بطلان التفتيش
بعد العمل بدستور سنة 1971 للدكتور عبد الرءوف مهدى أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق
تمهيد :
التفتيش إجراء من أخطر الإجراءات الجنائية التي تمس حريات الناس فهو بحث فى مستودع أسرارهم التي يحرصون على الاحتفاظ بها لأنفسهم واعتداء على حرياتهم فى صون أسرار مساكنهم وأشخاصهم . ولذلك أحاطه المشرع بسياج من الضمانات أهمها أن المجتمع رفع بعضها إلى مصاف المبادئ الدستورية لأول مرة فى دستور سنة 1971 (1). لذلك ثار البحث حول الجزاء على إهدار هذه الضمانات . ولما كان البطلان من أهم الجزاءات الإجرائية التي يرتبها القانون على مخالفة قواعد الإجراءات الجنائية ، فإن البحث يثور حول مدى الاستعانة بهذا الجزاء حماية لهذه الضمانات .
ولذلك رأينا أن نبدأ ببيان دور البطلان كجزء إجرائي فى التشريع المصري ، ثم نثنى : بيان أثر تضمين الدستور المصري بعض أحكام هذا التفتيش على مدى الأخذ بالبطلان كجزاء إجرائي لمخالفة قواعد التفتيش .
وقبل ذلك أردنا أن نوضح الفرق بين البطلان والانعدام وعدم القبول والسقوط كأجزية إجرائية
الانعدام : Anéantissement
انعدام العمل الإجرائي نوع من الجزاء الإجرائي يأمر به القانون إذا لم تتوافر للعمل الإجرائي شروط وجوده القانونية ، ولا توجد نصوص تحدد مفهوم الانعدام وتحدد حالاته أو حتى تصف آثاره فهي فكرة ليس لها أصلي تشريعي ، ومثال عدم توافر الشروط القانونية .لوجـود العمل الإجرائي أن من الشروط القانونية لوجود الحكـم القضائي أن تكون أسبابه موقعة من قاض ، فإذا تبين أن الذي وقع أسباب الحكم شخص ليست له صفة القاضي كان الحكم غير موجود أصلاً منعدماً (2) وكذلك يكون الحكم منعدماً إذا صدر فى غير خصومه كما لو حكم القاضي في قضية لم يصدر فيها قرار بإحالتها إليه أو أحيلت إليه ممن لا يملك رفعها قانوناً ، وفى ذلك تقول محكمة النقض " من المقرر انه إذا كانت الدعوى قد أقيمت على المتهم ممن لا يملك رفعها قانوناً وعلى خلاف ما تقضى به المادتان 63 و 232 من قانون الإجراءات الجنائية فإن اتصال المحكمة فى هذه الحالة بالدعوى يكون معدوماً قانوناً ولا يحق لها أن تتعرض لموضوعها فإن هي فعلت كان حكمها وما بنى عليه من إجراءات معدوم الأثر ولا تملك المحكمة أي الاستئنافية عند رفع الأمر إليها أن تتصدى لموضوع الدعوى وتفصل فيه بل يتعين عليها أن تقصر حكمها على القضاء ببطلان الحكم المستأنف وعدم قبول الدعوى باعتبار أن باب المحاكمة موصود دونها إلى أن تتوافر لها الشروط التي فرضها الشارع لقبولها ، وبطلان الحكم لهذا السبب متعلق بالنظام لاتصاله بشرط أصيل لازم لتحريك الدعوى الجنائية ولصحة اتصال المحكمة بالواقعة ، فيجوز إبداؤه فى أي مرحلة من مراحل الدعوى بل يتعين على المحكمة القضاء به من تلقاء نفسها . ومن ثم فإن توجيه التهمة من ممثل النيابة العامة للمطعون ضده الأول فى الجلسة أمام محكمة أول درجة وعدم اعتراضه على ذلك لا يصحح الإجراءات لأن الدعوى قد سعى بها إلى ساحة المحكمة أصلاً بغير الطريق القانوني ولا يشفع فى ذلك إشارة رئيس النيابة اللاحقة برفع الدعوى لان هذه الإجازة اللاحقة لا تصحح الإجراءات السابقة الباطلة " (3). وكذلك يكون الحكم منعدما إذا لم يصدر فى القضية أمـر بتكليف المتهم بالمثول أمامه (4). ولكن لا يعتبر الحكم معدوماً إذا صدر من قاض حتى ولو كان غير مختص بإصداره ، لأن مثل هذا الحكم له آثاره أمام القاضي الذي أصدره (5) .
وأنه وأن كان الانعدام يتفق مع البطلان في تعطيل الأثر القانوني للإجراء ، إلا انهما يختلفان فى سبب هذا التعطيل . فسبب انعدام العمل الإجرائي عدم وجوده أصلاً ، بينما سبب بطلان الإجراء عدم صحة هذا العمل رغم الاعتراف بوجوده . وينبنى على ذلك ، أن الانعدام يترتب بقوة القانون ، بينما لا يتقرر البطلان إلا بحكم قضائي ، كما أن الانعدام لا يقبل التصحيح لأنه غير موجود ، بينما يقبل العمل الباطل التصحيح ، وأخيراً ، فان الانعدام لا يقوم على تقريره تدخل تشريعي بتنظيمه ، بينما البطلان يوجد له مثل هذا التنظيم . فإذا صدر حكم منعدم فيمكن التمسك بانعدامه عن طريق الطعن فيـه أو الدفـع بتجاهل صدوره . فيجوز للنيابة العامة أن ترفع الدعوى من جديد متجاهلة وجود الحكم المنعدم . ويمكن كـذلك التمسك بالانعـدام
عن طريق رفع إشكال في تنفيذ الحكم المنعدم بسبب عدم وجود الحكم أصلا الأمر الذي لا يتطلب من محكمة الإشكال البحث في صحة الحكم (6).
وقد ذهب البعض (7). إلى جواز رفع دعوى بطلان أصلية بشأن الحكم المنعدم ، ولكن محكمة النقض قضت بأن الطعن فى الأحكام بدعوى البطلان الأصلية غير جائز إلا في الحالة المنصوص عليها فى المادة 147/2 مرافعات (.
وقد وجهت إلى نظرية الانعدام انتقادات أهمها :
(1) عدم فائدة النظرية لأن المحكمة ملتزمة بأن تقرر البطلان والانعدام فدور القاضي فى الحالين يقرر ولا ينشئ.
(2) مخالفتها للقانون ، لأن المشرع لم ينص على الانعدام كجزاء ولم ينظمه بنصوص تشريعية ولو أراد المشرع الأخذ بنظرية الانعدام لنظمها بنصوص تشريعية .
(3) وحدة الآثار المترتبة على البطلان المطلق والانعدام ففي كلتي الحالين يكون العمل غير قابل للتصحيح (9).
عدم قبول : Irrecevabilité
يشترط القانون أحياناً لكي يقبل طلب معين أمام القضاء ، أن يتم هذا الطلب بشروط معينة .
وأن يحدد صاحب الحق في مباشرة هذا الطلب ، فإذا تخلف الحق فى مباشرة الطلب وقع عدم القبول كجزاء على هذا التخلف ومثال ذلك تخلف الحق في مباشرة الطعن على حكم بانتفاء الصفة اللازمة له وهى صفة المحكوم عليه ، فإذا انتفت هذه الصفة تعين الحكم بعدم قبول الطعن ، وكذلك إذا بوشر الإجراء بالمخالفة للأصول التي وضعها القانون ، كما لو اشترط القانون أن يكون الطعن فى ميعاد معين ، فعدم مراعاة هذا الميعاد توجب توقيع جزاء عدم القبول فالذي يميز
عدم القبول عن البطلان هو أن عدم القبول يرد على طلب مقدم إلى السلطة المختصة أما البطلان فينال كافة الأعمال الإجرائية فى غير هذه الصورة (10).
ويتفق عدم القبول مع البطلان فى وحده سبب كل منهما وهو عدم توفر شروط صحة العمل إلا أن البطلان يسبق عدم القبول ولكن الذي يميز عدم القبول عن البطلان أن عدم القبول يرد على طلب مقدم إلى المحكمة أما البطلان فينال باقي الأعمال الإجرائية فى غير صورة الطلب أو الدعوى (11).
ومن أحوال الحكم بعدم قبول الدعوى ما يكون راجعاً إلى عدم توافر أمر معين افترض المشرع توافره لقبول الدعوى ، مثال ذلك رفع الدعوى دون تقديم شكوى أو اذن أو طلب فى الأحوال التي يتطلب فيها القانون ذلك ، فلو رفعت دعوى دون تقديم شكوى من المجني عليه فى الدعاوى التي يتطلب فيها القانون هذه الشكوى . هنا يحكم القاضي بعدم قبول الدعوى لعدم تقديم الشكوى ويلاحظ أنه يجوز تجديد الدعوى التي حكم بعدم قبولها إذا توافر الشرط الذي كان منتفياً ، كتقديم الشكوى في المثال السابق بشرط أن يكون الحق في رفع الدعوى لا يزال قائما (12).
عدم القبول وعدم الجواز
وعدم جواز الإجراء صورة من عدم قبوله ، ويرد على محل الطعن وهو الحكم ، أي يكون الحكم من الأحكام التي لا يجوز الطعن فيها مثل الطعن بالنقض فى حكم غيابي قابـل للطعـن بالمعارضة ويعبر المشرع أحيانا عن عدم الجواز بعدم القبول قتنص المادة 401/2 إجراءات على أن " لا يقبل من المعارض بأية حال المعارضة فى الحكم الصادر فى غيبته ( 13 ).
السقوط : péremption
يحدث أحياناً أن يمنح القانون أحد الخصوم الحق ( أو السلطة إذا كان الخصم موظفا عاما ) في مباشرة إجراء جنائي معين إذا توافرت شروط معينة فإذا تخلفت هذه الشروط سقط حق صاحب الشأن فى مباشرة الإجراء الجنائي . فهذا السقوط جزاء إجرائي إذن يوقع على الخصم الذي يفقد الحق فى اتخاذ الإجراء أو لا يلتزم بالشروط التي فرضها القانون لاتخاذ هذا الإجراء فيحرمه من اتخاذه فهو جزاء على تخلف شرط لازم لبقاء الإجراء قائما (14). مثال ذلك ، أن القانون يشترط لمباشرة المحكوم عليه لحق الطعن بالاستئناف على حكم محكمة أول درجة إذا كان صادرا بعقوبة مقيدة للحرية ، فوق أن يتم التقرير بهذا الطعن فى موعد لا يجاوز عشرة أيام من تاريخ صدور الحكم الحضورى – أن يتقدم الطاعن للتنفيذ قبل الجلسة المحدة لنظر الاستئناف " م 412 إجراءات " فإذا حدث وطعن المحكوم عليه فى الميعاد ولكنه لم يتقدم للتنفيذ قبل الجلسة المحددة لنظر استئنافه ، فإنه يتعين الحكم بسقوط الاستئناف . وكذلك الشأن فى الطعن بالنقض فهو معلق على تقدم الطاعن للتنفيذ قبل يوم الجلسة (15). كما تنص المادة 333 من قانون الإجراءات الجنائية على سقوط حق المتهم فى التمسك ببطلان إجراء معين فى الجنايات والجنح إذا كان للمتهم محام وحصل الإجراء فى حضوره ولم يعترض عليه . ومن جهة أخرى ، يشترط القانون لمباشرة النائب العام سلطته فى إلغاء الأمر الصادر من أحد أعضاء النيابة بألا وجه لاقامة الدعوى أن يتم ذلك فى خلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدور هذا الأمر ، فإن مضت هذه الفترة دون أن يصدر النائب العام أمره بالإلغاء ، يسقط حقه فى ذلك " المادة 211 إجراءات " ، ونصت المادة 139/2 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " لا يجوز تنفيذ أوامر الضبط والإحضار وأوامر الحبس بعد مضى ستة أشهر من تاريخ صدورها ما لم يعتمدها قاضى التحقيق لمدة أخرى " فإذا صدر أمر بالقبض على متهم أو حبسه احتياطياً ومضت ستة أشهر عليه دون أن ينفذ يسقط هذا الأمر بفوات المدة .
ومن هذا يبين أن السقوط يفترق عن البطلان في الآتي :
1- السقوط يرد على حقوق الخصوم فى الدعوى فقط ولا يرد على حق القاضي فى القيام بإجراء معين ، بينما البطلان يرد على جميع الإجراءات .
2- أسباب السقوط محددة على سبيل الحصر وهى وجوبية على القاضي بينما تقدير البطلان متروك للقاضى .*_
3- السقوط يرد على الحق فى الإجراء بينما البطلان يرد على الإجراء ذاته (16).
4- البطلان يرد على إجراء معيب ، بينما السقوط يرد على إجراء صحيح (17) ، ويوصف السقوط بأنه جزاء على مستعمل الحق فى الإجراء ، فالمستأنف الذي لا يحضر جلسة الاستئناف فى حالة من الأحوال التي توجب حضوره يكون الجزاء على عدم حضوره هو سقوط حقه فى الاستئناف (18).
البطلان كجزاء إجرائي فى التشريع المصري :
يأخذ القانون المصري بمذهب البطلان الذاتي Nullité substantielles (19) في الإجراءات الجنائية وهو المذهب الذي ينيط بالقاضي أن يحكم بتوقيع جزاء البطلان عند مخالفة أي إجراء جوهري ، فتنص في المادة 331 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " يترتب البطلان على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بأي إجراء جوهري " . ومع ذلك فلم يخل قانون الإجراءات الجنائية من النص على حالات معينة رتب عليها المشرع البطلان بنفسه ( البطلان التشريعي Nullité textucl ) ، مثال ذلك عدم التوقيع على الحكم خلال ثلاثين يوماً ( المادة 312/2 إجراءات ) وما تنص عليه المادتان 232 ، 233 من تقرير البطلان جزاء على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بتشكيل المحكمة أو بولايتها بالحكم فى الدعوى أو باختصاصها من حيث نوع الجريمة المعروضة عليها (20).
الإجراء الجوهري الذي يترتب على مخالفته البطلان :
يمكن القول أن المشرع لم ير أن من حسن السياسة التشريعية أن يترتب البطلان على مخالفة أي إجراء من الإجراءات الجنائية ، وانما اشترط أن يكون ذلك الإجراء متضمنا قاعدة جوهرية ، وترك للقضاء تحديد ما هو الإجراء الجوهري الذى يترتب على مخالفته البطلان . وللتعرف على ما يعتبر من الإجراءات جوهرياً ، يجب الرجوع إلى علة التشريع فإذا قدر القاضي أن عدم مراعاة الإجراء سوف يترتب عليه تخلف الغاية المقصودة منه فى العمل الإجرائي ، كـان الإجراء جوهريا (21) ، بشرط إلا تكون هذه الغاية هي مجرد الإرشاد والتوجيه أي مجرد إرشاد القائم بالعمل الإجرائي وتوجيهه إلى القواعد التي تجعل عمله يؤدى على أفضل وجه ، فلكي يكون الإجراء جوهرياً لابد أن يكون الغرض منه المحافظة على مصلحة عامة أو مصلحة للمتهم أو غيره من الخصوم مثل المدعى بالحق المدني (22).
وقد اجتهد علماء القانون الجنائي ورجال القضاء فى محاولة لتحديد الإجراءات التي تتضمن قواعد جوهرية يترتب البطلان على مخالفتها وتلك التي لا تتضمن مثل هذه القواعد وسوف نعرض أولا لاجتهاد القضاء ثم نعرض اجتهاد علماء القانون الجنائي .
اجتهاد القضاء : (أ) الإجراءات غير الجوهرية :
------- ---------------
من النصوص الإجرائية التي رأت فيها أحكام القضاء أنها تقرر قواعد غير جوهرية وبالتالي لم ترتب على مخالفتها البطلان ، نص المادة 312 من قانون الإجراءات الجنائية التي نصت على ألا يتأخر توقيع القاضي على الحكم عن الثمانية أيام التالية لصدوره ، استناداً إلى أن القانون رخص
للقاضى أن يمد أجل التوقيع على الحكم ثلاثين يوماً (23) ، إذ اعتبرت المحكمة أن ما ورد في هذا النص هو من قبيل الإرشاد والتوجيه . كما قضى بأن ما تتطلبه المادة 271 من قانون الإجراءات
الجنائية من سؤال المتهم عن تهمته أمام محكمة أول درجة هو من الإجراءات التنظيمية التي لا يترتب على إغفالها بطلان (24). كما قضى بأن ما ورد فى المادة 278 من قانون الإجراءات الجنائية من إجراءات النداء على الشهود واحتجازهم بعد إجابتهم على الأسئلة التي وجهت إليهم هو من الإجراءات الإرشادية التى لا يترتب على مخالفتها البطلان (25) . وكذلك إجراءات تحريز الأشياء (26) وحكم بأن المادة 268 من قانون المرافعات إذ نصت على ضرورة وضع أهل الخبرة امضاءاتهم وعلاماتهم على الأوراق المقتضى المضاهاة عليها قبل الشروع فى التحقيق فإنها لم ترتب البطلان على مخالفة ذلك (27). كما قضى بأن بيان مكان انعقاد المحكمة ليس من البيانات الجوهرية التي يترتب على إغفالها البطلان (28). وكذلك إغفال القاضي التوقيع على محضر الجلسة لا يرتب بطلان الحكم (29).
وقضى بأن القانون لم يرتب البطلان على مجرد عدم توقيع كاتب التحقيق على محضره بل أنه يكون له قوامه القانوني بتوقيع عضو النيابة المحقق (30).
( ب ) الإجراءات الجوهرية :
-------------------------
أما ما يعتبر جوهرياً من القواعد التي تقررها النصوص الإجرائية فمنها ما نصت عليه المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية من أنه يجب على مأمور الضبط القضائي أن يرسل المتهم المقبوض عليه فى مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة العامة المختصة ، فإن أبقاه أكثر من ذلك وقع القبض باطلاً . وكذلك ما يوجبه القانون على المحقق من دعوة محامى المتهم للحضور قبل استجوابه . وما توجبه المادة 312 من قانون الإجراءات الجنائية من وجوب توقيع رئيس المحكمة
على أسباب الحكم فإذا لم يوقع على صفحة من صفحاته بطل الحكم فيما عدا حكم البراءة فلا
يبطل بعدم توقيع القاضي عليه ، وما قضت به محكمة النقض من أن تاريخ الحكم بيان جوهري يترتب على إغفاله بطلان الحكم (31).
وذلك فيما عدا أحكام البراءة فلا تبطل بعدم ذكر تاريخها (32). وقضى بأن العلانية فى جلسات المحاكمة إجراء جوهري يترتب على مخالفته البطلان (33). كما قضى بأن توقيع مصدر إذن التفتيش إجراء جوهري يترتب على مخالفته البطلان (34). وقضى بأن عدم ذكـر اسم المحكمة التى أصدرت الحكم يبطله ( 35). ولكن قضى أيضا بأن محضر الجلسة يكمل الحكم فى خصوص بيانات الديباجة ومنها بيان المحكمة التي صدر عنها (36) ، كما قضى بأن خلو الحكم من بيان العقوبة التي حكم بها يبطله حتى ولـو كانت العقوبـة مبينة فى أسباب الحكـم (37) وقضى بأن خلو الحكم من توقيع القاضي الذي أصدره يبطله ، ويستطيل البطلان إلى الحكم الاستئنافي الذي أيده (38). وقضى بأن اسم القاضي من البيانات الجوهرية التي يجب أن يشتمل عليها الحكم أو محضر الجلسة الذي يكمله فى هذا الخصوص وخلوهما من هذا البيان يجعل الحكم باطلا (39). وقضى بأن محضر الجلسة يكمل الحكم فى خصوص بيان المحكمة التي صدر منها والهيئة التي أصدرته وأسماء الخصوم فى الدعوى وسائر بيانات الديباجة عدا التاريخ (40).
كما قضى بأن استماع محكمة الأحداث إلى المراقب الاجتماعي بعد تقديم تقريره المنصوص عليه فى المادة 35 من القانون رقم 31 لسنة 1974 بشأن الأحداث إجراء من الإجراءات الجوهريـة التي قصد بها الشارع مصلحة المتهم الحدث ، فعدم الاستماع إليه يترتب عليه البطلان (41) كما قضى بأن قيام شخص من غير مأموري الضبط القضائي بإجراء التسجيلات الصوتية المأذون بها يترتب عليه بطلان الإجراء ما دام لم يثبت أن ما قام به كان تحت سمع المأمور المأذون له وبصره وينسحب هذا البطلان على الدليل المستمد منه (42).
الضوابط العلمية لجوهرية الإجراء :
إذا كانت أحكام القضاء قد ساهمت فى تحديد القاعدة الجوهرية التي يقدرها النص الإجرائي ويترتب البطلان على مخالفتها ، فإن علماء القانون الجنائي قد ساهموا بدورهم فى وضع ضوابط لما يعد جوهريا من الإجراءات . ومن جانبنا من الضوابط التي نرى أن نضيفها كي تساعد القاضي على التعرف على جوهرية القاعدة محل الإجراء وبالتالي ترتيب البطلان على مخالفتها :
(1) عبارة النص التشريعي : الذي قرر القاعدة محل المخالفة . فإذا كانت عبارة النص عبارة ناهية أي يستعمل المشرع " لا " الناهية كأن يقول المشرع " لا يجوز " فإنه يجب أن يرتب القاضي البطلان على مخالفة هذه القاعدة ، لأن استعمال المشرع عبارة النهى تعنى أنه لم ير أن يترك للقاضى التقدير فى هذه الحالة ، فلا يصح أن يقول المشرع على إجراء معين لا يجوز اتخاذ هذا الإجراء ، فإذا بالقاضي يقول بل يجوز ، لأن مهمة القاضي هي تطبيق القانون لا مخالفته ، مثال ذلك ما ورد فى المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية من أنه " لا يجوز أن ترفع الدعوى الجنائية الا بناء على شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه أو من وكيله الخاص إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي فى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 185 ، 274 ، 277 ، 279 ، 292 ، 293 ، 303 ، 306 ، 307 ، 308 من قانون العقوبات وكذلك فى الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون ولا تقبل الشكوى بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة وبمرتكبها ما لم ينص القانون على غير ذلك " (43) . فلا شك أنه يترتب على مخالفة هذا النص البطلان . ولذلك يبدو لنا محلا للنظر ما قضت به محكمة النقض من جواز أن يقوم بالتحقيق مع المحامى وتفتيش مكتبه أحد أعضاء الضبط القضائي رغم أن المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 تنص فى عبارة ناهية على انه " لا يجوز التحقيق مع المحامى أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة (44) " وبذلك تكون المحكمة قـد أجازت ما حظره المشرع صراحة ، ويزيد الأمر خطورة أن الأمر يتعلق بضمانة من ضمانات الحريات وهى شخص القائم بالتفتيش ، ونأمل أن تعيد محكمتنا العليا النظر فى هذا الحكم الفريد الذي ليس له فيما نعلم سابقة فى قضاء محكمة النقض . وفى مسائل الاختصاص إذا اختص المشرع جهة معينة بإجراء معين وورد فى عبارة المادة النص على أن اختصاص هذه الجهة يكون لها دون غيرها ، فإنه إذا خولفت هذه القاعدة بأن قامت بهذا الإجراء جهة أخرى ، وجب أن يترتب البطلان على هذه المخالفة .
( 2 ) ومن جهة أخرى نرى أن النصوص المتعلقة بالحريات كالقبض والتفتيش والضمانات المقررة لها والسلطات المختصة بها تعتبر قواعد جوهرية يترتب على مخالفتها البطلان ولو لم يستخدم المشرع عبارة ناهية وهى التي ورد النص عليها فى الدستور وبذلك يكون المشرع قد رفعها إلى مصاف المبادئ الدستورية (45) ، وكذلك النصوص المتعلقة بالآداب العامة ومنها قاعدة وجوب تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى مثلها .
أنواع البطلان : المطلق والنسبي :
بعد أن اشترط المشرع فى المادة 331 وجوب أن يكون الإجراء الذي يترتب البطلان على مخالفته جوهرياً ، بين فى المواد التالية لها أن الإجراء الجوهري قد يكون متعلقاً بالنظام العام ويسمى بالبطلان المطلق ، كما قد يكون متعلقاً بمصلحة لأحد الخصوم ( المادتان 332 و 333 إجراءات ) ويسمى بالبطلان النسبي . وسمى البطلان مطلقاً فى الحالـة الأولى لما يتميز بـه مـن خصائص أقوى من البطلان النسبي على التفصيل الآتي :
1- البطلان المطلق وهو المتعلق بالنظام العام ، يجب على المحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها دون حاجة إلى طلب يقدم إليها في هذا الشأن (46) ، بينما يتوقف قضاؤها بالبطلان المتعلق بمصلحة لأحد الخصوم على تمسك صاحب الحق به بشرط عدم سقوط حقه فى الدفع به .
2- ليس لأحد حق التنازل عن البطلان المطلق صراحة أو ضمناً فيجوز الاحتجاج بالبطلان المطلق رغم سبق التنازل عنه (47). بينما يجوز التنازل عن البطلان النسبي وهو المقرر لمصلحة أحد الخصوم من قبل صاحب الشأن صراحة أو ضمنا فنصت المادة 333 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " فى غير الأحوال المشار إليها فى المادة السابقة يسقط الحق فى الدفع ببطلان الإجراءات الخاصة بجمع الاستدلالات أو التحقيق الابتدائي أو التحقيق بالجلسة فى الجنح والجنايات اذا كان للمتهم محام وحصل الإجراء بحضوره بدون اعتراض منه أما فى مواد المخالفات فيعتبر الإجراء صحيحاً إذا لم يعترض عليه المتهم ولو لم يحضر معه محام فى الجلسة . وكذلك يسقط حق الدفع بالبطلان بالنسبة للنيابة العامة إذا لم تتمسك به فى حينه " .
3- يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان المطلق ، بينما لا يجوز التمسك بالبطلان النسبي المقرر لمصلحة أحد من الخصوم إلا من الخصم الذي تقررت القاعدة التي خولفت لمصلحته . من ذلك ما قضت به محكمة النقض من أنه " لا صفة لغير من وقع فى حقه الإجراء الباطل ان يدفع ببطلانه ولو كان يستفيد منه لأن تحقق المصلحة فى الدفاع لاحق لوجود الصفة فيه" (48). وليس للنيابة العامة أن تتمسك ببطلان إجراء لم يتقرر لمصلحتها ، فليس لها مثلاً التمسك ببطلان ورقة
التكليف بالحضور أو بطلان الإعلان . ولا يمنع هذا النيابة من أن تطعن لمصلحة المتهم إذا كان
قد تمسك هو بالبطلان (49).
4- يجوز التمسك بالبطلان المطلق فى أية حال تكون عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة النقض (50) ، بينما لا يجوز الحكم بالبطلان المتعلق بمصلحة لأحد الخصوم إذا لم يكن قد تمسك به صاحب المصلحة فيه أمام محكمة الموضوع (51).
ضابط البطلان المطلق : النظام العام :
نصت المادة 332 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " إذا كان البطلان راجعاً لعدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بتشكيل المحكمة أو بولايتها بالحكم فى الدعوى أو باختصاصها من حيث نوع الجريمة المعروضة عليها ، أو بغير ذلك مما هو متعلق بالنظام العام ، جاز التمسك به فى أية حالة كانت عليها الدعوى ، وتقضى به المحكمة - ولو بغير طلب " . ومن ذلك يتضح أن المشرع قد جعل من فكرة النظام العام ضابطا لاعتبار البطلان مطلقاً . فكلما تعلقت المخالفة الواقعة بنص إجرائي يعتبر من النظام العام كان البطلان مطلقاً ، وقد ضرب النص أمثلة لما يعتبر فى نظر المشرع متعلقاً بالنظام العام . إلا أن فكرة النظام العام فى ذاتها فكرة لم يمكن تحديدها ، فعلى حد تعبير محكمة النقض ، أن النصوص تدل فى عبارتهـا الصريحـة على أن الشارع لم يحصر - وما كان فى مقدوره أن يحصر - والقوانين السياسية والإدارية والمالية والجنائية أبداً متغيرة - المسائل المتعلقة بالنظام العام (52). وقد اعتبرت محكمة النقض بطلان الدليل المستمد من التحقيق التكميلي الذي تجريه النيابة العامة بناء على ندب المحكمة لها أثناء سير الدعوى بطلانا متعلقا بالنظام العام لا يعصمه من ذلك رضاء المتهم أو المدافع عنه بهذا الإجراء (53).
ولذلك كان من الواجب الاجتهاد لتحديد القواعد المتعلقة بالنظام العام فى قانون الإجراءات الجنائية . ومن جانبنا نرى ، أنه يمكن وضع المعيار الآتي لما يعتبر من القواعد متعلقاً بالنظام العام يترتب على مخالفته البطلان المطلق :
( 1 ) كل قاعدة ورد النص عليها فى الدستور أو نص عليها فى تشريع عادى إعمالا نص دستوري . ذلك أن القاعدة إذا رفعت إلى مصاف المبادئ الدستورية فليس من شك انها متعلقة بالنظام العام ولو كانت محققة لمصلحة أحد أطراف الدعوى . لأن تحقيق هذه المصلحة الأخيرة جاء بالتبعية لصيانة حق المجتمع ، مثال ذلك القواعد الخاصة بالحريات فقد نصت المادة 41 من الدستور على أن " الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة ، وذلك وفقاً لأحكام القانون ، ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي . " وهذا ما عبرت عنه المحكمة العليا بقولها " أن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة من قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة (54).
وعلى ذلك ، فأي قاعدة إجرائية تنظم ما ورد فى هذا النص الدستوري تعتبر من النظام العام ، وترتب مخالفتها البطلان المطلق . من ذلك عدم جواز قيام جهة غير قضائية بإجراء ماس بالحرية ، ومن ذلك ما نصت عليه المادة 67 من الدستور من ضرورة وجود مدافع لكل متهم بجناية . وكذلك القواعد الخاصة بأصل البراءة المفترض فى كل إنسان الذي نصت عليه ذات المادة .
(2) كل قاعدة تعتبر من الضمانات التى قررها المشرع لأي طرف من أطراف الدعوى الجنائية أو المدنية المنظورة بالتبعية لها ، تعتبر من النظام العام مثل الضمانات المتعلقة بشخص القائـم بالإجراء . فمثلا القاعدة التى تقضى بحظر قيام مأمور الضبط القضائي باستجواب المتهم ، تقوم فى أساسها على تقدير المشرع بضرورة توفير ضمانة فيمن يقوم بإجراء الاستجواب نظرا لخطورته وما قد يسفر عنه من اعتراف المتهم . فمخالفة هذه القاعدة يترتب عليها البطلان حتى ولو قبل المتهم ذلك . ومن هذا أيضا ما تنص عليه المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 من أنه لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة ، وذلك تقديرا من المشرع لأهمية ما يحتويه مكتب المحامى من أسرار عملائه مما لا يجوز الاطلاع عليها إلا من شخص تتوافر فيه ضمانات معينة هى أن يكون متمتعا بصفة قضائية ، وكذلك القاعدة التي تقضى بعدم جواز تفتيش شخص ومنزل غير المتهم إلا بعد استئذان القاضي الجزئي ، وقضى بأنه يجب على المحكمة أن تقوم بنفسها أو بمن تندبه من أعضائها باستيفاء التحقيق الذي طلبه الدفاع وليس لها أن تندب النيابة العامة للقيام بالإجراء المذكور وإلا كان ذلك إخلالا بحق الدفاع (55 ).
(3) كل قاعدة تتضمن تنظيم المشرع لحسن سير العدالة بصرف النظر عن مصالح الأطراف ، مثل قواعد الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية ، والإجراءات التي تتعلـق بشروط قبـول الدعوى الجنائية وتشكيل المحكمة وولايتها واختصاصها وعلانية الجلسات وشفوية المرافعة ، وإجراءات إصدار الأحكام والطعن فيها ، وقواعد تسبيب الأحكام ، وأخذ رأى المفتى قبل الحكم بالإعدام (56).
(4) كل قاعدة تكشف عن أصل عام من الأصول التى يقوم عليها المجتمع مثل القواعد التى تفرضها أخلاق الجماعة ولو لم يرد بها نص فى الدستور ، مثل قاعدة عدم جواز تفتيش الأنثى بغير أنثى مثلها . فهذه القاعدة تعتبر من النظام العام ولا يجوز للأنثى التنازل عنها بقبولها التفتيش من غير أنثى لأن هذا الوضع تأباه القواعد الأخلاقية التى يقوم عليها المجتمع .
ويتضح من الأمثلة التي أوردها المشرع فى نص المادة 332 من قانون الإجراءات الجنائية لما يعتبر من النظام العام والمذكرة الإيضاحية للقانون ، أنها أوردت تسبيب الأحكام ، وأخذ رأى المفتى قبل الحكم بالإعدام (57) ، وعلانية الجلسات ، وإجراءات الطعن فى الأحكام .
ولعلنا بهذا الاجتهاد نكون قد أسهمنا بقدر متواضع فى معاونة القضاء على أداء رسالته الصعبة فى تحديد ما يعتبر من الإجراءات من النظام العام ويترتب على مخالفتها البطلان المطلق مستهدياً فى ذلك بالجهود الفقهية فى هذا الشأن .
بعد العمل بدستور سنة 1971 للدكتور عبد الرءوف مهدى أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق
تمهيد :
التفتيش إجراء من أخطر الإجراءات الجنائية التي تمس حريات الناس فهو بحث فى مستودع أسرارهم التي يحرصون على الاحتفاظ بها لأنفسهم واعتداء على حرياتهم فى صون أسرار مساكنهم وأشخاصهم . ولذلك أحاطه المشرع بسياج من الضمانات أهمها أن المجتمع رفع بعضها إلى مصاف المبادئ الدستورية لأول مرة فى دستور سنة 1971 (1). لذلك ثار البحث حول الجزاء على إهدار هذه الضمانات . ولما كان البطلان من أهم الجزاءات الإجرائية التي يرتبها القانون على مخالفة قواعد الإجراءات الجنائية ، فإن البحث يثور حول مدى الاستعانة بهذا الجزاء حماية لهذه الضمانات .
ولذلك رأينا أن نبدأ ببيان دور البطلان كجزء إجرائي فى التشريع المصري ، ثم نثنى : بيان أثر تضمين الدستور المصري بعض أحكام هذا التفتيش على مدى الأخذ بالبطلان كجزاء إجرائي لمخالفة قواعد التفتيش .
وقبل ذلك أردنا أن نوضح الفرق بين البطلان والانعدام وعدم القبول والسقوط كأجزية إجرائية
الانعدام : Anéantissement
انعدام العمل الإجرائي نوع من الجزاء الإجرائي يأمر به القانون إذا لم تتوافر للعمل الإجرائي شروط وجوده القانونية ، ولا توجد نصوص تحدد مفهوم الانعدام وتحدد حالاته أو حتى تصف آثاره فهي فكرة ليس لها أصلي تشريعي ، ومثال عدم توافر الشروط القانونية .لوجـود العمل الإجرائي أن من الشروط القانونية لوجود الحكـم القضائي أن تكون أسبابه موقعة من قاض ، فإذا تبين أن الذي وقع أسباب الحكم شخص ليست له صفة القاضي كان الحكم غير موجود أصلاً منعدماً (2) وكذلك يكون الحكم منعدماً إذا صدر فى غير خصومه كما لو حكم القاضي في قضية لم يصدر فيها قرار بإحالتها إليه أو أحيلت إليه ممن لا يملك رفعها قانوناً ، وفى ذلك تقول محكمة النقض " من المقرر انه إذا كانت الدعوى قد أقيمت على المتهم ممن لا يملك رفعها قانوناً وعلى خلاف ما تقضى به المادتان 63 و 232 من قانون الإجراءات الجنائية فإن اتصال المحكمة فى هذه الحالة بالدعوى يكون معدوماً قانوناً ولا يحق لها أن تتعرض لموضوعها فإن هي فعلت كان حكمها وما بنى عليه من إجراءات معدوم الأثر ولا تملك المحكمة أي الاستئنافية عند رفع الأمر إليها أن تتصدى لموضوع الدعوى وتفصل فيه بل يتعين عليها أن تقصر حكمها على القضاء ببطلان الحكم المستأنف وعدم قبول الدعوى باعتبار أن باب المحاكمة موصود دونها إلى أن تتوافر لها الشروط التي فرضها الشارع لقبولها ، وبطلان الحكم لهذا السبب متعلق بالنظام لاتصاله بشرط أصيل لازم لتحريك الدعوى الجنائية ولصحة اتصال المحكمة بالواقعة ، فيجوز إبداؤه فى أي مرحلة من مراحل الدعوى بل يتعين على المحكمة القضاء به من تلقاء نفسها . ومن ثم فإن توجيه التهمة من ممثل النيابة العامة للمطعون ضده الأول فى الجلسة أمام محكمة أول درجة وعدم اعتراضه على ذلك لا يصحح الإجراءات لأن الدعوى قد سعى بها إلى ساحة المحكمة أصلاً بغير الطريق القانوني ولا يشفع فى ذلك إشارة رئيس النيابة اللاحقة برفع الدعوى لان هذه الإجازة اللاحقة لا تصحح الإجراءات السابقة الباطلة " (3). وكذلك يكون الحكم منعدما إذا لم يصدر فى القضية أمـر بتكليف المتهم بالمثول أمامه (4). ولكن لا يعتبر الحكم معدوماً إذا صدر من قاض حتى ولو كان غير مختص بإصداره ، لأن مثل هذا الحكم له آثاره أمام القاضي الذي أصدره (5) .
وأنه وأن كان الانعدام يتفق مع البطلان في تعطيل الأثر القانوني للإجراء ، إلا انهما يختلفان فى سبب هذا التعطيل . فسبب انعدام العمل الإجرائي عدم وجوده أصلاً ، بينما سبب بطلان الإجراء عدم صحة هذا العمل رغم الاعتراف بوجوده . وينبنى على ذلك ، أن الانعدام يترتب بقوة القانون ، بينما لا يتقرر البطلان إلا بحكم قضائي ، كما أن الانعدام لا يقبل التصحيح لأنه غير موجود ، بينما يقبل العمل الباطل التصحيح ، وأخيراً ، فان الانعدام لا يقوم على تقريره تدخل تشريعي بتنظيمه ، بينما البطلان يوجد له مثل هذا التنظيم . فإذا صدر حكم منعدم فيمكن التمسك بانعدامه عن طريق الطعن فيـه أو الدفـع بتجاهل صدوره . فيجوز للنيابة العامة أن ترفع الدعوى من جديد متجاهلة وجود الحكم المنعدم . ويمكن كـذلك التمسك بالانعـدام
عن طريق رفع إشكال في تنفيذ الحكم المنعدم بسبب عدم وجود الحكم أصلا الأمر الذي لا يتطلب من محكمة الإشكال البحث في صحة الحكم (6).
وقد ذهب البعض (7). إلى جواز رفع دعوى بطلان أصلية بشأن الحكم المنعدم ، ولكن محكمة النقض قضت بأن الطعن فى الأحكام بدعوى البطلان الأصلية غير جائز إلا في الحالة المنصوص عليها فى المادة 147/2 مرافعات (.
وقد وجهت إلى نظرية الانعدام انتقادات أهمها :
(1) عدم فائدة النظرية لأن المحكمة ملتزمة بأن تقرر البطلان والانعدام فدور القاضي فى الحالين يقرر ولا ينشئ.
(2) مخالفتها للقانون ، لأن المشرع لم ينص على الانعدام كجزاء ولم ينظمه بنصوص تشريعية ولو أراد المشرع الأخذ بنظرية الانعدام لنظمها بنصوص تشريعية .
(3) وحدة الآثار المترتبة على البطلان المطلق والانعدام ففي كلتي الحالين يكون العمل غير قابل للتصحيح (9).
عدم قبول : Irrecevabilité
يشترط القانون أحياناً لكي يقبل طلب معين أمام القضاء ، أن يتم هذا الطلب بشروط معينة .
وأن يحدد صاحب الحق في مباشرة هذا الطلب ، فإذا تخلف الحق فى مباشرة الطلب وقع عدم القبول كجزاء على هذا التخلف ومثال ذلك تخلف الحق في مباشرة الطعن على حكم بانتفاء الصفة اللازمة له وهى صفة المحكوم عليه ، فإذا انتفت هذه الصفة تعين الحكم بعدم قبول الطعن ، وكذلك إذا بوشر الإجراء بالمخالفة للأصول التي وضعها القانون ، كما لو اشترط القانون أن يكون الطعن فى ميعاد معين ، فعدم مراعاة هذا الميعاد توجب توقيع جزاء عدم القبول فالذي يميز
عدم القبول عن البطلان هو أن عدم القبول يرد على طلب مقدم إلى السلطة المختصة أما البطلان فينال كافة الأعمال الإجرائية فى غير هذه الصورة (10).
ويتفق عدم القبول مع البطلان فى وحده سبب كل منهما وهو عدم توفر شروط صحة العمل إلا أن البطلان يسبق عدم القبول ولكن الذي يميز عدم القبول عن البطلان أن عدم القبول يرد على طلب مقدم إلى المحكمة أما البطلان فينال باقي الأعمال الإجرائية فى غير صورة الطلب أو الدعوى (11).
ومن أحوال الحكم بعدم قبول الدعوى ما يكون راجعاً إلى عدم توافر أمر معين افترض المشرع توافره لقبول الدعوى ، مثال ذلك رفع الدعوى دون تقديم شكوى أو اذن أو طلب فى الأحوال التي يتطلب فيها القانون ذلك ، فلو رفعت دعوى دون تقديم شكوى من المجني عليه فى الدعاوى التي يتطلب فيها القانون هذه الشكوى . هنا يحكم القاضي بعدم قبول الدعوى لعدم تقديم الشكوى ويلاحظ أنه يجوز تجديد الدعوى التي حكم بعدم قبولها إذا توافر الشرط الذي كان منتفياً ، كتقديم الشكوى في المثال السابق بشرط أن يكون الحق في رفع الدعوى لا يزال قائما (12).
عدم القبول وعدم الجواز
وعدم جواز الإجراء صورة من عدم قبوله ، ويرد على محل الطعن وهو الحكم ، أي يكون الحكم من الأحكام التي لا يجوز الطعن فيها مثل الطعن بالنقض فى حكم غيابي قابـل للطعـن بالمعارضة ويعبر المشرع أحيانا عن عدم الجواز بعدم القبول قتنص المادة 401/2 إجراءات على أن " لا يقبل من المعارض بأية حال المعارضة فى الحكم الصادر فى غيبته ( 13 ).
السقوط : péremption
يحدث أحياناً أن يمنح القانون أحد الخصوم الحق ( أو السلطة إذا كان الخصم موظفا عاما ) في مباشرة إجراء جنائي معين إذا توافرت شروط معينة فإذا تخلفت هذه الشروط سقط حق صاحب الشأن فى مباشرة الإجراء الجنائي . فهذا السقوط جزاء إجرائي إذن يوقع على الخصم الذي يفقد الحق فى اتخاذ الإجراء أو لا يلتزم بالشروط التي فرضها القانون لاتخاذ هذا الإجراء فيحرمه من اتخاذه فهو جزاء على تخلف شرط لازم لبقاء الإجراء قائما (14). مثال ذلك ، أن القانون يشترط لمباشرة المحكوم عليه لحق الطعن بالاستئناف على حكم محكمة أول درجة إذا كان صادرا بعقوبة مقيدة للحرية ، فوق أن يتم التقرير بهذا الطعن فى موعد لا يجاوز عشرة أيام من تاريخ صدور الحكم الحضورى – أن يتقدم الطاعن للتنفيذ قبل الجلسة المحدة لنظر الاستئناف " م 412 إجراءات " فإذا حدث وطعن المحكوم عليه فى الميعاد ولكنه لم يتقدم للتنفيذ قبل الجلسة المحددة لنظر استئنافه ، فإنه يتعين الحكم بسقوط الاستئناف . وكذلك الشأن فى الطعن بالنقض فهو معلق على تقدم الطاعن للتنفيذ قبل يوم الجلسة (15). كما تنص المادة 333 من قانون الإجراءات الجنائية على سقوط حق المتهم فى التمسك ببطلان إجراء معين فى الجنايات والجنح إذا كان للمتهم محام وحصل الإجراء فى حضوره ولم يعترض عليه . ومن جهة أخرى ، يشترط القانون لمباشرة النائب العام سلطته فى إلغاء الأمر الصادر من أحد أعضاء النيابة بألا وجه لاقامة الدعوى أن يتم ذلك فى خلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدور هذا الأمر ، فإن مضت هذه الفترة دون أن يصدر النائب العام أمره بالإلغاء ، يسقط حقه فى ذلك " المادة 211 إجراءات " ، ونصت المادة 139/2 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " لا يجوز تنفيذ أوامر الضبط والإحضار وأوامر الحبس بعد مضى ستة أشهر من تاريخ صدورها ما لم يعتمدها قاضى التحقيق لمدة أخرى " فإذا صدر أمر بالقبض على متهم أو حبسه احتياطياً ومضت ستة أشهر عليه دون أن ينفذ يسقط هذا الأمر بفوات المدة .
ومن هذا يبين أن السقوط يفترق عن البطلان في الآتي :
1- السقوط يرد على حقوق الخصوم فى الدعوى فقط ولا يرد على حق القاضي فى القيام بإجراء معين ، بينما البطلان يرد على جميع الإجراءات .
2- أسباب السقوط محددة على سبيل الحصر وهى وجوبية على القاضي بينما تقدير البطلان متروك للقاضى .*_
3- السقوط يرد على الحق فى الإجراء بينما البطلان يرد على الإجراء ذاته (16).
4- البطلان يرد على إجراء معيب ، بينما السقوط يرد على إجراء صحيح (17) ، ويوصف السقوط بأنه جزاء على مستعمل الحق فى الإجراء ، فالمستأنف الذي لا يحضر جلسة الاستئناف فى حالة من الأحوال التي توجب حضوره يكون الجزاء على عدم حضوره هو سقوط حقه فى الاستئناف (18).
البطلان كجزاء إجرائي فى التشريع المصري :
يأخذ القانون المصري بمذهب البطلان الذاتي Nullité substantielles (19) في الإجراءات الجنائية وهو المذهب الذي ينيط بالقاضي أن يحكم بتوقيع جزاء البطلان عند مخالفة أي إجراء جوهري ، فتنص في المادة 331 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " يترتب البطلان على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بأي إجراء جوهري " . ومع ذلك فلم يخل قانون الإجراءات الجنائية من النص على حالات معينة رتب عليها المشرع البطلان بنفسه ( البطلان التشريعي Nullité textucl ) ، مثال ذلك عدم التوقيع على الحكم خلال ثلاثين يوماً ( المادة 312/2 إجراءات ) وما تنص عليه المادتان 232 ، 233 من تقرير البطلان جزاء على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بتشكيل المحكمة أو بولايتها بالحكم فى الدعوى أو باختصاصها من حيث نوع الجريمة المعروضة عليها (20).
الإجراء الجوهري الذي يترتب على مخالفته البطلان :
يمكن القول أن المشرع لم ير أن من حسن السياسة التشريعية أن يترتب البطلان على مخالفة أي إجراء من الإجراءات الجنائية ، وانما اشترط أن يكون ذلك الإجراء متضمنا قاعدة جوهرية ، وترك للقضاء تحديد ما هو الإجراء الجوهري الذى يترتب على مخالفته البطلان . وللتعرف على ما يعتبر من الإجراءات جوهرياً ، يجب الرجوع إلى علة التشريع فإذا قدر القاضي أن عدم مراعاة الإجراء سوف يترتب عليه تخلف الغاية المقصودة منه فى العمل الإجرائي ، كـان الإجراء جوهريا (21) ، بشرط إلا تكون هذه الغاية هي مجرد الإرشاد والتوجيه أي مجرد إرشاد القائم بالعمل الإجرائي وتوجيهه إلى القواعد التي تجعل عمله يؤدى على أفضل وجه ، فلكي يكون الإجراء جوهرياً لابد أن يكون الغرض منه المحافظة على مصلحة عامة أو مصلحة للمتهم أو غيره من الخصوم مثل المدعى بالحق المدني (22).
وقد اجتهد علماء القانون الجنائي ورجال القضاء فى محاولة لتحديد الإجراءات التي تتضمن قواعد جوهرية يترتب البطلان على مخالفتها وتلك التي لا تتضمن مثل هذه القواعد وسوف نعرض أولا لاجتهاد القضاء ثم نعرض اجتهاد علماء القانون الجنائي .
اجتهاد القضاء : (أ) الإجراءات غير الجوهرية :
------- ---------------
من النصوص الإجرائية التي رأت فيها أحكام القضاء أنها تقرر قواعد غير جوهرية وبالتالي لم ترتب على مخالفتها البطلان ، نص المادة 312 من قانون الإجراءات الجنائية التي نصت على ألا يتأخر توقيع القاضي على الحكم عن الثمانية أيام التالية لصدوره ، استناداً إلى أن القانون رخص
للقاضى أن يمد أجل التوقيع على الحكم ثلاثين يوماً (23) ، إذ اعتبرت المحكمة أن ما ورد في هذا النص هو من قبيل الإرشاد والتوجيه . كما قضى بأن ما تتطلبه المادة 271 من قانون الإجراءات
الجنائية من سؤال المتهم عن تهمته أمام محكمة أول درجة هو من الإجراءات التنظيمية التي لا يترتب على إغفالها بطلان (24). كما قضى بأن ما ورد فى المادة 278 من قانون الإجراءات الجنائية من إجراءات النداء على الشهود واحتجازهم بعد إجابتهم على الأسئلة التي وجهت إليهم هو من الإجراءات الإرشادية التى لا يترتب على مخالفتها البطلان (25) . وكذلك إجراءات تحريز الأشياء (26) وحكم بأن المادة 268 من قانون المرافعات إذ نصت على ضرورة وضع أهل الخبرة امضاءاتهم وعلاماتهم على الأوراق المقتضى المضاهاة عليها قبل الشروع فى التحقيق فإنها لم ترتب البطلان على مخالفة ذلك (27). كما قضى بأن بيان مكان انعقاد المحكمة ليس من البيانات الجوهرية التي يترتب على إغفالها البطلان (28). وكذلك إغفال القاضي التوقيع على محضر الجلسة لا يرتب بطلان الحكم (29).
وقضى بأن القانون لم يرتب البطلان على مجرد عدم توقيع كاتب التحقيق على محضره بل أنه يكون له قوامه القانوني بتوقيع عضو النيابة المحقق (30).
( ب ) الإجراءات الجوهرية :
-------------------------
أما ما يعتبر جوهرياً من القواعد التي تقررها النصوص الإجرائية فمنها ما نصت عليه المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية من أنه يجب على مأمور الضبط القضائي أن يرسل المتهم المقبوض عليه فى مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة العامة المختصة ، فإن أبقاه أكثر من ذلك وقع القبض باطلاً . وكذلك ما يوجبه القانون على المحقق من دعوة محامى المتهم للحضور قبل استجوابه . وما توجبه المادة 312 من قانون الإجراءات الجنائية من وجوب توقيع رئيس المحكمة
على أسباب الحكم فإذا لم يوقع على صفحة من صفحاته بطل الحكم فيما عدا حكم البراءة فلا
يبطل بعدم توقيع القاضي عليه ، وما قضت به محكمة النقض من أن تاريخ الحكم بيان جوهري يترتب على إغفاله بطلان الحكم (31).
وذلك فيما عدا أحكام البراءة فلا تبطل بعدم ذكر تاريخها (32). وقضى بأن العلانية فى جلسات المحاكمة إجراء جوهري يترتب على مخالفته البطلان (33). كما قضى بأن توقيع مصدر إذن التفتيش إجراء جوهري يترتب على مخالفته البطلان (34). وقضى بأن عدم ذكـر اسم المحكمة التى أصدرت الحكم يبطله ( 35). ولكن قضى أيضا بأن محضر الجلسة يكمل الحكم فى خصوص بيانات الديباجة ومنها بيان المحكمة التي صدر عنها (36) ، كما قضى بأن خلو الحكم من بيان العقوبة التي حكم بها يبطله حتى ولـو كانت العقوبـة مبينة فى أسباب الحكـم (37) وقضى بأن خلو الحكم من توقيع القاضي الذي أصدره يبطله ، ويستطيل البطلان إلى الحكم الاستئنافي الذي أيده (38). وقضى بأن اسم القاضي من البيانات الجوهرية التي يجب أن يشتمل عليها الحكم أو محضر الجلسة الذي يكمله فى هذا الخصوص وخلوهما من هذا البيان يجعل الحكم باطلا (39). وقضى بأن محضر الجلسة يكمل الحكم فى خصوص بيان المحكمة التي صدر منها والهيئة التي أصدرته وأسماء الخصوم فى الدعوى وسائر بيانات الديباجة عدا التاريخ (40).
كما قضى بأن استماع محكمة الأحداث إلى المراقب الاجتماعي بعد تقديم تقريره المنصوص عليه فى المادة 35 من القانون رقم 31 لسنة 1974 بشأن الأحداث إجراء من الإجراءات الجوهريـة التي قصد بها الشارع مصلحة المتهم الحدث ، فعدم الاستماع إليه يترتب عليه البطلان (41) كما قضى بأن قيام شخص من غير مأموري الضبط القضائي بإجراء التسجيلات الصوتية المأذون بها يترتب عليه بطلان الإجراء ما دام لم يثبت أن ما قام به كان تحت سمع المأمور المأذون له وبصره وينسحب هذا البطلان على الدليل المستمد منه (42).
الضوابط العلمية لجوهرية الإجراء :
إذا كانت أحكام القضاء قد ساهمت فى تحديد القاعدة الجوهرية التي يقدرها النص الإجرائي ويترتب البطلان على مخالفتها ، فإن علماء القانون الجنائي قد ساهموا بدورهم فى وضع ضوابط لما يعد جوهريا من الإجراءات . ومن جانبنا من الضوابط التي نرى أن نضيفها كي تساعد القاضي على التعرف على جوهرية القاعدة محل الإجراء وبالتالي ترتيب البطلان على مخالفتها :
(1) عبارة النص التشريعي : الذي قرر القاعدة محل المخالفة . فإذا كانت عبارة النص عبارة ناهية أي يستعمل المشرع " لا " الناهية كأن يقول المشرع " لا يجوز " فإنه يجب أن يرتب القاضي البطلان على مخالفة هذه القاعدة ، لأن استعمال المشرع عبارة النهى تعنى أنه لم ير أن يترك للقاضى التقدير فى هذه الحالة ، فلا يصح أن يقول المشرع على إجراء معين لا يجوز اتخاذ هذا الإجراء ، فإذا بالقاضي يقول بل يجوز ، لأن مهمة القاضي هي تطبيق القانون لا مخالفته ، مثال ذلك ما ورد فى المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية من أنه " لا يجوز أن ترفع الدعوى الجنائية الا بناء على شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه أو من وكيله الخاص إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي فى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 185 ، 274 ، 277 ، 279 ، 292 ، 293 ، 303 ، 306 ، 307 ، 308 من قانون العقوبات وكذلك فى الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون ولا تقبل الشكوى بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة وبمرتكبها ما لم ينص القانون على غير ذلك " (43) . فلا شك أنه يترتب على مخالفة هذا النص البطلان . ولذلك يبدو لنا محلا للنظر ما قضت به محكمة النقض من جواز أن يقوم بالتحقيق مع المحامى وتفتيش مكتبه أحد أعضاء الضبط القضائي رغم أن المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 تنص فى عبارة ناهية على انه " لا يجوز التحقيق مع المحامى أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة (44) " وبذلك تكون المحكمة قـد أجازت ما حظره المشرع صراحة ، ويزيد الأمر خطورة أن الأمر يتعلق بضمانة من ضمانات الحريات وهى شخص القائم بالتفتيش ، ونأمل أن تعيد محكمتنا العليا النظر فى هذا الحكم الفريد الذي ليس له فيما نعلم سابقة فى قضاء محكمة النقض . وفى مسائل الاختصاص إذا اختص المشرع جهة معينة بإجراء معين وورد فى عبارة المادة النص على أن اختصاص هذه الجهة يكون لها دون غيرها ، فإنه إذا خولفت هذه القاعدة بأن قامت بهذا الإجراء جهة أخرى ، وجب أن يترتب البطلان على هذه المخالفة .
( 2 ) ومن جهة أخرى نرى أن النصوص المتعلقة بالحريات كالقبض والتفتيش والضمانات المقررة لها والسلطات المختصة بها تعتبر قواعد جوهرية يترتب على مخالفتها البطلان ولو لم يستخدم المشرع عبارة ناهية وهى التي ورد النص عليها فى الدستور وبذلك يكون المشرع قد رفعها إلى مصاف المبادئ الدستورية (45) ، وكذلك النصوص المتعلقة بالآداب العامة ومنها قاعدة وجوب تفتيش الأنثى بمعرفة أنثى مثلها .
أنواع البطلان : المطلق والنسبي :
بعد أن اشترط المشرع فى المادة 331 وجوب أن يكون الإجراء الذي يترتب البطلان على مخالفته جوهرياً ، بين فى المواد التالية لها أن الإجراء الجوهري قد يكون متعلقاً بالنظام العام ويسمى بالبطلان المطلق ، كما قد يكون متعلقاً بمصلحة لأحد الخصوم ( المادتان 332 و 333 إجراءات ) ويسمى بالبطلان النسبي . وسمى البطلان مطلقاً فى الحالـة الأولى لما يتميز بـه مـن خصائص أقوى من البطلان النسبي على التفصيل الآتي :
1- البطلان المطلق وهو المتعلق بالنظام العام ، يجب على المحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها دون حاجة إلى طلب يقدم إليها في هذا الشأن (46) ، بينما يتوقف قضاؤها بالبطلان المتعلق بمصلحة لأحد الخصوم على تمسك صاحب الحق به بشرط عدم سقوط حقه فى الدفع به .
2- ليس لأحد حق التنازل عن البطلان المطلق صراحة أو ضمناً فيجوز الاحتجاج بالبطلان المطلق رغم سبق التنازل عنه (47). بينما يجوز التنازل عن البطلان النسبي وهو المقرر لمصلحة أحد الخصوم من قبل صاحب الشأن صراحة أو ضمنا فنصت المادة 333 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " فى غير الأحوال المشار إليها فى المادة السابقة يسقط الحق فى الدفع ببطلان الإجراءات الخاصة بجمع الاستدلالات أو التحقيق الابتدائي أو التحقيق بالجلسة فى الجنح والجنايات اذا كان للمتهم محام وحصل الإجراء بحضوره بدون اعتراض منه أما فى مواد المخالفات فيعتبر الإجراء صحيحاً إذا لم يعترض عليه المتهم ولو لم يحضر معه محام فى الجلسة . وكذلك يسقط حق الدفع بالبطلان بالنسبة للنيابة العامة إذا لم تتمسك به فى حينه " .
3- يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان المطلق ، بينما لا يجوز التمسك بالبطلان النسبي المقرر لمصلحة أحد من الخصوم إلا من الخصم الذي تقررت القاعدة التي خولفت لمصلحته . من ذلك ما قضت به محكمة النقض من أنه " لا صفة لغير من وقع فى حقه الإجراء الباطل ان يدفع ببطلانه ولو كان يستفيد منه لأن تحقق المصلحة فى الدفاع لاحق لوجود الصفة فيه" (48). وليس للنيابة العامة أن تتمسك ببطلان إجراء لم يتقرر لمصلحتها ، فليس لها مثلاً التمسك ببطلان ورقة
التكليف بالحضور أو بطلان الإعلان . ولا يمنع هذا النيابة من أن تطعن لمصلحة المتهم إذا كان
قد تمسك هو بالبطلان (49).
4- يجوز التمسك بالبطلان المطلق فى أية حال تكون عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة النقض (50) ، بينما لا يجوز الحكم بالبطلان المتعلق بمصلحة لأحد الخصوم إذا لم يكن قد تمسك به صاحب المصلحة فيه أمام محكمة الموضوع (51).
ضابط البطلان المطلق : النظام العام :
نصت المادة 332 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه " إذا كان البطلان راجعاً لعدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بتشكيل المحكمة أو بولايتها بالحكم فى الدعوى أو باختصاصها من حيث نوع الجريمة المعروضة عليها ، أو بغير ذلك مما هو متعلق بالنظام العام ، جاز التمسك به فى أية حالة كانت عليها الدعوى ، وتقضى به المحكمة - ولو بغير طلب " . ومن ذلك يتضح أن المشرع قد جعل من فكرة النظام العام ضابطا لاعتبار البطلان مطلقاً . فكلما تعلقت المخالفة الواقعة بنص إجرائي يعتبر من النظام العام كان البطلان مطلقاً ، وقد ضرب النص أمثلة لما يعتبر فى نظر المشرع متعلقاً بالنظام العام . إلا أن فكرة النظام العام فى ذاتها فكرة لم يمكن تحديدها ، فعلى حد تعبير محكمة النقض ، أن النصوص تدل فى عبارتهـا الصريحـة على أن الشارع لم يحصر - وما كان فى مقدوره أن يحصر - والقوانين السياسية والإدارية والمالية والجنائية أبداً متغيرة - المسائل المتعلقة بالنظام العام (52). وقد اعتبرت محكمة النقض بطلان الدليل المستمد من التحقيق التكميلي الذي تجريه النيابة العامة بناء على ندب المحكمة لها أثناء سير الدعوى بطلانا متعلقا بالنظام العام لا يعصمه من ذلك رضاء المتهم أو المدافع عنه بهذا الإجراء (53).
ولذلك كان من الواجب الاجتهاد لتحديد القواعد المتعلقة بالنظام العام فى قانون الإجراءات الجنائية . ومن جانبنا نرى ، أنه يمكن وضع المعيار الآتي لما يعتبر من القواعد متعلقاً بالنظام العام يترتب على مخالفته البطلان المطلق :
( 1 ) كل قاعدة ورد النص عليها فى الدستور أو نص عليها فى تشريع عادى إعمالا نص دستوري . ذلك أن القاعدة إذا رفعت إلى مصاف المبادئ الدستورية فليس من شك انها متعلقة بالنظام العام ولو كانت محققة لمصلحة أحد أطراف الدعوى . لأن تحقيق هذه المصلحة الأخيرة جاء بالتبعية لصيانة حق المجتمع ، مثال ذلك القواعد الخاصة بالحريات فقد نصت المادة 41 من الدستور على أن " الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة ، وذلك وفقاً لأحكام القانون ، ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي . " وهذا ما عبرت عنه المحكمة العليا بقولها " أن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة من قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة (54).
وعلى ذلك ، فأي قاعدة إجرائية تنظم ما ورد فى هذا النص الدستوري تعتبر من النظام العام ، وترتب مخالفتها البطلان المطلق . من ذلك عدم جواز قيام جهة غير قضائية بإجراء ماس بالحرية ، ومن ذلك ما نصت عليه المادة 67 من الدستور من ضرورة وجود مدافع لكل متهم بجناية . وكذلك القواعد الخاصة بأصل البراءة المفترض فى كل إنسان الذي نصت عليه ذات المادة .
(2) كل قاعدة تعتبر من الضمانات التى قررها المشرع لأي طرف من أطراف الدعوى الجنائية أو المدنية المنظورة بالتبعية لها ، تعتبر من النظام العام مثل الضمانات المتعلقة بشخص القائـم بالإجراء . فمثلا القاعدة التى تقضى بحظر قيام مأمور الضبط القضائي باستجواب المتهم ، تقوم فى أساسها على تقدير المشرع بضرورة توفير ضمانة فيمن يقوم بإجراء الاستجواب نظرا لخطورته وما قد يسفر عنه من اعتراف المتهم . فمخالفة هذه القاعدة يترتب عليها البطلان حتى ولو قبل المتهم ذلك . ومن هذا أيضا ما تنص عليه المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 من أنه لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة ، وذلك تقديرا من المشرع لأهمية ما يحتويه مكتب المحامى من أسرار عملائه مما لا يجوز الاطلاع عليها إلا من شخص تتوافر فيه ضمانات معينة هى أن يكون متمتعا بصفة قضائية ، وكذلك القاعدة التي تقضى بعدم جواز تفتيش شخص ومنزل غير المتهم إلا بعد استئذان القاضي الجزئي ، وقضى بأنه يجب على المحكمة أن تقوم بنفسها أو بمن تندبه من أعضائها باستيفاء التحقيق الذي طلبه الدفاع وليس لها أن تندب النيابة العامة للقيام بالإجراء المذكور وإلا كان ذلك إخلالا بحق الدفاع (55 ).
(3) كل قاعدة تتضمن تنظيم المشرع لحسن سير العدالة بصرف النظر عن مصالح الأطراف ، مثل قواعد الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية ، والإجراءات التي تتعلـق بشروط قبـول الدعوى الجنائية وتشكيل المحكمة وولايتها واختصاصها وعلانية الجلسات وشفوية المرافعة ، وإجراءات إصدار الأحكام والطعن فيها ، وقواعد تسبيب الأحكام ، وأخذ رأى المفتى قبل الحكم بالإعدام (56).
(4) كل قاعدة تكشف عن أصل عام من الأصول التى يقوم عليها المجتمع مثل القواعد التى تفرضها أخلاق الجماعة ولو لم يرد بها نص فى الدستور ، مثل قاعدة عدم جواز تفتيش الأنثى بغير أنثى مثلها . فهذه القاعدة تعتبر من النظام العام ولا يجوز للأنثى التنازل عنها بقبولها التفتيش من غير أنثى لأن هذا الوضع تأباه القواعد الأخلاقية التى يقوم عليها المجتمع .
ويتضح من الأمثلة التي أوردها المشرع فى نص المادة 332 من قانون الإجراءات الجنائية لما يعتبر من النظام العام والمذكرة الإيضاحية للقانون ، أنها أوردت تسبيب الأحكام ، وأخذ رأى المفتى قبل الحكم بالإعدام (57) ، وعلانية الجلسات ، وإجراءات الطعن فى الأحكام .
ولعلنا بهذا الاجتهاد نكون قد أسهمنا بقدر متواضع فى معاونة القضاء على أداء رسالته الصعبة فى تحديد ما يعتبر من الإجراءات من النظام العام ويترتب على مخالفتها البطلان المطلق مستهدياً فى ذلك بالجهود الفقهية فى هذا الشأن .