إجراءات تحقيق الدعوى التأديبية ودور المحكمة التأديبية فى توجيهها
خطة البحث
مقدمة : المحاكم التأديبية والدعاوى التأديبية
المبحث الأول : تعريف الإجراءات التأديبية ودور القاضى الإدارى في توجيهها .
المطلب الأول : ماهية الإجراءات الإدارية ودور القاضى الإدارى في توجيهها .
المطلب الثانى : تعريف الإجراءات التأديبية
المبحث الثانى :إجراءات تحقيق الدعوى التأديبية
المطلب الأول :دور المحكمة التأديبية في تحقيق الدعوى
المطلب الثانى : حرية المحكمة في تكوين عقيدتها
مقدمة : المحاكم التأديبية والدعاوى التأديبية في النظام القانونى المصرى :
* المحاكم التأديبية :
صدر الدستور المصرى الحالى في 11 سبتمبر سنة 1971 متضمناً بين نصوصه نص المادة 172 بشأن مجلس الدولة " جهة القضاء الإدارى " … والتى نصت على أن " مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة , ويختص بالفصل في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية , ويحدد القانون اختصاصاته الآخرى " …ولوضع هذا النص الدستورى موضع التطبيق العملى صد قانون مجلس الدولة الحالى رقم 47 لسنة 1972 مؤكداً ومردداً في مادته الأولى نفس ما ورد بالنص الدستورى من أن " مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة , يختص بالفصل في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية " ([1]) .
ويتألف مجلس الدولة – طبقاً لنص المادة الثانية من القانون 47 لسنة 1972- من ثلاثة أقسام هى القسم القضائى , وقسم الفتورى , وقسم التشريع… حيث تُعد المحاكم التأديبية جزءاً من القسم القضائى بمجلس الدولة طبقاً لنص المادة الثالثة من نفس القانون ([2]) . وذلك على عكس القانون السابق رقم 55 لسنة 1959 الذى كان لا يعتبرها كذلك , رغم أواصر الصلة بين المحاكم التأديبية والقسم القضائى ([3]) .
وتُعد المحاكم التأديبية صاحبة الولاية العامة في مسائل تأديب العاملين المدنيين بالدولة في النظام القانونى المصرى , وتشمل هذه الولاية الدعاوى التأديبية المبتدأة التى ترفعها النيابة الإدارية , كما تشمل الطعون التأديبية – أى الطعون في قرارات الجزاءات الصادرة من السلطات الرئاسية وما يرتبط بها من طلبات ([4]) .
وتختص المحاكم التأديبية طبقاً لنص المادة الخامسة عشرة من قانون مجلس الدولة بنظر الدعاوى التأديبية عن المخالفات المالية والإدارية التى تقع من الفئات التالية :
أولاً – العاملين المدنيين بالجهاز الإدارى للدولة ووزارات الحكومة ومصالحها , ووحدات الإدارة المحلية والعاملين بالهيئات العامة وما يتبعها من وحدات , والعاملين بالشركات التى تضمن لها الحكومة حداً أدنى من الأرباح .
ثانياً – أعضاء مجالس إدارة التشكيلات النقابية المشكلة طبقاً لأحكام قانون العمل, وأعضاء مجالس الإدارة المنتخبين طبقاً لأحكام القانون رقم 141 لسنة 1963.
ثالثاً – العاملين بالجمعيات والهيئات الخاصة التى يصدر بتحديدها قرار من رئيس الجمهورية ممن تتجاوز مرتباتهم خمسة عشر جنيهاً شهرياً.
* الدعوى التأديبية :
الدعوى بشكل عام – كما يعرفها فقه المرافعات – هى سلطة الألتجاء إلى القضاء للحصول على تقرير حق أو حمايته ([5]) …. فالدعوى إذاً هى الوسيلة القانونية التى يلجأ بمقتضاها صاحب الحق إلى السلطة القضائية لحماية حقه .
أما الدعوى التأديبية فيعرفها جانب من فقه القانون الإدارى بأنها مطالبة النيابة الإدارية للقضاء ممثلاً في مختلف المحاكم التأديبية بمحاكمة العامل "الموظف" عن الفعل أو الأفعال التى وقعت منه , بقصد مجازاته تأديبياً , وذلك بالحكم عليه بإحدى العقوبات التى نص عليها القانون ([6])…. فى حين عرفها البعض الآخر بأنها مجموعة الإجراءات التى تهدف إلى تحديد المسئولية التأديبية , ومؤخذة من يخرج على أحكام وظيفته ومقتضياتها ([7]) .
ونميل من جانبنا إلى تأييد رأى ثالث في تعريف الدعوى التأديبية بأنها .. مطالبة جهة التأديب – أياً كانت صورتها – بمحاكمة الموظف عن الفعل أو الأفعال التى وقعت منه بقصد مجازاته تأديبياً , وذلك بالحكم عليه بإحدى العقوبات التى نص عليها القانون ([8]) .
ولعل هذا التعريف أوفى وأشمل من سابقيه لأنه يشمل الدعوى التأديبية التى تقيمها النيابة الإدارية , كما يشمل أيضاً الدعاوى التأديبية التى تقام من سلطات أخرى مختصة بإقامتها خلاف النيابة الإدارية….كما هو الشأن في إجراءات تأديب الموظفين الذين تنظم شئونهم الوظيفية قوانين خاصة مثل أعضاء هيئة التدريس بالجامعات , وأعضاء هيئة الشرطة …وغيرهم .
وسوف نقتصر في هذا المقام على بيان إجراءات تحقيق الدعوى التأديبية بمعرفة المحكمة التأديبية عبر بيان ماهية الإجراءات الإدارية عموماً , والإجراءات التأديبية على وجه الخصوص , والدور الأيجابى للقاضى الإدارى في توجيه تلك الإجراءات …. إجلاءً لوجه الحقيقة وإماطة اللثام عنها , وبما يحقق التوازن بين إعتبارات الفاعلية والضمان فى المجال التأديبى …وهو ما نوجزه فى مبحثين على التوالى نخصص الأول منهما لتعريف الإجراءات التأديبية ، ودور القاضى الإدارى في توجيهها , ونكرس الثانى لدور المحكمة التأديبية في تحقيق الدعوى التأديبية ….وذلك كما يلى :
المبحث الأول : تعريف الإجراءات التأديبية ودور القاضى الإدارى في توجيهها .
المبحث الثانى : دور المحكمة التأديبية في تحقيق الدعوى التأديبية .
المبحث الأول
تعريف الإجراءات التأديبية ودور القاضى الإدارى في توجيهها
يُعد وضع التعاريف القانونية عملاً فقهياً بالدرجة الأولى , وليس من عمل المشرع على الإطلاق , وإذا بدا الأمر على هذا النحو فإن الفقه حال تصديه لوضع تلك التعاريف فإنه يضعها في ضوء النصوص القانونية الحاكمة للموضوع محل التعريف .
ولعل أول ما يسترعى النظر بشأن الإجراءات التأديبية أن النصوص التشريعية في هذا المجال محدودة للغاية من ناحية , ومبعثرة في تشريعات متعددة من ناحية آخرى … حيث لم يصدر عن المشرع المصرى حتى وقتنا الراهن تشريعاً جامعاً للإجراءات التأديبية على غرار قانونى المرافعات المدنية , والإجراءات الجنائية . الأمر الذى يصعب مهمة الباحث في هذا المجال .
ورغم تلك الصعوبة فإنها أن تثنينا عن محاولة وضع تعريف للإجراءات التأديبية …بيد أن دواعى المنطق المجرد تتطلب منا قبل التصدى لتعريف الإجراءات التأديبية أن تتعرض بداءة لتحديد ماهيته الإجراءات الإدارية وبيان دور القاضى الإدارى في توجيهها لمعرفة مدى تأثر القاضى التأديبى بهذا الدور في إرسائه للعديد من الإجراءات التأديبية ورسم معالمها حال إكماله للنقص والقصور الذى يعترى التشريعات المنظمة للإجراءات التأديبية … الأمر الذى يستتبع تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين تخصص أولهما لبيان ماهية الإجراءات الإدارية ودور القاضى الإدارى في توجيهها , ونتصدى في ثانيهما لتعريف الإجراءات التأديبية .
المطلب الأول
ماهية الإجراءات الإدارية ودور القاضى الإدارى في توجيهها
الإجراءات – بصفة عامة – تعنى إصطلاحاً مجموعة القواعد الأصولية التى تنظم القضاء والتقاضى بين الناس , فهى تشمل جميع القواعد التى تتبع أمام المحاكم على اختلاف أنواعها مدنية كانت أم تجارية, جنائية كانت أم تأديبية , إدارية كانت أم دستورية ([9]) .
ولقد اختلف الفقه الإدارى بشأن وضع تعريف محدد للإجراءات الإدارية ما بين موسع ومضيق لهذا التعريف , وإن كانت تلك التعريفات في جملتها لا تخرج عن تعريفها بأنها ….مجموعة القواعد الإجرائية التى تتعلق بتحريك المنازعة والتحقيق والحكم في المنازعات التى تدخل في اختصاص القضاء الإدارى ([10]) . وذلك كمجوعة من العمليات القانونية التى يستند عليها وجود العمل القضائى وتطبيقه .
* دور القاضى الإدارى في توجيه الإجراءات الإدارية :
يلعب القاضى الإدارى دوراً إيجابياً خلافاً في توجيه الدعاوى الإدارية ([11]). - وذلك على خلاف الوضع بالنسبة للإجراءات المدنية والتجارية التى يهيمن عليها الخصوم إلى حد كبير , ويقتصر دور القاضى بشأنها على تطبيق النصوص القانونية والإجرائية ذات الصلة - بحيث يكفى وصول الدعاوى الإدارية إلى القاضى الإدارى ليحمل عبء السير بها إلى منتهاها , فيأمر بالسير في إجراءاتها, وبالتحقيق إن كان له موضع, فضلاً عن تكليف الخصوم فيها بما يراه لازماً لاستيفاء تحضيرها وتهيأتها للفصل فيها ([12]) . وذلك بهدف تجريد الدعوى الإدارية من لدد الخصومة التى تهيمن على منازعات القانون الخاص .
وفى ذلك تقول المحكمة الإدارية العليا …" إن طبيعة الدعوى الإدارية تقتضى القاضى الإدارى أن يقوم بدور إيجابى فى تسيير الدعوى وتوجيهها , ولا يترك أمرها للخصوم " ([13]) .
ولقد ظاهر القاضى الإدارى في القيام بهذا الدور الإجرائى الخلاق ندرة النصوص التشريعية في هذا المجال , في فرنسا ومصر على السواء, الأمر الذى يتيح للقاضى الإدارى الإجتهاد في إبتداع الحلول المناسبة واستخلاص المبادئ العامة للإجراءات القضائية الإدارية ([14]) . مع الاستئناس بأحكام المرافعات المدنية بما يتلاءم وطبيعة الدعاوى الإدارية وروابط القانون العام .
والقاضى في ممارسته لهذا الدور التوجيهى يلتزم بمراعاة حقوق الدفاع وضمانات التقاضى من ناحية , واستقلال الإدارة وعدم التدخل فى شئونها التقديرية أو الحلول محلها من ناحية آخرى , وذلك بما لا يتعارض مع سلطته في تحضير الدعوى وتوجيه إجراءاتها . وهو يتغيامن وراء ذلك تحقيق أكبر قدر من الضمانات والرعاية للمتقاضين , وتيسير سبل الوصول إلى الحق دون عنت أو إرهاق , من خلال العمل على تحقيق التوازن العادل بين الإدارة والمتعاملين معها على سواء ([15]) .
المطلب الثانى
تعريف الإجراءات التأديبية
التأديب في نطاق الوظيفة العامة هو معاقبة الموظف لإخلاله بالواجبات المفروضة عليه , أو لخروجه على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته , أو ظهوره بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة([16]).
وقد نشأ التأديب بادئ الأمر إدارياً ملازماً للسلطة الرئاسية , فكان للرئيس الإدارى توقيع الجزاءات التأديبية على الموظفين الخاضعين له دون تحقيق أو محاكمة , ودون توفير أية ضمانات لهم .
بيد أن هذا الوضع ما فتئ أن تغير بفضل جهد موفور اضطلع به القضاء الإدارى الفرنسى – بمؤازرة فقه القانون العام – لكفالة وإرساء العديد من الضمانات للموظفين في مجال التأديب ([17]) . فضلاً عن تشييد وابتداع مبادئ عامة للإجراءات التأديبية ([18]) .
ففى المجال التأديبى حيث تتكفل قوانين التوظف ببيان الأحكام والقواعد الموضوعية المتعلقة بواجبات الوظيفة العامة , والجزاءات التى تقع حال مخالفتها أو الخروج على مقتضياتها , دون تفصيل القواعد الإجرائية بهذا الصدد , فإنه بمجرد وقوع المخالفة التأديبية يقتضى الأمر إجراء تحقيق لتحديد مرتكب المخالفة تمهيداً لمحاكمته وتوقيع العقوبة التأديبية المناسبة عليه …. وهذا هو دور الإجراءات التأديبية التى تنقل القواعد الموضوعية للقوانين الوظيفية من التجريد النظرى إلى التطبيق العملى ([19]) . بأعتبارها للوسيلة الإجرائية لبسط وتطبيق تلك القواعد الموضوعية بما يستهدف توفير الضمان والإطمئنان في جميع مراحل التأديب .
ويمكن تعريف الإجراءات التأديبية بأنها …. مجموعة القواعد التى تحكم الدعوى التأديبية من حيث إجراءات مباشرتها منذ لحظة وقوع المخالفة التأديبية حتى الحكم فيها , وكذلك الحقوق والواجبات والروابط القانونية الناشئة عن تلك الإجراءات ([20]) .
ومن ثم , فإن الإجراءات التأديبية تتمثل في تلك القواعد الواجب إعمالها في مواجهة المتهم تأديبياً خلال الفترة ما بين اقترافه المخالفة حتى صدور القرار أو الحكم التأديبى بشأنها , بما في ذلك القواعد المنظمة للسلطة التى تختص بالتأديب([21]) .
وصفوة القول أن الإجراءات التأديبية هى إجراءات منظمة للممارسة الفعلية للدعوى التأديبية , وليست منظمة لحق العقاب أو الحق في الدعوى…. وفيها يجتهد القاضى في تحقيق وقائع معينة للتثبت من حدوثها, ثم تكييفها بتحديد القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق عليها بهدف استخلاص النتائج القانونية المترتبة عليها , وذلك فى إطار عدد من الضمانات التأديبية التى تكفل الرعاية والإطمئنان للموظف المحال للمحاكمة التأديبية .
المبحث الثانى
إجراءات تحقيق الدعوى التأديبية
يمارس القاضى الإدارى دوراً إيجابياً في توجيه إجراءات الدعوى عبر مراحلها المختلفة – ومنها مرحلة تحقيق الدعوى – وأن هذا الدور أظهر ما يكون في مجال الإثبات ([22]) …. فمن المسلم به أنه متى وصلت الدعوى التأديبية إلى حوزة المحكمة التأديبية فإنها تستعيد كامل حريتها في توجيه مسار تلك الدعوى توصلاً لوجه الحقيقة فيها , وإصدار حكم في موضوعها. فمن حق المحكمة , بل من واجبها ، أن تتخذ من الإجراءات القانونية ما يوصلها إلى كبد الحقيقة بقطع النظر عما تم من هذه الإجراءات في مرحلة التحقيق الإبتدائى الذى تجريه الجهة الإدارية أو النيابة الإدارية([23]) .
فبالرغم من أن المتهم تأديبياً لا يقف أمام المحكمة التأديبية إلا بعد أن يكون قد حقق معه , وسُمع دفاعه , إلا أن من حق المحكمة أن تعيد التحقيق معه من جديد , وألا تعتد بالتحقيق الذى أجُرى معه في مرحلة الإتهام …حيث يتجلى دور القاضى التأديبى الذى لا يقف من النيابة الإدارية – ممثلة الإتهام في الدعوى التأديبية – والمتهم موقفاً سلبياً يقتصر على مجرد الترجيح والمقارنة بين ما يقدمه هؤلاء من أدلة الإثبات والنفى, وإنما يتخذ من الخطوات الإيجابية – شأنه في ذلك شأن القاضى الجنائى – ما يراه لازماً لاستظهار الحقيقة من خلال التحقيق الذى يجريه عبر وسائل الإثبات المختلفة كالمعاينة وسماع الشهود , واستجواب المتهم , وندب الخبراء …..وغيرها .
والمحكمة التأديبية وهى بصدد إجرائها لهذا التحقيق عبر وسائل الإثبات المختلفة لها كامل الحرية في تكوين عقيدتها واقتناعها إزاء ثبوت واقعات الدعوى ونسبتها إلى المتهم من عدمه … بمعنى أن يكون للقاضى التأديبى – شأنه شأن القاضى الجنائى – كامل الحرية في أن يستمد اقتناعه من أى دليل يطمئن إليه من الأدلة التى تقدم في الدعوى , دون أن يتقيد فى تكوين إقتناعه بدليل معين ما لم ينص القانون على غير ذلك …
الأمر الذى يوضح بجلاء الدور الإيجابى للقاضى التأديبى في مجال تحقيق الدعوى , وتكوين عقيدته . وهو ما نوضحه في مطلبين على التوالى.
المطلب الأول
دور المحكمة التأديبية في تحقيق الدعوى
التحقيق المقصود هنا هو التحقيق النهائى أو ما يمكن تسميته بالتحقيق القضائى الذى تجريه المحكمة التأديبية … وكما أسلفنا , فإن للمحكمة التأديبية ألا تعتد بالتحقيق الإبتدائى الذى أجُرى مع المتهم – سواء بمعرفة الجهة الإدارية أو النيابة الإدارية – وأن لها أن تعيد التحقيق مع المتهم من جديد شريطة أن يكون تحقيقها بمثابة استكمال لبعض جوانب تحقيق قائم وصحيح حتى تتمكن من تحديد عناصر النفى والإثبات في الواقعات التى تنظرها , وليس تحقيقاً مبتدءاً حول واقعات لم يسبق تحقيقها بما يجعل لها رأياً مسبقاً فى ثبوت تلك الواقعات على نحو يمنعها من الحكم فها إعمالاً لمبدأ الفصل بين سلطتى الإتهام والحكم ([24]) .
ولما كان التحقيق هو وسيلة إستبانة الحقيقة فيما ينسب إلى العامل من إتهام , فإنه يلزم لصحة ومشروعية الحكم الصادر في الدعوى – سواء بالبراءة أو الإدانة- أن يستند إلى تحقيق قانونى صحيح … وعليه , وكما تقول المحكمة الإدارية العليا في أحد أحكامها , فإن أى قرار أو حكم بالجزاء يصدر بغير تحقيق أو استجواب سابق , أو يصدر إستناداً إلى تحقيق ناقص أو غير مستكمل الأركان يكون قراراً أو حكماً غير مشروع , ويكون قرار الجزاء المستند عليه معيباً على نحو يرتب بطلان هذا القرار([25]) .
*وسائل تحقيق الدعوى التأديبية :
لعل من اللافت للنظر في هذا المقام القصور التشريعى بشأن النصوص المنظمة لإجراءات التحقيق النهائى الذى تجريه المحكمة التأديبية, حيث لم يرد بقانون النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية رقم 117 لسنة 1958, وكذلك قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 من القواعد واجبة الإتباع بشأن التحقيق النهائى الذى تجريه المحكمة التأديبية إلا النذر اليسير ([26]) .
وإزاء هذا القصور التشريعى فقد تكفل الفقه والقضاء بإرساء العديد من قواعد هذا التحقيق , وبيان وسائله وأدواته التى تمكن المحكمة من استجلاء وجه الحقيقة في الدعوى تمهيداً للحكم في موضوعها .
ويعد من أظهر الوسائل التى تلجأ إليها المحكمة التأديبية في تحقيقها للدعوى سماع الشهود , واستجواب المتهم , والاستعانة بأهل الخبرة …. وهو ما نوجزه تباعاً فيما يلى .
أولاً – سماع الشهود :
الشهادة هى الأقوال التى يدلى بها غير الخصوم بما أدركوه بحواسهم أو استقوه من غيرهم بأسماعهم متعلقاً بالواقعة أو ظروف ارتكابها أو إسنادها إلى المتهم أو براءته منها ([27]) .
وتعتبر الشهادة من أهم الأدلة إثباتاً أو نفياً سواء في المجال الجنائى أو التأديبى, وبالتالى فيجب أن تكون سليمة ومنزهة عن كل ما يقدح أو يشكك في صحتها أو يمنع من قبولها … ونظراً لأهمية الدور الذى يلعبه الشهود في المحاكمات التأديبية فقد حرص المشرع على تخويل المحكمة التأديبية كافة الصلاحيات التى تمكنها من سماع أقوال الشهود وتقدير قيمة تلك الشهادة واستخلاص الدليل منه سواء لصالح المتهم أو ضده .
ولقد عالجت المادة 27 من القانون 117 لسنة 1958 سماع الشهود أمام المحكمة التأديبية بقولها " للمحكمة ….سماع الشهود من الموظفين وغيرهم , ويكون أداء الشهادة أمام المحكمة بعد حلف المين , ويعامل الشهود فيما يتعلق بالتخلف عن الحضور والإمتناع عن أداء الشهادة أو شهادة الزور بالأحكام المقررة لذلك , وتحرر المحكمة محضراً بما يقع من الشاهد وتحيله إلى النيابة العامة إذا رأت في الأمر جريمة .
وإذا كان الشاهد من الموظفين العموميين جاز للمحكمة أن تحكم عليه بالإنذار أو الخصم من المرتب لمدة لا تجاوز شهرين وذلك إذا تخلف عن الحضور بعد تأجيل الدعوى وإخطاره بالجلسة المحددة مرة أخرى أو إذا امتنع عن الشهادة . كما يجوز للمحكمة في جميع الأحوال أن تأمر بضبط الشاهد وإحضاره([28]) .
وباستقراء النص السابق يتضح أنه خول للمحكمة التأديبية صلاحيات عدة بشأن سماع الشهود تتمثل في استدعاء الشاهد وتحليفه اليمين , وحقها في ضبطه وإحضاره , وإمكانية توقيع بعض العقوبات عليه في حالات معينة , فضلاً عن اعتبار شهادة الزور جريمة حتى يكون التهديد بالعقاب رادعاً للشاهد عن تغيير الحقيقة في شهادته ([29]) …. كل ذلك بغية استظهار الحقيقة واستخلاص الدليل من تلك الشهادة سواء لصالح المتهم أو ضده . إذ لا يخفى ما لشهادة الشهود من أهمية بالغة في كشف النقاب عن الحقيقة, كما لا يخف ما بها من تأثير بالغ في عقيدة المحكمة لاسيما في الحالات التى تمثل فيها الدليل الوحيد أو الحاسم في الدعوى .
وقد جرى قضاء المحكمة الإدارية العليا وتواترت أحكامها على أن للمحكمة التأديبية القول الفصل في تقدير قيمة أقوال الشهود واستخلاص الدليل منها , فلها أن تأخذ بها أو أن تطرحها ([30]) . ولها أن تأخذ بشهادة شاهد وتطرح شهادة آخرين . كما يجوز لها أن تأخذ بالشهادة التى أدلى بها الشاهد في التحقيق وتطرح تلك التى أدلى بها أمامها والعكس , وأن كل ما تتقيد به المحكمة في هذا المقام أنه يمتنع عليها أن تتدخل في رواية الشاهد وتأخذها على وجه خاص يخالف صريح عباراتها , وإنما لها أن تأخذ بها إن هى إطمأنت إليها أو تطرحها إذا لم تثق بها كأن تكون الشهادة متعارضة مع الأوراق والمستندات الرسمية لأنه حال تعارضها فإنه لا يجوز التعويل عليها ([31]) , أو أن تكون شهادة متهم على متهم آخر , باعتبار أن له مصلحة في نفى الإتهام عن نفسه وإلصاقه بآخرين , أو لعدم تحليفه اليمين لأن عدم تحليف الشاهد اليمين القانونية يفُقد شهادته قيمتها القانونية كدليل يصح الإعتماد عليه ….ومن ثم , فلا تقبل شهادة الخصم على خصمه أو متهم على آخر كدليل على ثبوت الإتهام دون أدلة آخرى تؤكده([32]) .
ثانياُ : استجواب المتهم :
أجاز المشرع في المجال التأديبى – خلافاً لما هو مقرر في المجال الجنائى([33]). –للمحكمة التأديبية استجواب المتهم , حيث ورد النص على ذلك بالمادة 27 من القانون 117 لسنة 1958 بقولها " للمحكمة استجواب الموظف المقدم للمحاكمة …." وهو نفس ما ررده المشرع بالمادة 36 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 بقوله " للمحكمة استجواب العامل المقدم للمحاكمة ….".
ويقصد بالاستجواب مواجهة المحال بالتهمة المنسوبة إليه ومطالبته بإبداء رأيه فيها , ثم مناقشته تفصيلياً في أدلة الدعوى إثباتاً ونفياً كمحاولة للكشف عن الحقيقة([34]) .
ويعتبر الاستجواب وسيلة هامة من وسائل تحقيق الدعوى لما يتيحه للمحكمة من الوصول إلى الحقيقة من خلال مناقشة المحال بشكل تفصيلى في التهمة – أو التهم – المنسوبة إليه ومواجهته بالأدلة القائمة ضده , فضلاً عما يتيحه للمتهم من عرض وجهة نظره وتنظيم دفاعه مما قد يفضى إلى تفنيد الشبهات القائمة ضده ([35])، وتبرءة ساحته .
ولما كان الاستجواب يمثل وسيلة هامة لتحقيق الدعوى توصلاً لوجه الحقيقة فيها , فضلاً عن كونه وسيلة دفاع للمتهم فإنه يتبادر على الذهن التساؤل حول الأثر المترتب على سكوت المتهم حال استجوابه أو ما يعرف بحق المتهم في الصمت , وهل يُعد صمت المتهم قرينة على إدانته أو إقراراً ضمنياً بالتهم المنسوبة إليه ؟ أم أنه لا يُعد كذلك ؟
وفي معرض الإجابة على هذا التساؤل إنقسم الفقه الإدارى إلى اتجاهين نحا أولهما ([36])صوب القول بأن رفض الموظف المتهم الإجابة على الأسئلة في التحقيق لا ينطوى على قرينة الإعتراف فحسب , ولكنه يشكل فضلاً عن ذلك مخالفة إضافية يمكن أن تؤخذ على صاحب الشأن … بينما ولى الإتجاه الثانى ([37]) – ونحن معه – وجهه شطر القول بأنه لا يجوز اعتبار إمتناع المتهم عن الإجابة على الأسئلة وعن إبداء دفاعه مخالفة مسلكية يسأل عنها العامل , إذ حسبه أنه فوت على نفسه فرصة الدفاع التى يتيحها له الاستجواب .
وقد حظى الإتجاه الفقهى الثانى بتأييد المحكمة الإدارية العليا في إتجاهاتها الحديثة …. حيث أكدت أن أمتناع العامل عن الإدلاء بأقواله أمام جهة التحقيق لا يمثل بذاته مخالفة تأديبية , وإنما يؤدى إلى تفويت فرصته فى الدفاع عن نفسه , وأن الأثر المترتب على ذلك يتمثل في عدم جواز الطعن على القرار الصادر بتوقيع الجزاء التأديبى بتعلةتجاوز حقوق الدفاع …. من ذلك حكمها في الطعن رقم 725 لسنة 34م ([38]) , وحكمها في الطعن رقم 3494 لسنة 42 م , بجلسة 30 من أغسطس 1998 , والذى جاء به فيما نحن بصدده …. "أن قضاء هذه المحكمة قد استقر في مجال تأديب العاملين المدنيين بالدولة على أن امتناع المتهم عن الحضور للتحقيق أو سكوته عن إبداء دفاعه في المخالفة المنسوبة إليه في التحقيق لا يشكل بذاته مخالفة إدارية أو ذنباً إدارياً مستوجباً للمسئولية التأديبية أو العقاب التأديبى , وكل ما في الأمر أن المتهم في هذه الحالة يكون قد فوت على نفسه فرصة إبداء أوجه دفاعه في المخالفة المنسوبة إليه …. إذ أنه من المقرر وفق الأصول العامة للتحقيق أنه لا يسوغ إكراه متهم على الإدلاء بأقواله في التحقيق بأى وسيلة من وسائل الإكراه المادى أو المعنوى.
وانتهت المحكمة إلى القول بأن امتناع المتهم عن حضور التحقيق أو سكوته عن إبداء أقواله في التهمة المنسوبة إليه لا يشكل بذاته مخالفة إدارية…. ([39]) "
وجملة القول أن صمت المتهم وامتناعه عن الإجابة حال استجوابه من ِقَبلْ المحكمة يعد استعمالاً لحق قرره القانون , فلا تثريب عليه إن هو لاذ بالصمت وقدر أن ذلك من مصلحته , بحيث لا يجوز إرغامه على الإجابة على ما يوجه إليه من أسئلة , كما لا يجوز للمحكمة أن تستخلص من هذا الصمت قرينة ضده تساهم في إدانته أو تفسيره على أنه اعتراف ضمنى من جانبه بالتهم المنسوبة إليه … لأن المسلم به أن أحكام الإدانة تبنى على القطع واليقين لا على الشك والتخمين .
ثالثاً : الإستعانة بأهل الخبرة
الخبرة كما يعرفها جانب فقهى ([40]) هى الاستشارة الفنية التى يستعين بها القاضى لمساعدته في تقدير المسائل الفنية التى يحتاج تقديرها إلى معرفة فنية أو دراية عملية لا تتوافر لدى القاضى المختص بحكم عمله وثقافته .
وتعد الخبرة – أو بالأحرى ندب الخبراء – أحد إجراءات التحقيق التى تلجأ إليها المحكمة – أثناء تحقيقها للدعوى – بناء على طلب ذوى الشأن أو من تلقاء نفسها ([41]) إذا صادفتها مسألة فنية أو عملية لازمة للفصل في الدعوى , حيث يكون من حقها الاستعانة بمن تشاء من الخبراء استجلاءً للحقيقة حول تلك المسألة ([42]) حتى يتسنى لها الفصل في الدعوى .
فالخبرة إذ هى وسيلة للتحقيق تتم بشأن دعوى أصليه , وتعد إجراءً متفرعاً عنها تختص به المحكمة التى تنظر الدعوى ([43]) ، حيث يقدم الخبير للقاضى إيضاحات ومعلومات فنية تتعلق بواقعات أو مسائل محددة لا يستطيع القاضى تقديرها وحسمها مباشرة لأنها مسائل فنية سواء كانت طبية أو هندسية أو حسابية … كما أن الخبرة تنصب على مسائل واقعية , ومن ثم فلا يجوز ندب خبير لإبداء الرأى في المسائل القانونية وبالتالى إذا تعرض الخبير لإبداء الرأى في المسائل القانونية يكون قد خرج عن حدود مهمته الطبيعية . حيث يتعين التفرقة في مجال الخبرة بين مسائل الواقع ومسائل القانون , حيث يكون للخبير إبداء الرأى في الأولى دون الثانية … ومرد ذلك ومرجعة إلى أن الفصل في المسائل القانونية يدخل في صميم وظيفة القاضى , ولا يجوز تحميله للغير من أهل الخبرة , باعتبار القاضى هو الخبير الأعلى في مسائل القانون .
ويجدر التنويه فيما نحن بصدده إلى حالة القصور التشريعى في مجال الخبرة , ذلك أن النصوص المنظمة للمحاكمات التأديبية – سواء ما ورد منها بقانون النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية , أو ما ورد منها بقانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972- قد صدرت خلواً من أى نص يخول المحاكم التأديبية الحق في الإستعانة بأهل الخبرة … بيد أن المحكمة الإدارية العليا أقرت بحق المحاكم التأديبية في ذلك بأعتباره أحد إجراءات التحقيق , وهو ما أوضحته بأحد أحكامها بقولها …." أنه لا جدال في أن لهيئات التأديب الاستعانة بآراء الخبراء , وأن انتدابهم أمامها لمهمة خاصة يعتبر إجراء من إجراءات التحقيق , وليس في القواعد التى تنظم تأديب الموظفيين أو محاكمتهم ما يمنع من الإستعانة برأى جهه فنية متخصصة في الكشف عن الحقيقة والوصول إلى الصواب …. ([44]) "
والأصل في الخبرة أنها اختيارية , بمعنى أن للمحكمة أن تقدر مدى ملاءمة اللجوء إليها سواء من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الخصوم أو أحدهم دون إلزام بالإستجابة لهذا الطلب , وهو ما يعرف بالصفقة الإختيارية للخبرة …. وهو ما أقره مجلس الدولة الفرنسى من أن القاضى يملك الأمر بالخبرة من تلقاء نفسه رغم معارضة الأطراف , كما أن له رفض الأمر بها ولو طلبها الأطراف إذا لم تكن ثمة جدوى من اللجوء إليها([45]) . وتكون الخبرة غير مجدية إذا تضمن الملف كافة البيانات والمعلومات اللازمة للفصل في الدعوى ([46]) , أو إذا تعلقت بمسائل غير منتجة للفصل في الدعوى([47]) .
وقد سادت المحكمة الإدارية العليا في مصر في نفس الإتجاه مؤكدة أن ندب الخبراء يُعد أمراً جوازياً للمحكمة حسبما يقتضيه المقام , وقد عبرت عن ذلك بقولها …" أن الخبرة هى طريق من طرق التحقيق يجوز للمحكمة أن تلجأ إليه بناء على طلب أصحاب الشأن أو من تلقاء نفسها إذا ما تراءى لها ذلك . ومن ثم يحق لها رفض الطلب المقدم إليها بطلب ندب الخبير إذا اقتنعت بعد جدواه , والعبرة في ذلك باقتناع المحكمة …. ([48]) "
ويعتبر الخبير مستشاراً فنياً يقدم تقريراً برأيه الفنى في المسائل المعروضة عليه يستأنس به القاضى الذى يملك في النهاية الأخذ بالرأى الذى يقتنع به ويعتقد أنه أكثر إتفاقاً مع الواقع ([49]) . ذلك أن رأى الخبير هو رأى استشارى لا يلزم المحكمة باعتبارها الخبير الأعلى , وهو ما يعنى أنه يجوز للمحكمة أن تأخذ برأى الخبير أو أن تطرحه جانباً …. وفى ذلك تقول المحكمة الإدارية العليا بحكمها في الطعن رقم 4842 لسنة 43 م بجلسة 23 /16 /2001 …" أن الإستعانة بأهل الخبرة كاجراء من إجراءات الإثبات أمر متروك تقديره لمحكمة الموضوع وهى لا تلتزم إلا بما تراه حقاً وعدلاً من رأى أهل الخبرة , ولها أن تأخذ بما تطمئن إليه من تقرير الخبير ولها أن تطرح ما انتهى إليه كله أو بعضه …. ([50]).
والخبرة باعتبارها إجراءً من إجراءات التحقيق في الدعوى , فإنها تخضع لما تخضع له سائر إجراءات التقاضى ومن بينها مبدأ المواجهة إحتراماً لحقوق الدفاع… وذلك عبر تمكين الأطراف من الإطلاع على تقرير الخبير وتقديم ملاحظاتهم بشأنه والتى يمكن على أساسها مناقشة القاضى للخبير بشان تقريره .
المطلب الثانى
حرية المحكمة فى تكوين عقيدتها
يُعد من المبادئ المستقر عليها فى مجال القضاء الجنائى ، والتى يُعمل بها كذلك فى المجال التأديبى مبدأ حرية القاضى فى تكوين اقتناعه ، والذى يُقصد به أن يكون للقاضى كامل الحرية فى أن يستمد اقتناعه من أى دليل يطمئن إليه من الأدلة التى تقدم فى الدعوى ، دون أن يتقيد فى تكوين اقتناعه بدليل معين ما لم ينص القانون على غير ذلك .
ولقد حظى هذا المبدأ – حرية القاضى فى تكوين اقتناعه – بتأييد الفقه([51]) والقضاء …. حيث استقر فقه القانون العام وقضاء المحكمة الإدارية العليا على أن المحكمة التأديبية تستمد الدليل الذى تقيم عليه قضاءها من الوقائع التى تطمئن إليها دون معقب عليها فى هذا الشأن ما دام هذا الاقتناع قائماً على أصول موجودة وغير منتزع من أصول لا تنتجه ([52])، وأنه متى ثبت أن المحكمة التأديبية قد استخلصت النتيجة التى انتهت إليها استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً وقانونياً ، وكيفتها تكييفاً سليماً وكانت هذه النتيجة تبرر اقتناعها الذى بنت عليه قضاءها ، فإنه لا يكون هناك محل للتعقيب عليها . ذلك أن لها الحرية فى تكوين عقيدتها من أى عنصر من عناصر الدعوى … ([53]).
ضوابط حرية المحكمة فى تكوين عقيدتها :
إذا كان من المسلم به فقهاً وقضاءً تمتع القاضى التأديبى – شأنه فى ذلك شأن نظيره الجنائى – بحرية تكوين اقتناعه وتقدير قيمة ما يعرض عليه من الأدلة ، إلا أن هناك ثمة ضوابط ترد على تلك الحرية ، ويتعين على القاضى مراعاتها عند إعمال تقديره للأدلة التى يستمد منها إقتناعه ، حتى لا تتحول تلك الحرية إلى سلطة تحكمية تفضى إلى إحلال التصورات الشخصية للقاضى محل التقدير المنطقى والموضوعى لأدلة الدعوى وواقعاتها ([54]). …. ويمكن بلورة تلك الضوابط فى الأمور التالية :
* الاستخلاص المنطقى للنتيجة التى يتوصل إليها القاضى .
* أن يكون للدليل أصل فى أوراق الدعوى .
* الحكم بالإدانة يبنى على القطع واليقين .
أولاً : الاستخلاص المنطقى للنتيجة التى يتوصل إليها القاضى .
يعتبر توصل القاضى لحقيقة واقعات الدعوى وملابساتها – من واقع ما يطرح أمامه من أدلة ومستندات من قِبَلْ أطراف الدعوى – واستخلاصه للنتيجة التى يتوصل إليها فى موضوعاتها بشكل منطقى وقانونى أحد القيود التى ترد على حرية القاضى فى تكوين عقيدته واقتناعه …. ذلك أن القاضى إذا كان يتمتع بحرية اختيار الأدلة التى يطمئن إليها فى حكمة ، إلا أن هذه الحرية تجد حدها فى أن يكون استنتاج القاضى لحقيقة الواقعة وما كشف عنها من أدلة لا يخرج عن مقتضيات العدل والمنطق ([55]) ، لأن مبدأ حرية القاضى فى الاقتناع – وطبقاً للمستقر عليه فقهاً وقضاءً – لا يعنى تحلله من مراعاة القواعد اللازمة لقبول أدلة الإثبات حتى لا تنقلب تلك الحرية إلى سلطة تحكمية تفضى إلى إحلال التصورات الشخصية للقاضى محل التقدير المنطقى والموضوعى لأدلة الدعوى وواقعاتها .
ومن ثم ، فإن اليقين المطلوب لاقتناع القاضى ليس هو اليقين الشخصى ، وإنما هو اليقين القضائى الذى يتوصل إليه القاضى بالعقل والمنطق ([56]). وهو ما عبرت عنه المحكمة الإدارية العليا فى العديد من أحكامها بقولها …. أن تكون النتيجة التى توصلت إليها المحكمة التأديبية قد استخلصت استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً وقانونياً ، وكانت هذه النتيجة تبرر اقتناعها الذى بنت عليه قضاءها . من ذلك حكمها فى الطعن رقم 986 لسنة 42 ق بجلسة 22/4/1996 ([57])، وحكمها فى الطعن رقم 15908 لسنة 49 ق بجلسة 20 نوفمبر 2004 ، والذى أكدت فيه…. أن قضاءها قد استقر على أن المحكمة التأديبية إذا استخلصت من الوقائع الدليل على أن المتهم قد قارف ذنباً إدارياً يستأهل العقاب ، وكان هذا الاستخلاص سليما من وقائع تنتجه وتؤدى إليه فإن تقديرها للدليل يكون بمنأى عن الطعن . ذلك أن رقابة هذه المحكمة لا تعنى أن تستأنف النظر بالموازنة والترجيح بين الأدلة المقدمة إثباتاً أو نفياً إذا أن ذلك من شأن المحكمة التأديبية وحدها ، وتدخل هذه المحكمة أو رقابتها لا يكون إلا إذا كان الدليل الذى اعتمدت عليه تلك المحكمة فى قضائها غير مستمد من أصول ثابتة فى الأوراق ، أو كان استخلاصها لهذا الدليل لا تنتجه الواقعة المطروحة عليها ، فهنا فقط يكون التدخل لتصحيح القانون لأن الحكم فى هذه الحالة يكون غير قائم على سببه الصحيح… ([58]) " .
ثانياً – أن يكون للدليل أصل فى أوراق الدعوى :
إذا كان المسلم به أن القاضى يتمتع بحرية تقدير أدلة الدعوى وتكوين عقيدته واقتناعه استناداً إلى ما يطمئن إليه من تلك الأدلة ، إلا أن دواعى المنطق المجرد تقتضى أن يكون الدليل الذى يبنى عليه حكمه له أصل ثابت فى أوراق الدعوى . وعليه ، فإن الدليل الذى لا يكون له أصل فى أوراق الدعوى لا يمكن التعويل عليه ، ويُعد فى نظر القانون منعدماً([59])….. ولذلك فقد قضى بأن الحكم إذا كان قد أخذ فى الإدانة بأقوال الشاهد وكانت هذه الأقوال لم ترد فى التحقيقات الابتدائية ولا فى التحقيق الذى أجرى فى الجلسة فإنه يكون قد أخطاً فى الإسناد ، واعتمد فى الإدانة على مالا أصل له فى الأوراق ([60]).
وقد جرى قضاء المحكمة الإدارية العليا وتواترت أحكامها على إعمال هذا القيد على حرية القاضى فى تكوين اقتناعه باعتباره من الضمانات الجوهرية التى تقتضيها متطلبات العدالة ، وحتى يكون حكم القاضى مستنداً على أدلة حقيقية ثابتة بأوراق الدعوى … من ذلك حكمها فى الطعن رقم 1001 لسنة 8 ق بجلسة 26 يناير 1963 ، والذى أوضحت فيه أنه " إذا كان الحكم المطعون فيه بنى اقتناعه على الأسباب التى استخلصها من أصول ثابتة فى الأوراق وساقها لدحض دفاع المتهم مفنداً إياها على نحو كاف لتبرير مذهبه فى الرأى الذى انتهى إليه فإن الطعن عليه ببطلانه يكون فى غير محله ([61])…. وهو ما أكدته المحكمة بحكم آخر جاء فيه …. أن رقابة القضاء لصحة الحالة الواقعية أو القانونية التى تكون ركن السبب تجد حدها الطبيعى فى التحقق مما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانونياً ، فإن كانت النتيجة منتزعة من غير أصول موجودة أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها كان القرار فاقداً لركن السبب …. وبديهى أنه حتى يمكن استخلاص النتيجة من أصول موجودة فإنه يجب الوصول إلى هذا الاستخلاص من خلال تحقيق صحيح مستكمل الأركان ، وبغير هذا يضحى قرار الجزاء قد افتقد الاستخلاص السائغ من الوقائع التى تنتجه ([62]).
وفى أحد أحكامها الحديثة نسبياً – حكمها فى الطعن رقم 1699 لسنة 49 ق بجلسة 25 سبتمبر 2004 – أكدت المحكمة الإدارية العليا أن رقابتها لأحكام المحاكم التأديبية إنما هى رقابة قانونية لا تعنى أن تستأنف النظر بالموازنة والترجيح بين الأدلة المقدمة إثباتاً أو نفياً ، إذ أن ذلك من شأن المحكمة التأديبية وحدها ، وهى لا تتدخل وتفرض رقابتها إلا إذا كان الدليل الذى اعتمد عليه الحكم غير مستمد من أصول ثابتة فى الأوراق …، فهنا فقط يكون التدخل لتصحيح حكم القانون لأن الحكم فى هذه الحالة يكون غير قائم على سببه الصحيح ….
وانتهت المحكمة فى هذا الحكم إلى القول بأن القرار المطعون فيه إذ ذهب إلى استخلاص إدانه الطاعن عما نسب إليه وعزله من وظيفته فإنه يكون قد استخلص ذلك من أصول ثابتة فى الأوراق تؤدى إليها وتنتجها مادياً وقانونياً ، ومن ثم يكون النعى عليه فى غير محله متعيناً رفضه ([63]) ".
ثالثاً – الحكم بالإدانة يبنى على القطع واليقين :
يُعد من الضوابط التى تحد من حرية القاضى التأديبى في الاقتناع والإثبات – لاسيما بالنسبة لأحكام الإدانة – أن تكون عقيدته بصدد ثبوت المخالفة التأديبية ونسبتها إلى المتهم , ومن ثم مجازاته عنها , قد ثبتت على سبيل القطع واليقين …. حيث يتعين لإدانة العامل أو الموظف أن يثبت أنه قد وقع منه فعل إيجابى أو سلبى محدد يشكل مخالفة تأديبية , أما إذا لم يثبت ذلك يقيناً لدى المحكمة فلا محل لتوقيع الجزاء التأديبى , ذلك أن القضاء التأديبى , شأنه في ذلك شأن القضاء الجنائى , لا يمكن أن ينزل عقوبة تأديبية بأحد العاملين استناداً إلى ارتكابه جريمة تأديبية معينة إلا إذا ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قد اقترف هذه الجريمة ([64]) .
وقد استقر قضاء المحكمة لإدارية العليا بشكل متواتر على أن أحكام الإدانة تبنى على القطع واليقين لا على الشك والتخمين , من ذلك حكمها في الطعن رقم 2439 لسنة 30 ق بجلسة 25 من نوفمبر 1986([65]) .والذى أكدت فيه …..أن المستقر عليه قضاءً أن أحكام الإدانة لابد أن تبنى على القطع واليقين وليس على الشك والتخمين , ذلك لأن المحكمة التأديبية في تحديد عناصر الجريمة التأديبية ملزمة بأن تستند في تقديرها وحكمها على وقائع محددة وقاطعه الدلالة ذات طابع سلبى أو إيجابى يكون قد ارتكبها العامل وثبت قبلة , وأن هذه الوقائع تكوَن مخالفة تستوجب المؤاخذة التأديبية ….. أما القول بأن الطاعن هو صاحب المصلحة في ارتكاب المخالفة فهو قول مرسل لم يقم عليه دليل من الأوراق ولا يصلح في ذاته دليلاً على ارتكاب الطاعن للمخالفة المنسوبة إليه …. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه إلى خلاف ذلك وقضى بإدانة الطاعن استناداً إلى هذا الفرض الذى لم يقم عليه أى دليل فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون , ويتعين لذلك القضاء بإلغائه وبراءة الطاعن مما نسب إليه .
وفي حكم آخر رددت المحكمة أن المسئولية التأديبية , شأنها في ذلك شأن المسئولية الجنائية , يجب أن تبنى على القطع واليقين لا على الشك والتخمين , وأنه يتعين لمساءلة الموظف وتقرير مسئوليته التأديبية أن ينسب إليه فعل إيجابى أو سلبى يُعد خروجاً على مقتضى أداء الواجب الوظيفي , وأنه إزاء انتفاء المآخذ على السلوك الوظيفى للطاعن يتعين الحكم ببراءته مما اسند إليه . وإذا انتهى الحكم المطعون فيه إلى غير ذلك فإنه يتعين الحكم بإلغائه والقضاء ببراءة الطاعن مما هو منسوب إليه ([66]) .
منقول