أثارت مسألة محاكمة أشخاص مدنيين أمام المحاكم العسكرية في مصر العديدَ من المنازعات والإشكاليات ما بين مؤيد ومعارض، واعتبرها البعض دليلاً على انعدام الديمقراطية والحريات العامة في مصر، ومن الناحية القانونية يرى بعض الباحثين أن لجوءَ السلطات السياسية إلى إحالة بعض القضايا المتهم فيها أشخاصٌ مدنيُّون إلى القضاء العسكري أمرٌ تُمليه ضروراتُ الواقع واعتبارات الأمن العام، ويجد سنده في القانون.
كما يرى البعض الآخر أن إحالة هذه القضايا إلى القضاء العسكري هو بمثابة مصادرة للرأي والحريات العامة ويتنافَى مع مبادئ العدالة والمساواة والتشريعات القانونية المصرية الدستورية، فضلاً عن الاتفاقات والمعاهدات الدولية، كما أن ذلك يُعدُّ ولا شكَّ تدخُّلاً من الجيش في المسائل السياسية وفي هذا نوعٌ من القهر والديكتاتورية والتسلط، وهذا ما دعانا لخوض غمار هذا البحث، والذي سوف نتناوله من أربع زوايا وفقًا لخطة البحث الآتية:
المبحث الأول:
الأسانيد القانونية التي تستند إليها الإحالة للمحاكم العسكرية
وفيه سنبحث وفق المنهج الاستقرائي النصوص التي تمثل أداة الإحالة للقضاء العسكري.
المبحث الثاني:
مدى توافق الأسانيد القانونية للإحالة مع الأسس القانونية.
وفي هذا المبحث نتناول بالدراسة وفق منهج تحليلي الوضعَ القانونيَّ للمادة السادسة الفقرة الثانية من القانون 25/ 1966 وفق كل تعديلاته.
وسينقسم هذا المبحث إلى فرعين:
الفرع الأول:
ونتناول فيه أثَر إصدار الدستور الحالي عام 71 وما تضمَّنه من أحكام، مع بحث نظام التنظيم التشريعي الجديد إثْر إنشاء هذه المحاكم الجديدة.
الفرع الثاني:
ونتناول فيه مدى توافق المادة 6/2 مع الدستور المصري.
المبحث الثالث:
الطبيعة القانونية للقضاء العسكري
وفي هذا المبحث سوف نتناول بالدراسة وفقًا للمنهج التحليلي محاولة الإجابة على التساؤل، عما إذا كان القضاء العسكري يُعتبر قضاءً طبيعيًّا بالمعنى الفني الدقيق أو لا؟
وينقسم هذا المبحث كذلك إلى فرعين:
الفرع الأول:
ونتناول فيه الوضع القانوني للإدارة العامة للقضاء العسكري.
الفرع الثاني:
ونبحث فيه المركز القانوني للقاضي العسكري وبيان مدى تمتُّعه بالحصانة والاستقلال.
المبحث الرابع: وسوف نُجمل فيه النتائج التي توصلنا إليها من هذا البحث (في خاتمة موجزة).
المبحث الأول
الأسانيد القانونية التي تستند إليها الإحالة للمحاكم العسكرية
يحق لرئيس الجمهورية- استنادًا إلى الحق المقرَّر له بالمادة السادسة (الفقرة الثانية) من قانون الأحكام العسكرية 25/1966 (المعدل القوانين: 5 و7/1968- 82/1968- 5/1968- 14/1970- 72/ 1970- 46/1975، 1979- 1/1983)، والتي تنص على:
(تسري أحكام هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في البابين الأول والثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات وما يرتبط بها من جرائم، والتي تحال إلى القضاء العسكري بقرار من رئيس الجمهورية، ولرئيس الجمهورية متى أُعلنت حالة الطوارئ أن يُحيل إلى القضاء العسكري أيًّا من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر).
ولما كانت المادة سالفة البيان تتكلم عن سريان قانون الأحكام العسكرية على بعض الجرائم التي لها حساسية خاصة وطابع سياسي أو ما يسمَّى بالإجرام السياسي أو جرائم الرأي (وهي جرائم الكتاب الثاني من قانون العقوبات)، وكان من ثم يعطي لرئيس الجمهورية الحق في إحالتها للقضاء العسكري.. فإنه والحال كذلك فإن مدى قانونية حق رئيس الجمهورية في إحالة المدنيين للمحاكمة أمام المحاكم العسكرية مرتبط بمدى قانونية النصّ القانوني سند الإحالة ارتباط السبب بالمسبب ارتباطًا لا يقبل التجزئة؛ إذ إنه من المستقرّ أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.
وحيث إن هذا النص مشكوك في مدى قانونيته من وجهين: (الوجه الأول أنه نصٌّ غير واجب الإعمال لسبق إلغائه، ومن وجه آخر فإنه على فرض جدلي بوجوده فإنه نصٌّ مطعونٌ عليه بعدم الدستورية لاصطدامه مع أكثر من مادة من مواد الدستور، وهذا ما سوف نتولَّى بحثه في هذا البحث).
المبحث الثاني
مدى قانونية تلك الأسانيد وفق التشريعات المصرية المعمول بها
ولما كانت المادة محلّ البحث- هي المادة السادسة (الفقرة الثانية) من قانون الأحكام العسكرية 25/1966 الصادر في 23 مايو 1966 والمنشور بالجريدة الرسمية العدد 123 في أول يونيه 1966، ولما كان هذا القانون قد عدل بالقوانين (5 و7/1968- 82/1968- 5/1968- 14/1970- 72/ 1970- 46/1975، 1979- 1/1983)، ولما كانت المادة محل البحث لم تتعرض لأي تعديل سوى ما ورد بالقانون رقم 5 لسنة 1970 المنشور بالجريدة الرسمية في 29/1/ 1970م، ولما كان الدستور المصري قد عدِّل بالدستور الحالي الصادر في 11 سبتمبر 1971 فإن هذه المادة باتت محكومًا عليها بالإعدام من وجهين: الوجه الأول أنها مادة ملغاةٌ ومن ثم فهي غير واجبة الإعمال، والوجه الآخر أنها وعلى فرض جدلي بوجودها فإنها مقضيٌّ عليها بعدم الدستورية؛ وذلك لاصطدامها مع أكثر من مادة من مواد الدستور)، وذلك كما يلي:
الفرع الأول:
إثر صدور الدستور الحالي عام 1971 وما تضمنه من أحكام بشأن إنشاء محاكم أمن الدولة وصدور القانون رقم 105 لسنة 1980..
لما كانت المادة الثانية من القانون رقم 131/ 1948 بإصدار القانون المدني والتي تنص على أنه:
(لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحةً على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظِّم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرَّر قواعده ذلك التشريع) فإنه والحال كذلك تصبح أحكام المادة السادسة من القانون 25/ 1966 ملغاةً بكل صور الإلغاء المنصوص عليها قانونًا- على النحو سالف البيان- وذلك على النحو التالي:
1- الصورة الأولى من صور الإلغاء
1- بتاريخ 5 رجب 1400 الموافق 20 مايو 1980 صدر القانون رقم 105/ 1980 (بإنشاء محاكم أمن الدولة) والمنشور بالجريدة الرسمية العدد 23 مقرر في 21/5/1980، مشيدًا لنظام قانوني متكامل متخصص للجرائم التي تمس أمن الدولة بكافة صورها وأشكالها بل بجناياتها وجنحها على النحو المبين تفصيلاً بالمادة الثالثة من الباب الأول من ذلك القانون.
2- كما وأنه لما كانت نية المشرع تتجه إلى البعد التام بالقوات المسلحة عن مسائل السياسة والرأي وأمن الدولة الداخلي ومع رغبة المشرع بالاحتفاظ بمساحة يراها هامة ولازمة للمصلحة العامة ومن ثم فقد نظم هذا التشريع نظام الخلط والمزاوجة عند اللزوم بما نص عليه بالمادة الثانية من القانون 5/ 1980 بصدد حديثه عن تشكيل المحاكم إذ نص صراحة على أنه (تشكل محكمة أمن الدولة العليا من ثلاثة من مستشاري محكمة الاستئناف على أن يكون الرئيس بدرجة رئيس محكمة استئناف.