المقدمة
يثير التنظيم القانونى المصرى لجريمتى السب والقذف إشكالية تنظيم الدولة لممارسة حرية التعبير وما تتضمنه من حريات فرعية: مثل حرية الصحافة، والحق فى المعرفة، والحق فى الإعلام، والحق فى النقد. كما تثير أيضا علاقة هذا التنظيم بنوعية القيود المقبولة على هذه الممارسة ومداها. وبعبارة أخرى يبرز أمامنا – فى هذا الصدد – السؤال التالى:
إلى أى مدى استطاع المشرع المصرى أن يحدد نقطة توازن مناسبة ومعقولة ومبررة اجتماعيا (أى مقبولة دستوريا) بين هذه الحريات والحقوق من ناحية، وبين الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية من ناحية ثانية، وذلك عند تنظيمه لجريمتى السب والقذف؟
ويمكن إجمال خطتنا فى معالجة هذه الإشكالية على النحو التالى:
نفرد الفصل الأول لتبيان التنظيم التشريعى لجريمتى السب والقذف، وما يثيره من إشكاليات تفصيلية. ونبلور فى الفصل الثانى المبدأ المحورى الناظم لوجهة نظرنا، والذى يشكل نقطة انطلاق لتحديد زاوية رؤيتنا لموضوعنا. ونقصد به المبدأ القائل بأن على الدولة عند تصديها لتنظيم ممارسة الفرد لحقوقه وحرياته الأساسية أن تلتزم بالحد الأدنى المقبول فى الدول الديمقراطية. ومن ثم يترتب على ذلك ضرورة البدء بتحديد كيفية تنظيم هذه الأمور على صعيد القانون الدولى العام، وخاصة من خلال الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وتطبيقاتها القضائية؛ وهو ما يتناوله الفصل الثالث. وننتقل خطوة إضافية فى الفصل الرابع حيث نستعرض أحكام الدستور المصرى، والمبادئ التى استقرت عليها محكمتنا الدستورية العليا فى هذا المجال.
وبعد الانتهاء من تحديد الإطار العام وزاوية الرؤى ننتقل لدراسة اللوحة فى تفاصيلها؛ وذلك من خلال دراسة مقارنة للجوانب المختلفة للتنظيم القانونى لجريمتى السب والقذف فى النظم القانونية المختلفة، وخصصنا الفصل الخامس لهذه المهمة.
وبذلك نصبح مؤهلين لبلورة نظرة تقيمية لموضوع بحثنا، فنختتم دراستنا بالفصل السادس المخصص لهذا الغرض.
الفصــل الأول
تحديد نطاق الإشكالية
مقدمة:
فى البداية سنعرض للنصوص القانونية المصرية المنظمة لجريمتى السب والقذف. ثم ننتقل لصياغة ما يثيره هذا التنظيم من تساؤلات.
أولا: التنظيم التشريعى المصرى لجريمتى السب والقذف:-
1- المادة 302 من قانون العقوبات:-
“يعد قذفا كل من أسند لغيره بواسطة إحدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون أمورا لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونا أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه.
ومع ذلك فالطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة؛ لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كل فعل أسنده إليه. ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل.”
2- المادة 303 ع:-
“يعاقب على القذف بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، وبغرامة لا تقل عن 2500 جنيه وبما لا تزيد عن 7500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
فإذا وقع القذف فى حق موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة؛ كانت العقوبة الحبس مدة لا تتجاوز سنتين، وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
3- المادة 306 ع:-
“كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة معينة بل يتضمن بأى وجه من الوجوه خدشا للشرف أو الاعتبار يعاقب عليه فى الأحوال المبينة بالمادة 171 بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
4- المادة 307 ع:-
“إذا ارتكبت جريمة من الجرائم المنصوص عليها فى المواد من 182 إلى 185، 303، 306 بطريق النشر فى إحدى الجرائد أو المطبوعات رفعت الحدود الدنيا والقصوى لعقوبة الغرامة المبينة فى المواد المذكورة إلى ضعفيها.”
ثانيا: تساؤلات تمهيدية:-
ويثير هذا التنظيم التشريعى لجريمتى السب والقذف عدة أمور حول مدى دستورية عناصره المختلفة؛ وذلك على التفصيل التالى :
1- هناك مسألة أولية حول منطق التجريم ذاته، هل هناك ضرورة اجتماعية ترجح اللجوء إلى المسائلة الجنائية للحفاظ على الحق فى الشرف والاعتبار، والحق فى الخصوصية؟، وألا يكفى اللجوء إلى منطق المسائلة المدنية لتحقيق هذه الأغراض؟ (لمواجهة ظاهرة الإفراط فى التجريم، والتعسف فيه).
2- هل الأغراض المتوخاة من العقاب الجنائى بسلب الحرية (ردع عام، وردع خاص، وإعادة تأهيل الجانى) لا يمكن تحقيقها بوسائل أخرى سواء جزاء مالى جنائى أو تعويض مالى مدنى؟ (لمواجهة ظاهرة الإفراط فى العقاب السالب للحرية، والتعسف فى تقريره).
3- هل كل صور القذف والسب على قدم المساواة فيما يختص بالخيار بين الطريق الجنائى والطريق المدنى؟
4- إشكالية تحديد الموضوعات التى تؤثر فى المصلحة العامة، وما هى الضرورة الاجتماعية فى اتخاذ معيار الأشخاص وليس الأفعال لتحديدها؟
5- ما هى الضرورة الاجتماعية الداعية للخروج على القواعد العامة فى الإثبات الجنائى، ويتمثل هذا الخروج فى نقل عبء الإثبات من على جهة الاتهام ليثقل به كاهل المتهم؟
6- ما هى الضرورة الاجتماعية للتضييق من نطاق الحق فى النقد؟
7- ما هى الضرورة الاجتماعية للتضييق من نطاق قواعد الإباحة؟
8- ما هى الضرورة الاجتماعية لعدم التعويل على حسن نية القاذف أو اعتقاده فى صحة ما نسبه إلى المقذوف فى حقه؟
9- كيف يمكن إقامة التوازن بين الحق فى حماية السمعة والاعتبار، والحق فى الخصوصية من جانب، وحرية الصحافة، والحق فى الإعلام، وحـق النقد (حرية التعبير بطابعها الـمركب)؟ وأى جـانب أجـدر بتغليب حـمايته عنـد تعـذر إقـامـة هذا التوازن؟
10- ما هى الضرورة الاجتماعية الداعية إلى عدم التعويل على صحة الوقائع المنسوبة للشخصية العامة منفردة لإباحة القذف؟
وسوف نتناول هذا التنظيم من خلال هذه الإشكاليات معتمدين أساسا على المعيار الذى سنته محكمتنا الدستورية العليا؛ والقاضى باستجابة تنظيم الدولة للحريات العامة للمقتضيات الديموقراطية، وهو ما يقتضى معالجة الأمر على الصعيد الدولى، ثم على صعيد الدستور المصرى؛ لبلورة نظرة تقييمية لتلك النصوص.
الفصل الثانى
مبدأ ضرورة استجابة الدولة
عند تنظيمها للحريات العامة للمقتضيات الديموقراطية
يثير موضوع جريمة القذف إشكالية حرية التعبير وحرية الصحافة، والحق فى المعرفة والإعلام، والحق فى الخصوصية، والحق فى النقد، وبعبارة أخرى يتصل بالتنظيم الدستورى للحريات العامة باعتبار أن حرية التعبير عن الرأى هى الحرية الأصل، وهو ما يحدونا – طالما تعلق الأمر بالحريات العامة – إلى استهلال ورقتنا بالمبدأ الدستورى العظيم الذى أرسته محكمتنا الدستورية العليا، والذى يشكل فتحا باهرا ليس فقط لمجتمعنا، وإنما أيضا للمجتمع البشرى ككل، لما تمثله أحكام المحاكم الدستورية من أهمية تتجاوز الأقطار التى تنتسب إليها تلك المحاكم. كما تزداد أهمية هذا المبدأ باعتباره أداة تحليلية تساعدنا ليس فقط فى تحديد مادة بحثنا ومجالها، أو بعبارة أخرى تحديد زاوية الرؤية؛ وإنما يساعدنا أيضا فى وزن وتقييم الجوانب المختلفة للتنظيم القانونى محل البحث.
أولا: تحديد مبدأ التزام الدولة فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية بالحد الأدنى المقبول فى الدول الديموقراطية من واقع أحكام محكمتنا الدستورية:
استقر قضاء المحكمة على صياغة هذا المبدأ على النحو التالى:
“وحيث إن الدستور ينص فى مادته الأولى على أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديموقراطى اشتراكى، وفى مادته الثالثة على أن السيادة للشعب، وهو يمارسها ويحميها على الوجه المبين فى الدستور، وفى مادته الرابعة على أن الأساس الاقتصادى لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى الديموقراطى
وحيث إن مؤدى هذه النصوص – مرتبطة بالمادة 65 من الدستور – أنه فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية، فإن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها، وتتقيد هى بها، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديموقراطية باطراد فى مجتمعاتها، واستقر العمل بالتالى على انتهاجها فى مظاهر سلوكها المختلفة، وفى هذا الإطار، والتزاما بأبعاده، لا يجوز للدولة القانونية فى تنظيماتها المختلفة أن تنزل بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديموقراطية، ولا أن تفرض على تمتعهم بها أو مباشرتهم لها قيودا تكون فى جوهرها أو مداها مجافية لتلك التى درج العمل فى النظم الديموقراطية على تطبيقها، بل أن خضوع الدولة للقانون محددا على ضوء مفهوم ديموقراطى مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى تعتبر التسليم بها فى الدول الديموقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة.”1
ثانيا: تحديد نطاقه:-
يقدم هذا المبدأ المعيار المحورى الذى على هديه نستطيع محاكمة التنظيم الذى تضعه الدولة لحرية ما لتحديد مدى مشروعيته الدستورية، وعلينا فى البداية أن نقر أن هذه القاعدة يتم إعمالها فى مواجهة التشريع العادى ولا تمتد لتستخدم قضائيا فى مواجهة الدستور، حيث لا توجد رقابة قضائية على نصوص الدستور بينما توجد هذه الرقابة على التشريع العادى. وإنما تستمد وزنها من كونها أضحت مبدأ قضائيا دستوريا محليا أرسته محكمة مصرية لها وزنها واعتبارها بحكم الدستور، كما لا يوجد ما يمنع من استخدامها قضائيا لإعادة تفسير مواد الدستور لرفع تنافر بعض نصوصه مع مضمون هذه القاعدة، أو لإزالة الغموض والإبهام المكتنف بعض نصوصه استرشادا بهذه القاعدة، أو لتحديد مضمون ونطاق وحدود الحريات والحقوق الأساسية الجديرة بالحماية الدستورية.
وعند قراءة الحكم السابق بدقة يتبين لنا بيسر أن هذه القاعدة الجوهرية ثلاثية الأبعاد؛ حيث تنحل إلى ثلاث قواعد بالغة الأهمية؛ فتختص القاعدة الأولى بمستوى الحماية القانونية لحرية ما، فى حين تتمحور القاعدة الثانية حول نطاق القيود المقبولة على هذه الحرية، وأخيرا تعالج القاعدة الثالثة نطاق الحريات المشمولة بالحماية القانونية.
فيما يختص ببعد مستوى الحماية القانونية لا يجوز أن تقل الحماية التى توفرها الدولة عن الحد الأدنى من الحماية المقبولة فى المجتمعات الديموقراطية، ويفتح هذا البعد الباب لإعمال القواعد الواردة فى القانون الدولى العام، خاصة تلك المتضمنة فى الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، كما يفتح الباب للاسترشاد بالقواعد المشتركة بين النظم القانونية المختلفة على صعيد العالم؛ بوصفها تمثل الحد الأدنى المقبول.
وفيما يختص ببعد نطاق القيود المقبولة فهذا البعد إنما يعنى أن القيود المقبولة هى تلك القيود التى درج العمل على تطبيقها فى هذه النظم، ويفتح هذا البعد الباب لإعمال المعيار الثلاثى الأبعاد الخاص بالقيود المقبولة الذى بلورته المحكمة الأوروبية.
أما فيما يتعلق ببعد نطاق الحريات المشمولة بالحماية القانونية فإنه يعنى عدم إخلال التشريعات ليس فقط بالحقوق الواردة صراحة فى صلب الدستور، وإنما أيضا عليها ألا تخل بالحقوق الأخرى، والتى تشكل مفترضاً أولياً فى المجتمع الديموقراطى لقيام الدولة القانونية، والتى تعتبر ضمانة أساسية لحقوق الإنسان وكرامته الشخصية. وهذا البعد هو جوهر المبدأ المستقر لدى محكمتنا الدستورية العليا، والقائل بتقدمية الدستور، ويفتح هذا البعد الباب أمام كفالة حريات لم ترد ضمن الوثيقة الدستورية، سواء لأنها حريات تم استحداثها بعد إعلان الدستور، أو لأن المشرع الدستورى تجاهلها لسبب أو لآخر.
وحيث إن حرية التعبير تندرج ضمن الحريات الأساسية، فإن تنظيم المشرع لها يخضع لهذه القاعدة بأبعادها الثلاث، ومن ثم تضحى كافة الحقوق الفرعية المنضوية فى حق التعبير مشمولة بالحماية القانونية المبسوطة على حرية التعبير. أى أن حق المعرفة وحق النقد..الخ تستظل بتلك الحماية، كما أن مستوى الحماية المقرر فى القانون المصرى لحرية التعبير يخضع للمراجعة استنادا إلى البعد الأول، ويسرى البعد الثانى عند مراجعة القيود الواردة فى التشريع المصرى على حرية التعبير. أى أن كيفية تنظيم حرية التعبير على المستوى الدولى والإقليمى والقانون المقارن، تصلح للاستخدام مباشرة للحكم على كيفية تنظيم المشرع لجريمتى السب والقذف باعتباره قيدا على حرية التعبير، ومن هنا تأتى أهمية استعراض القضية على هذا المستوى ابتداء.
الفصل الثالث
القانون الدولى وحرية التعبير2
أولا: المواثيق الدولية والإقليمية:-
كفلت مواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية حرية الرأى والتعبير وحرية الصحافة.
1- الإعلان العالمى لحقوق الإنسان:
المادة 19:-
“لكل شخص الحق فى حرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أى تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.”
المادة 29 :-
“1- على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذى يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموا حرا كاملا.
2- يخضع الفرد فى ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التى يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق فى مجتمع ديموقراطى.”
المادة 30 :-
“ليس فى هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أى حق فى القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.”
2- العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية:
المادة 19 :-
“1- لكل فرد الحق فى اتخاذ الآراء دون تدخل.
2- لكل فرد الحق فى حرية التعبير، وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أى نوع واستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة وسواء كان ذلك فى قالب فنى أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3- ترتبط ممارسة الحقوق المنصوص عليها فى الفقرة (2) من هذه المادة بواجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك، فإنها قد تخضع لقيود معينة ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون والتى تكون ضرورية :
(أ) من أجل احترام حقوق أو سمعة الآخرين.
(ب) من أجل حماية الأمن الوطنى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.”
المادة 20 :-
“1- تمنع بحكم القانون كل دعاية من أجل الحرب.
2- تمنع بحكم القانون كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف.”
3- الميثاق الأفريقى لحقوق الإنسان والشعوب:
المادة 9 :-
“1- كل فرد له الحق فى الحصول على معلومات.
2- كل فرد له الحق فى التعبير ونشر آرائه فى إطار القانون.”
المادة 27 :-
“2- تمارس الحقوق والحريات لكل فرد مع احترام حقوق الآخرين والأمن الجماعى والأخلاقيات والصالح العام.”
المادة 29 :-
“سيكون أيضا على الفرد واجب :
3- عدم تعريض الأمن العام للدولة التى هى وطنه ومحل إقامته للخطر.”
4-الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
وتتوافر حالياً العديد من أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وتقارير اللجنة الأوروبية المعنية بحقوق الإنسان التى طبقت هذه الاتفاقية، الأمر الذى يسمح باستقراء كيفية التطبيق القضائى لحماية حرية التعبير، وحدودها ونطاقها3. تنص الفقرة الأولى من المادة 19 من الاتفاقية الأوروبية على :
“لكل فرد الحق فى حرية التعبير. وهذا الحق يتضمن الحق فى تبنى الآراء وتلقى ونقل المعلومات والأفكار بدون تدخل من قبل المصلحة العامة وبعض النظر عن الحدود.”
ووفقا للفقرة الثانية من هذه المادة، فإن ممارسة هذه الحقوق يمكن أن تخضع “للأوضاع والشروط والقيود والجزاءات المنصوص عليها فى القانون والضرورية فى مجتمع ديموقراطى، وذلك من أجل حماية مختلف المصالح الفردية والعامة.
ثانيا: تطبيقات المحاكم والأجهزة الدولية الأخرى والمتعلقة بحرية التعبير:-
من استعراض التطبيقات القضائية الدولية لمضمون ونطاق حرية التعبير نستخلص ستة مبادئ هامة ذات صلة بموضوعنا؛ وهى :-
1- التعسف فى الجزاء يخل بجوهر حرية التعبير طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة.
2- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى.
3- القيود المقبولة على حرية التعبير.
4- امتياز الأمور المتصلة بالشأن العام.
5- خضوع السلطة التقديرية للدولة فى تنظيم الحريات للرقابة القضائية الصارمة.
6- خضوع الحرية/ التقييد لقاعدة التفسير الموسع/ الضيق.
وسنعالج كل مبدأ فيما يلى:
1- التعسف فى الجزاء يخل بجوهر حرية التعبير طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة:
“تمنح حرية الصحافة للجمهور واحدة من افضل الأساليب لاكتشاف وتشكيل الرأى حول أفكار قادتهم السياسية واتجاهاتهم، وتفسح – وبشكل خاص – أمام السياسيين الفرصة ليعبروا ويعلقوا على ما يشغل بال الرأى العام، وهى بهذا تجعل فى مكنة كل فرد المساهمة فى الحوار السياسى الحر والذى يعد جوهر مفهوم المجتمع الديموقراطى.”4 وفى هذا الصدد فإن الجزاءات التى توقع ضد الصحافة لقيامها بنشر المعلومات والآراء حول الموضوعات المرتبطة بالمصلحة العامة لا يمكن تقبلها إلا فى حدود ضيقة ويتأتى هذا مما قد تثيره من احتمال “اثباط همم الصحفيين عن المساهمة فى المناقشة العامة فى الشئون التى تؤثر فى حياة الجماعة.”5
2- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى:
تضمنت القوانين الوضعية للعديد من الدول الديموقراطية حماية قانونية لحرية التعبير، بوصفها من الحريات العامة. ويتوافر عدد هائل من الدعاوى التى تسنى فيها للمحاكم الدستورية المختلفة أن تتصدى لفحص حرية التعبير مجلية أهم المبادئ الدستورية المرتبطة بها.
ومن أبرز وأهم التطبيقات القضائية ذات الصلة بموضوعنا، التفسير الذى تبنته المحكمة الهندية العليا، حيث قضت : تشكل الصحافة السلطة الرابعة فى الدولة ومع أن الدستور الهندى لم يتضمن نصاً صريحاً يقضى بكفالة حرية الصحافة إلا أن المحكمة قررت امتداد الحماية الدستورية إليها بطريقة ضمنية وذلك استناداً إلى الحماية والكفالة الدستورية الممنوحة لحرية التعبير، وذهبت المحكمة إلى إجلاء الأغراض الاجتماعية التى تحققها حرية التعبير وحددتها المحكمة فى أربعة أغراض عريضة هى :
1- مساعدة الفرد فى التحقيق الكامل لذاتيته.
2- المساعدة فى كشف الحقيقة.
3- تعظيم قدرة الفرد على المساهمة فى المجتمع الديموقراطى.
4- توفير آلية لتحقيق توازن معقول بين الاستقرار والتغيير الاجتماعى.
أن ما تضمنه هذا الحكم من تفسير إنما يصف بدقة الدور البارز فى النظام الديموقراطى الذى تضطلع به حرية التعبير.
3- القيود المقبولة على حرية التعبير:
من مطالعة المواثيق المشار إليها فيما سبق يتضح أن جميعها قد أخذت بالمعيار الثلاثى الأبعاد عند تحديد مدى مشروعية القيود المفروضة على حرية التعبير، والمتمثل فى:
1- أن أى قيد يجب أن ينص عليه القانون.
2-يجب أن يستهدف القيد غرضاً من الأغراض المشروعة المحددة حصرا فى نص المعاهدة.
3- يجب أن يكون القيد ضرورياً فى سياق النظام الديموقراطى.6
وعلى الرغم من اختلاف طريقة صياغة القيود المقبولة فى الميثاق الأفريقى مقارنة بالمواثيق الأخرى ومع هذا يظل من الممكن تفسير الصياغة الأفريقية بطريقة تتضمن متطلبات مشابهة.7
3-1) – وجود ضرورة مجتمعية للقيد أو الجزاء:
لا يشترط لاعتبار التقييد “ضرورياً” أن يثبت أنه “لا يمكن الاستغناء عنه” وإنما يعنى وضعاً أقل من ذلك وفى نفس الوقت أكثر من مجرد كونه “معقول” أو “مقبول”؛ إذ ينبغى إقامة الدليل على وجود “احتياج مجتمعى ملح” لهذا التقييد.
3-2) – تناسب القيد/ الجزاء مع الغرض المشروع الذى يستهدفه:
وعلاوة على كل ما تقدم يجب أن يكون التقييد متناسباً مع الغرض المشروع المقصود.
كما يجب أن تكون الأسباب المبنى عليها هذا التقييد منتجة وكافية8. وفى هذا السياق قضت المحكمة الأمريكية بأن التقييد يجب أن يكون “ضرورياً لتأمين” غرض من الأغراض المشروعة، ويجب أن ينسجم هذا التقييد مع معايير الضرورة كما حددتها المحكمة الأوروبية.9
وكان هذا النهج هو ذات النهج الذى اتبعته العديد من المحاكم الدستورية، وخير مثال على ذلك ما قضت به المحكمة الأمريكية العليا من أنه “حتى وبالرغم من أن غرض الحكومة قد يكون مشروعا وقويا، فإن هذا الغرض لا يتأتى أن يتحقق باستخدام وسائل تخنق بشكل واسع الحريات الشخصية الأساسية، طالما يمكن تحقيق هذا الغرض بقدر أقل من التقييد.”10
3-3) – ضرورة توافق القيد/ الجزاء مع متطلبات النظام الديموقراطى:
تنص المواثيق الأربعة سالفة الذكر على شرط توافق التقييد مع النظام الديموقراطى.11 ومن ثم فإن متطلبات النظام الديموقراطى سوف تكون هى المحور لتفسير ما تقصده هذه المواثيق لتبيان مدى مشروعية أى قيد. ويتضح من مطالعة هذه المواثيق أن ابرز هذه المتطلبات إنما هو الإقرار بأن أفضل طريقة لتأمين صيانة وتحقيق حقوق الإنسان وحرياته الأساسية إنما يعتمد من ناحية على ديموقراطية سياسية فعالة، ويعتمد من ناحية ثانية على توافر التفاهم المشترك ومراعاة حقوق الإنسان.12
4- امتياز الأمور المتصلة بالشأن العام:
وحتى يتسنى تحديد مدى “كفاية” الأسباب المقدمة لتبرير التقييد على حرية التعبير، عولت المحكمة الأوروبية على الوجه المتعلق بالمصلحة العامة فى الدعوى13. فعندما تكون المعلومات المعرضة للتقييد متعلقة باهتمام ذو طبيعة عامة وهذه الطبيعة ليست محل منازعة، فلا يسمح بتقييدها إلا عندما يتوافر دليل قاطع بأن إفشاءها من شأنه أن ينجم عنه عواقب واضحة تبرر تخوفات الدولة14. كما أن مستوى التقييد يجب أن يكون متناسباً، فلا يقبل بشكل قاطع التقييد المطلق، فالمحكمة لا تجيز التدخل فى حرية التعبير إلا إذا اقتنعت بأن هذا التدخل ضرورى بالنظر إلى الحقائق والملابسات السائدة فى كل حالة على حدة.15
5- خضوع السلطة التقديرية للدولة فى تنظيم الحريات للرقابة القضائية الصارمة:
فى كل الأحوال وحينما ترغب دولة فى فرض قدر من التقييد على حق من حقوق الإنسان، أو على حرية من الحريات الأساسية، فإنه تتوافر سلطة تقديرية للحكومة؛ تتمثل فى سلطتها فى تقدير ضرورة هذا التقييد. ومع هذا، فإنه من المقطوع به أن لهذه السلطة التقديرية حدود لا يجوز للحكومة تجاوزها، ومن ثم تخضع لشكل من الرقابة، مثلما ذهبت المحكمة الأوروبية بقولها بأن هذه السلطة التقديرية “تتواجد إلى جانبها الرقابة الأوروبية”.16
وتتسم هذه الرقابة بالدقة ولا تنحصر بالضرورة فى مجرد التحقق من ما إذا كانت الحكومة قد مارست حريتها فى التصرف بشكل معقول وبحرص وبحسن نية، وإنما تمتد لتشمل التحقق من أن ضرورة أى قيد قد ثبتت بشكل مقنع17. ويجب ملاحظة أن نطاق هذه السلطة التقديرية يتفاوت بحسب الغرض الذى من اجله تستهدف الحكومة تقييد الحق أو الحرية. فغرض حماية الأخلاق مثلا يستدعى تمتع الحكومة بسلطة تقديرية أكثر اتساعاً مقارنة بباقى الأغراض المشروعة الأخرى.18
6- خضوع الحرية/ التقييد لقاعدة التفسير الموسع/ الضيق:
ومع وجود هذه السلطة التقديرية يظل سريان المبدأ القائل بأن التقييد ينبغى تفسيره تفسيراً ضيقاً يرجح ممارسة الحرية نفسها، على اعتبار أن الأصل هو الحرية وأن القيد مجرد استثناء يرد على الأصل، ومن ثم يقبل التفسير الواسع فى فهم وتحديد الأصل ولا يؤخذ إلا بالتفسير الضيق عند تحديد الاستثناء، بحيث لا ينقلب الوضع ليضحى الاستثناء هو القاعدة. وعند الموازنة بين تقييد الحرية وممارستها فإن المستقر قضائياً أن المحكمة “لا تكون بصدد الاختيار بين مبدأين متنازعين، وإنما تكون أساساً بإزاء مبدأ حرية التعبير المعرض لعدد من الاستثناءات التى ينبغى تفسيرها تفسيراً ضيقاً”.19 وعندما أعادت المحكمة الأمريكية التأكيد على ما سبق أن استخلصته المحكمة الأوروبية من مبادئ؛ فإنها قامت بالتصدى لفحص حدود مبدأ التفسير الضيق.20
الفصل الرابع
التنظيم الدستورى المصرى لحرية التعبير
هنا يلزمنا استعراض الدستور المصرى لنحدد نطاق حماية حرية التعبير فيه، سواء على ضوء نصوص الدستور ذاتها أو على ضوء المبادئ التى أرستها محكمتنا الدستورية العليا.
أولا: نطاق حرية التعبير وفقا للدستور المصرى:
للإلمام بخطة المشرع الدستورى فيما يتعلق بحرية الرأى والتعبير، يلزمنا استعراض عدة مواد دستورية وقراءاتها معا، إعمالا للمبدأ الدستورى القائل بأن نصوص الدستور متساندة ومتكاملة، وفى ذلك الاتجاه قضت محكمتنا الدستورية العليا بأنه:
“وحيث إن الأصل فى النصوص الدستورية، أنها تفسر بافتراض تكاملها، باعتبار أن كلا منها لا ينعزل عن غيره، وإنما تجمعها تلك الوحدة العضوية التى تستخلص منها مراميها، ويتعين بالتالى التوفيق بينها، بما يزيل شبهة تعارضها ويكفل اتصال معانيها وتضامنها، وترابط توجهاتها وتساندها، ليكون ادعاء تماحيها لغوا، والقول بتآكلها بهتانا”.21
كما يلزمنا استحضار النطاق الدستورى لحدود سلطة الدولة عند قيامها بتنظيم الحقوق والحريات العامة وفى ذلك استقرت محكمتنا الدستورية العليا على:
“وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها منذ دستور سنة 1923على تقرير الحريات والحقوق العامة فى صلبها، قصدا من الشارع الدستورى أن يكون النص عليها فى الدستور قيدا على المشرع العادى فيما يسنه من قواعد وأحكام، وفى حدود ما أراده الدستور لكل منها، من حيث إطلاقها أو جواز تنظيمها تشريعيا فإذا خرج المشرع فيما يقرره من تشريعات على هذا الضمان الدستورى، بأن قيد حرية أو حقا ورد فى الدستور مطلقا أو أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستوريا، وقع عمله التشريعى مشوبا بعيب مخالفة الدستور.”22
وعندما يحيل النص للقانون مهمة تنظيم هذه الحريات والحقوق وتحديد تخومها، فلا ينبغى أن يفهم هذا النص على أنه يمنح المشرع العادى سلطة مطلقة فى فرض الحدود، ذلك أنها يحدها أربعة قيود :
1- على التنظيم التشريعى ألا يصادر الحق أو الحرية.
2- عليه ألا ينتقص من الحق أو الحرية.
3- عدم جواز فرض قيود باهظة على الحرية أو الحق.
4- مراعاة القيود الواردة فى الدستور التى تحد من نطاق سلطته.23
1- المادة 47 :
“حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى.”
2- المادة 48 :
“حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة، والرقابة على الصحف محظورة وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور، ويجوز استثناءً فى حالة إعلان الطوارئ أو فى زمن الحرب أن يفرض على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة فى الأمور التى تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومى، وذلك كله وفقا للقانون.”
ثانيا: نطاق حرية التعبير من واقع أحكام المحكمة الدستورية:
1- حرية التعبير هى الحرية الأصل:
ذهبت المحكمة إلى :
“وحيث إن ضمان الدستور – بنص المادة 47 منه – لحرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها، سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التى لا يتم الحوار المفتوح إلا فى نطاقها، وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة، وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقا.”
2- عدم دستورية القيود المتعسفة على حرية التعبير:
“وحيث إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير، هو أن يكون التماس الآراء والأفكار، …،
لا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفا بها، مقتحما دروبها، ذلك أن لحرية التعبير أهدافا لا تريم عنها، ولا يتصور أن تسعى لسواها، هى أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جليا، فلا يداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها.”
3- الدستور يحمى حرية التعبير عن الآراء الخاطئة، طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة:
وذهبت فى موضع ثالث إلى أن :
“وحيث إن حرية التعبير التى تؤمنها المادة 47 من الدستور، ابلغ ما تكون آثرا فى مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها تبيانا لنواحى التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد فى التعبير عن الآراء التى يريد إعلانها، ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام public mind، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه، ولا عائقا دون تدفقها.”
4- لا يجوز أن يكون القيد/العقوبة عائق/ قامع لحرية التعبير:
“وحيث إن من المقرر كذلك أن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التى تتولد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التى تجول فى عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزما – ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثا من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوبا. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا فى غيبة حرية التعبير.”
5- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى:
“أن حرية التعبير التى كفلها الدستور هى القاعدة فى كل تنظيم ديموقراطى، لا يقوم إلا بها، ذلك أن أهم ما يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية، هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما أعاق القائمون بالعمل العام أبعاد هذه الحرية، كان ذلك من جانبهم هدما للديموقراطية فى محتواها المقرر دستوريا، وإنكارا لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.”24
6- الضرورة الاجتماعية لحرية النقد:
وانتقلت فى حكم آخر لفحص حرية النقد وعلاقتها بحرية التعبير:
“وحيث إن الدستور القائم حرص على النص فى المادة 47 منه على أن حرية الرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، وكان الدستور قد كفل بهذا النص حرية التعبير عن الرأى بمدلول جاء بها ليشمل التعبير عن الآراء فى مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الدستور – مع ذلك – عنى بإبراز الحق فى النقد الذاتى والنقد البناء باعتبارهما ضمانين لسلامة البناء الوطنى، مستهدفا بذلك توكيد أن النقد – وأن كان نوعا من حرية التعبير – وهى الحرية الأصل التى يرتد النقد إليها ويندرج تحتها – إلا أن اكثر ما يميز حرية النقد – إذا كان بناءً – أنه فى تقدير واضعى الدستور ضرورة لازمة لا يقوم بدونها العمل الوطنى سويا على قدميه. وما ذلك إلا لأن الحق فى النقد – وخاصة فى جوانبه السياسية – يعتبر إسهاما مباشرا فى صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط فى الدول الديموقراطية، وحائلا دون الإخلال بحرية المواطن فى أن “يعلم”، وأن يكون فى ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومى، قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه. على أن يكون مفهوما أن الطبيعة البناءة للنقد – التى حرص الدستور على توكيدها – لا يراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التى تعارضها لتحدد ما يكون منها فى تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة، وما رمى إليه الدستور فى هذا المجال، هو ألا يكون النقد منطويا على آراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التى تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التى تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة، كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى آراء تكون لها بعض القيمة الاجتماعية، ولكن جرى التعبير عنها على نحو يصادر حرية النقاش أو الحوار، كتلك التى تتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض لها مصلحة حيوية.”25
7- المبادئ الدستورية فى نطاق التجريم والعقاب:26
تتأسس هذه المبادئ على الأصل الدستورى القاضى بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على القانون (مادة 66من الدستور)، وهذا الخطاب؛ وفقا للمستقر عليه فقها وقضاءً، لا يتضمن فقط خطابا للقاضى وإنما يتضمن أيضا خطابا للمشرع، بحيث يجعل الأول ملتزما بما جرمه الآخر، وعاقب عليه، وأضحت سلطة الثانى فى التجريم والعقاب ليست مطلقة بلا قيد، واسعة بلا حدود.
وهذا أمر ولا شك فى المنطق ما يؤازره، وفى الأصول الشرعية ما يسانده لأن سلطة تحديد الجرائم والعقاب إذا كانت مطلقة فإن هذا يكون معناه البغى بغير الحق على حقوق الأفراد، والعدوان على حرياتهم، وتوجيه سياسة التجريم والعقاب تبعا لهوى الفئة الغالبة فى البرلمان، إما لتغليب مصالحها على حساب حريات الأفراد، وإما لتقنين رغبة الحكومة فى النيل من حقوق العباد. ومن ناحية أخرى أن الأنظمة الديموقراطية لم تعد تعترف لآى هيئة أو جهة بسلطة مطلقة، والمشرع ليس استثناء من هذا الأصل. لذا فإنه يلتزم كما تلتزم غيره من سلطات الدولة بالمبادئ والقواعد العليا المستقرة فى وجدان الإنسانية والتى تعترف بها، وتحترمها الدساتير، سواء المكتوب منها أو العرفى.
وقد يقال ردا على ذلك أن سلطة المشرع فى التجريم والعقاب ليست سلطة من الناحية الدستورية مقيدة على اعتبار أن الدستور لم يلزمه بضرورة تجريم سلوك أو امتناع بعينه، بل ولم يفرض عليه اتباع طريق معين فى التجريم، كما أنه لم يجبره على تقرير عقوبات معينة على ما يجرمه، فهو فى كل هذا حر طليق.
وهذا القول على فرض صحته إلا أنه لا يعنى أن سلطة المشرع مطلقة فى التجريم والعقاب. فهى إن لم تكن مقيدة فإنها تقديرية، بمعنى أنه إذا كان للمشرع وفقا لها أن يختار ما يجرمه فإنه لا يكون له أن يجرم أى فعل أو أى امتناع، فسلطته هذه تتقيد بالحدود والضوابط الدستورية التى يتقيد بها حال تنظيمه لحقوق الأفراد، التى سلطته إزاءها تكون تقديرية وهذا ما تؤكده المحكمة الدستورية العليا بقولها: أن الأصل فى سلطة المشرع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وأن الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد إلى ملاءمة إصدارها إلا أن هذا لا يعنى إطلاق هذه السلطة فى سن القوانين، دون التقيد بالحدود والضوابط التى ينص عليها الدستور.(27)
المقتضيات الدستورية لمبدأ شرعية الجرائم:
أن سلطة المشرع، وعلى نحو ما تقدم، فى اختيار ما يجرمه ليست مطلقة، وإنما هى سلطة تتقيد بالمقتضيات الدستورية لمبدأ شرعية الجرائم. وما يهمنا منها هنا هو:
ضرورة التجريم:28
يقتضى مبدأ شرعية الجرائم ألا يجرم المشرع من الأفعال، ولا يؤثم من التصرفات إلا ما كانت هناك ضرورة ملجئة لتجريمه أو لتأثيمه، وذلك لأن التجريم بطبيعته هو انتقاص من حرية المواطنين، وتضييق من نطاق ما يتمتعون به من حقوق. وهو – وتلك طبيعته – يجد مبرره فى حماية مصالح أجدر بالرعاية، وحقوق أولى بالعناية من ذاك الجزء المجرم من تصرفات الأفراد، أو المقتطع بالتأثيم من حرياتهم. لذا فإنه – أى التجريم – يدور وجودا وعدما مع تلك المصالح الاجتماعية الحيوية. وتلك حقيقة عبر عنها البعض بقوله: أنه إذا كان المشرع الجنائى هو صمام الأمن الاجتماعى. فإنه يكون لزاما عليه أن يربط التجريم بالحاجات والمصالح الاجتماعية الملحة.
ومن ناحية أخرى أن التجريم باعتباره قيدا على الحريات الفردية، والقيود بطبعها يحكمها أصلان: أن تظل دائما فى دائرة الاستثناء، فلا ينبغى التوسع فيها، أو الإفراط فى استخدامها وإلا صارت الحرية استثناء، والقيد قاعدة، وهذا ما تلفظه المبادئ القانونية المستقرة. والآخر ألا يلجأ إلى القيود إلا حال وجود ضرورة تبررها، فإن هذا هو ذاته ما يحكم التجريم فهو لا يمكن الالتجاء إليه إلا لضرورة تدفع إليه، وإذا ما لجأ المشرع إليه فإنه لابد أن يكون هذا فى إطار الاستثناء، ذلك أن الإفراط فيه يماثل فى خطورته، وجسيم أثره على المجتمع وأمنه التفريط فيه. ويكفى دليلا على ذلك أن التوسع التجريمى قد غدا اليوم من الأمور المستهجنة فى السياسة التشريعية المعاصرة، وصار القسط فيه، والحد منه بإزالة وصف الإجرام عن مسالك وأفعال عديدة من الأمور المستحبة، بل أنه يمثل الآن أصلا من أصول السياسة الجنائية المعاصرة دعت إلى الأخذ به، وإتباعه المؤتمرات العالمية المتخصصة.
ولأن التجريم قيد، والقيود بطبعها تخضع لرقابة القضاء، فقد بسط المجلس الدستورى الفرنسى رقابته فى الآونة الأخيرة على الأسباب التى حدت بالمشرع إلى استخدام سلطته فى التجريم، والوقائع التى استوجبت تدخله، ولم يكن يتردد فى القضاء بعدم دستورية ما جرمه المشرع من أفعال إذا تبين له أن تجريمها لم تكن له ضرورة تبرره، أو أن تقدير المشرع لخطورتها قد انطوى على خطأ ظاهر، مما ينفى عنها شرط ضرورة التجريم، مما يؤكد انتفاء مبرر تجريمها.29
وعلاوة على كل ما تقدم يجب أن يكون التقييد متناسباً مع الغرض المشروع المقصود من هذا التقييد، والتجريم محض قيد؛ ومن ثم ينسحب عليه كل الضوابط السابق الإشارة إليها والمتعلقة بالقيود المقبولة فى المجتمعات الديمقراطية.
كما يجب أن تكون الأسباب المبنى عليها هذا التقييد منتجة وكافية30. وفى هذا السياق قضت المحكمة الأمريكية بأن التقييد يجب أن يكون “ضرورياً لتأمين” غرض من الأغراض المشروعة، ويجب أن ينسجم هذا التقييد مع معايير الضرورة كما حددتها المحكمة الأوروبية.31
وكان هذا النهج هو ذات النهج الذى اتبعته العديد من المحاكم الدستورية، وخير مثال على ذلك ما قضت به المحكمة الأمريكية العليا من أنه “حتى وبالرغم من أن غرض الحكومة قد يكون مشروعا وقويا، فإن هذا الغرض لا يتأتى أن يتحقق باستخدام وسائل تخنق بشكل واسع الحريات الشخصية الأساسية، طالما يمكن تحقيق هذا الغرض بقدر أقل من التقييد.”32
يجوز الرجوع إلى المعايير المستخدمة من قبل المحكمة الأوروبية فى تقدير القيود المسموح بها، والعقوبات، على حرية التعبير، ليس فقط لأن هذه المحكمة تظل الحارس الأخير لحقوق الإنسان والحريات على مستوى تلك