اعتمادا على أثر الدم على السيف، وأثر الدم قرينة من القرائن التي ترجح جانب أحد المتداعيين، ومن قبيل هذه القرائن – أيضا – ما قضى به نبي الله سليمان- عليه السلام- في أمر المرأتين اللتين ادعتا الولد، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله(ص) قال:" كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت لصاحبتها، إنما ذهب ابنك، و قالت الأخرى:إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود- عليه السلام- فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان –عليه السلام-فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فسمحت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى". و يظهر من سياق القصة أن سليمان قضى به للصغرى، مخالفا بذلك رأي أبيه، الذي قضى به للكبرى، بناءا على ما انفتح في ذهنه –عليه السلام- من أن الحامل للصغرى على الاعتراف بأن الولد ليس ابنها، وامتناعها عن المخاصمة إنما هو الشفقة و الحنان اللذان أودعاهما الله قلوب الأمهات، كما فهم من رضي الكبرى بشق الولد بينهما أنه ليس ابنها، وإنما أرادت الكيد للصغرى بقتل ولدها، كما ذهب الذئب بولدها هي حقدا و حسدا[47].
و سنتطرق في هذا المطلب إلى السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية في العنصر الأول و إلى سلطة القاضي في تقدير الإثبات بالقرائن القضائية و توزيع عبء الإثبات بموجبها.
أولا: السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية:
- يقتضي استنباط القرينة القضائية توافر عنصرين أو ركنين:
1) العنصر الأول:وجود واقعة أو وقائع ثابتة ذات صلة بالواقعة المتنازع عليها و يطلق على هذه الواقعة اصطلاح الدلائل أو الأمارات(Indices)، فلا بد إذن في هذه الواقعة أن تكون ثابتة فالقرنية هي استنباط أمر مجهول من واقعة ثابتة، بحيث إذا كانت هذه الواقعة محتملة و غير ثابتة فإنها لا تصلح مصدرا للاستنباط و نعرض فيما يلي إلى بعض صور الوقائع الثابتة و التي يمكن أن يستخلص منها الأمر المجهول و المتنازع عليه:
* يجوز الاعتماد على عقود الإيجار و إيصالات الأجرة عن مدة لا يدخل فيها شهر الأساس أو لأماكن أخرى مماثلة في ذات العقار قرينة قضائية لإثبات الأجرة القانونية.
* لمحكمة الموضوع أن تقول في حكمها على ما ورد في شكوى إدارية، أو ما مرد في محضر جمع الاستدلالات أو محضر الشرطة أو في أي تحقيقات إدارية أو قضائية، أو من أقوال شهود سمعوا في غير مجلس القضاء.
*يجوز المحكمة الموضوع التعويل في حكمها على حكم صادر في قضية أخرى لم يكن الخصم طرفا منها وذلك كقرينة قضائية.
*يجوز أن يعتمد القاضي في استنباط القرينة على أقوال شهود سمعوا في قضية أخرى حتى ولو أطرحت المحكمة الذي سمع أمامها الشهود التحقيق منها.
*يجوز استنباط القرائن من أقوال شهود سمعهم الخبير بدون حلف اليمين و من المعاينة ا