مقدمة
1- المشرع المصري وتجريم البلطجة.
2- موضوع هذه الدراسة.
3- فلسفة المشرع المصري بخصوص تجريم البلطجة.
4- خطة الدراسة ومنهجها.
1- المشرع المصري وتجريم البلطجة:
لقد حرص المشرع المصري على تجريم البلطجة( ) بموجب القانون رقم6 لسنة1998م، حيث أضاف باباً جديداً (هو الباب السادس عشر) المعنون:
الترويع والتخويف (البلطجة)( ). وقيل تبريراً لتجريم هذه الظاهرة إنه: (ولما كان قانون العقوبات مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية فإنه ينبغي إن يساير روح العصر ومقتضياته وأن يتصدى بالتجريم والعقاب لكل أمر يكشف واقع الحال عن ضرورة التصدي له ومن ثم كان هذا الفرع من فروع القانون أكثرها عرضة للتطور ومسايرة لمقتضيات العصر ومطالب المجتمع.
وإذا كان الشارع المصري قد شهد في الآونة الأخيرة تزايداً في ظاهرة أطلق عليها تعبير (البلطجة) على نحو لم يكن مألوفاً من قبل في المجتمع بما تتضمنه تلك الظاهرة من ترويع للمواطنين وتهديد صارخ لأمنهم وسلامتهم فقد بات لزاماً على المشرع أن يتدخل لمواجهة تلك الظاهرة الخطيرة حفاظاً على أمن المجتمع وسلامة أفراده. ومن هنا كان مشروع القانون المعروض والذي استهدف مواجهة تلك الظاهرة الخطيرة بتغليظ العقاب بعد أن تبين أن النصوص القائمة لم تعد كافية لتحقيق ما هو مستهدف من ردع من تسول نفسه له أن يقدم على ترويع المواطنين على هذا النحو)( ).
صحيح أن (قانون العقوبات قد اشتمل على نصوص تؤثم بعض الجرائم التي يكون استخدام القوة أو العنف أو التهديد أحد أركانها أو ملحوظاً في ارتكابها، إلا أنها لم تعد كافية في حد ذاتها للحد من هذه الظاهرة، إذ هي نصوص مقصورة على أنواع معينة من الجرائم من جهة، ولا تفرض لها العقوبات المناسبة لمواجهة الخطورة الكامنة في مرتكبيها وردعهم من جهة أخرى، فضلاً عن أن تصاعد هذه الظاهرة هو أمر طارئ وغريب على هذا المجتمع المسالم الآمن)( ).
1- موضوع هذه الدراسة:
وجريمة البلطجة إما أن تكون بسيطة أو مشددة. ولقد تكفلت الفقرة الأولى من المادة 375 مكرر عقوبات ببيان جريمة البلطجة في صورتها البسيطة؛ إذ نصت على أنه: (مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد واردة في نص آخر يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة غيره باستعراض القوة أمام شخص أو التلويح له بالعنف أو بتهديده باستخدام القوة أو العنف معه أو مع زوجه أو أحد من أصوله أو فروعه أو التهديد بالافتراء عليه أو على أي منهم بما يشينه أو بالتعرض لحرمة حياته أو حياة أي منهم الخاصة وذلك لترويع المجني عليه أو تخويفه بإلحاق الأذى به بدنياً أو معنوياً أو هتك عرضه أو سلب ماله أو تحصيل منفعة منه أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه أو لإرغامه على القيام بأمر لا يلزمه به القانون أو لحمله على الامتناع عن عمل مشروع أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أو مقاومة تنفيذ الأحكام أو الأوامر أو الإجراءات القضائية أو القانونية واجبة التنفيذ؛ متى كان من شأن ذلك الفعل أو التهديد به إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره أو بسلامة إرادته).
في حين أن جريمة البلطجة في صورها المشددة استغرقت بقية فقرات المادة 375مكرر مع المادة 375مكرر(أ) بأكملها. فقد نصت الفقرتان الثانية والثالثة من المادة الأولى على أنه:
( وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين إذا وقع الفعل أو التهديد من شخصين فأكثر أو وقع باصطحاب حيوان يثير الذعر أو بحمل سلاح أو آلة حادة أو عصا أو أي جسم صلب أو أداة حارقة أو كاوية أو غازية أو منومة أو أية مادة أخرى ضارة.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنين إذا وقع الفعل أو التهديد على أنثى أو على من لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة).
وأردفت هذه المادة موضحة أنه في جميع الأحوال –أي في كافة الجرائم المنصوص عليها في المادة 375مكرراً عقوبات- يقضي (بوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها عليه).
أما المادة 375مكرر(أ) فقد نصت على انه: (يضاعف كل من الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المقررة لأية جنحة أخرى تقع بناءً على ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة ويرفع الحد الأقصى لعقوبتي السجن والأشغال الشاقة المؤقتة إلى عشرين سنة لأية جناية أخرى تقع بناء على ارتكابها.
وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن إذا ارتكبت جناية الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة المفضي إلى موت المنصوص عليها في المادة (236) بناءً على ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة فإذا كانت مسبوقة بإصرار أو ترصد تكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة وتكون العقوبة الإعدام إذا تقدمت الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة أو اقترنت أو ارتبطت بها أو تلتها جناية القتل العمد المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة (234).
ويقضي في جميع الأحوال بوضع المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها عليه لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنين).
3- فلسفة المشرع المصري بخصوص تجريم البلطجة:
وباستقراء النصين المتقدمين يتضح –جلياً- أن فلسفة المشرع بخصوص تجريم البلطجة تجمل في أنه أراد بسط حماية وقائية للمجتمع: حماية تمنع أن يسود قانون الغاب في المجتمع المصري، حماية ترمي إلى منع المساس الفعلي بالمصالح المشمولة بالحماية الجنائية. فقد استهدف المشرع حماية أفراد المجتمع في حياتهم وسلامة أجسامهم وحرياتهم الشخصية وشرفهم وسلامة إرادتهم؛ من خطر الاعتداء عليها. كما استهدف المشرع: تفادي إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات الأشخاص أو بمصالحهم المشروعة.
وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للقانون رقم6لسنة1998م –محل الدراسة- (إن القوانين العقابية لا تتناول الجرائم التي تضر بالمصالح الاجتماعية فحسب وإنما تؤدي كذلك دوراً وقائياً في مواجهة الأفعال التي تهدد هذه المصالح من قبل أن يتم الإخلال بها بالفعل، كما أن مواثيق حقوق الإنسان قد حرصت على الاعتراف بحقه في الأمن الشخصي وكانت له حماية، فإنه تأكيداً لهذه المعاني أعد مشرع القانون المرافق الذي يضيف باباً جديداً إلى أبواب الكتاب الثالث من قانون العقوبات –الخاص بالجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس، يسمى الترويع والتخويف (البلطجة) ويتكون من مادتين.
وقد عني المشروع بالإحاطة بجميع صور الظاهرة المشار إليها وتأثيمها بفرض العقوبات المناسبة لكل صورة منها.....)
2- خطة الدراسة ومنهجها:
وعلى كل حال؛ فإنه من المناسب أن نبحث جرائم البلطجة هذه من خلال خطة البحث التالية:
الفصل الأول: البلطجة (في صورتها البسيطة).
المبحث الأول: الركن المادي.
المطلب الأول: صور البلطجة.
الفرع الأول: القوة والعنف.
الفرع الثاني: التهديد.
المطلب الثاني: النتيجة الإجرامية.
الفرع الأول: النتائج الإجرامية.
الفرع الثاني: النتائج المعنوية.
المطلب الثالث: رابطة السببية.
المبحث الثاني: الركن المعنوي والعقوبة.
المطلب الأول: الركن المعنوي.
الفرع الأول: مفردات القصد الجنائي.
الفرع الثاني: الأحكام العامة للقصد الجنائي.
المطلب الثاني: عقوبة جريمة البلطجة البسيطة.
الفصل الثاني: جرائم البلطجة المشددة.
المبحث الأول: جنح البلطجة المشددة (طبقاً للمادة 375مكرر عقوبات).
المطلب الأول: الظروف المتعلقة بالجاني والمجني عليه.
الفرع الأول: الظروف المتعلقة بالجاني (تعدد الجناة).
الفرع الثاني: الظروف المتعلقة بالمجني عليه.
المطلب الثاني: الظروف المتصلة بكيفية ارتكاب الجريمة.
الفرع الأول: ظرف اصطحاب حيوان يثير الذعر.
الفرع الثاني: حمل سلاح أو أداة كهربائية أو مواد ضارة.
المبحث الثاني: جنايات البلطجة والجنح المشددة.
طبقاً للمادة 375مكرر(أ) عقوبات.
المطلب الأول: ارتباط جريمة البلطجة بجنحة أو جناية بوجه عام.
الفرع الأول: شروط التشديد.
الفرع الثاني: الارتباط وتعدد الجناة.
المطلب الثاني: ارتباط البلطجة بجريمة الإيذاء أو القتل العمد.
الفرع الأول: ارتباط البلطجة بجريمة الإيذاء.
الفرع الثاني: ارتباط جريمة البلطجة بجناية قتل عمد.
وسنعقب ذلك بخاتمة تتضمن تقييم المواجهة الجنائية لظاهرة البلطجة؛ ومدى فاعليتها لدرء هذه الظاهرة. وسنتخذ المنهج التحليلي أساساً لدراستنا.
الفصل الأول
البلطجة (في صورتها البسيطة)
4- إجمال
4- إجمال:
لقيام هذه الجريمة يتعين أن يتوفر ركنان: ركن مادي و ركن معنوي.
وسنعرض لهما في المبحثين التاليين:-
المبحث الأول
الركن المادي
5- عناصر الركن المادي
5- عناصر الركن المادي:
يجمل الركن المادي لهذه الجريمة في ممارسة صورة أو أكثر من صور البلطجة مما يترتب عليه تأثيراً معنوياً أو مادياً للمجني عليه. ويتحلل هذا الركن إلى عناصر ثلاثة؛ هي: السلوك الإجرامي (المتمثل في صور البلطجة)؛ والنتيجة التي تترتب عليه؛ ورابطة السببية بينهما.
وسنعرض ذلك في المطالب الثلاثة التالية.
المطلب الأول
صور البلطجة
3- تحديد صور البلطجة
6- تحديد صور البلطجة:
أورد المشرع صور البلطجة على سبيل الحصر، الأمر الذي يمتنع معه القياس عليها( ).
وعلى أية حال هذه الصور هي: استعراض القوة أمام شخص؛ التلويح للمجني عليه بالعنف؛ التهديد باستخدام القوة والعنف؛ التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة.
وسنعرض لذلك في فرعين:
الأول: في القوة والعنف. والثاني: في التهديد.
الفرع الأول
القوة والعنف
7- أولاً: استعراض القوة أمام شخص.
8- ثانياً: التلويح للمجني عليه بالعنف.
9- نظرية العنف المادي.
10- نظرية العنف المعنوي.
11- تفسير العنف.
7- أولاً: استعراض القوة أمام شخص:
القوة لغة هي الطاقة على العمل، وهي مبعث النشاط والنمو والحركة، وتنقسم القوة على طبيعية وحيوية وعقلية، كما تنقسم إلى باعثة وفاعلة. وفي علم الاجتماع يقصد بها عدة معان منها: السيطرة على الآخرين والتحكم فيهم، والتدخل في حريتهم وإجبارهم على العمل بطريقة معينة( ).
ولا يخرج معنى استعراض القوة عما تقدم، فهو ينصرف إلى إظهار أي عمل من أعمال القهر أو الإرغام، ويستوي أن يستعرض الشخص القوة بنفسه أو بواسطة غيره. وفي هذه الحالة يكون هذا الغير شريكاً للجاني بالمساعدة. متى توفرت الشرائط الأخرى للاشتراك، وألا يكون مجرد أداة في يد الجاني الحقيقي.
ومن صور استعراض القوة، قيام الجاني بتحطيم أشياء أمام المجني عليه، شريطة أن يكون هذا التحطيم يحتاج إلى قدر كبير من العنف( ).
8- ثانياً: التلويح للمجني عليه بالعنف:
العنف لغة ينصرف إلى الشدة والقوة. وفي الفقه الفرنسي يعبر اصطلاح العنف (violence) عن إجبار غير جائز، في صورة فعل غير مشروع يتجسد في اعتداء على أمن أو على حرية بوحشية، أو هو أسلوب يستخدم إكراه عادي اجتماعي أو مادي، أو إكراه معنوي يتمثل في التهديد بفزع( ).
أما في الفكر العربي فإن العنف يعبر عن: محاولة لفرض موقف أو سلوك على فرد ما –يرفضه بوجه عام- بوسائل مختلفة، من بينها الضغط، التخويف...الخ.
أما مفهوم العنف في الفقه الجنائي فتتنازعه نظريتان:
الأولى:وهي التقليدية، التي يصح أن نطلق عليها: (نظرية العنف المادي).
الثانية: يصح أن نطلق عليها: (نظرية العنف المعنوي)، وهي التي كُتِب لها السيادة في الفقه المعاصر( ).
9- نظرية العنف المادي:
العنف –طبقاً لهذه النظرية- هو ممارسة الإنسان للقوى الطبيعية بهدف التغلب على مقارنة الغير.
وتشمل القوة الطبيعية: الطاقة الجسدية وقوى الحيوانات والطاقات الأخرى الميكانيكية، متى أمكن السيطرة عليها واستخدامها لخدمة إرادة الإنسان.
ولا يشترط أن تُمارس هذه القوة على جسد الإنسان الخارجي، إذ يكفي أن يشعر بها أو يدركها بأي حاسة من حواسه، عندما يستخدم أعضائه لتحقيق ما اتجهت إليه إرادته( ).
ويفرق الفقه التقليدي بين العنف المادي والعنف المعنوي:
فالأول: يتفق والإكراه المادي، إذ يحدث باستخدام قوى مادية وطبيعية.
أما الثاني: فهو يتفق والإكراه المعنوي حيث يصل عن طريق التهديد، ويفرق البعض بين العنف المطلق أي الذي يعدم الإرادة إعداماً كلياً، وبين العنف النسبي والتهديد( ).
10- نظرية العنف المعنوي:
ترتكز هذه النظرية –في تحديدها لمفهوم العنف- على تأثيره في إرادة الأفراد، باعتبار أن المشرع حينما يجرم إنما يبتغي حماية الحرية المعنوية للأفراد المتمثلة في حرية الإرادة، وبه فإن العنف يتحقق بأية وسيلة يكون من شأنها التأثير أو الضغط أو الإكراه على إرادة الغير، وطبقاً لهذه النظرية يتحدد العنف في تنازع أو صراع بين إرادتين، ومحاولة تغليب إرادة الجاني على إرادة المجني عليه( ).
فالعنف –طبقاً لهذه النظرية- ينصرف إلى كل سلوك –ما عدا التهديد- يؤدي إلى الضغط على الإرادة، وعليه فإن العنف يشمل كافة المؤثرات –عدا التهديد- التي من شأنها تحقيق ضغط إرادي، وذلك مثل القوى الجسدية والطبيعية والنفسية( ).
11- تفسير العنف:
يمكننا أن نقسم التفسيرات المقول بها للعنف إلى: تفسيرات تاريخية وأخرى اجتماعية.
والتفسيرات التاريخية: تفسر العنف بارتداد الإنسان إلى (البدائية)؛ حسب تعبير أصحاب هذه التفسيرات. فهذه البدائية تتفجر فيه حينما يمر الإنسان بظروف أو أوضاع تخرجه من قبضة العادات والتقاليد التي كانت تكبت وتضغط على مشاعره وغرائزه( )، فتنطلق هذه المشاعر وتلك الغرائز في صورة من صور العنف.
أما التفسيرات الاجتماعية: فترد العنف إلى الكبت الاجتماعي، باعتباره كبت مصطنع يحمل الفرد ثائرته بسلوك منحرف، ناتج عن الضغط الاجتماعي الواقع عليه( ).
غير أننا نرى أنه من الممكن تفسير العنف بأنه ناتج عن استعداد طبيعي لدى شخص تأثر بالظروف التي عاش فيها والبيئة والمناخ المحيط به. فالعنف ولئن كان يتم تفجيره لدى الشخص نتيجة تعرضه لموقف معين أو وضع ما، إلا أنه يتعين أن يسبق ذلك ويفضي إليه استعداد شخصي لدى الفرد. وبعبارة أخرى إذا قيل إن الظروف الاقتصادية الصعبة أو البطالة أو الفقر –على سبيل المثال؛ لا الحصر- تؤدي إلى السلوك العنيف فإن هذه الظروف لا تؤدي إلى ذلك بالنسبة لكل الأشخاص الذين يمرون بها، فالبعض يفضل عدم الانحراف بسلوكه عن السلوك المعتاد، والبعض الآخر يندفع وراء غرائزه ومشاعره البدائية فتفرز هذا السلوك العنيف.
وملاك القول إننا نميل إلى الأخذ بتفسير مختلط يجمع بين الاستعداد الشخصي لدى الفرد للعنف والظروف البيئية المحيطة به. وبعبارة أخرى لا يكفي أن يكون الشخص لديه استعداد فطري للعنف، بل يتعين أن يساهم في تفجيره ظروف وملابسات موقف معين أو مناخ ما، أحاط بهذا الشخص ففجر طاقته البدائية في صورة من صور العنف.
الفرع الثاني
التهديد
12- أولاً: التهديد باستخدام القوة والعنف.
13- ثانياً: التهديد بالافتراء.
14- ثالثاً: التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة.
14م- تطبيقات قضائية.
12- أولاً: التهديد باستخدام القوة والعنف.
ومؤدى هذه الصورة أن يقوم الجاني بتوجيه وعيد إلى شخص ما. وتتحلل هذه الصورة إلى ثلاثة عناصر: أطراف التهديد؛ ومضمونه؛ ومحله. أما بالنسبة لأطراف التهديد فهما: الجاني والمجني عليه، أي المُهدِد والمُهَدد. أما مضمونه فينصرف إلى الوعيد باستخدام القوة أو العنف. ولقد سبق الإلماح إلى معنى القوة والعنف لذا نحيل القارئ إلى هذا المعنى وذاك، منعاً للتكرار( ). وأما محل التهديد فقد حدده المشرع بشخص المجني عليه ذاته، أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه( ).
13- ثانياً: التهديد بالافتراء:
وهذه الصورة للبلطجة تتفق مع الصورة السابقة فيما يتعلق بأطراف التهديد ومحله فأطرافه هما: المُهدِد والمُهَدد أي الجاني والمجني عليه، ومحله هو الشخص المجني عليه أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه.
أما مضمون هذه الصورة للبلطجة فهو محور الخلاف بين الصورتين:
ففي الصورة السابقة يتعلق التهديد باستخدام القوة أو العنف، أما في هذه الصورة فينصرف إلى التهديد بالافتراء بما يشين أي بما يعيب أو يقبح أو يشوه( ).
ومؤدي هذه الصورة أن يقوم الجاني بتوجيه وعيد بأن يختلق وقائع –ينسبها للمجني عليه أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه- تؤدي إلى تشويه السمعة.
والافتراء هنا يجد حده العلى في الوقائع التي تعتبر جرائم وتستوجب عقاب لمن ستُسنَد إليه، أما حده الأدنى فيتمثل في الوقائع غير المحددة التي تؤدي إلى احتقار مَن ستسند إليه عند أهل وطنه.
وبين هذين الحدين توجد منطقة الافتراء بوقائع محددة توجب احتقار مَن ستسند إليه في مجتمعه الخاص. وسواء في الافتراء أن تكون الوقائع محددة أو غير محددة، طالما أنها تحط من قدر مَن ستسند إليه أو تخدش شرفه واعتباره، بأي وجه من الوجوه.
ومفاد ما تقدم أن تعبير 0ما يشينه) الذي استخدمه المشرع واسع يقبل احتواء وقائع مختلفة، بما يدخل في نطاق جريمتي القذف( ) والسب( )، إذا المُهدِد (الجاني) في جريمة البلطجة نفذ وعيده وأسند هذه الوقائع فعلاً للمجني عليه.
وعليه فإن هذه الصورة للبلطجة تتمثل –على سبيل المثال- في: اختلاق وقائع مؤداها أن المجني عليه –والفرض أنه موظف عام- تقاضى مبلغاً معيناً مقابل قيامه بعمل من أعمال وظيفته، أو أنه اختلس مالاً من عهدته. أو أن بنت المجني عليه –والفرض أنها فتاة- تعاشر رجلاً معاشرة غير شرعية. أو أن ابن المجني عليه يعاشر خادمته البالغة. أو أن والد المجني عليه فر من مستشفى المجاذيب، أو أنه مصاب بأمراض زهرية أو معدية كالإيدز. أو أنه طبيب يتعمد إطالة أمد العلاج بهدف الحصول على أرباح أكبر. أو أنه محامٍ يتاجر في مصالح موكليه. أو أنه قاضٍ يجمع بين القضاء وبين المحاماة( ). أو أنه تاجر قد أشهر إفلاسه. أو أنه يتسمى باسم غير اسمه الحقيقي. أو أنه ارتد عن دين الإسلام. كما تتوفر صورة البلطجة –محل الدراسة- إذ تجسد مضمون التهديد في أن الجاني سينعت المجني عليه بأنه مرتشياً أو أن والده مجنوناً، أو أن بنته أو زوجته فاسقة، أو أن ابنه مختل العقل.
14- ثالثاً: التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة:
في هذه الصورة ينصرف الوعيد إلى التعرض لحرمة الحياة الخاصة للمجني عليه أو لزوجه أو أحد من أصوله أو فروعه. ويحمي المشرع –هنا- الحياة الخاصة من خطر الاعتداء عليها. والحياة الخاصة حسب تعريفنا لها: هي نطاق يمارس فيها المرء حياته في سكينة وسرية، ومتحرراً من القيود التي تعرفها الحياة العامة خارج المسكن( ). وعليه فإن الحياة الخاصة تشمل على سبيل المثال:
1- احترام المنزل( ).(respect du domicile) أو حرية المسكن( ) (la liberté de domicile).
2- سرية الرسالات أو المراسلات( ) (Secret de la corr. espondance).
3- ألفة الحياة الخاصة والحياة الأسرية( ) (familiales).
4- الحق في الصورة( ) (le droit à l'image).
5- الثروة الشخصية( ).
وتأتي حماية الحياة الخاصة من (البلطجة) ضمن منظومة عامة لحماية الحياة الخاصة في النظام القانوني المصري. إذ أكد الدستور المصري على أن (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون. وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الإطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محدودة ووفقاً لأحكام القانون) (م45).
وزيادة في توفير أكبر حماية ممكنة للحياة الخاصة اعتبر المشرع الدستوري أن كل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين يشكل جريمة تستعصي الدعوى الجنائية، وكذا الدعوى المدنية الناشئتان عنها على الخضوع لأحكام التقادم المسقط، كما أن من وقع عليه الاعتداء تكفل له الدولة تعويضاً عادلاً (م57 من الدستور).
ولقد سارع المشرع الجنائي إلى ترجمة تصور المشرع الدستوري لحرمة الحياة الخاصة، فتصدى –المشرع الأول- إلى إدخال بعض صور الاعتداء على الحياة الخاصة في دائرة التجريم والعقاب( ).
وها هو ذا المشرع الجنائي يستكمل حلقات الحماية الجنائية للحياة الخاصة –بموجب القانون رقم6 لسنة1998- بتوفير حماية وقائية من الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة؛ من خطر الاعتداء. إذ اعتبر مجرد التهديد بالتعرض للحياة الخاصة صورة من صور البلطجة التي تستأهل الجزء الجنائي: عقوبة وتدبيراً؛ على النحو الذي سنفصله عند الحديث عن الجزاء الجنائي لهذه الجريمة( ).
وترتيباً على ما تقدم يعتبر تهديداً بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة أن يتوعد الجاني المجني عليه بما يلي:
1- أن يتصنت على مكالمته التليفونية.
2- أن يقوم بتصوير زوجة المجني عليه مرتدية ملابس البحر؛ ونشرها في بعض الصحف أو المجلات.
3- أن يسعى للوصول لمعرفة حجم ثروة والد المجني عليه ومفرداتها، لنشرها في الصحافة أو بأية طريقة من طرق النشر.
4- أن يقوم بالإطلاع على مراسلات المجني عليه الخاصة.
14م- تطبيقات قضائية:
- ولئن كانت جريمة البلطجة من الجرائم المستحدثة بموجب القانون رق6 لسنة1998م؛ فإن ذلك لا يمنع من الاسترشاد بما استقر عليه القضاء بشأن مدلول المصطلحات التي استخدمها المشرع بصدد صياغة أركان هذه الجريمة.
- وبناءً على ذلك؛ فإننا نضع تحت بصر القارئ هذه المجموعة من الأحكام التي تساهم في توضيح أركان جريمة البلطجة.
- فقد قضى بخصوص تحديد مدلول التهديد بأن:-
* المقصود بالتهديد بإفشاء أمور أو نسبة أمور مخدشة بالشرف المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة327 عقوبات، هو إفشاء أمور لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه أو أوجبت احتقاره عن أهل وطنه، وهي الأمور التي أشير إليها في جريمة القذف المنصوص عنها في المادة302 من قانون العقوبات، والتهديد في هذا المعنى يشمل التبليغ عن جريمة سواء أكانت صحيحة وقعت بالفعل أو كانت مختلقة. (21/5/1956 أحكام النقض س7 ق213 ص758)
* لا ضرورة لكي تنطبق المادة284 عقوبات أن يبين المهدد للمجني عليه الأمور الشائنة التي يريد إفشائها، بل أن مجرد التلميح بها يكفي لتوقيع العقاب، ولا ضرورة لأن تذكر المحكمة في الحكم الذي يصدر بالعقوبة في جريمة تهديد الأمور الشائنة التي هدد المتهم المجني عليه بها، لأن هذه المسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها. (14/3/1914 الشرائع س1 ص117).
* من الخطأ القول بأن الفقرة الأخيرة من المادة 384ع لا تنطبق إلا في صورة ما يكون التهديد هو بالتعدي على الأشخاص أو إيذائهم بل الصحيح أنها تنطبق على جميع الجرائم التي يهدد به ضد النفس كانت أو ضد المال مادامت تلك الجرائم لا تبلغ في الجسامة درجة الجرائم المشار إليها في الفقرات الثلاث الأولى من تلك المادة. (19/3/1931 مجموعة القواعد القانونية ج2 ق211 ص269).
*طلب المتهم من المجني عليه الامتناع عن التكلم في حق أسياده في الأمور البطالة، متى كانت هذه الأمور معلومة ومعينة بينهما يعتبر طلباً وتكليفاً بأمر، وعليه يعتبر التهديد بالقتل المصحوب بهذه العبارة جناية طبقاً للمادة284/1 عقوبات. (31/1/1922 المحاماة س2 ص455).
* إنه غير ضروري في التهديد أن يكون خطاب التهديد مرسلاً لنفس الشخص المهدد، ولكن إذا أرسل الخطاب إلى شخص لا هو رسول لتوصيله ولا هو قريب للشخص المهدد حتى يحمله عامل المودة إلى توصيله فلا عقاب. (13/2/1952 الشرائع س2 ص177).
* إن المادة327 من قانون العقوبات إذ نصت على عقاب من هدد غيره كتابة بارتكاب جريمة ضد النفس والمال –إذ كان التهديد مصحوباً بطلب أو بتكليف بأمر- لم توجب بصيغتها العامة أن تكون عبارة التهديد دالة بذاتها على أن الجاني سوف يقوم بنفسه بارتكاب الجريمة إذا لم يجب إلى طلبه، بل يكفي أن يكون الجاني قد وجه التهديد كتابة إلى المجني وهو يدرك أثره من حيث إيقاع الرعب في نفسه وأنه يريد تحقيق ذلك الأمر بما قد يترتب عليه أن يذعن المجني عليه راغماً إلى إجابة الطلب بغض النظر عما إذا كان الجاني قد قصد إلى تنفيذ التهديد فعلاً ومن غير حاجة إلى تعرف الأثر الفعلي الذي أحدثه التهديد في نفس المجني عليه ولا عبرة بعد ذلك بالأسلوب أو القالب الذي تصاغ في عبارات التهديد متى كان المفهوم منها أن الجاني قصد ترويع المجني عليه وحمله على أداء ما هو مطلوب. (17/11/1974) أحكام النقض س25 ق161 ص746).
* القصد الجنائي في جريمة التهديد يتوافر متى ثبت للمحكمة أن الجاني ارتكب التهديد وهو يدرك أثره من حيث إيقاع الرعب في نفس المجني عليه وأنه يريد تحقيق هذا الأثر بما قدر يترتب عليه أن يذعن المجني عليه راغماً إلى إجابة طلبه وذلك بغض النظر عما إذا كان قصد إلى تنفيذ التهديد فعلاً ومن غير حاجة إلى تعرف الأثر الفعلي الذي أحدثه التهديد في نفس المجني عليه ولا يلزم التحدث استقلالاً عن هذا الركن بل يكفي أن يكون مفهوماً من عبارات الحكم صراحة عبارات التهديد وظروف الواقعة كما أوردها الحكم كما لا يعيب الحكم إغفاله التحدث عن أثر هذا التهديد في نفس المجني عليه. (21/4/1969 أحكام النقض س20 ق106 ص509، 11/6/1963 س14 ق101 ص521. وفي نفس المعنى: نقض1/3/1956 أحكام النقض س7 ق112 ص379).
* تقدير قيام التهديد مرجعه على محكمة الموضوع تستخلصه من عناصر الدعوى المطروحة أمامها ولا معقب عليها في ذلك ما دام استخلاصها سائغاً ومستنداً إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطلق ولها أصلها في الأوراق. (26/6/1967 أحكام النقض س18 ق268 ص1264).
* تقدير قيام التهديد مرجعه إلى محكمة الموضوع تستخلصه من عناصر الدعوى المطروحة أمامها ولا معقب عليها في ذلك ما دام استخلاصها سائغاً ومستنداً إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطلق ولها أصلها في الأوراق. (26/6/1967 أحكام النقض س18 ق268 ص1264).
* يكفي لتوفر القصد الجنائي في جريمة التهديد أن يعلم الجاني المهدد أن قوله أو كتابته من شأن أيهما أن يزعج المجني عليه في حالة التهديد البسيط أو يكرهه –رغم إرادته- على الفعل المطلوب في صورة التهديد المصحوب بطلب أو بتكليف بأمر. (31/10/1929 مجموعة القواعد القانونية ج1 ق309 ص357).
* تنطبق المادة 284 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون نمرة 28 لسنة 1910 على الدائن الذي يهدد مدينه بالقتل إن لم يقم بوفاء ما عليه من الدين لأنه ليس من أركان الجريمة المنصوص عليها في المادة المذكورة أن يكون الطلب غير شرعي في ذاته. (7/11/1914 المجموعة الرسمية س16 ق12 ص16).
* متى كان الحكم قد بين واقعة الدعوى بما تتوافر به لأركان جريمة التهديد التي دان الطاعن بها وأورد عليها أدلة تؤدي إلى ما رتبه عليها وأشار إلى عبارات التهديد فقال: "وحيث أن وقائع الدعوى تتحصل على ما جاء بأقوال المجني عليه من أنه تلقى خطاب التهديد المؤرخ... والذي ورد فيه أنه إذا لم يقم بإبرام الصلح بينه وبين المتهم بقتل ولديه فإنه سيتسبب في أن يجني على ولديه الآخرين، فإن مفاد هذا الذي أورده الحكم أن الجريمة المهدد بها هي قتل ولديه الآخرين، وهو ما قرره المجني عليه في التحقيق على ما يبين من المفردات التي أمرت المحكمة بضمها تحقيقاً لهذا الوجه من الطعن، لما كان ذلك، وكان يكفي في بيان التهديد أن يكون الحكم أشار إلى العبارات التي هدد الطاعن بها المجني عليه. (5/6/1978 أحكام النقض س29 ق107 ص566).
* يكفي في بيان ماهية الأمور المهدد بها أن يكون الحكم قد أشار إلى العبارات التي هدد بها المتهم مصرفاً من المصارف واقتبس فحواها من الورقة المكتوبة بخطه والتي هدد شفوياً بعض موظفي المصرف بنشرها إن لم يعطه المصرف ما يطلب، وما دامت هذه الورقة مودعة ملف الدعوى فقد أصبحت بهذا الإيداع جزء من الحكم يمكن الرجوع إليه عند تحري التفصيلات. (22/2/1932 مجموعة القواعد القانونية ج2ق331 ص466).
- أما التهديد بالافتراء؛ فمما يساهم في تحديد معالمه:
استقراء قضاء محكمتنا العليا بخصوص التفرقة بين حق الأفراد في الشكوى وحقهم –بل واجبهم- في التبليغ عن الجرائم من جانب و القذف والسب من جانب آخر؛ ومن هذا القضاء ما يلي:
* من المقرر أن مجرد تقديم شكوى في حق شخص إلى جهات الاختصاص وإسناد وقائع معينة إليه لا يعد قذفاً معاقباً عليه مادام القصد منه لم يكن إلا التبليغ عن هذه الوقائع لا مجرد التشهير للنيل منه، وأن استخلاص توفر ذلك القصد أو انتفائه من وقائع الدعوى وظروفها من اختصاص محكمة الموضوع دون معقب في ذلك ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر عقلاً مع هذا الاستنتاج. (15/4/1979 أحكام النقض س30 ق101 ص481، 29/11/1971 س22 ق163 ص669، 11/5/1974 س15 ق68 ص343) .
* التبليغ عن الجرائم حق بل واجب على الناس كافة، فلا يجوز العقاب عليه إلا إذا كان مقروناً بالكذب وسوء النية، أو إذا كان المقصود منه جعله علنياً لمجرد التشهير بالمبلغ في حقه. فإذا كان الحكم قد أدان المتهم بالكذب في حق المجني عليه وعائلته في بلاغ نسب إليه فيه أنه يدير منزلاً للدعارة السرية وأن زوجته مشبوهة، مستنداً في ذلك إلى أن الشاهد الذي سئل البوليس في هذا البلاغ كذب مقدمه فحفظ بلاغه، وإلى أن التحقيق الذي يحصل أمام البوليس وتسمع فيه شهود يعتبر علنياً، فإنه يكون قاصراً لعدم استظهاره أن المتهم إنما كان يقصد ببلاغه مجرد التشهير بالمبلغ في حقه. (8/11/1948 مجموعة القواعد القانونية ج7 ق682 ص644).
المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية
15- جرائم البلطجة وجرائم الخطر.
16- تساؤل.
17- جريمة البلطجة وجرائم الضرر.
18- تصنيف النتائج الإجرامية لجرائم البلطجة.
15- جرائم البلطجة وجرائم الخطر:
النتائج الإجرامية في جريمة البلطجة –بوجه عام- تتمثل في العدوان المحتمل على المصالح المحمية، أي وقاية هذه المصالح من الضرر الفعلي؛ وبعبارة أخرى جريمة البلطجة تتدرج –بصفة عامة- تحت لواء جرائم الخطر( ).ومن المعلوم أن جرائم الخطر تنشطر إلى جرائم خطر مجرد وجرائم خطر فعلي. ويكتفي بالنسبة لجرائم الخطر المجرد بارتكاب السلوك المجرد، إذ يفترض المشرع تحقق الخطر لمجرد تحقق السلوك، في حين أن المشرع يتطلب بخصوص جرائم الخطر الفعلي –بجانب ارتكاب السلوك المجرم- تحقق نتيجة متمثلة في حالة خطر حقيقي يمس المصلحة المشمولة بالحماية( ).
16- تساؤل:
والتساؤل الآن: إلى أي نوع من جرائم الخطر تنتمي جرائم البلطجة بوجه عام؟.
في اعتقادنا أن جرائم البلطجة –بصفة عامة- تنتمي إلى طائفة جرائم الخطر الواقعي؛ إذ لم يكتف المشرع بتجريم صور البلطجة وإنما تطلب أن يكون من شأن حصول أية صورة من هذه الصور: "إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره أو سلامة إرادته (م375 مكرراً من قانون العقوبات).
17- جريمة البلطجة وجرائم الضرر:
إذا كان كذلك بالنسبة لمعظم النتائج الإجرامية التي يتطلب حصولها كأثر لصور السلوك الإجرامي في جريمة البلطجة؛ بيد أن المشرع تطلب –أيضاً- إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه أو مصالحه (م375 مكرراً من قانون العقوبات).
ولا شك –في نظرنا- أن هاتين الجريمتين تشكلان ضرراً فعلياً؛ والمشرع هنا تطلب الإضرار الفعلي بالمصلحة محل الحماية الجنائية. وعليه فإن جريمة البلطجة التي تتحقق بشأنها إحدى هاتين النتيجتين تدخل ضمن زمرة جرائم الضرر( ).
وترتيباً على ما تقدم يمكننا القول بأن جريمة البلطجة هي جريمة مختلطة، أي بعض صورها تشكل جريمة خطر، والبعض الآخر يشكل جريمة ضرر.
18- تصنيف النتائج الإجرامية لجرائم البلطجة:
جلي مما تقدم أن النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة يمكن تصنيفها إلى: نتائج تشكل ضرراً على المصالح المشمولة بالحماية الجنائية؛ وأخرى تقف عند حد خطر حدوث الضرر. وإضافة إلى ذلك يمكننا تقسيم النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة إلى نتائج مادية وأخرى معنوية. وسنفصل ذلك في الفرعين التاليين:
الفرع الأول
النتائج المادية
19- المقصود بالنتائج المادية.
20- أولاً: إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه.
21- ثانياً: إلحاق الضرر بمصلحة للمجني عليه.
19- المقصود بالنتائج المادية:
ونقصد بالنتائج المادية تلك التي تمس ممتلكات أو مصالح المجني عليه. ولقد عبر المشرع عن النتائج المادية بقوله: "إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته –أي ممتلكات المجني عليه- أو مصالحه".
20- أولاً: إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه:
تتحقق هذه النتيجة متى أسفر سلوك الجاني عن الانتقاص من قيمة شيء من ممتلكات المجني عليه فقدانه لصلاحيته كلية أو جزء منها. وإذا كانت كلمة شيء لغة: تتسع لكل ما هو موجود؛ أو كل ما يتصور ويخبر عنه( )؛ غير أن المشرع حدد الشيء بأنه من الممتلكات. ويستوي –في نظرنا- أن يكون الشيء من المنقولات أو العقارات. كما يستوي أن تكون للشيء قيمة مادية –كالمجوهرات والمصوغات- أو قيمة أدبية محضة كالتذكارات التي لا تقوم بنقود، أو الخطابات العائلية.
21- ثانياً: إلحاق الضرر بمصلحة للمجني عليه:
تتحقق هذه النتيجة متى ترتب على السلوك الإجرامي الانتقاص أو إهدار كلي أو جزئي لمصلحة –أي منفعة أو فائدة- للمجني عليه. ويشترط –في نظرنا- أن تكون المصلحة مشروعة؛ أي يقرها القانون.
أما إذا كانت المصلحة غير مشروعة؛ فلا تقوم الجريمة محل البحث( ). كما لو كانت مصلحة المجني عليه التي لحقها الضرر –تتمثل في عدم منافسته في التجارة التي يمارسها؛ لأن النظام العام الاقتصادي للبلاد يسمح بمثل هذه المنافسات.
وعليه فإن هذه الجريمة تقع متى نتج عن السلوك الإجرامي –محل البحث- الإضرار بمصلحة مشروعة، كما لو ترتب على تهديد الجاني للمجني عليه: عدم تقدم هذا الأخير لوظيفة شاغرة معلن عنها، أو عدم التقدم لمنافسته للترشيح لعضوية مجلس الشعب أو الشورى.
الفرع الثاني
النتائج المعنوية
22- المقصود بالنتائج المعنوية.
23- أولاً: تعريض حياة المجني عليه للخطر.
24- ثانياً: تعريض سلامة المجني عليه للخطر.
25- ثالثاً: المساس بالحرية الشخصية.
26- رابعاً: المساس بالشرف أو الاعتبار.
27- خامساً: المساس بسلامة الإرادة.
22- المقصود بالنتائج المعنوية:
تنصرف النتائج الإجرامية المعنوية للجريمة –محل البحث- إلى ما يمس الكيان المعنوي للجني عليه، وما يتصل به من مناخ عام للحياة في هدوء وسكينة. ولقد حدد المشرع هذه النتائج المعنوية بقوله: "إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر... أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه واعتباره أو سلامة إرادته".
وجلي من ذلك أن المشرع استهدف حماية كافة الجوانب المعنوية للإنسان. فهو من جهة يحميه من المساس بأمنه وطمأنينته وسكينته. والأمن (security / sécurité) في أساسه السيكولوجي شعور بالهدوء والطمأنينة وبعد عن القلق والاضطراب ولا شك في أن الأمن –بهذا المعنى- يمثل شعوراً ضرورياً لحياة الفرد والمجتمع، ومن أهم دواعيه: اطمئنان الإنسان على نفسه وماله وثقته باحترام حقوقه، وشعوره بالعطف والمودة ممن يحيطون به( ).
وعليه فإن كلمة أمن تستغرق الطمأنينة والسكينة. ولذا فإننا نرى أنه من قبيل التزيد النص على الطمأنينة والسكينة. والمثل يقال لما نص عليه المشرع بخصوص: اعتبار إلقاء الرعب في نفس المجني عليه ضمن نتائج السلوك الإجرامي في جريمة البلطجة. فبث الذعر والخوف في نفس المجني عليه –حسبما نرى- درجة من درجات المساس بأمنه.
وعلى أية حال سنفصل هذه النتائج فيما يلي:
23- أولاً: تعريض حياة المجني عليه للخطر:
يحمي المشرع هنا (حق الإنسان في الحياة) من التعرض للخطر. فالإنسان هو محل المصلحة المحمية هنا. فلا تمتد هذه الحماية إلى سواه من المخلوقات. ويقصد بحق الإنسان في الحياة: مصلحته في أن تظل أعضاء جسمه مؤدية لوظائفها العضوية وفقاً للقوانين الطبيعية( ). وتمتد حياة الإنسان ما بين مولده وحتى يلفظ نفسه الأخير( ).
أي حتى تتوقف نبضات قلبه ويمتنع عن الحركة تماماً( ). فالإنسان قبل مولده يكون (جنيناً)؛ وبعد أن يلفظ نفسه الأخير يكون (ميتاً) والجنين يخرج من نطاق الحماية الجنائية –هنا- لأنه لم يكتسب وصف الإنسان الحي بعد ولا تمتد الحماية الجنائية –هنا- للميت لفقدانه وصف الحياة( )،( ).ويستمر تمتع الإنسان بالحماية الجنائية طبقاً لنص المادة86- محل الدراسة- باستمرار تمتعه بالحياة حتى ولو أصابه مرض ميئوس من شفائه، يؤدي -حسب المجرى العادي للأمور- إلى الموت بعد فترة وجيزة( ).
24- ثانياً: تعريض سلامة المجني عليه للخطر:
هذه النتيجة تتحقق متى ترتب على السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: جعل سلامة جسم المجني عليه( ) مهددة بخطر الاعتداء عليها أي خطر المساس الفعلي بأنسجة جسم المجني عليه، أو التهديد بإصابته بمرض أو عجز وقتي، أو تهديد المجني عليه بهبوط مستواه الصحي: العقلي أو البدني أو النفسي؛ سواء بإصابته بمرض لم يكن موجوداً من قبل، أو تفاقم مرض كان يعاني منه فعلاً.
كما تتحقق النتيجة –محل البحث- متى كان من شأن السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: تهديد سلامة جسم المجني عليه أو صحته بحصول اعتداء فعلي على حالة الاسترخاء الطبيعي لمادة الجسم.
الجريمة محل البحث تحمي الإنسان حماية وقائية من الاعتداء الفعلي على جسده، فهي تحمي حق الإنسان في التحرر من الألم والتمتع بحالة الاسترخاء الطبيعي لمادة الجسم، وتمنع تعريض جسمه لخطر الآلام البدنية، أو مجرد تعكير حالة الاسترخاء لديه، بصورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة.
25- ثالثاً: المساس بالحرية الشخصية:
لم يتطلب المشرع هنا سلب كامل لحرية من الحريات الشخصية المكفولة للأشخاص، بل اكتفى بمجرد المساس بها.
وعليه فإذا ترتب على أية صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة المساس بحرية العقيدة أو حرية ممارسة الشعائر الدينية( ) أو حرية الرأي( ) أو حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام( ) أو حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي( ). وحرمة الحياة الخاصة، أو غيرها من الحريات الشخصية، فإن الركن المادي لجريمة البلطجة يتحقق.
26- رابعاً: المساس بالشرف أو الاعتبار:
ينصرف مدلول الشرف( )،( ) والاعتبار( ) إلى مفردات المكانة الاجتماعية التي تثبت في المجتمع الذي يحيا فيه، وهي مفردات تتشكل من خلال رصيد الشخص من الصفات الموروثة والمكتسبة ومن علاقاته بغيره من أبناء المجتمع، وعلى ضوء هذه المفردات يتحدد الوزن الاجتماعي للشخص، الذي تتعدد عناصره بقدر عدد المجتمعات التي يرتادها، يستوي في ذلك المجتمعات العائلية أو الوظيفية أو المهنية.. أو غيرها( ) ويتحقق المساس بالشرف والاعتبار بمجرد حدوث صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة، إذ تندمج النتيجة في السلوك الإجرامي( ). فمجرد حصول السلوك يفترض المشرع أن المساس بالشرف والاعتبار قد حدث.
27- خامساً: المساس بسلامة الإرادة:
الإرادة –بوجه عام- هي ظاهرة نفسية( ) ذاتية، وهي أساس العمل الإنساني، فهو بطبيعته عمل غائي؛ أي يستهدف غاية معينة من أجل مصلحة خاصة أو عامة. وتقوم الإرادة بتوجيه السلوك الإنساني نحو هذه الغاية( ). وحتى تقوم الإرادة بهذا الدور يتعين أن تكون حرة، والإرادة الحرة تتمثل في قدرة الإرادة على توجيه سلوك الإنسان للغاية التي تبتغيها لا للغاية التي تجبر عليها، سواء أكان هذا الإجبار مصدره إنسان أم آلة أم أي شيء، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، فالعبرة في انتفاء حرية الإرادة: بصلاحية هذا المصدر للتأثير عليها وتوجيهها لغاية معينة تغاير ما يبتغيه الإنسان ذاته( ).
وترتيباً على ذلك فإن الركن المادي لجريمة البلطجة تكتمل عناصره إذا: نجم عن صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة التأثير في إرادة المجني عليه، بحيث أقدم على عمل ما كان يقدم عليه لولا هذه الصورة من السلوك. والمثل يقال إذا نجم عن السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: امتناع المجني عليه عن عمل، ما كان يمتنع عنه في حالة غياب هذا السلوك.
المطلب الثالث
رابطة السببية
28- مشكلة رابطة السببية.
29- فبالنسبة للنتائج الخطرة.
30- أما بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة.
31- انتفاء رابطة السببية.
28- مشكلة رابطة السببية:
تشكل رابطة السببية( )(lien de causalité) عنصراً أساسياً في الركن المادي للجريمة، فإذا كانت الجريمة لا تقوم بدون ركن مادي، فإن الركن المادي لا يقوم –بدوره- بدون علاقة سببية. إذ لا يكفي لانعقاد مسئولية الجاني أن يصدر عنه سلوكاً إجرامياً، وأن تتحقق نتيجة إجرامية. وإنما يتعين أن تكون هذه النتيجة مترتبة على السلوك المذكور ومرتبطة به برابطة السببية.
وبناء عليه يتعين أن يكون السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة متصلاً بأحد النتائج التي يتطلبها المشرع لهذه الجريمة.
وإذا كان الفكر القانوني قد اجتهد في البحث في مشكلة السببية في قانون العقوبات، فأفرز جملة من النظريات في هذا الصدد( )، بيد أن نظرية السببية الملائمة هي التي كتبت لها السيادة في الفقه والقضاء في مصر.
ومؤدى هذه النظرية إنه متى كان سلوك الجاني يصلح –في الظروف التي حصل فيها- أن يكون سبباً ملائماً لحصول النتيجة طبقاً للمجرى العادي للأمور، فإن السببية تكون متوفرة، وبعبارة أخرى تنتفي هذه السببية إذا تداخلت في إحداث النتيجة عوامل شاذة، أي غير مألوفة، لا تحصل إلا نادراً.
ويلزم لإعمال هذه النظرية على رابطة السببية في جريمة البلطجة، أن نفرق بين النتائج الخطرة والنتائج الضارة.
29- فبالنسبة للنتائج الخطرة:
فهي ليست عدواناً فعلياً على المصلحة أو الحق المشمول بالحماية الجنائية، أي ليست إهداراً فعلياً له، وإنما هي مجرد تهديد له بالإهدار، أو إهدار محتمل طبقاً للتسلسل الطبيعي للأحداث.
30- أما بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة: والتي تتمثل في إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه أو مصالحه، فإنه يتعين أن يثبت أن السلوك الإجرامي تسبب في نشوء آثار تجسد فيها العدوان الفعلي الحال على المصلحة أو الحق المشمول بالحماية الجنائية.
31- انتفاء رابطة سببية: تنتفي علاقة السببية في جريمة البلطجة في حالتين:
الأولى: إذا لم يكن سلوك الجاني أحد العوامل التي أسهمت في إحداث إحدى النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة. ويستوي في ذلك النتائج الضارة والنتائج الخطرة.
فبالنسبة للنتائج الأولى، إذا اتضح أن الأضرار التي لحقت سيارة (أ) لم يكن سببها استعراض القوة –على سبيل المثال- من جانب (ب) ولكن كان سببها اصطدام سيارة (ج) بها.فإن (ب) لا يسأل –هنا- عن جريمة بلطجة، طالما لم يثبت أن استعراض القوة نجم عنه أية نتيجة أخرى مما تستلزمه جريمة البلطجة.
أما بالنسبة للنتائج الخطرة: إذا ثبت أن إلقاء الرعب في نفس (أ) –على سبيل المثال- لم يكن بسبب التلويح له بالعنف من جانب (ب) بل كان بسبب مشاهدة (ج) الذي كان يطلب الثأر من (أ) لسبب أو لآخر، فإن جريمة البلطجة لا تتوفر ما لم ينجم عن التلويح بالعنف أية نتائج إجرامية أخرى مما تستلزمه جريمة البلطجة.
والحالة الثانية: إذا ثبت أن سلوك (س) هو أحد العوامل التي أسهمت في إحداث إحدى نتائج جريمة البلطجة، ولكن لم يكن في استطاعة (س) أن يتوقع بعض العوامل الأخرى التي أسهمت في تحقيق هذه النتيجة، فإن جريمة البلطجة لا تقوم. ومثال ذلك: أن يقوم (أ) باستعراض القوة أمام (ب)، فيدفع السيارة المملوكة لـ(ب) في الطريق العام، حيث يتصادف نشوب حرب، فوقعت قنبلة على السيارة، فحولتها إلى قطعة من حديد. فهنا نرى عدم مساءلة (أ) عن جريمة البلطجة، طالما لم تتحقق –بسبب سلوكه- نتيجة أخرى من النتائج الإجرامية لهذه الجريمة.
وجلي من ذلك أن الحالتين المشار إليهما لانتفاء ملائمة السببية تنطبقان بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة.
أما النتائج الخطرة فهي لا تسري عليها سوى الحالة الأولى، حيث تستقل النتائج الضارة بالحالة الثانية، على النحو السالف بيانه.
1- المشرع المصري وتجريم البلطجة.
2- موضوع هذه الدراسة.
3- فلسفة المشرع المصري بخصوص تجريم البلطجة.
4- خطة الدراسة ومنهجها.
1- المشرع المصري وتجريم البلطجة:
لقد حرص المشرع المصري على تجريم البلطجة( ) بموجب القانون رقم6 لسنة1998م، حيث أضاف باباً جديداً (هو الباب السادس عشر) المعنون:
الترويع والتخويف (البلطجة)( ). وقيل تبريراً لتجريم هذه الظاهرة إنه: (ولما كان قانون العقوبات مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية فإنه ينبغي إن يساير روح العصر ومقتضياته وأن يتصدى بالتجريم والعقاب لكل أمر يكشف واقع الحال عن ضرورة التصدي له ومن ثم كان هذا الفرع من فروع القانون أكثرها عرضة للتطور ومسايرة لمقتضيات العصر ومطالب المجتمع.
وإذا كان الشارع المصري قد شهد في الآونة الأخيرة تزايداً في ظاهرة أطلق عليها تعبير (البلطجة) على نحو لم يكن مألوفاً من قبل في المجتمع بما تتضمنه تلك الظاهرة من ترويع للمواطنين وتهديد صارخ لأمنهم وسلامتهم فقد بات لزاماً على المشرع أن يتدخل لمواجهة تلك الظاهرة الخطيرة حفاظاً على أمن المجتمع وسلامة أفراده. ومن هنا كان مشروع القانون المعروض والذي استهدف مواجهة تلك الظاهرة الخطيرة بتغليظ العقاب بعد أن تبين أن النصوص القائمة لم تعد كافية لتحقيق ما هو مستهدف من ردع من تسول نفسه له أن يقدم على ترويع المواطنين على هذا النحو)( ).
صحيح أن (قانون العقوبات قد اشتمل على نصوص تؤثم بعض الجرائم التي يكون استخدام القوة أو العنف أو التهديد أحد أركانها أو ملحوظاً في ارتكابها، إلا أنها لم تعد كافية في حد ذاتها للحد من هذه الظاهرة، إذ هي نصوص مقصورة على أنواع معينة من الجرائم من جهة، ولا تفرض لها العقوبات المناسبة لمواجهة الخطورة الكامنة في مرتكبيها وردعهم من جهة أخرى، فضلاً عن أن تصاعد هذه الظاهرة هو أمر طارئ وغريب على هذا المجتمع المسالم الآمن)( ).
1- موضوع هذه الدراسة:
وجريمة البلطجة إما أن تكون بسيطة أو مشددة. ولقد تكفلت الفقرة الأولى من المادة 375 مكرر عقوبات ببيان جريمة البلطجة في صورتها البسيطة؛ إذ نصت على أنه: (مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد واردة في نص آخر يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة غيره باستعراض القوة أمام شخص أو التلويح له بالعنف أو بتهديده باستخدام القوة أو العنف معه أو مع زوجه أو أحد من أصوله أو فروعه أو التهديد بالافتراء عليه أو على أي منهم بما يشينه أو بالتعرض لحرمة حياته أو حياة أي منهم الخاصة وذلك لترويع المجني عليه أو تخويفه بإلحاق الأذى به بدنياً أو معنوياً أو هتك عرضه أو سلب ماله أو تحصيل منفعة منه أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه أو لإرغامه على القيام بأمر لا يلزمه به القانون أو لحمله على الامتناع عن عمل مشروع أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أو مقاومة تنفيذ الأحكام أو الأوامر أو الإجراءات القضائية أو القانونية واجبة التنفيذ؛ متى كان من شأن ذلك الفعل أو التهديد به إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره أو بسلامة إرادته).
في حين أن جريمة البلطجة في صورها المشددة استغرقت بقية فقرات المادة 375مكرر مع المادة 375مكرر(أ) بأكملها. فقد نصت الفقرتان الثانية والثالثة من المادة الأولى على أنه:
( وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين إذا وقع الفعل أو التهديد من شخصين فأكثر أو وقع باصطحاب حيوان يثير الذعر أو بحمل سلاح أو آلة حادة أو عصا أو أي جسم صلب أو أداة حارقة أو كاوية أو غازية أو منومة أو أية مادة أخرى ضارة.
وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنين إذا وقع الفعل أو التهديد على أنثى أو على من لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة).
وأردفت هذه المادة موضحة أنه في جميع الأحوال –أي في كافة الجرائم المنصوص عليها في المادة 375مكرراً عقوبات- يقضي (بوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها عليه).
أما المادة 375مكرر(أ) فقد نصت على انه: (يضاعف كل من الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المقررة لأية جنحة أخرى تقع بناءً على ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة ويرفع الحد الأقصى لعقوبتي السجن والأشغال الشاقة المؤقتة إلى عشرين سنة لأية جناية أخرى تقع بناء على ارتكابها.
وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن إذا ارتكبت جناية الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة المفضي إلى موت المنصوص عليها في المادة (236) بناءً على ارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة فإذا كانت مسبوقة بإصرار أو ترصد تكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة وتكون العقوبة الإعدام إذا تقدمت الجريمة المنصوص عليها في المادة السابقة أو اقترنت أو ارتبطت بها أو تلتها جناية القتل العمد المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة (234).
ويقضي في جميع الأحوال بوضع المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها عليه لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنين).
3- فلسفة المشرع المصري بخصوص تجريم البلطجة:
وباستقراء النصين المتقدمين يتضح –جلياً- أن فلسفة المشرع بخصوص تجريم البلطجة تجمل في أنه أراد بسط حماية وقائية للمجتمع: حماية تمنع أن يسود قانون الغاب في المجتمع المصري، حماية ترمي إلى منع المساس الفعلي بالمصالح المشمولة بالحماية الجنائية. فقد استهدف المشرع حماية أفراد المجتمع في حياتهم وسلامة أجسامهم وحرياتهم الشخصية وشرفهم وسلامة إرادتهم؛ من خطر الاعتداء عليها. كما استهدف المشرع: تفادي إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات الأشخاص أو بمصالحهم المشروعة.
وفي هذا تقول المذكرة الإيضاحية للقانون رقم6لسنة1998م –محل الدراسة- (إن القوانين العقابية لا تتناول الجرائم التي تضر بالمصالح الاجتماعية فحسب وإنما تؤدي كذلك دوراً وقائياً في مواجهة الأفعال التي تهدد هذه المصالح من قبل أن يتم الإخلال بها بالفعل، كما أن مواثيق حقوق الإنسان قد حرصت على الاعتراف بحقه في الأمن الشخصي وكانت له حماية، فإنه تأكيداً لهذه المعاني أعد مشرع القانون المرافق الذي يضيف باباً جديداً إلى أبواب الكتاب الثالث من قانون العقوبات –الخاص بالجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس، يسمى الترويع والتخويف (البلطجة) ويتكون من مادتين.
وقد عني المشروع بالإحاطة بجميع صور الظاهرة المشار إليها وتأثيمها بفرض العقوبات المناسبة لكل صورة منها.....)
2- خطة الدراسة ومنهجها:
وعلى كل حال؛ فإنه من المناسب أن نبحث جرائم البلطجة هذه من خلال خطة البحث التالية:
الفصل الأول: البلطجة (في صورتها البسيطة).
المبحث الأول: الركن المادي.
المطلب الأول: صور البلطجة.
الفرع الأول: القوة والعنف.
الفرع الثاني: التهديد.
المطلب الثاني: النتيجة الإجرامية.
الفرع الأول: النتائج الإجرامية.
الفرع الثاني: النتائج المعنوية.
المطلب الثالث: رابطة السببية.
المبحث الثاني: الركن المعنوي والعقوبة.
المطلب الأول: الركن المعنوي.
الفرع الأول: مفردات القصد الجنائي.
الفرع الثاني: الأحكام العامة للقصد الجنائي.
المطلب الثاني: عقوبة جريمة البلطجة البسيطة.
الفصل الثاني: جرائم البلطجة المشددة.
المبحث الأول: جنح البلطجة المشددة (طبقاً للمادة 375مكرر عقوبات).
المطلب الأول: الظروف المتعلقة بالجاني والمجني عليه.
الفرع الأول: الظروف المتعلقة بالجاني (تعدد الجناة).
الفرع الثاني: الظروف المتعلقة بالمجني عليه.
المطلب الثاني: الظروف المتصلة بكيفية ارتكاب الجريمة.
الفرع الأول: ظرف اصطحاب حيوان يثير الذعر.
الفرع الثاني: حمل سلاح أو أداة كهربائية أو مواد ضارة.
المبحث الثاني: جنايات البلطجة والجنح المشددة.
طبقاً للمادة 375مكرر(أ) عقوبات.
المطلب الأول: ارتباط جريمة البلطجة بجنحة أو جناية بوجه عام.
الفرع الأول: شروط التشديد.
الفرع الثاني: الارتباط وتعدد الجناة.
المطلب الثاني: ارتباط البلطجة بجريمة الإيذاء أو القتل العمد.
الفرع الأول: ارتباط البلطجة بجريمة الإيذاء.
الفرع الثاني: ارتباط جريمة البلطجة بجناية قتل عمد.
وسنعقب ذلك بخاتمة تتضمن تقييم المواجهة الجنائية لظاهرة البلطجة؛ ومدى فاعليتها لدرء هذه الظاهرة. وسنتخذ المنهج التحليلي أساساً لدراستنا.
الفصل الأول
البلطجة (في صورتها البسيطة)
4- إجمال
4- إجمال:
لقيام هذه الجريمة يتعين أن يتوفر ركنان: ركن مادي و ركن معنوي.
وسنعرض لهما في المبحثين التاليين:-
المبحث الأول
الركن المادي
5- عناصر الركن المادي
5- عناصر الركن المادي:
يجمل الركن المادي لهذه الجريمة في ممارسة صورة أو أكثر من صور البلطجة مما يترتب عليه تأثيراً معنوياً أو مادياً للمجني عليه. ويتحلل هذا الركن إلى عناصر ثلاثة؛ هي: السلوك الإجرامي (المتمثل في صور البلطجة)؛ والنتيجة التي تترتب عليه؛ ورابطة السببية بينهما.
وسنعرض ذلك في المطالب الثلاثة التالية.
المطلب الأول
صور البلطجة
3- تحديد صور البلطجة
6- تحديد صور البلطجة:
أورد المشرع صور البلطجة على سبيل الحصر، الأمر الذي يمتنع معه القياس عليها( ).
وعلى أية حال هذه الصور هي: استعراض القوة أمام شخص؛ التلويح للمجني عليه بالعنف؛ التهديد باستخدام القوة والعنف؛ التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة.
وسنعرض لذلك في فرعين:
الأول: في القوة والعنف. والثاني: في التهديد.
الفرع الأول
القوة والعنف
7- أولاً: استعراض القوة أمام شخص.
8- ثانياً: التلويح للمجني عليه بالعنف.
9- نظرية العنف المادي.
10- نظرية العنف المعنوي.
11- تفسير العنف.
7- أولاً: استعراض القوة أمام شخص:
القوة لغة هي الطاقة على العمل، وهي مبعث النشاط والنمو والحركة، وتنقسم القوة على طبيعية وحيوية وعقلية، كما تنقسم إلى باعثة وفاعلة. وفي علم الاجتماع يقصد بها عدة معان منها: السيطرة على الآخرين والتحكم فيهم، والتدخل في حريتهم وإجبارهم على العمل بطريقة معينة( ).
ولا يخرج معنى استعراض القوة عما تقدم، فهو ينصرف إلى إظهار أي عمل من أعمال القهر أو الإرغام، ويستوي أن يستعرض الشخص القوة بنفسه أو بواسطة غيره. وفي هذه الحالة يكون هذا الغير شريكاً للجاني بالمساعدة. متى توفرت الشرائط الأخرى للاشتراك، وألا يكون مجرد أداة في يد الجاني الحقيقي.
ومن صور استعراض القوة، قيام الجاني بتحطيم أشياء أمام المجني عليه، شريطة أن يكون هذا التحطيم يحتاج إلى قدر كبير من العنف( ).
8- ثانياً: التلويح للمجني عليه بالعنف:
العنف لغة ينصرف إلى الشدة والقوة. وفي الفقه الفرنسي يعبر اصطلاح العنف (violence) عن إجبار غير جائز، في صورة فعل غير مشروع يتجسد في اعتداء على أمن أو على حرية بوحشية، أو هو أسلوب يستخدم إكراه عادي اجتماعي أو مادي، أو إكراه معنوي يتمثل في التهديد بفزع( ).
أما في الفكر العربي فإن العنف يعبر عن: محاولة لفرض موقف أو سلوك على فرد ما –يرفضه بوجه عام- بوسائل مختلفة، من بينها الضغط، التخويف...الخ.
أما مفهوم العنف في الفقه الجنائي فتتنازعه نظريتان:
الأولى:وهي التقليدية، التي يصح أن نطلق عليها: (نظرية العنف المادي).
الثانية: يصح أن نطلق عليها: (نظرية العنف المعنوي)، وهي التي كُتِب لها السيادة في الفقه المعاصر( ).
9- نظرية العنف المادي:
العنف –طبقاً لهذه النظرية- هو ممارسة الإنسان للقوى الطبيعية بهدف التغلب على مقارنة الغير.
وتشمل القوة الطبيعية: الطاقة الجسدية وقوى الحيوانات والطاقات الأخرى الميكانيكية، متى أمكن السيطرة عليها واستخدامها لخدمة إرادة الإنسان.
ولا يشترط أن تُمارس هذه القوة على جسد الإنسان الخارجي، إذ يكفي أن يشعر بها أو يدركها بأي حاسة من حواسه، عندما يستخدم أعضائه لتحقيق ما اتجهت إليه إرادته( ).
ويفرق الفقه التقليدي بين العنف المادي والعنف المعنوي:
فالأول: يتفق والإكراه المادي، إذ يحدث باستخدام قوى مادية وطبيعية.
أما الثاني: فهو يتفق والإكراه المعنوي حيث يصل عن طريق التهديد، ويفرق البعض بين العنف المطلق أي الذي يعدم الإرادة إعداماً كلياً، وبين العنف النسبي والتهديد( ).
10- نظرية العنف المعنوي:
ترتكز هذه النظرية –في تحديدها لمفهوم العنف- على تأثيره في إرادة الأفراد، باعتبار أن المشرع حينما يجرم إنما يبتغي حماية الحرية المعنوية للأفراد المتمثلة في حرية الإرادة، وبه فإن العنف يتحقق بأية وسيلة يكون من شأنها التأثير أو الضغط أو الإكراه على إرادة الغير، وطبقاً لهذه النظرية يتحدد العنف في تنازع أو صراع بين إرادتين، ومحاولة تغليب إرادة الجاني على إرادة المجني عليه( ).
فالعنف –طبقاً لهذه النظرية- ينصرف إلى كل سلوك –ما عدا التهديد- يؤدي إلى الضغط على الإرادة، وعليه فإن العنف يشمل كافة المؤثرات –عدا التهديد- التي من شأنها تحقيق ضغط إرادي، وذلك مثل القوى الجسدية والطبيعية والنفسية( ).
11- تفسير العنف:
يمكننا أن نقسم التفسيرات المقول بها للعنف إلى: تفسيرات تاريخية وأخرى اجتماعية.
والتفسيرات التاريخية: تفسر العنف بارتداد الإنسان إلى (البدائية)؛ حسب تعبير أصحاب هذه التفسيرات. فهذه البدائية تتفجر فيه حينما يمر الإنسان بظروف أو أوضاع تخرجه من قبضة العادات والتقاليد التي كانت تكبت وتضغط على مشاعره وغرائزه( )، فتنطلق هذه المشاعر وتلك الغرائز في صورة من صور العنف.
أما التفسيرات الاجتماعية: فترد العنف إلى الكبت الاجتماعي، باعتباره كبت مصطنع يحمل الفرد ثائرته بسلوك منحرف، ناتج عن الضغط الاجتماعي الواقع عليه( ).
غير أننا نرى أنه من الممكن تفسير العنف بأنه ناتج عن استعداد طبيعي لدى شخص تأثر بالظروف التي عاش فيها والبيئة والمناخ المحيط به. فالعنف ولئن كان يتم تفجيره لدى الشخص نتيجة تعرضه لموقف معين أو وضع ما، إلا أنه يتعين أن يسبق ذلك ويفضي إليه استعداد شخصي لدى الفرد. وبعبارة أخرى إذا قيل إن الظروف الاقتصادية الصعبة أو البطالة أو الفقر –على سبيل المثال؛ لا الحصر- تؤدي إلى السلوك العنيف فإن هذه الظروف لا تؤدي إلى ذلك بالنسبة لكل الأشخاص الذين يمرون بها، فالبعض يفضل عدم الانحراف بسلوكه عن السلوك المعتاد، والبعض الآخر يندفع وراء غرائزه ومشاعره البدائية فتفرز هذا السلوك العنيف.
وملاك القول إننا نميل إلى الأخذ بتفسير مختلط يجمع بين الاستعداد الشخصي لدى الفرد للعنف والظروف البيئية المحيطة به. وبعبارة أخرى لا يكفي أن يكون الشخص لديه استعداد فطري للعنف، بل يتعين أن يساهم في تفجيره ظروف وملابسات موقف معين أو مناخ ما، أحاط بهذا الشخص ففجر طاقته البدائية في صورة من صور العنف.
الفرع الثاني
التهديد
12- أولاً: التهديد باستخدام القوة والعنف.
13- ثانياً: التهديد بالافتراء.
14- ثالثاً: التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة.
14م- تطبيقات قضائية.
12- أولاً: التهديد باستخدام القوة والعنف.
ومؤدى هذه الصورة أن يقوم الجاني بتوجيه وعيد إلى شخص ما. وتتحلل هذه الصورة إلى ثلاثة عناصر: أطراف التهديد؛ ومضمونه؛ ومحله. أما بالنسبة لأطراف التهديد فهما: الجاني والمجني عليه، أي المُهدِد والمُهَدد. أما مضمونه فينصرف إلى الوعيد باستخدام القوة أو العنف. ولقد سبق الإلماح إلى معنى القوة والعنف لذا نحيل القارئ إلى هذا المعنى وذاك، منعاً للتكرار( ). وأما محل التهديد فقد حدده المشرع بشخص المجني عليه ذاته، أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه( ).
13- ثانياً: التهديد بالافتراء:
وهذه الصورة للبلطجة تتفق مع الصورة السابقة فيما يتعلق بأطراف التهديد ومحله فأطرافه هما: المُهدِد والمُهَدد أي الجاني والمجني عليه، ومحله هو الشخص المجني عليه أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه.
أما مضمون هذه الصورة للبلطجة فهو محور الخلاف بين الصورتين:
ففي الصورة السابقة يتعلق التهديد باستخدام القوة أو العنف، أما في هذه الصورة فينصرف إلى التهديد بالافتراء بما يشين أي بما يعيب أو يقبح أو يشوه( ).
ومؤدي هذه الصورة أن يقوم الجاني بتوجيه وعيد بأن يختلق وقائع –ينسبها للمجني عليه أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه- تؤدي إلى تشويه السمعة.
والافتراء هنا يجد حده العلى في الوقائع التي تعتبر جرائم وتستوجب عقاب لمن ستُسنَد إليه، أما حده الأدنى فيتمثل في الوقائع غير المحددة التي تؤدي إلى احتقار مَن ستسند إليه عند أهل وطنه.
وبين هذين الحدين توجد منطقة الافتراء بوقائع محددة توجب احتقار مَن ستسند إليه في مجتمعه الخاص. وسواء في الافتراء أن تكون الوقائع محددة أو غير محددة، طالما أنها تحط من قدر مَن ستسند إليه أو تخدش شرفه واعتباره، بأي وجه من الوجوه.
ومفاد ما تقدم أن تعبير 0ما يشينه) الذي استخدمه المشرع واسع يقبل احتواء وقائع مختلفة، بما يدخل في نطاق جريمتي القذف( ) والسب( )، إذا المُهدِد (الجاني) في جريمة البلطجة نفذ وعيده وأسند هذه الوقائع فعلاً للمجني عليه.
وعليه فإن هذه الصورة للبلطجة تتمثل –على سبيل المثال- في: اختلاق وقائع مؤداها أن المجني عليه –والفرض أنه موظف عام- تقاضى مبلغاً معيناً مقابل قيامه بعمل من أعمال وظيفته، أو أنه اختلس مالاً من عهدته. أو أن بنت المجني عليه –والفرض أنها فتاة- تعاشر رجلاً معاشرة غير شرعية. أو أن ابن المجني عليه يعاشر خادمته البالغة. أو أن والد المجني عليه فر من مستشفى المجاذيب، أو أنه مصاب بأمراض زهرية أو معدية كالإيدز. أو أنه طبيب يتعمد إطالة أمد العلاج بهدف الحصول على أرباح أكبر. أو أنه محامٍ يتاجر في مصالح موكليه. أو أنه قاضٍ يجمع بين القضاء وبين المحاماة( ). أو أنه تاجر قد أشهر إفلاسه. أو أنه يتسمى باسم غير اسمه الحقيقي. أو أنه ارتد عن دين الإسلام. كما تتوفر صورة البلطجة –محل الدراسة- إذ تجسد مضمون التهديد في أن الجاني سينعت المجني عليه بأنه مرتشياً أو أن والده مجنوناً، أو أن بنته أو زوجته فاسقة، أو أن ابنه مختل العقل.
14- ثالثاً: التهديد بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة:
في هذه الصورة ينصرف الوعيد إلى التعرض لحرمة الحياة الخاصة للمجني عليه أو لزوجه أو أحد من أصوله أو فروعه. ويحمي المشرع –هنا- الحياة الخاصة من خطر الاعتداء عليها. والحياة الخاصة حسب تعريفنا لها: هي نطاق يمارس فيها المرء حياته في سكينة وسرية، ومتحرراً من القيود التي تعرفها الحياة العامة خارج المسكن( ). وعليه فإن الحياة الخاصة تشمل على سبيل المثال:
1- احترام المنزل( ).(respect du domicile) أو حرية المسكن( ) (la liberté de domicile).
2- سرية الرسالات أو المراسلات( ) (Secret de la corr. espondance).
3- ألفة الحياة الخاصة والحياة الأسرية( ) (familiales).
4- الحق في الصورة( ) (le droit à l'image).
5- الثروة الشخصية( ).
وتأتي حماية الحياة الخاصة من (البلطجة) ضمن منظومة عامة لحماية الحياة الخاصة في النظام القانوني المصري. إذ أكد الدستور المصري على أن (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون. وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الإطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محدودة ووفقاً لأحكام القانون) (م45).
وزيادة في توفير أكبر حماية ممكنة للحياة الخاصة اعتبر المشرع الدستوري أن كل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين يشكل جريمة تستعصي الدعوى الجنائية، وكذا الدعوى المدنية الناشئتان عنها على الخضوع لأحكام التقادم المسقط، كما أن من وقع عليه الاعتداء تكفل له الدولة تعويضاً عادلاً (م57 من الدستور).
ولقد سارع المشرع الجنائي إلى ترجمة تصور المشرع الدستوري لحرمة الحياة الخاصة، فتصدى –المشرع الأول- إلى إدخال بعض صور الاعتداء على الحياة الخاصة في دائرة التجريم والعقاب( ).
وها هو ذا المشرع الجنائي يستكمل حلقات الحماية الجنائية للحياة الخاصة –بموجب القانون رقم6 لسنة1998- بتوفير حماية وقائية من الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة؛ من خطر الاعتداء. إذ اعتبر مجرد التهديد بالتعرض للحياة الخاصة صورة من صور البلطجة التي تستأهل الجزء الجنائي: عقوبة وتدبيراً؛ على النحو الذي سنفصله عند الحديث عن الجزاء الجنائي لهذه الجريمة( ).
وترتيباً على ما تقدم يعتبر تهديداً بالتعرض لحرمة الحياة الخاصة أن يتوعد الجاني المجني عليه بما يلي:
1- أن يتصنت على مكالمته التليفونية.
2- أن يقوم بتصوير زوجة المجني عليه مرتدية ملابس البحر؛ ونشرها في بعض الصحف أو المجلات.
3- أن يسعى للوصول لمعرفة حجم ثروة والد المجني عليه ومفرداتها، لنشرها في الصحافة أو بأية طريقة من طرق النشر.
4- أن يقوم بالإطلاع على مراسلات المجني عليه الخاصة.
14م- تطبيقات قضائية:
- ولئن كانت جريمة البلطجة من الجرائم المستحدثة بموجب القانون رق6 لسنة1998م؛ فإن ذلك لا يمنع من الاسترشاد بما استقر عليه القضاء بشأن مدلول المصطلحات التي استخدمها المشرع بصدد صياغة أركان هذه الجريمة.
- وبناءً على ذلك؛ فإننا نضع تحت بصر القارئ هذه المجموعة من الأحكام التي تساهم في توضيح أركان جريمة البلطجة.
- فقد قضى بخصوص تحديد مدلول التهديد بأن:-
* المقصود بالتهديد بإفشاء أمور أو نسبة أمور مخدشة بالشرف المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة327 عقوبات، هو إفشاء أمور لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه أو أوجبت احتقاره عن أهل وطنه، وهي الأمور التي أشير إليها في جريمة القذف المنصوص عنها في المادة302 من قانون العقوبات، والتهديد في هذا المعنى يشمل التبليغ عن جريمة سواء أكانت صحيحة وقعت بالفعل أو كانت مختلقة. (21/5/1956 أحكام النقض س7 ق213 ص758)
* لا ضرورة لكي تنطبق المادة284 عقوبات أن يبين المهدد للمجني عليه الأمور الشائنة التي يريد إفشائها، بل أن مجرد التلميح بها يكفي لتوقيع العقاب، ولا ضرورة لأن تذكر المحكمة في الحكم الذي يصدر بالعقوبة في جريمة تهديد الأمور الشائنة التي هدد المتهم المجني عليه بها، لأن هذه المسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها. (14/3/1914 الشرائع س1 ص117).
* من الخطأ القول بأن الفقرة الأخيرة من المادة 384ع لا تنطبق إلا في صورة ما يكون التهديد هو بالتعدي على الأشخاص أو إيذائهم بل الصحيح أنها تنطبق على جميع الجرائم التي يهدد به ضد النفس كانت أو ضد المال مادامت تلك الجرائم لا تبلغ في الجسامة درجة الجرائم المشار إليها في الفقرات الثلاث الأولى من تلك المادة. (19/3/1931 مجموعة القواعد القانونية ج2 ق211 ص269).
*طلب المتهم من المجني عليه الامتناع عن التكلم في حق أسياده في الأمور البطالة، متى كانت هذه الأمور معلومة ومعينة بينهما يعتبر طلباً وتكليفاً بأمر، وعليه يعتبر التهديد بالقتل المصحوب بهذه العبارة جناية طبقاً للمادة284/1 عقوبات. (31/1/1922 المحاماة س2 ص455).
* إنه غير ضروري في التهديد أن يكون خطاب التهديد مرسلاً لنفس الشخص المهدد، ولكن إذا أرسل الخطاب إلى شخص لا هو رسول لتوصيله ولا هو قريب للشخص المهدد حتى يحمله عامل المودة إلى توصيله فلا عقاب. (13/2/1952 الشرائع س2 ص177).
* إن المادة327 من قانون العقوبات إذ نصت على عقاب من هدد غيره كتابة بارتكاب جريمة ضد النفس والمال –إذ كان التهديد مصحوباً بطلب أو بتكليف بأمر- لم توجب بصيغتها العامة أن تكون عبارة التهديد دالة بذاتها على أن الجاني سوف يقوم بنفسه بارتكاب الجريمة إذا لم يجب إلى طلبه، بل يكفي أن يكون الجاني قد وجه التهديد كتابة إلى المجني وهو يدرك أثره من حيث إيقاع الرعب في نفسه وأنه يريد تحقيق ذلك الأمر بما قد يترتب عليه أن يذعن المجني عليه راغماً إلى إجابة الطلب بغض النظر عما إذا كان الجاني قد قصد إلى تنفيذ التهديد فعلاً ومن غير حاجة إلى تعرف الأثر الفعلي الذي أحدثه التهديد في نفس المجني عليه ولا عبرة بعد ذلك بالأسلوب أو القالب الذي تصاغ في عبارات التهديد متى كان المفهوم منها أن الجاني قصد ترويع المجني عليه وحمله على أداء ما هو مطلوب. (17/11/1974) أحكام النقض س25 ق161 ص746).
* القصد الجنائي في جريمة التهديد يتوافر متى ثبت للمحكمة أن الجاني ارتكب التهديد وهو يدرك أثره من حيث إيقاع الرعب في نفس المجني عليه وأنه يريد تحقيق هذا الأثر بما قدر يترتب عليه أن يذعن المجني عليه راغماً إلى إجابة طلبه وذلك بغض النظر عما إذا كان قصد إلى تنفيذ التهديد فعلاً ومن غير حاجة إلى تعرف الأثر الفعلي الذي أحدثه التهديد في نفس المجني عليه ولا يلزم التحدث استقلالاً عن هذا الركن بل يكفي أن يكون مفهوماً من عبارات الحكم صراحة عبارات التهديد وظروف الواقعة كما أوردها الحكم كما لا يعيب الحكم إغفاله التحدث عن أثر هذا التهديد في نفس المجني عليه. (21/4/1969 أحكام النقض س20 ق106 ص509، 11/6/1963 س14 ق101 ص521. وفي نفس المعنى: نقض1/3/1956 أحكام النقض س7 ق112 ص379).
* تقدير قيام التهديد مرجعه على محكمة الموضوع تستخلصه من عناصر الدعوى المطروحة أمامها ولا معقب عليها في ذلك ما دام استخلاصها سائغاً ومستنداً إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطلق ولها أصلها في الأوراق. (26/6/1967 أحكام النقض س18 ق268 ص1264).
* تقدير قيام التهديد مرجعه إلى محكمة الموضوع تستخلصه من عناصر الدعوى المطروحة أمامها ولا معقب عليها في ذلك ما دام استخلاصها سائغاً ومستنداً إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطلق ولها أصلها في الأوراق. (26/6/1967 أحكام النقض س18 ق268 ص1264).
* يكفي لتوفر القصد الجنائي في جريمة التهديد أن يعلم الجاني المهدد أن قوله أو كتابته من شأن أيهما أن يزعج المجني عليه في حالة التهديد البسيط أو يكرهه –رغم إرادته- على الفعل المطلوب في صورة التهديد المصحوب بطلب أو بتكليف بأمر. (31/10/1929 مجموعة القواعد القانونية ج1 ق309 ص357).
* تنطبق المادة 284 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون نمرة 28 لسنة 1910 على الدائن الذي يهدد مدينه بالقتل إن لم يقم بوفاء ما عليه من الدين لأنه ليس من أركان الجريمة المنصوص عليها في المادة المذكورة أن يكون الطلب غير شرعي في ذاته. (7/11/1914 المجموعة الرسمية س16 ق12 ص16).
* متى كان الحكم قد بين واقعة الدعوى بما تتوافر به لأركان جريمة التهديد التي دان الطاعن بها وأورد عليها أدلة تؤدي إلى ما رتبه عليها وأشار إلى عبارات التهديد فقال: "وحيث أن وقائع الدعوى تتحصل على ما جاء بأقوال المجني عليه من أنه تلقى خطاب التهديد المؤرخ... والذي ورد فيه أنه إذا لم يقم بإبرام الصلح بينه وبين المتهم بقتل ولديه فإنه سيتسبب في أن يجني على ولديه الآخرين، فإن مفاد هذا الذي أورده الحكم أن الجريمة المهدد بها هي قتل ولديه الآخرين، وهو ما قرره المجني عليه في التحقيق على ما يبين من المفردات التي أمرت المحكمة بضمها تحقيقاً لهذا الوجه من الطعن، لما كان ذلك، وكان يكفي في بيان التهديد أن يكون الحكم أشار إلى العبارات التي هدد الطاعن بها المجني عليه. (5/6/1978 أحكام النقض س29 ق107 ص566).
* يكفي في بيان ماهية الأمور المهدد بها أن يكون الحكم قد أشار إلى العبارات التي هدد بها المتهم مصرفاً من المصارف واقتبس فحواها من الورقة المكتوبة بخطه والتي هدد شفوياً بعض موظفي المصرف بنشرها إن لم يعطه المصرف ما يطلب، وما دامت هذه الورقة مودعة ملف الدعوى فقد أصبحت بهذا الإيداع جزء من الحكم يمكن الرجوع إليه عند تحري التفصيلات. (22/2/1932 مجموعة القواعد القانونية ج2ق331 ص466).
- أما التهديد بالافتراء؛ فمما يساهم في تحديد معالمه:
استقراء قضاء محكمتنا العليا بخصوص التفرقة بين حق الأفراد في الشكوى وحقهم –بل واجبهم- في التبليغ عن الجرائم من جانب و القذف والسب من جانب آخر؛ ومن هذا القضاء ما يلي:
* من المقرر أن مجرد تقديم شكوى في حق شخص إلى جهات الاختصاص وإسناد وقائع معينة إليه لا يعد قذفاً معاقباً عليه مادام القصد منه لم يكن إلا التبليغ عن هذه الوقائع لا مجرد التشهير للنيل منه، وأن استخلاص توفر ذلك القصد أو انتفائه من وقائع الدعوى وظروفها من اختصاص محكمة الموضوع دون معقب في ذلك ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر عقلاً مع هذا الاستنتاج. (15/4/1979 أحكام النقض س30 ق101 ص481، 29/11/1971 س22 ق163 ص669، 11/5/1974 س15 ق68 ص343) .
* التبليغ عن الجرائم حق بل واجب على الناس كافة، فلا يجوز العقاب عليه إلا إذا كان مقروناً بالكذب وسوء النية، أو إذا كان المقصود منه جعله علنياً لمجرد التشهير بالمبلغ في حقه. فإذا كان الحكم قد أدان المتهم بالكذب في حق المجني عليه وعائلته في بلاغ نسب إليه فيه أنه يدير منزلاً للدعارة السرية وأن زوجته مشبوهة، مستنداً في ذلك إلى أن الشاهد الذي سئل البوليس في هذا البلاغ كذب مقدمه فحفظ بلاغه، وإلى أن التحقيق الذي يحصل أمام البوليس وتسمع فيه شهود يعتبر علنياً، فإنه يكون قاصراً لعدم استظهاره أن المتهم إنما كان يقصد ببلاغه مجرد التشهير بالمبلغ في حقه. (8/11/1948 مجموعة القواعد القانونية ج7 ق682 ص644).
المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية
15- جرائم البلطجة وجرائم الخطر.
16- تساؤل.
17- جريمة البلطجة وجرائم الضرر.
18- تصنيف النتائج الإجرامية لجرائم البلطجة.
15- جرائم البلطجة وجرائم الخطر:
النتائج الإجرامية في جريمة البلطجة –بوجه عام- تتمثل في العدوان المحتمل على المصالح المحمية، أي وقاية هذه المصالح من الضرر الفعلي؛ وبعبارة أخرى جريمة البلطجة تتدرج –بصفة عامة- تحت لواء جرائم الخطر( ).ومن المعلوم أن جرائم الخطر تنشطر إلى جرائم خطر مجرد وجرائم خطر فعلي. ويكتفي بالنسبة لجرائم الخطر المجرد بارتكاب السلوك المجرد، إذ يفترض المشرع تحقق الخطر لمجرد تحقق السلوك، في حين أن المشرع يتطلب بخصوص جرائم الخطر الفعلي –بجانب ارتكاب السلوك المجرم- تحقق نتيجة متمثلة في حالة خطر حقيقي يمس المصلحة المشمولة بالحماية( ).
16- تساؤل:
والتساؤل الآن: إلى أي نوع من جرائم الخطر تنتمي جرائم البلطجة بوجه عام؟.
في اعتقادنا أن جرائم البلطجة –بصفة عامة- تنتمي إلى طائفة جرائم الخطر الواقعي؛ إذ لم يكتف المشرع بتجريم صور البلطجة وإنما تطلب أن يكون من شأن حصول أية صورة من هذه الصور: "إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره أو سلامة إرادته (م375 مكرراً من قانون العقوبات).
17- جريمة البلطجة وجرائم الضرر:
إذا كان كذلك بالنسبة لمعظم النتائج الإجرامية التي يتطلب حصولها كأثر لصور السلوك الإجرامي في جريمة البلطجة؛ بيد أن المشرع تطلب –أيضاً- إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه أو مصالحه (م375 مكرراً من قانون العقوبات).
ولا شك –في نظرنا- أن هاتين الجريمتين تشكلان ضرراً فعلياً؛ والمشرع هنا تطلب الإضرار الفعلي بالمصلحة محل الحماية الجنائية. وعليه فإن جريمة البلطجة التي تتحقق بشأنها إحدى هاتين النتيجتين تدخل ضمن زمرة جرائم الضرر( ).
وترتيباً على ما تقدم يمكننا القول بأن جريمة البلطجة هي جريمة مختلطة، أي بعض صورها تشكل جريمة خطر، والبعض الآخر يشكل جريمة ضرر.
18- تصنيف النتائج الإجرامية لجرائم البلطجة:
جلي مما تقدم أن النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة يمكن تصنيفها إلى: نتائج تشكل ضرراً على المصالح المشمولة بالحماية الجنائية؛ وأخرى تقف عند حد خطر حدوث الضرر. وإضافة إلى ذلك يمكننا تقسيم النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة إلى نتائج مادية وأخرى معنوية. وسنفصل ذلك في الفرعين التاليين:
الفرع الأول
النتائج المادية
19- المقصود بالنتائج المادية.
20- أولاً: إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه.
21- ثانياً: إلحاق الضرر بمصلحة للمجني عليه.
19- المقصود بالنتائج المادية:
ونقصد بالنتائج المادية تلك التي تمس ممتلكات أو مصالح المجني عليه. ولقد عبر المشرع عن النتائج المادية بقوله: "إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته –أي ممتلكات المجني عليه- أو مصالحه".
20- أولاً: إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه:
تتحقق هذه النتيجة متى أسفر سلوك الجاني عن الانتقاص من قيمة شيء من ممتلكات المجني عليه فقدانه لصلاحيته كلية أو جزء منها. وإذا كانت كلمة شيء لغة: تتسع لكل ما هو موجود؛ أو كل ما يتصور ويخبر عنه( )؛ غير أن المشرع حدد الشيء بأنه من الممتلكات. ويستوي –في نظرنا- أن يكون الشيء من المنقولات أو العقارات. كما يستوي أن تكون للشيء قيمة مادية –كالمجوهرات والمصوغات- أو قيمة أدبية محضة كالتذكارات التي لا تقوم بنقود، أو الخطابات العائلية.
21- ثانياً: إلحاق الضرر بمصلحة للمجني عليه:
تتحقق هذه النتيجة متى ترتب على السلوك الإجرامي الانتقاص أو إهدار كلي أو جزئي لمصلحة –أي منفعة أو فائدة- للمجني عليه. ويشترط –في نظرنا- أن تكون المصلحة مشروعة؛ أي يقرها القانون.
أما إذا كانت المصلحة غير مشروعة؛ فلا تقوم الجريمة محل البحث( ). كما لو كانت مصلحة المجني عليه التي لحقها الضرر –تتمثل في عدم منافسته في التجارة التي يمارسها؛ لأن النظام العام الاقتصادي للبلاد يسمح بمثل هذه المنافسات.
وعليه فإن هذه الجريمة تقع متى نتج عن السلوك الإجرامي –محل البحث- الإضرار بمصلحة مشروعة، كما لو ترتب على تهديد الجاني للمجني عليه: عدم تقدم هذا الأخير لوظيفة شاغرة معلن عنها، أو عدم التقدم لمنافسته للترشيح لعضوية مجلس الشعب أو الشورى.
الفرع الثاني
النتائج المعنوية
22- المقصود بالنتائج المعنوية.
23- أولاً: تعريض حياة المجني عليه للخطر.
24- ثانياً: تعريض سلامة المجني عليه للخطر.
25- ثالثاً: المساس بالحرية الشخصية.
26- رابعاً: المساس بالشرف أو الاعتبار.
27- خامساً: المساس بسلامة الإرادة.
22- المقصود بالنتائج المعنوية:
تنصرف النتائج الإجرامية المعنوية للجريمة –محل البحث- إلى ما يمس الكيان المعنوي للجني عليه، وما يتصل به من مناخ عام للحياة في هدوء وسكينة. ولقد حدد المشرع هذه النتائج المعنوية بقوله: "إلقاء الرعب في نفس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر... أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه واعتباره أو سلامة إرادته".
وجلي من ذلك أن المشرع استهدف حماية كافة الجوانب المعنوية للإنسان. فهو من جهة يحميه من المساس بأمنه وطمأنينته وسكينته. والأمن (security / sécurité) في أساسه السيكولوجي شعور بالهدوء والطمأنينة وبعد عن القلق والاضطراب ولا شك في أن الأمن –بهذا المعنى- يمثل شعوراً ضرورياً لحياة الفرد والمجتمع، ومن أهم دواعيه: اطمئنان الإنسان على نفسه وماله وثقته باحترام حقوقه، وشعوره بالعطف والمودة ممن يحيطون به( ).
وعليه فإن كلمة أمن تستغرق الطمأنينة والسكينة. ولذا فإننا نرى أنه من قبيل التزيد النص على الطمأنينة والسكينة. والمثل يقال لما نص عليه المشرع بخصوص: اعتبار إلقاء الرعب في نفس المجني عليه ضمن نتائج السلوك الإجرامي في جريمة البلطجة. فبث الذعر والخوف في نفس المجني عليه –حسبما نرى- درجة من درجات المساس بأمنه.
وعلى أية حال سنفصل هذه النتائج فيما يلي:
23- أولاً: تعريض حياة المجني عليه للخطر:
يحمي المشرع هنا (حق الإنسان في الحياة) من التعرض للخطر. فالإنسان هو محل المصلحة المحمية هنا. فلا تمتد هذه الحماية إلى سواه من المخلوقات. ويقصد بحق الإنسان في الحياة: مصلحته في أن تظل أعضاء جسمه مؤدية لوظائفها العضوية وفقاً للقوانين الطبيعية( ). وتمتد حياة الإنسان ما بين مولده وحتى يلفظ نفسه الأخير( ).
أي حتى تتوقف نبضات قلبه ويمتنع عن الحركة تماماً( ). فالإنسان قبل مولده يكون (جنيناً)؛ وبعد أن يلفظ نفسه الأخير يكون (ميتاً) والجنين يخرج من نطاق الحماية الجنائية –هنا- لأنه لم يكتسب وصف الإنسان الحي بعد ولا تمتد الحماية الجنائية –هنا- للميت لفقدانه وصف الحياة( )،( ).ويستمر تمتع الإنسان بالحماية الجنائية طبقاً لنص المادة86- محل الدراسة- باستمرار تمتعه بالحياة حتى ولو أصابه مرض ميئوس من شفائه، يؤدي -حسب المجرى العادي للأمور- إلى الموت بعد فترة وجيزة( ).
24- ثانياً: تعريض سلامة المجني عليه للخطر:
هذه النتيجة تتحقق متى ترتب على السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: جعل سلامة جسم المجني عليه( ) مهددة بخطر الاعتداء عليها أي خطر المساس الفعلي بأنسجة جسم المجني عليه، أو التهديد بإصابته بمرض أو عجز وقتي، أو تهديد المجني عليه بهبوط مستواه الصحي: العقلي أو البدني أو النفسي؛ سواء بإصابته بمرض لم يكن موجوداً من قبل، أو تفاقم مرض كان يعاني منه فعلاً.
كما تتحقق النتيجة –محل البحث- متى كان من شأن السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: تهديد سلامة جسم المجني عليه أو صحته بحصول اعتداء فعلي على حالة الاسترخاء الطبيعي لمادة الجسم.
الجريمة محل البحث تحمي الإنسان حماية وقائية من الاعتداء الفعلي على جسده، فهي تحمي حق الإنسان في التحرر من الألم والتمتع بحالة الاسترخاء الطبيعي لمادة الجسم، وتمنع تعريض جسمه لخطر الآلام البدنية، أو مجرد تعكير حالة الاسترخاء لديه، بصورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة.
25- ثالثاً: المساس بالحرية الشخصية:
لم يتطلب المشرع هنا سلب كامل لحرية من الحريات الشخصية المكفولة للأشخاص، بل اكتفى بمجرد المساس بها.
وعليه فإذا ترتب على أية صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة المساس بحرية العقيدة أو حرية ممارسة الشعائر الدينية( ) أو حرية الرأي( ) أو حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام( ) أو حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي( ). وحرمة الحياة الخاصة، أو غيرها من الحريات الشخصية، فإن الركن المادي لجريمة البلطجة يتحقق.
26- رابعاً: المساس بالشرف أو الاعتبار:
ينصرف مدلول الشرف( )،( ) والاعتبار( ) إلى مفردات المكانة الاجتماعية التي تثبت في المجتمع الذي يحيا فيه، وهي مفردات تتشكل من خلال رصيد الشخص من الصفات الموروثة والمكتسبة ومن علاقاته بغيره من أبناء المجتمع، وعلى ضوء هذه المفردات يتحدد الوزن الاجتماعي للشخص، الذي تتعدد عناصره بقدر عدد المجتمعات التي يرتادها، يستوي في ذلك المجتمعات العائلية أو الوظيفية أو المهنية.. أو غيرها( ) ويتحقق المساس بالشرف والاعتبار بمجرد حدوث صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة، إذ تندمج النتيجة في السلوك الإجرامي( ). فمجرد حصول السلوك يفترض المشرع أن المساس بالشرف والاعتبار قد حدث.
27- خامساً: المساس بسلامة الإرادة:
الإرادة –بوجه عام- هي ظاهرة نفسية( ) ذاتية، وهي أساس العمل الإنساني، فهو بطبيعته عمل غائي؛ أي يستهدف غاية معينة من أجل مصلحة خاصة أو عامة. وتقوم الإرادة بتوجيه السلوك الإنساني نحو هذه الغاية( ). وحتى تقوم الإرادة بهذا الدور يتعين أن تكون حرة، والإرادة الحرة تتمثل في قدرة الإرادة على توجيه سلوك الإنسان للغاية التي تبتغيها لا للغاية التي تجبر عليها، سواء أكان هذا الإجبار مصدره إنسان أم آلة أم أي شيء، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، فالعبرة في انتفاء حرية الإرادة: بصلاحية هذا المصدر للتأثير عليها وتوجيهها لغاية معينة تغاير ما يبتغيه الإنسان ذاته( ).
وترتيباً على ذلك فإن الركن المادي لجريمة البلطجة تكتمل عناصره إذا: نجم عن صورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة التأثير في إرادة المجني عليه، بحيث أقدم على عمل ما كان يقدم عليه لولا هذه الصورة من السلوك. والمثل يقال إذا نجم عن السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة: امتناع المجني عليه عن عمل، ما كان يمتنع عنه في حالة غياب هذا السلوك.
المطلب الثالث
رابطة السببية
28- مشكلة رابطة السببية.
29- فبالنسبة للنتائج الخطرة.
30- أما بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة.
31- انتفاء رابطة السببية.
28- مشكلة رابطة السببية:
تشكل رابطة السببية( )(lien de causalité) عنصراً أساسياً في الركن المادي للجريمة، فإذا كانت الجريمة لا تقوم بدون ركن مادي، فإن الركن المادي لا يقوم –بدوره- بدون علاقة سببية. إذ لا يكفي لانعقاد مسئولية الجاني أن يصدر عنه سلوكاً إجرامياً، وأن تتحقق نتيجة إجرامية. وإنما يتعين أن تكون هذه النتيجة مترتبة على السلوك المذكور ومرتبطة به برابطة السببية.
وبناء عليه يتعين أن يكون السلوك الإجرامي لجريمة البلطجة متصلاً بأحد النتائج التي يتطلبها المشرع لهذه الجريمة.
وإذا كان الفكر القانوني قد اجتهد في البحث في مشكلة السببية في قانون العقوبات، فأفرز جملة من النظريات في هذا الصدد( )، بيد أن نظرية السببية الملائمة هي التي كتبت لها السيادة في الفقه والقضاء في مصر.
ومؤدى هذه النظرية إنه متى كان سلوك الجاني يصلح –في الظروف التي حصل فيها- أن يكون سبباً ملائماً لحصول النتيجة طبقاً للمجرى العادي للأمور، فإن السببية تكون متوفرة، وبعبارة أخرى تنتفي هذه السببية إذا تداخلت في إحداث النتيجة عوامل شاذة، أي غير مألوفة، لا تحصل إلا نادراً.
ويلزم لإعمال هذه النظرية على رابطة السببية في جريمة البلطجة، أن نفرق بين النتائج الخطرة والنتائج الضارة.
29- فبالنسبة للنتائج الخطرة:
فهي ليست عدواناً فعلياً على المصلحة أو الحق المشمول بالحماية الجنائية، أي ليست إهداراً فعلياً له، وإنما هي مجرد تهديد له بالإهدار، أو إهدار محتمل طبقاً للتسلسل الطبيعي للأحداث.
30- أما بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة: والتي تتمثل في إلحاق الضرر بشيء من ممتلكات المجني عليه أو مصالحه، فإنه يتعين أن يثبت أن السلوك الإجرامي تسبب في نشوء آثار تجسد فيها العدوان الفعلي الحال على المصلحة أو الحق المشمول بالحماية الجنائية.
31- انتفاء رابطة سببية: تنتفي علاقة السببية في جريمة البلطجة في حالتين:
الأولى: إذا لم يكن سلوك الجاني أحد العوامل التي أسهمت في إحداث إحدى النتائج الإجرامية لجريمة البلطجة. ويستوي في ذلك النتائج الضارة والنتائج الخطرة.
فبالنسبة للنتائج الأولى، إذا اتضح أن الأضرار التي لحقت سيارة (أ) لم يكن سببها استعراض القوة –على سبيل المثال- من جانب (ب) ولكن كان سببها اصطدام سيارة (ج) بها.فإن (ب) لا يسأل –هنا- عن جريمة بلطجة، طالما لم يثبت أن استعراض القوة نجم عنه أية نتيجة أخرى مما تستلزمه جريمة البلطجة.
أما بالنسبة للنتائج الخطرة: إذا ثبت أن إلقاء الرعب في نفس (أ) –على سبيل المثال- لم يكن بسبب التلويح له بالعنف من جانب (ب) بل كان بسبب مشاهدة (ج) الذي كان يطلب الثأر من (أ) لسبب أو لآخر، فإن جريمة البلطجة لا تتوفر ما لم ينجم عن التلويح بالعنف أية نتائج إجرامية أخرى مما تستلزمه جريمة البلطجة.
والحالة الثانية: إذا ثبت أن سلوك (س) هو أحد العوامل التي أسهمت في إحداث إحدى نتائج جريمة البلطجة، ولكن لم يكن في استطاعة (س) أن يتوقع بعض العوامل الأخرى التي أسهمت في تحقيق هذه النتيجة، فإن جريمة البلطجة لا تقوم. ومثال ذلك: أن يقوم (أ) باستعراض القوة أمام (ب)، فيدفع السيارة المملوكة لـ(ب) في الطريق العام، حيث يتصادف نشوب حرب، فوقعت قنبلة على السيارة، فحولتها إلى قطعة من حديد. فهنا نرى عدم مساءلة (أ) عن جريمة البلطجة، طالما لم تتحقق –بسبب سلوكه- نتيجة أخرى من النتائج الإجرامية لهذه الجريمة.
وجلي من ذلك أن الحالتين المشار إليهما لانتفاء ملائمة السببية تنطبقان بالنسبة للنتائج الضارة لجريمة البلطجة.
أما النتائج الخطرة فهي لا تسري عليها سوى الحالة الأولى، حيث تستقل النتائج الضارة بالحالة الثانية، على النحو السالف بيانه.