﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...﴾.(قرآن كريم)
هذا الكتاب كتب من وجه نظر القريبين من الحكومة، وقد نشرناه ليتعرف القارئ على ما كان يكتب دون أدلة لتبرئة نظام وحكم إبراهيم عبدالهادي والتبرير بما قام به فهمي النقراشي ضد الإخوان
(الكتاب الثاني)
... قلت في مقدمة كتابي الأول "قضية الاغتيالات السياسية" إنني أردت بإصداره أن أسجل حقبة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، فإن ذلك خير لنا من أن نستخرج حوادث الوطن السريعة النسيان من القبر لنكشف عن معمياتها.
والواقع أن هذا الهدف هو الذي حفزني لإصدار هذا الكتاب أيضًا، وإصدار سلسلة من الكتب عن "المحاكمات التاريخية الكبرى" تكون نبراسًا يهتدي به شباب الأجيال القادمة.
وقصارى أمنيتي أن يرضى الفقراء عن هذا المجهود المتواضع، وفقنا الله جميعًا إلى ما فيه خير الوطن العزيز، وسدد خطانا في ظل مليكنا المحبوب "فاروق الأول".
لطفي عثمان
يناير سنة 1950م
محمود فهمي النقراشي باشا
ولد بالإسكندرية عام 1888 م وبعد أن أتم تعليمه بمدرسة المعلمين بالقاهرة سافر إلى إنجلترا لتكملة دراسته في جامعة نوتنجهام ثم عاد إلى مصر واشتغل بمهنة التدريس.
وظل بضع سنوات يعمل مدرسًا في مدرسة رأس التين الثانوية ثم عين ناظرًا لمدرسة الجمالية بالقاهرة عام 1914 م وظل في هذه الوظيفة خمسة أعوام.
وقد أضاف إلى استعداده للتدريس استعدادًا آخر للإدارة. وقد انتفع من هذا الاستعداد بتعيينه في وظيفة مدير التعليم لمجلس مديرية أسيوط عام 1919 م. وإلتحق في العام التالي بوزارة الزراعة وكيلاً للإدارة.
وقد رقي بعد بضعة أسابيع إلى مساعد سكرتير عام وزارة المعارف.
وقد بدأ نشاطه السياسي عام 1919 م واشترك في الحركة الوطنية للاستقلال.
ثم أصبح عضوًا في الحركة الوفدية الناشئة ونظم لجانها الفرعية في القاهرة و الإسكندرية والمدن الأخرى. وفي عام 1924 م رقي وكيلاً لمحافظة القاهرة ثم وكيلاً لوزارة الداخلية.
وفي أواخر عام 1924 م، وبعد مقتل السردار السير لي ستاك باشا، قبض عليه وظل محبوسًا إلى فبراير التالي. ثم بعد ذلك بثلاثة أشهر قبض عليه ثانية واتهم هو وستة آخرون بالاشتراك في عدد من الجرائم السياسية وبرئ منها.
وقد كانت أول وزارة تولاها هي وزارة المواصلات في الوزارة الوفدية الأولى عام 1930 م، وهي نفس الوزارة التي تولاها بعد ذلك في 1936 - 1937 م.
وفي ذلك العام عندما عاد الوفد المصري من مؤتمر مونترو الذي ألغى الامتيازات فوجئ النقراشي بإخراجه من الوزارة الوفدية. وقد عرف فيما بعد بأنه اختلف مع زعيم الوفد بشأن نشاط هيئة القمصان الزرقاء الوفدية. وبعد ذلك بمدة قليلة استقال النقراشي هو والمغفور له أحمد ماهر باشا وأنصارهم من الوفد وكونوا الحزب السعدي.
وعندما دخل السعديون الوزارة الائتلافية عام 1938 م عين النقراشي باشا وزيرًا للداخلية. وفي العام التالي تقلد وزارة المعارف ثم وزارة الداخلية مرة ثانية ثم عين في سبتمبر 1940 م وزيرًا للمالية.
وقد حل في رئاسة الوزارة وزعامة الحزب السعدي بعد مقتل أحمد باشا ماهر عام 1945 م فيما خلا فترة قصيرة من عام 1946 م كان فيها إسماعيل صدقي باشا رئيسًا للوزارة وظل هو رئيسًا للحكومة منذ ذلك الحين بجانب تقلده وزارات الداخلية والمالية والخارجية.
أقوال الصحف الإنجليزية
ولعل من المفيد أن نتجزئ هنا بعض ما كتبته الصحف الإنجليزية عن مقتل النقراشي باشا وتعليقها على الحادث.
فقد "قالت المانشستر جارديان":
أن مقتل النقراشي باشا رئيس الوزارة المصرية السابق لهو عمل سوء. وقد حدث بعد سلسلة من الاعتداءات كانت أيدي جماعة الإخوان المسلمين واضحة فيها.
فمنذ ثلاثة أسابيع قتل حكمدار بوليس القاهرة في أحد الشوارع، وفي 21 نوفمبر دمرت الدار التي تحوي مكاتب أكبر جريدتين فرنسية وإنجليزية في مصر، وفي الشهر نفسه وقع حادث الاعتداء الرابع في مدى عامين على النحاس باشا، وفي أول العام قتل أحد القضاة ممن حكموا على أفراد تلك الجماعة.
وعندما نتذكر أن أحمد ماهر باشا رئيس الوزارة السابق للنقراشي باشا مباشرة قتل هو الآخر بيد واحد ممن كانوا يشايعون النازيين، فمن العسير أن لا نجزع للمستوى الذي سمح للحياة العامة في مصر أن تتدهور إليه.
وقد لقي النقراشي باشا منيته، عقب قراره الذي تأخر كثيرًا بحل جماعة الإخوان على أساس أن وجودها يهدد الأمن والنظام... وكان ذلك هو جواب الإخوان عليه.
وقالت "الديلي تلغراف":
"وهذه الجريمة لن تحقق غرضًا، وستقابل بالسخط والاستنكار في جميع أنحاء العالم، وقد محت من سجل الوجود رجلاً برهن خلال حياته السياسية الطويلة على أنه أقوى رجل سياسي في مصر،
ولكنها لم تغير بحال من نظام العهد الحاضر. ومن الجائز أنها قد تعطل من تركيز الجهود المبذولة في نواحي الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي، والتي مصر في مسيس الحاجة إليها،
بعد أن أهملت وطرحت ظهريًّا طويلاً بسبب الأهواء السياسية والاستعمارية، كما أن القضاء على نشاط العناصر الهدامة والعابثة بالقانون بين أفراد الشعب المصري – وهو ما لا بد منه- سيترتب عليه بطء في سير عجلة الإدارة المصرية سيرتها المنتظمة بنظام مطرد.
ولقد كان النقراشي باشا يتمتع بنوع من المزايا والسجايا تعينه على إحلال مصر مكان الزعامة والقيادة الفعلية بين الشعوب الإسلامية في الشرق الأوسط هذا لو كانت أتيحت له ظروف أفضل مما أتيح له".
وإنا لنشكر للصديق الأستاذ محمود النجوري مدير المحفوظات بوزارة الداخلية. فقد زودنا بترجمة حياة المغفور له النقراشي باشا ومقالات الصحف البريطانية.
رئيس المحكمة
... عين سعادة محمد مختار عبد الله بك عقب تخرجه عام 1920 م وكيلاً للنيابة، ثم نقل إلى السلك السياسي، وعين أمينًا للمحفوظات في مفوضية مصر في روما عام 1923، ثم نقل إلى مفوضية مصر في برلين، ورقي إلى وظيفة ملحق، ثم عاد إلى السلك القضائي عام 1927 م.
وظل يتدرج في وظائف النيابة والقضاء إلى أن عين رئيسًا للنيابة المختلطة عام 1940 م ثم مديرًا لإدارة المحاكم المختلطة، ثم قاضيًا بمحكمة مصر المختلطة.
وفي عام 1945 م عين مستشارًا بمحكمة استئناف أسيوط ثم محكمة استئناف مصر، وأخيرًا رأس دائرة العسكرية العليا.
واشتهر سعادته بدماثة الخلق وسماحة النفس، وسداد الرأي، وطهارة الذمة، وهو شغوف بالاطلاع ليس في القانون فحسب بل في الأدب والاجتماع وهو يجيد أربع لغات وهي الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية...
تقديم
... لا بد من كلمة نهيئ بها ذهن القارئ لما سيدور في جلسات المحاكمة في هذه القضية. ففي اليوم الثامن من شهر ديسمبر عام 1948 أصدر المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الحكومة آنئذ قرارًا موفقًا بمذكرة تفسيرية وضعها عبد الرحمن عمار بك وكيل وزارة الداخلية وقتئذ يقضي بحل جماعة الإخوان المسلمين وذلك للحوادث الإرهابية التي وقعت في مختلف أنحاء البلاد واتهم بارتكابها جماعة الإخوان على نحو ما سرده عمار بك في مذكرته التفسيرية.
وهكذا توقع الناس –بعد صدور هذا القرار – وقوع حدث ما ردًا على هذا القرار الذي أصر النقراشي باشا على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلت على ألا يرجع فيه...
ولم تمضي ثلاثة أسابيع على صدور قرار الحل، حتى هوى النقراشي باشا وخر صريعًا وسط فناء وزارة الداخلية ووسط عدد كبير من رجال البوليس المحيطين به وقد هوت معه أفئدة الملايين من المصريين وأصبحت مدينة القاهرة وهي أكثر المدن صخبًا وضجيجًا، صامتة ساكتة كأن على رؤوس أهلها الطير، فلقد كان الفقيد –باعتراف خصومه- وطنيًّا صادق الإيمان نزيهًا مخلصًا ذا ماضٍ مجيد.
كيف وقع الحادث
ففي نحو الساعة العاشرة وخمس دقائق من صبيحة يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1948م، وبينما كان دولة النقراشي باشا يسير في فناء وزارة الداخلية ميممًا شطر المصعد في طريقه إلى مكتبه وحوله ضباطه، وجنوده من رجال الحرس، تقدم شاب في ميعة الصبا، شاحب الوجه، وكان مرتديًا ثياب ضابط برتبة ملازم أول،
وصوب مسدسه نحو ظهر الفقيد، وأطلق رصاصتين أصابتا ظهر الفقيد، وسقط على ظهره يتضرج في دمائه، ولم تمضي دقائق حتى فارق الحياة وتمكن رجال البوليس الذين كانوا في حراسة الفقيد من اعتقال القاتل.
وقد ارتكبت الجريمة بسرعة فائقة حتى أن ياور الفقيد الصاغ عبد المجيد خيرت قد أذهله وقوع الحادث على هذه الصورة المروعة، وعقدت الدهشة لسانه، وفجأت أفاق من ذهوله وارتمى ومن كان معه من الكونستبلات والجنود على القاتل،
وانتزعوا المسدس من يده، بينما نقل الآخرون الجثة إلى حجرة الأستاذ صلاح الدين مرتجي وكيل إدارة الأمن العام، وكان الدكتور محمود حمدي سيف النصر قد سارع إلى مكان الحادث حينما سمع به أثناء وجوده في وزارة الصحة ولكن القضاء كان قد حم، وفاضت روح النقراشي باشا إلى بارئها.
المسدس
أما المسدس الذي استعمله القاتل فهو ماركة "برثا" طراز 1934 وقد كتب عليه باللغة الإفرنجية العبارة الآتية:
P. Beretta Cal 9 Corto Md 1934 Brevette Gardonne 1941 X1X 872511
وبه مشط ذو الست طلقات وهو أوتوماتيكي سريع الطلقات، وقد وجد في نهاية المشط من الخارج رصاصة لم تنطلق وهي عيار 9 ملليمتر وبها الرصاصة المغلفة، وطلقة أخرى مطلوقة من نفس العيار ونفس الشكل الظاهري وبها فدغ.
وقد أبلغ صابر طنطاوي بك مدير الأمن العام آنئذ الحادث تليفونيًّا إلى النائب العام –وكان محمود منصور باشا
- فاستقل سعادته سيارته فورًا وقصد إلى مكان الحادث ولحق به الأستاذ محمود إبراهيم إسماعيل رئيس نيابة جنوب القاهرة وبعض حضرات وكلاء النيابة وحكمدار بوليس القاهرة وكبار ضباط القسم السياسي والحكمدارية والمباحث الجنائية، ومن ثم بدأ التحقيق مع القاتل.
من هو القاتل ؟
والقاتل شاب يناهز الواحد والعشرين عامًا ويدعى عبد المجيد أحمد حسن وهو طالب بكلية الطب البيطري بجامعة فؤاد الأول وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين ورئيسًا لإحدى خلاياها بالجامعة.
أقوال القاتل الأولى
وقد تولى النائب العام نفسه التحقيق معه، ولما سئل القاتل عن جريمته اعترف بها قائلاً: "نعم أنا قتلته النهارده في الوزارة بالمسدس إللي ضبط معي وكنت بمفردي، وكنت لابس ملابس ضابط إللي هي علي الآن، وقتله لأنه خاين للوطن".
وقد نوقش في تفصيلات الجريمة فقال:
"أنا جيت الداخلية النهاردة الساعة 10.00 كده وكنت لابس ملابس ضابط ولما وصلت الوزارة دخلت من الباب العمومي وكان معي المسدس المضبوط ودخلت في وسط الصالة ووقفت شوية كده وقالوا إن النقراشي باشا جاي فلما شفته طالع متجه نحو مكان الأسانسير المجاور للسلم طلعت المسدس من جيبي اليمين للبنطلون ورحت ضاربه وكان وقتها تقدم لي شوية في طريقه إلى المصعد فأطلقت النار عليه من الجنب للخلف وأنا كنت ساعتها واقف على شماله وهو متجه إلى المصعد.
وسئل –متى ظهر النقراشي باشا في الصالة؟
-بعد أن انتظرت خمس دقائق، ظهر النقراشي باشا.
وأجاب عن سؤال آخر أنه كان يسير حول النقراشي باشا وخلفه أشخاص كثيرون يرتدون ملابس ملكية.
-عندما دخلت الوزارة بزيك العسكري وقبل أن يصل النقراشي باشا. ألم يعترضك أحد؟
-لا.
-وهل أنت تعرف شخص النقراشي باشا؟
-أعرف شكله من الصور.
-متى صممت على قتل النقراشي باشا.
-من حوالي جمعتين.
-ما هي الظروف التي كونت فيها فكرة القتل.
-نبتت هذه الفكرة عندي، وهي فكرة قتله، في جملة ظروف تجمعت عندي، وهي أولا موضوع السودان فإنه لم يقم بأي عمل إيجابي. وثانيا فلسطين فإنها ضاعت وأخذها اليهود وهذا يرجع إلى تهاون النقراشي باشا.
والعامل الثالث أنه اعتدى على الإسلام وهو أنه شرد الطلبة من الكليات وحل جماعة المسلمين وما يتصل بها من شركات كانت جماعة الإخوان المسلمين قد أقامتها فهو أمر بحلها وأنا لما رحت كلية الطب البيطري علشان الدراسة قالوا لي أنك مبعد لنشاطك مع أن الكلية بتاعتنا لم تشترك في حوادث كلية الطب أو الجامعة فكل هذه العوامل جعلتني أفكر في الإقدام على هذا العمل وهو قتل النقراشي باشا أي أنه من أسبوعين أنا صممت على قتله.
-كيف رتبت هذه الجريمة.
-أنا كنت ماشي في وكالة البلح من سبعة أيام فلقيت واحد معه بدلة الضابط إللي أنا لابسها الآن ويقول عنها أنها جديدة وعارضها للبيع فلما وجدت البدلة لاحظت أن قماشها كويس فاشتريتها بثلاثة جنيه ونصف وكذلك اشتريت المسدس من مدة خمسة أيام من واحد في عين شمس وهو واحد عربي لا أعرفه وكذلك الطلقات اشتريتها منه باثنين جنيه وبعدين لبست البدلة النهارده وجيت النهارده وجيت هنا ومعي المسدس علشان أقتل النقراشي.
-وهل ذهبت إلى سوق البلح كما تقول خصيصًا لمشتري بدلة الضابط.
-أنا قصدي أقول سوق الكانتو الموجود في الفحامين وأنا رحت مصادفة هناك فوجدت الرجل إللي باع لي البدلة هناك فاشتريتها.
-وما الذي جعلك أن تشتري هذه البدلة وهي بدلة ضابط إذا كنت لم تذهب خصيصًا لمشتراها.
-البدلة صوف وجديدة ولما وجدت أن ثمنها ثلاثة جنيهات ونصف وده ثمن بسيط اشتريتها.
-وهل كنت تنوي أن تلبسها وهي على هذه الصورة وبزيها الأصلي.
-ده ما يمنعش أن الواحد يلبس بدلة ضابط.
-ولكنها بدلة بزراير صفراء وعلى كتفها نجمتين ولا يلبسها إلى ضابط أو من يريد أن يتعمد التزيي بها لغرض خاص.
-ده ما فيهاش تعمد.
-وهل خرجت من منزلك في صباح اليوم ترتديها.
-لا.
-ما هي الملابس التي كانت عليك وقت خروجك من المنزل في هذا الصباح.
-بنطلون جبردين وجرس.
-وأين كانت بدلة الضابط.
-كنت عاينها تحت سلم بيتنا.
-وأين الجرس والبنطلون.
-لما لبست بدلة الضابط رميت الجرس والبنطلون الجبردين في النيل.
-ولم رميتها؟.
-علشان أتخلص منها.
-وكيف كنت تخفي بدلة الضابط من يوم أن اشتريتها.
-كنت عاينها في الشنطة تحت السرير وفي الليلة الماضية أي ليلة أمس أخذتها ووضعتها تحت السلم.
-ألم تطلع أحدًا من أهلك على أنك اشتريت بدلة ضابط؟
-لا.
-ولم أخفيت ذلك على أهلك؟
-ما حدش يسألني من أهل البيت على أي حاجة أعملها.
-من الذي يقيم معك في المنزل؟
-والدتي إقبال حسني وأخي محمد عيسى أحمد حسن وهو طالب في مدرسة فاروق الأول الثانوية ولي أختين إحداهما هدى والثانية فاطمة ولي أخ ضابط يقيم في الخارج في منزل بمفرده ويسمى حسن أحمد حسن وهو ضابط بسلاح المدفعية ومتزوج وله أولاد.
-متى دخلت كلية الطب البيطري؟
-هذه رابع سنة وأنا في السنة الثالثة.
-وهل تقبض الخمسين جنيه في يدك.
-أنا أقبض الخمسين جنيه على دفعات وقبضت من هذا المبلغ مرة عشرة، ومرة عشرين، ووالدتي هي التي تتولى الصرف علينا من هذا المبلغ، وأنا باخد من هذا المبلغ مصاريف شخصية إلى حوالي جنيه أو اثنين جنيه ومن هذا المبلغ اشتريت المسدس والبدلة.
-اذكر لنا أين ذهبت من وقت خروجك من المنزل في صباح هذا اليوم.
-رحت في الغيطان نواحي الوايلي وقلعت الجرس والبنطلون ولبست بدلة الضابط وبعدين رحت على قصر النيل رميت البنطلون والجرس وجيت على الداخلية.
-ألم يرك أحد وأنت تخلع ملابسك وتستبدلها بملابس الضابط.
-لا.
-ما الذي جعلك أن تغير ملابسك وترتكب الجريمة وأنت بزي ضابط.
-أنا لبست ضابط علشان أضمن أن العملية تتم.
-إذن أنت تدرك أنه كان من الصعب أن تتم الجريمة دون أن تكون باللباس العسكري الذي أنت عليه الآن.
-أنا قلت قبل الآن أني لبستها لكي أتمكن من دخول الوزارة أي وزارة الداخلية وهذا أهم شيء.
-في أي وقت فكرت أن ترتدي هذا الزي وترتكب هذه الجريمة.
-بعد ما اشتريت البدلة افتكرت أني أرتكب بها الجريمة.
-أين كنت تضع المسدس قبل اليوم.
-كنت شايله باستمرار.
-هل تعرف الأعمال الحكومية التي يقوم بها دولة النقراشي باشا.
-أنا أعرف أنه رئيس الحكومة ويقوم بأعمال الداخلية والخارجية.
-ومن أين عرفت أنه سيحضر اليوم لوزارة الداخلية حتى أنك اخترتها لارتكاب جريمتك.
-أنا جي ارتجالي كده.
-وإذا لم يكن قد حضر فما الذي كنت تفعله.
-أروح على البيت.
-ولكنك كما تقول اعتزمت قتله، وأنك أعددت كل الوسائل للجريمة.
-أنا كنت أروح البيت.
-ولكنك ألقيت بملابسك الأصلية في النيل.
-كنت أرجع وأنا ضابط البيت لأن ما فيش وسيلة غير كده.
-وما الذي جعلك أن تفهم أنه يصل في الميعاد الذي وصلت أنت فيه إلا إذا كنت تراقبه وتراقب ساعات وصوله والأمكنة الحكومية التي يتردد عليها حتى أنك انتظرته في وزارة الداخلية اليوم.
-أنا أعرف أنه بيروح مجلس الوزراء ويتردد على الداخلية والخارجية فقلت آجي النهارده الداخلية.
وهكذا وصل القاتل طول التحقيق، يحاور ويداور، ويرواغ المحقق إلى أن كان يوم 14 يناير سنة 1949 م أي بعد مقتل النقراشي باشا بستة عشر يومًا، حيث بدأ أول اعترافه الصحيح، وكان ذلك غداة حادث محاولة نسف دار حكمة الاستئناف، وعقب صدور بيان المرحوم الشيخ حسن البنا، الذي استنكر فيه جريمة قتل النقراشي باشا، وتبرأ من مرتكبيها، وندد بهم.
وانتهى هذا الاعتراف المفصل، بأن أشرك معه خمسة آخرين من جماعة الإخوان هم: محمد مالك يوسف محمد مالك موظف بمطار ألماظه، وعمره 25 سنة، وعاطف عطية حلمي طالب بكلية الطب وعمره 25 سنة، و كمال سيد سيد القزاز تاجر موبيليات وعمره 26 سنة وعبد العزيز أحمد البقلي ترزي أفرنكي وعمره 26 سنة والشيخ سيد سابق محمد التهامي وعمره 35 سنة وهو من العلماء،
وهؤلاء هم الذين وضعت أسمائهم؛ ومعهم عبد المجيد أحمد حسن، قائمة الاتهام الأولى وقد وجهت إلى الأول تهمة القتل العمد من سبق الإصرار والترصد، والباقون اشتركوا معه بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة في ارتكاب هذه الجريمة وجريمة إحراز سلاح بدون ترخيص.
اعتراف ثانٍ
ولم تمض أيام على رفع الدعوى العمومية على هؤلاء المتهمين الستة، وإرسال أوراق القضية إلى سكرتارية محكمة الاستئناف تمهيدًا لتحديد جلسة المحاكمة، حتى أرسل عبد المجيد أحمد حسن خطابًا لسعادة النائب العام، يبدي فيه رغبته في تكملة اعترافاته.
وكان من نتيجة هذه الاعترافات التكميلية -وسنوردها بالتفصيل مع الاعترافات الأولى في حينه- التي تولاها سعادة محمد مختار عبد الله بك رئيس المحكمة العسكرية العليا بنفسه، وبمعانة الأستاذ أحمد موافي، وذلك بناء على طلب سعادة محمود منصور باشا النائب العام في ذلك الحين، إذ رأت النيابة أن يقوم بسماع هذه الاعترافات قاض تحقيق ينتدبه رئيس محكمة مصر.
كان من نتيجة هذه الاعترافات التكميلية أن رفعت النيابة الدعوى العمومية على تسعة متهمين آخرين، وبذلك بلغ عدد المتهمين في هذه القضية خمسة عشر متهمًا.
وهؤلاء التسعة هم: السيد فايز عبد المطلب وهو مهندس ومقاول مباني وعمره 29 سنة، ومحمد صلاح الدين عبد المعطي موظف بوزارة الدفاع وعمره 30 سنة وشفيق إبراهيم أنس موظف بوزارة الزراعة وعمره 21 سنة
–وهو محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة لمحاولته نسف محكمة الاستئناف ومحمود كامل السيد طالب بكلية الحقوق وعمره 23 سنة وعبد الحليم محمد أحمد طالب بكلية الآداب وعمره 24 سنة ومحمود حلمي فرج موظف بوزارة الداخلية وعمره 27 سنة، ومحمد أحمد علي موظف بقسم المباني بالأشغال وعمره 25 سنة، وجلال الدين يس طالب بكلية التجارة وعمره 24 سنة، ومحمد نايل محمود إبراهيم طالب بكلية الهندسة وعمره 20 سنة.
وقد وجهت إليهم تهمة الاشتراك مع عبد المجيد أحمد حسن بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة في ارتكاب جريمتي قتل محمود فهمي النقراشي باشا عمدًا مع سبق الإصرار والترصد وإحراز سلاح ناري بدون ترخيص، بأن انعقدت إرادتهم على قتل المجني عليه بوصف كونهم هم وعبد المجيد أحمد حسن أعضاء في جمعية إرهابية من وسائلها القتل ووقع اختيارهم عليه لتنفيذ الجريمة، فأمروه بارتكابها وجهزوا له السلاح، والملابس العسكرية، ورسموا له كيفية ارتكاب الجريمة ووضعوا خطة لمؤازرته أثناء تنفيذها.
بدء المحاكمة
حددت المحكمة العسكرية العليا يوم السبت 6 أغسطس سنة 1949 للبدء في المحاكمة، ولم يتوقع الناس أن تنظر القضية في مثل هذا الشهر الشديد الحرارة لاسيما وأن أكثر المحامين من أعضاء هيئة الدفاع كانوا يقضون عطلة الصيف خارج القاهرة.
ومع ذلك عقدت الجلسة في "هذا الموعد" وكانت المحكمة مؤلفة من صاحب العزة محمد مختار عبد الله بك رئيسًا، وأصحاب العزة محمد شكري طلحة بك ومحمد غالب عطية بك. والأميرالايين أحمد صالح أمين بك وإبراهيم زكي الأرناؤوطي بك أعضاء.
ومثل الاتهام الأستاذ محمد عبد السلام وجلس إلى جانبه الأستاذ محمد إسماعيل عروض، الأفوكاتو العمومي وقتئذ والمستشار الآن وقام بأعمال السكرتارية الأستاذان محمد حسن النجار وحسين عبد الرحمن.
كلمة رئيس المحكمة
وقد ألقى رئيس المحكمة في هذه الجلسة الكلمة التالية:
لعل الدفاع يذكر أن المتهم الأول عبد المجيد أحمد حسن أبدى في تحقيق قضية الاتفاق الجنائي، أقوالاً تناولت واقعة مقتل النقراشي باشا والاشتراك فيه،
ونظرًا إلى أن هذه الأقوال صدرت عن متهم مقدم للمحاكمة، وتناولت متهمين مقدمين معه بتهمة الاشتراك في القتل، فقد عرضت النيابة أمر هذه الأقوال على المحكمة لترى رأيها فيما تأمر به من اجراءات.
وبما أن المحكمة قد اتصلت بالدعوى، فقد قررت في جلسة سابقة ندب رئيسها لتحقيق الأقوال الجديدة التي أدلى بها المتهم الأول، وقد انتهت المحكمة من تحقيقها ورأت أن تحيل الأوراق الخاصة بهذا التحقيق للنيابة لاتخاذ ما تراه، وأظن أن هذه فرصة لحضرات المحامين ليطلعوا ويستعدوا في القضية.
وهنا استأذنت النيابة من المحكمة بأن تعلن متهمين جدد وبتقرير جديد، أن كان هناك محل لذلك، فأذن رئيس المحكمة بذلك قائلاً أن للنيابة حق في أن ترفع الدعوى على من تشاء وتحتفظ المحكمة لنفسها بالحق الذي خوله لها القانون.
ثم أجلت القضية إلى جلسة 20 أغسطس، وهذه هي الجلسة التي رفعت النيابة بعدها الدعوى العمومية على المتهمين التسعة الآخرين على نحو ما قدمنا.
جلسة 20 أغسطس: ضم قضية مقتل سائق السيارة الأرمني
وقد عدت هذه الجلسة برئاسة محمد مختار عبد الله بك وعضوية محمد غالب عطية بك ومحمد عبد العزيز كامل بك، ومثل النيابة الأستاذ محمد إسماعيل عوض المحامي العام.
وفي هذه الجلسة طلب الدفاع ضم قضية مقتل سائق السيارة الأرمني الذي قيل على لسان عبد المجيد أن بعض زملائه قتلوه بحقنة بمادة سامة، كما طلب الدفاع تأجيل القضية ليستعدوا، والتصريح لهم بإعلان شهود نفي، وإحالة بعض المتهمين إلى الطبيب الشرعي لفحص ما بهم من إصابات من جراء تعذيب البوليس لهم على حد قولهم.
وبعد مناقشة قصيرة، قررت المحكمة تأجيل القضية أسبوعًا واحدًا.
جلسة 27 أغسطس: محاولة ضم قضية السيارة الجيب وعدة دفوع
وكان الزحام شديدًا في هذه الجلسة، ولوحظ امتلاء القاعة بالسيدات من أقارب المتهمين.
وقد مثل الاتهام في هذه الجلسة الأستاذان محمد عبد السلام و محمد عبد الله المحامي العام الآن.
وحاول الدفاع عبثًا في هذه الجلسة أن يحمل المحكمة على تأجيل القضية، فقد أصرت على نظرها.
وطلب الأستاذ أحمد حسين ضم قضية السيارة الجيب ونظرها مع هذه القضية لارتباطها بها في الأدلة والمرافعة إذ ليست هناك أدلة ضد موكله في هذه القضية وإنما الأدلة المقامة عليها مستمدة من قضية سيارة الجيب.
ورد رئيس المحكمة قائلاً أن هذا المتهم وجهت إليه تهمة الاشتراك في الاتفاق الجنائي،
فالمحكمة لا يهمها إلا الأدلة والوقائع القائمة في هذه القضية وهي لا تتأثر من أي شيء آخر، فأمامها وقائع محددة فليس لها أن تتأثر بقضية أخرى لا يزال التحقيق فيها مستمرًا.
ووافقت المحكمة على إعلان عبد الرحمن عمار بك لسماع شهادته في قضية التدرب على استعمال الأسلحة في جبل المقطم التي حفظتها النيابة.
وبعد ذلك تلى قرار الاتهام، ثم نودي المتهمون وسئلوا عن التهم المنسوبة إليهم فأنكروها جميعًا ما عدا القاتل –عبد المجيد- فقد اعترف بها وقال أنه كان واقعًا تحت تأثير.
ونادت الحكمة محمد مالك وأمرته بالحضور أمام المنصة وطلبت إليه أن يكشف عن الإصابات التي في جسمه فكشف عن ساقه اليسرى، وشوهد أثر بها.
وأثار الأستاذ محمود الحناوي في هذه الجلسة مسألة رد رئيس المحكمة وبنى الرد على أسباب كثيرة.
وقد نظر الرد وتقرر رفضه، وحظرت المحكمة نشر ما دار حول هذا الطلب.
دفع فرعي
ثم وقف الأستاذ يوسف يعقوب المحامي عن كمال السيد القزاز و محمد صلاح الدين ودفع دفعًا فرعيًا ببطلان التحقيق الذي أجراه رئيس المحكمة وطلب استبعاده من أوراق الدعوى.
ومضى حضرته يشرح هذا الدفع فقال أن أساس الطعن ليس الجدل حول ما إذا كانت محاكم الجنايات تملك إرجاء مثل هذا التحقيق وبالكيفية التي تم بها ولكن أساسه هو هل هذه المحكمة في تأليفها القانوني والأغراض التي هدف المشرع إليها من إنشائها تستمتع بجميع السلطات التي يخولها القانون لمحاكم الجنايات، ومن ذلك حق التصدي للدعوى العامة بإدخال متهمين جدد، أو اجراء التحقيق المطعون فيه، وبالكيفية التي تم بها، مهما قيل من أن النيابة، هي التي طلبته أو فوضت الأمر فيه.
ومضى فقال:
فإذا رجعنا إلى قانون تحقيق الجنايات الصادر في سنة 1904 وجدنا المادة 62 تقصد حق التصدي في الدعوى العمومية على محكمة الاستئناف وبذلك خرجت المحاكم الابتدائية وقضاتها من النص.
فلما ألغى نظام الدرجتين في الجنايات وحل محله نظام محاكم الجنايات، تمسكت هذه المحاكم بهذا الحق معتبرة نفسها أنها حلت محل دائرة الجنايات بمحكمة الاستئناف وقد أقرتها محكمة النقض في هذا الرأي.
والسؤال بعد ذلك هو هل المحكمة التي نترافع أمامها من حيث تأليفها القضائي محكمة جنايات أو محكمة شبيهة بها بقطع النظر عن العنصر العسكري الداخل فيها.
وبعد أن تناول بالبحث المادة الخاصة بتأليف المحكمة العسكرية قال أنه إذا كان وزير العدل قد درج على سنة اختيار القضاء جميعهم من مستشاري محكمة الاستئناف فليس ذلك نزولاً على ما يتطلبه القانون ولكن زيادة في ضمانات المحاكم حتى لا يقال أن المحاكم التي تنظر الجنايات العسكرية تتكون من قضاة أقل مرتبة وخبرة من القضاة الذين ينظرون الجنايات المدنية،
وهذا الاجراء الصائب لا يغير من الأوضاع شيئًا، بمعنى أنه لا يسبغ على المحكمة التي تنظر الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة أشد من الحبس. سلطة أوسع لمجرد اختيار قضاتها من بين مستشاري محكمة الاستئناف لأن هذا يؤدي إلى اختلاف سلطة المحكمة واختصاصاتها تبعًا لاختيار الوزير لا لحكم القانون.
وانتهى الأستاذ يوسف إلى القول أنه إذا كان قد أثير في الفقه والقضاء بحوث حول ما إذا كان يجوز للمحكمة أن تنتدب النيابة لاجراء تحقيق في دعوى مطروحة أمامها أم يجب أن تجريه هي بنفسها، فإن العكس أي ندب النيابة للمحكمة مفروغ بعدم جوازه.
رد النيابة
ثم قام الأستاذ محمد عبد السلام ممثل الاتهام، ورد على هذا الدفع فقال أنه طبقًا للمواد الخاصة بحق الاستئثار المستمد من القانون العام والأحكام العرفية ترى النيابة أن للمحكمة الحق في أن تجري تحقيقًا تكميليًّا وتدخل متهمين جددًا وأن حقها في هذه القضية كحق محاكم الجنايات العادية، وأن محكمة النقض والإبرام قد أعطت هذا الحق للمحاكم المؤلفة من قضاة،
كما أعطته للمحاكم المؤلفة من مستشارين وعلى ذلك يكون استئثار هذه المحكمة باجراء التحقيق بوساطة أحد حضرات أعضائها، هو اجراء سليم يتفق مع القانون.
رفض الدفع
ثم رفعت الجلسة للمداولة ثم أصدر رئيس المحكمة قرارها في الدفع وهو يقضي برفضه.
دفعان آخران
وعقب ذلك وقف الأستاذ عبد الكريم محمود منصور المحامي عن سيد سابق، وقد دفعين فرعيين أولهما خاص بأن الأمر العسكري،
الذي أحال على المحكمة العسكرية هذه القضية لا يعد باطلاً فحسب، بل غير موجود أصلاً وذلك لعدم عرضه على البرلمان في ظرف أسبوع من تاريخ صدوره وفق القانون رقم 73 لسنة 1923 حيث إن إحالة جرائم القانون العام على المحكمة العسكرية ليس من ضمن المسائل المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 15 لسنة 1923 التي حددت اختصاصات المحاكم العسكرية.
أما الدفع الثاني فخاص بعدم اختصاص المحاكم العسكرية بالنظر في قضية عقوبتها الإعدام.
وتكلم عن الدفع الأول من الناحية القانونية، فقال إن هذا الأمر العسكري كان يجب عرضه على مجلس الوزراء فالبرلمان وينال موافقته. وأكد أن هذا الأمر لم يعرض على البرلمان، ولم يستطع أن يجزم إذا كان قد عرض على مجلس الوزراء أم لا.
ثم تكلم عن الدفع الثاني فاستشهد بأحكام محاكم إنجلترا التي استمد منها التشريع المصري، وضرب مثلاً بقضية شخص حكم عليه بالإعدام في قضية نظرت أمام محكمة عسكرية اتهم فيها بالتجسس على إنجلترا. فقدم التماسًا في الحكم، ودفع هذا الدفع عند نظر الالتماس وقضى بإلغاء الحكم.
وهنا كانت الساعة قد بلغت الثانية إلا عشرة دقائق، فرفعت الجلسة على أن تعقد صباح اليوم التالي، ليواصل الأستاذ عبد الكريم منصور بحثه القانوني في هذا الدفع.
جلسة 28 أغسطس: المرافعة في الدفوع
كانت الرغبة شديدة في شهود هذه الجلسة فازدحمت قاعة الجلسة بعدد كبير من النظارة.
وقد احتج الأستاذ أحمد حسين المحامي عن المتهم الثالث في هذه الجلسة على إحدى الصحف بوصفها المتهمين بأنهم إرهابيون، وطلبت المحكمة من النيابة اتخاذ ما تراه من اجراءات نحو هذه الصحيفة.
كما قال الأستاذ أحمد حسين أنه يتمسك بإحالة المتهم الأول إلى الطبيب الشرعي لفحص قواه العقلية على الرغم من تنازل محامي هذا المتهم عن هذا الطلب. إذ إنه يرى أن ذلك من مصلحة موكله المتهم الثالث. وطلب أيضًا أن يسمح له بتقرير استشاري عن هذه الحالة.
وقال القاتل إن جلال الدين يس، أحد المتهمين طلب إليه أن يتظاهر بالجنون، فكذبه جلال.
وحدث أثناء مرافعة الأستاذ عبد الكريم منصور في دفوعه الفرعية التي قدمها، أن وصف وزير العدل بأنه حر دستوري فهو إذن رجل حزبي.
فقاطعته المحكمة طالبة إليه ألا يقحم السياسة في القضية فهي قضية قتل، والمحكمة تنظرها على أساس أنها قضية قتل. وليس لها شأن بالسياسة.
وهنا وقف الأستاذ أحمد حسين وقال محتدًا:
"إن هذه القضية سياسية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فشخص يقتل رئيس الحكومة ليس كشخص يقتل زيدًا من الناس. وما دام الأمر كذلك فإني أطلب إذن استدعاء دولة إبراهيم عبد الهادي باشا، وسعادة الأستاذ محمد حامد جوده، وسعادة عبد الرحمن عزام باشا، لأنه يرى أن هؤلاء الرجال هم الذين أوصلونا إلى هذا المكان".
ورد رئيس المحكمة قائلاً إن المحكمة إذا رأت في أثناء المرافعة ما يدعو إلى سماع أقوالهم فستدعوهم لهذا الغرض.
المرافعة في الدفوع
ثم نهض الأستاذ عبد الكريم منصور، واستأنف مرافعته في الدفوع الفرعي الثاني، وهو خاص بعدم اختصاص المحاكم العسكرية بنظر قضية عقوبتها الإعدام. ثم قدم أربعة دفوع أخرى هي:
أولاً: إن قضاء المحاكم العسكرية هو بمثابة القضاء المستعجل، حتى إن سعادة رئيس المحكمة رفض التأجيل بحجة أنه قضاء مستعجل، وأن الثابت قانونًا أن الواقعة إذا مضى عليها عدة شهور، فقد انتفت الحكمة من تقديمها إلى قضاء مستعجل، وقد مضى حوالي سنة على هذا الحادث. فلا يصح نظرها أمام محكمة عسكرية.
ثانيًا: إن القانون رقم 73 لسنة 1948 قد حدد للمحاكم العسكرية اختصاصًا في مسائل معينة بالذات، وحرم عليه أن يتوسع فيها أو يزيد عنها وبشرط آخر هو ألا يستخدمها إلا بغرض حفظ أرواح الجنود في فلسطين بطريق مباشر وقد فسر القانون أن التحريض على كراهية الحكومة، وإن كان من شأنه أن يولد ثورة تؤثر على الجيش في فلسطين،
إلا أنه لا يجوز استخدام الأحكام العرفية في محاكمة من يتهمون به إلا إذا قامت الثورة فعلاً، فحادث قتل النقراشي قد وقع فعلاً، ولم تتأثر الجيوش المصرية به هناك، فهذا يدل على أنه لا صلة له بحفظ الأرواح في فلسطين، فهو إذن قتل عادي كغيره من الحوادث، وإذن لا تكون هناك ثمة ضرورة لتقديم القضية للمحاكم العسكرية.
ثالثًا: بطلان المحاكمة في هذه القضية أصلاً لعدم وجود قضاء مؤلف تأليفًا قانونيًا
"FAUTE DE JURIDICTION"
وذلك وفقًا للمادة الرابعة من المادة "49" من قانون الأحكام العسكرية التي تحيل عليها المادة السابعة من هذا القانون، وهي تقضي بعدم صلاحية القاضي العسكرية إذا كان قد أجرى تحقيقًا على انفراد وسمع شهودًا بعيدًا عن جلسة المحاكمة.
رابعًا: إن القانون، إن كان قد حرم المتهمين من طرق الطعن في الأحكام فإنه قد حتم مراجعة هذه الأحكام بوساطة وزير العدل، ثم الحاكم العسكري العام، الذي له أن يخفف الحكم أو يحفظ الدعوى بعد الحكم فيها، ومعنى ذلك البراءة، فإذا كانت هناك مصلحة سياسية لدى هذه الجهات المكملة مراجعة بحث هذه الأحكام حفظت القضية.
وبعد أن أفاض في شرح نصوص مختلفة من قوانين الأحكام العرفية، والأحكام العسكرية واستشهد بأحكام المحاكم في إنجلترا التي أخذ المشرع المصري منها هذه القوانين قال إنها جميعًا تقطع بعدم اختصاص المحاكم العسكرية المؤلمة بمقتضى قانون الأحكام العرفية بالحكم في قضية عقوبتها الإعدام.
ثم قال: إن لديه دفوعًا أخرى وطلب إعطاءه مهلة لإعدادها وتقديمها في مذكرة.
رد النيابة
وقد رد الأستاذ محمد عبد السلام ممثل الاتهام على الدفع الأول اخلاص ببطلان الأمر العسكري، الذي أحال هذه القضية على المحكمة العسكرية فقال إنه سبق أن دفع مثل هذا الدفع أمام المحاكم العسكرية في قضية الضابط المتهم بتسهيل هرب حسين توفيق أحمد. وأن النيابة تكتفي بما جاء في حيثيات قرار المحكمة القاضي برفض الدفع.
وفيما يختص بالدفع الثاني الخاص بعدم اختصاص المحكمة العسكرية بنظر قضية عقوبتها الإعدام، فقد شرح نص المادتين 5 و 6 من قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923، وقال إنه يستخلص منهما اختصاص هذه المحكمة بنظر القضية.
أقوال الشهود
وعقب ذلك نودي الشاهد الأول الصاغ عبد المجيد خيرت الضابط ببلوك السواري وياور المغفور له النقراشي باشا، فلبى وأقسم اليمين وروى كيف وقع الحادث فقال إنه في هذا اليوم خرج مع النقراشي باشا من منزله في الساعة العاشرة إلا ثلثًا ولما وصل الركب إلى دار وزارة الداخلية نزل دولته من السيارة وسار الشاهد إلى يساره حتى وصل إلى باب المصعد وعندئذ سمع طلقين ناريين ورأى المتهم وفي يده المسدس وتمكن من اعتقاله مع بعض زملائه.
ومما قاله هذا الشاهد ردًا على أسئلة المحكمة، أنه عندما دخل صالة الوزارة، لفت نظره وقوف ضابط على مقربة من باب المصعد،
وظن أن المكلفين حراستها قد قاموا بواجبهم وأن الضابط مسئول عن حراسة الصالة قد استقبلهم عند الباب وسار أمام الباشا وأنه لم ير المتهم وهو يطلق الرصاص ولكنه رآه بعد ذلك، وكان مرتديًا بذلة ضابط بوليس برتبة الملازم الأول سوداء اللون،
وأنه كان يقوم بحراسة النقراشي باشا منذ ستة أشهر سابقة على يوم الحادث، وأنهم كانوا يغيرون الطريق في كل مرة ابتداء من ميدان الأوبرا وأن مواعيد خروج الباشا من منزله كانت مختلفة، فحينًا يخرج في الساعة التاسعة وحينًا في الساعة التاسعة والنصف.
وردًا على سؤال آخر للمحكمة، بأن هناك تحقيقًا إداريًا خاصًا بطريقة الحراسة في الصالة. ثم سمعت المحكمة شهادة الملازم الثاني محمد حباطي وقد كان في حراسة الفقيد أيضًا، ولم تخرج شهادته عن شهادة الصاغ عبد المجيد خيرت.
وطلبت المحكمة من النيابة أن تعلن الضابط المكلف بحراس باب الوزارة الخارجي ومراقبة الداخلية. كما طلب الأستاذ أحمد حسين، إعلان القائمقام محمد وصفي رئيس حرس الوزارات لسماع شهادته؛ لأنه سبق أن أصدر أمرًا بعدم السماح لأي شخص كائنًا من كان الوقوف في الصالة وقت وصول رئيس الحكومة فوافقت المحكمة على هذا الطلب.
وبعد ذلك أخذت المحكمة في سماع شهادة كل من الكونستابل جمال الكاشف، والأمباشي عبد الرحمن نصار، والأول كان منوطًا به المراقبة حول بناء الوزارة قبيل مقدم رئيس الحكومة ولذلك لم ير شيئًا،
والثاني كانت مهمته إخلاء صالة الوزارة الداخلية من الجمهور عندما يتلقى إشارة بقرب وصول النقراشي باشا، ومما قاله إنه لاحظ وجود ضابط يقف داخل الصالة ويتحدث إلى الجاويش المكلف بالحراسة، ولما سأل الجاويش عمن يتحدث إليه، أجابه: "ده حضرة الضابط" فأدى له التحية وانصرف.
وسألته المحكمة: طيب ما لفتش نظرك وجود ضابط غريب عن الوزارة وليه ما سألتوش عن سبب وقوفه.
يا سعادة البك دي مسألة كانت بعيدة عن عقلي بعد الأرض عن السما وما كنتش أتصور إللي حدث أبدًا، وغير كده أنا تحرجت أن أسأل الضابط لأن احتكاكنا بالضباط قليل، وخشيت أسأله أحسن يغضب، فسألت زميلي الجاويش ولما قال لي "ده حضرة الضابط" أديت التحية وانصرفت. جلسة 29 أغسطس
وفي هذه الجلسة استمعت المحكمة إلى بقية شهود الإثبات، فنودي اليوزباشي مصطفى علوان الضابط بإدارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية ونلخص شهادته، في أنه كان موجودًا في بهو الوزارة وقت وقوع الحادث، وشاهد عبد المجيد وهو يطلق الرصاص، واشترك في اعتقاله، وقد سأله عن اسمه فذكر له أنه طالب، وأنه من جماعة الإخوان، وأنه قتل النقراشي باشا لأن سياسته لا تعجبه.
وأضاف هذا الشاهد قائلاً: إن هناك عيارًا آخر، غير الأعيرة الثلاثة التي أطلقت، أطلق بعد وقوع الحادث، ولا يعرف مصدره ومن المحتمل أن يكون أطلق من أحد الحراس، وأنه كانت هناك إشاعة تقول، إنه كان للمتهم شركاء موجودين في الوزارة وقت الحادث، ولعل أحدهم هو الذي أطلقه.
ولم يستطع هذا الشاهد أن يعلل لماذا لم يذكر هذه الواقعة للنائب العام في التحقيق.
وشهد الصول محمد البهي شرف بأنه سمع صوت عيارين ناريين، وأعقبهما صوت عيار آخر، ولما انكب مع زملائه على المتهم، إنهال الناس عليه ضربًا ظنًا منهم أنه القاتل.
وشهد الترزي محمد حسين أحمد، بأن عبد العزيز البقلي، أحد المتهمين، حضر إليه، ومعه قطعة قماش سوداء مقصوصة ببطلونًا، وطلب إليه خياطتها، وأخبره أنه لضابط يريد السفر، ورجاه أن يتم صناعتها في يوم الأحد وهو لا يذكر اليوم الذي تسلم فيه القماش من البقلي، ويرجح أنه كان يوم خميس أو جمعة، وقد قابل البقلي بعد حادث النقراشي باشا، ولم يدر بينهما حديث حول الحادث، وكان البقلي خائفًا لأنه من جماعة الإخوان.
وشهد مصطفى عبد المنعم الترزي بأنه ساهم مع عبد العزيز البقلي في حياكة "الجاكتة" التي كان يرتديها المتهم وقت الحادث، وأن كمال القزاز حضر مرة ومعه المتهم صاحب "الجاكتة" وعمل المقاس ثم انصرفا.
وفي اليوم التالي أخذ عبد العزيز البقلي الجاكتبة وذهب ليقيسها على المتهم ثم عاد بها وانتهى عملها في مساء ذلك اليوم.
ولما عرضت المحكمة على الشاهد المتهم عبد المجيد، عرفه.
وهنا قال الأستاذ يوسف يعقوب أن هذا الشاهد لم يتعرف على عبد المجيد في التحقيق.
وشهد محمد أحمد دياب بأنه أجر شقة بمنزله بوساطة سمسار إلى شخصين قيل له أنهما طالبان بالجامعة، وبعد بضعة أيام من كتابة عقد الإيجار تقابل مع أحدهما وهو محمد نايل وسأله عن سبب عدم رؤيته له ولزميله فأجابه بأن والدتهما مريضة ويرغبان في ترك المنزل.
ثم اختفيا ثم عادا وأبلغاه أنهما سيحضران عربة لنقل الأثاث، ولكنهما لم يعودا، وأراد ساكن استئجار الشقة، فاضطر الشاهد إلى دخولها من المنور، فلم يجد فيها إلا بعض أسرة وثلاثة مقاعد.
وقد عرف الشاهد من المتهمين الموجودين في القفص محمد نايل، ومحمود كامل، وعبد المجيد محمد أحمد.
وأجاب الشاهد ردًا على سؤال المحكمة؛ بأنه لم ير ضابطًا أو جنودًا يخرجون أو يترددون على المنزل، ولم يسمع ذلك من أحد من الجيران، وأن نايل وزميله كانا مستأجرين الشقة أثناء وقوع الحادث.
اعترافات القاتل
وبعد انتهاء شهادة الشهود، نادى رئيس المحكمة عبد المجيد حسن؛ فخرج من القفص في حراسة بعض الضباط ووقف في حرم المحكمة ثم سأل رئيس المحكمة الأستاذ أحمد السادة المحامي، والمتهم عما إذا كان يمانعان في أن يدلي عبد المجيد بأقواله فأجابا بالنفي.
وسمحت المحكمة للمتهم بالجلوس إذ كان بادي الأعياء من جراء صومه الطويل الذي بدأ منذ أكثر من شهر قبل المحكمة تكفيرًا عن جريمته كما يقول: ثم بدأ المتهم يسرد لقضاته قصته بلغة عربية سليمة فقال:
كيف بدأ التأثير عليَّ
لقد بدأ التأثير علي في سنة 1942، وكنت طالبًا في مدرسة فؤاد الأول الثانوية وأؤدي صلاة الظهر بمسجد المدرسة؛ لأنني نشأت نشأة دينية من صغري فعرفت في المسجد أشخاصًا ينتمون إلى جمعية الإخوان المسلمين فعرضوا علي بعض مجلات هذه الجمعية كما كانوا يحدثوني عنها،
وأذكر أن من بين هؤلاء الإخوان الطالب جمال عطية وفي سنة 1943 التحقت بأقرب شعبة للإخوان قريبة من منزلي، وهي شعبة الظاهر وتقع بشارع سكاكيني وانضممت إليها وقد دلني عليها حسين محمد عبد السميع وهو أيضًا من الإخوان وطالب بمدرسة فؤاد الأول.
وبانخراطي في جمعية الإخوان اشتركت في أنظمتها، فدخلت فرقة الجوالة والفرقة العسكرية، وتعلمنا النظام العسكري فالطاعة العمياء.
نظام الأسرة
كما التحقت بنظام يطلق عليه اسم "نظام الأسرة" وتتكون كل أسرة بين خمسة أشخاص وعشرة، وهي إما أن تكون من الطلبة أو الموظفين أو العمال وكان من أعضاء الأسرة التي انضممت إليها محمد الدمرداش عبد السميع وعبد زايد، وعيد محفوظ، ومصطفى سليم أبو الخير، وهم من الطلبة.
ومن تعاليم "نظام الأسرة" أن كل فرد من أسرة يعرف جميع شئون أعضاء أسرته، من النواحي الاجتماعية والثقافية، والأخلاقية، والعائلية، ويوجد كل هذا في برنامج الأسر وأنظمتها ولا أستطيع أن أتذكر الآن تفصيل هذا البرنامج،
وما أذكره أن الأسرة كانت تعقد اجتماعًا أسبوعيًّا في منزل أحد الأعضاء، وليس في مقر الشعبة، حتى تكون ملمة بأحوال كل عضو، وعلى معرفة تامة بحالته، وكنا نتدارس في هذه الاجتماعات ونتلو القرآن، ونحفظ أجزاء منه، ونقرأ في كتب أدبية، ودينية، وتاريخية.
وكان من برنامج نظام الأسر أيضًا أن نقوم برحلات، ونحضر اجتماعات روحية مع أشخاص يفهمون الدعوة أكثر من أفراد الأسرة، وكانت نتيجة هذا النظام أن صار كل فرد من أعضاء الأسرة يعرف أمور إخوانه، ظاهرة كانت أو خفية.
أسرة جديدة
وفي سنة 1944 افتتحت شعبة حدائق القبة، وانتقل هذا النظام إلى هذه الشعبة، وكونت أسرة من الطلبة كان أعضاؤها حسين محمد عبد السميع، وأحمد عادل كمال، وطاهر عماد الدين، وأحمد محمود كامل، وممدوح حافظ، ومحمد وجيه الباجوري، وصلاح الأفندي، وكنت أنا عضوًا بهذه الأسرة؛ لأن اتصالي بشعبة الحدائق قطع صلتي بشعبة الظاهر، وسارت هذه الأسرة على نفس النظام.
وقد عرض على سعادة النائب العام أوراقًا ضبطت بشبعة الحدائق ومن بينها ورقة اعترفت أنها كتبت بخطي، وهي تشمل أسماء رهط الجوالة بالشعبة.
وكنت طوال هذه المدة أحضر أنا والإخوان حديث الثلاثاء بالمركز العام لجمعية الإخوان المسلمين، كما كنت أحضر حديثًا آخر خاصًا بالطلبة فقط. يعطي في يوم الخميس باستمرار. وكان المحاضر هو الأستاذ حسن البنا.
وبسبب تأثير هذه الأنظمة، انخرطت تمامًا في جماعة الإخوان المسلمين حتى أنني كنت مندوبًا للجمعية في مدرسة فؤاد الأول، وأنا في السنة التوجيهية.
وأحب أن أذكر أيضًا أن من أنظمة الإخوان التفرقة بين الأفراد، فبعضهم إخوان عاملون، والبعض مشتركون، والآخرون مؤيدون، وفي الأوراق المضبوطة بشعبة الحدائق جدول يشتمل على بعض الأسماء ومعلومات خاصة بأصحابها، كنت أنا كاتب هذا الجدول، وقد كتبته من نسختين.
وكان الأستاذ حسن البنا يعقد اجتماعات خاصة للإخوان العاملين فقط، وقد علمت أنه جاء مرة إلى شعبة الحدائق واجتمع بالإخوان العاملين سرًّا ويمكن الاستشهاد على ذلك بسؤال الإخوان العاملين المكتوبة أسماؤهم في الجدول الذي حررته.
الدعوة المحمدية
وفي أواخر سنة 1945، أو أوائل سنة 1946، طلب مني حسين عبد السميع أن أذهب إلى منزله، وحدد لي موعدًا فتخلفت عنه، فأرسل لي جمال عطية في يوم آخر لمقابلته في منزله، فذهبت ولما قابلته أخذني في سيارة وكان بها شخص عرفت فيما بعد أن اسمه أحمد حجازي، وقال لي حسين عنه إنه من الإخوان الموثوق فيهم فثق في كل كلمة يقولها.
وقد بدأ حجازي يسرد علي دعوة الإخوان المسلمين، ولا ينقصها لتصير شبيهة بالدعوة المحمدية إلا استعمال السلاح، وأن الإخوان لم ينسوا هذا الباب. وسيقومون بتنفيذه وعرض علي القبول بالانضمام معهم في هذا النظام.
فسألته هل هذا أمر صادر من المركز العام، فقال نعم، وعلى هذا الأساس وافقت على الدخول في هذا النظام باعتبار أنه نظام كنظام الجوالة ونظام الأسر. وإنه يختلف عنهما بأنه مقصور على الإخوان الذين يثبت أنهم مخلصون لدعوة الإخوان تمامًا، والدليل على هذا أن هذا النظام لا يوجد اسم خاص وكان معروفًا بين الإخوان باسم "نظام خاص".
أما نشاط الإخوان فكان معروفًا باسم "المحيط العام" وكان من ضمن أعضاء هذا النظام حسين عبد السميع، وكان في الحقيقة يعرف كل شيء، وهو الذي رشح أحمد عادل كمال.
جم
هذا الكتاب كتب من وجه نظر القريبين من الحكومة، وقد نشرناه ليتعرف القارئ على ما كان يكتب دون أدلة لتبرئة نظام وحكم إبراهيم عبدالهادي والتبرير بما قام به فهمي النقراشي ضد الإخوان
(الكتاب الثاني)
... قلت في مقدمة كتابي الأول "قضية الاغتيالات السياسية" إنني أردت بإصداره أن أسجل حقبة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، فإن ذلك خير لنا من أن نستخرج حوادث الوطن السريعة النسيان من القبر لنكشف عن معمياتها.
والواقع أن هذا الهدف هو الذي حفزني لإصدار هذا الكتاب أيضًا، وإصدار سلسلة من الكتب عن "المحاكمات التاريخية الكبرى" تكون نبراسًا يهتدي به شباب الأجيال القادمة.
وقصارى أمنيتي أن يرضى الفقراء عن هذا المجهود المتواضع، وفقنا الله جميعًا إلى ما فيه خير الوطن العزيز، وسدد خطانا في ظل مليكنا المحبوب "فاروق الأول".
لطفي عثمان
يناير سنة 1950م
محمود فهمي النقراشي باشا
ولد بالإسكندرية عام 1888 م وبعد أن أتم تعليمه بمدرسة المعلمين بالقاهرة سافر إلى إنجلترا لتكملة دراسته في جامعة نوتنجهام ثم عاد إلى مصر واشتغل بمهنة التدريس.
وظل بضع سنوات يعمل مدرسًا في مدرسة رأس التين الثانوية ثم عين ناظرًا لمدرسة الجمالية بالقاهرة عام 1914 م وظل في هذه الوظيفة خمسة أعوام.
وقد أضاف إلى استعداده للتدريس استعدادًا آخر للإدارة. وقد انتفع من هذا الاستعداد بتعيينه في وظيفة مدير التعليم لمجلس مديرية أسيوط عام 1919 م. وإلتحق في العام التالي بوزارة الزراعة وكيلاً للإدارة.
وقد رقي بعد بضعة أسابيع إلى مساعد سكرتير عام وزارة المعارف.
وقد بدأ نشاطه السياسي عام 1919 م واشترك في الحركة الوطنية للاستقلال.
ثم أصبح عضوًا في الحركة الوفدية الناشئة ونظم لجانها الفرعية في القاهرة و الإسكندرية والمدن الأخرى. وفي عام 1924 م رقي وكيلاً لمحافظة القاهرة ثم وكيلاً لوزارة الداخلية.
وفي أواخر عام 1924 م، وبعد مقتل السردار السير لي ستاك باشا، قبض عليه وظل محبوسًا إلى فبراير التالي. ثم بعد ذلك بثلاثة أشهر قبض عليه ثانية واتهم هو وستة آخرون بالاشتراك في عدد من الجرائم السياسية وبرئ منها.
وقد كانت أول وزارة تولاها هي وزارة المواصلات في الوزارة الوفدية الأولى عام 1930 م، وهي نفس الوزارة التي تولاها بعد ذلك في 1936 - 1937 م.
وفي ذلك العام عندما عاد الوفد المصري من مؤتمر مونترو الذي ألغى الامتيازات فوجئ النقراشي بإخراجه من الوزارة الوفدية. وقد عرف فيما بعد بأنه اختلف مع زعيم الوفد بشأن نشاط هيئة القمصان الزرقاء الوفدية. وبعد ذلك بمدة قليلة استقال النقراشي هو والمغفور له أحمد ماهر باشا وأنصارهم من الوفد وكونوا الحزب السعدي.
وعندما دخل السعديون الوزارة الائتلافية عام 1938 م عين النقراشي باشا وزيرًا للداخلية. وفي العام التالي تقلد وزارة المعارف ثم وزارة الداخلية مرة ثانية ثم عين في سبتمبر 1940 م وزيرًا للمالية.
وقد حل في رئاسة الوزارة وزعامة الحزب السعدي بعد مقتل أحمد باشا ماهر عام 1945 م فيما خلا فترة قصيرة من عام 1946 م كان فيها إسماعيل صدقي باشا رئيسًا للوزارة وظل هو رئيسًا للحكومة منذ ذلك الحين بجانب تقلده وزارات الداخلية والمالية والخارجية.
أقوال الصحف الإنجليزية
ولعل من المفيد أن نتجزئ هنا بعض ما كتبته الصحف الإنجليزية عن مقتل النقراشي باشا وتعليقها على الحادث.
فقد "قالت المانشستر جارديان":
أن مقتل النقراشي باشا رئيس الوزارة المصرية السابق لهو عمل سوء. وقد حدث بعد سلسلة من الاعتداءات كانت أيدي جماعة الإخوان المسلمين واضحة فيها.
فمنذ ثلاثة أسابيع قتل حكمدار بوليس القاهرة في أحد الشوارع، وفي 21 نوفمبر دمرت الدار التي تحوي مكاتب أكبر جريدتين فرنسية وإنجليزية في مصر، وفي الشهر نفسه وقع حادث الاعتداء الرابع في مدى عامين على النحاس باشا، وفي أول العام قتل أحد القضاة ممن حكموا على أفراد تلك الجماعة.
وعندما نتذكر أن أحمد ماهر باشا رئيس الوزارة السابق للنقراشي باشا مباشرة قتل هو الآخر بيد واحد ممن كانوا يشايعون النازيين، فمن العسير أن لا نجزع للمستوى الذي سمح للحياة العامة في مصر أن تتدهور إليه.
وقد لقي النقراشي باشا منيته، عقب قراره الذي تأخر كثيرًا بحل جماعة الإخوان على أساس أن وجودها يهدد الأمن والنظام... وكان ذلك هو جواب الإخوان عليه.
وقالت "الديلي تلغراف":
"وهذه الجريمة لن تحقق غرضًا، وستقابل بالسخط والاستنكار في جميع أنحاء العالم، وقد محت من سجل الوجود رجلاً برهن خلال حياته السياسية الطويلة على أنه أقوى رجل سياسي في مصر،
ولكنها لم تغير بحال من نظام العهد الحاضر. ومن الجائز أنها قد تعطل من تركيز الجهود المبذولة في نواحي الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي، والتي مصر في مسيس الحاجة إليها،
بعد أن أهملت وطرحت ظهريًّا طويلاً بسبب الأهواء السياسية والاستعمارية، كما أن القضاء على نشاط العناصر الهدامة والعابثة بالقانون بين أفراد الشعب المصري – وهو ما لا بد منه- سيترتب عليه بطء في سير عجلة الإدارة المصرية سيرتها المنتظمة بنظام مطرد.
ولقد كان النقراشي باشا يتمتع بنوع من المزايا والسجايا تعينه على إحلال مصر مكان الزعامة والقيادة الفعلية بين الشعوب الإسلامية في الشرق الأوسط هذا لو كانت أتيحت له ظروف أفضل مما أتيح له".
وإنا لنشكر للصديق الأستاذ محمود النجوري مدير المحفوظات بوزارة الداخلية. فقد زودنا بترجمة حياة المغفور له النقراشي باشا ومقالات الصحف البريطانية.
رئيس المحكمة
... عين سعادة محمد مختار عبد الله بك عقب تخرجه عام 1920 م وكيلاً للنيابة، ثم نقل إلى السلك السياسي، وعين أمينًا للمحفوظات في مفوضية مصر في روما عام 1923، ثم نقل إلى مفوضية مصر في برلين، ورقي إلى وظيفة ملحق، ثم عاد إلى السلك القضائي عام 1927 م.
وظل يتدرج في وظائف النيابة والقضاء إلى أن عين رئيسًا للنيابة المختلطة عام 1940 م ثم مديرًا لإدارة المحاكم المختلطة، ثم قاضيًا بمحكمة مصر المختلطة.
وفي عام 1945 م عين مستشارًا بمحكمة استئناف أسيوط ثم محكمة استئناف مصر، وأخيرًا رأس دائرة العسكرية العليا.
واشتهر سعادته بدماثة الخلق وسماحة النفس، وسداد الرأي، وطهارة الذمة، وهو شغوف بالاطلاع ليس في القانون فحسب بل في الأدب والاجتماع وهو يجيد أربع لغات وهي الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية...
تقديم
... لا بد من كلمة نهيئ بها ذهن القارئ لما سيدور في جلسات المحاكمة في هذه القضية. ففي اليوم الثامن من شهر ديسمبر عام 1948 أصدر المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الحكومة آنئذ قرارًا موفقًا بمذكرة تفسيرية وضعها عبد الرحمن عمار بك وكيل وزارة الداخلية وقتئذ يقضي بحل جماعة الإخوان المسلمين وذلك للحوادث الإرهابية التي وقعت في مختلف أنحاء البلاد واتهم بارتكابها جماعة الإخوان على نحو ما سرده عمار بك في مذكرته التفسيرية.
وهكذا توقع الناس –بعد صدور هذا القرار – وقوع حدث ما ردًا على هذا القرار الذي أصر النقراشي باشا على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلت على ألا يرجع فيه...
ولم تمضي ثلاثة أسابيع على صدور قرار الحل، حتى هوى النقراشي باشا وخر صريعًا وسط فناء وزارة الداخلية ووسط عدد كبير من رجال البوليس المحيطين به وقد هوت معه أفئدة الملايين من المصريين وأصبحت مدينة القاهرة وهي أكثر المدن صخبًا وضجيجًا، صامتة ساكتة كأن على رؤوس أهلها الطير، فلقد كان الفقيد –باعتراف خصومه- وطنيًّا صادق الإيمان نزيهًا مخلصًا ذا ماضٍ مجيد.
كيف وقع الحادث
ففي نحو الساعة العاشرة وخمس دقائق من صبيحة يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1948م، وبينما كان دولة النقراشي باشا يسير في فناء وزارة الداخلية ميممًا شطر المصعد في طريقه إلى مكتبه وحوله ضباطه، وجنوده من رجال الحرس، تقدم شاب في ميعة الصبا، شاحب الوجه، وكان مرتديًا ثياب ضابط برتبة ملازم أول،
وصوب مسدسه نحو ظهر الفقيد، وأطلق رصاصتين أصابتا ظهر الفقيد، وسقط على ظهره يتضرج في دمائه، ولم تمضي دقائق حتى فارق الحياة وتمكن رجال البوليس الذين كانوا في حراسة الفقيد من اعتقال القاتل.
وقد ارتكبت الجريمة بسرعة فائقة حتى أن ياور الفقيد الصاغ عبد المجيد خيرت قد أذهله وقوع الحادث على هذه الصورة المروعة، وعقدت الدهشة لسانه، وفجأت أفاق من ذهوله وارتمى ومن كان معه من الكونستبلات والجنود على القاتل،
وانتزعوا المسدس من يده، بينما نقل الآخرون الجثة إلى حجرة الأستاذ صلاح الدين مرتجي وكيل إدارة الأمن العام، وكان الدكتور محمود حمدي سيف النصر قد سارع إلى مكان الحادث حينما سمع به أثناء وجوده في وزارة الصحة ولكن القضاء كان قد حم، وفاضت روح النقراشي باشا إلى بارئها.
المسدس
أما المسدس الذي استعمله القاتل فهو ماركة "برثا" طراز 1934 وقد كتب عليه باللغة الإفرنجية العبارة الآتية:
P. Beretta Cal 9 Corto Md 1934 Brevette Gardonne 1941 X1X 872511
وبه مشط ذو الست طلقات وهو أوتوماتيكي سريع الطلقات، وقد وجد في نهاية المشط من الخارج رصاصة لم تنطلق وهي عيار 9 ملليمتر وبها الرصاصة المغلفة، وطلقة أخرى مطلوقة من نفس العيار ونفس الشكل الظاهري وبها فدغ.
وقد أبلغ صابر طنطاوي بك مدير الأمن العام آنئذ الحادث تليفونيًّا إلى النائب العام –وكان محمود منصور باشا
- فاستقل سعادته سيارته فورًا وقصد إلى مكان الحادث ولحق به الأستاذ محمود إبراهيم إسماعيل رئيس نيابة جنوب القاهرة وبعض حضرات وكلاء النيابة وحكمدار بوليس القاهرة وكبار ضباط القسم السياسي والحكمدارية والمباحث الجنائية، ومن ثم بدأ التحقيق مع القاتل.
من هو القاتل ؟
والقاتل شاب يناهز الواحد والعشرين عامًا ويدعى عبد المجيد أحمد حسن وهو طالب بكلية الطب البيطري بجامعة فؤاد الأول وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين ورئيسًا لإحدى خلاياها بالجامعة.
أقوال القاتل الأولى
وقد تولى النائب العام نفسه التحقيق معه، ولما سئل القاتل عن جريمته اعترف بها قائلاً: "نعم أنا قتلته النهارده في الوزارة بالمسدس إللي ضبط معي وكنت بمفردي، وكنت لابس ملابس ضابط إللي هي علي الآن، وقتله لأنه خاين للوطن".
وقد نوقش في تفصيلات الجريمة فقال:
"أنا جيت الداخلية النهاردة الساعة 10.00 كده وكنت لابس ملابس ضابط ولما وصلت الوزارة دخلت من الباب العمومي وكان معي المسدس المضبوط ودخلت في وسط الصالة ووقفت شوية كده وقالوا إن النقراشي باشا جاي فلما شفته طالع متجه نحو مكان الأسانسير المجاور للسلم طلعت المسدس من جيبي اليمين للبنطلون ورحت ضاربه وكان وقتها تقدم لي شوية في طريقه إلى المصعد فأطلقت النار عليه من الجنب للخلف وأنا كنت ساعتها واقف على شماله وهو متجه إلى المصعد.
وسئل –متى ظهر النقراشي باشا في الصالة؟
-بعد أن انتظرت خمس دقائق، ظهر النقراشي باشا.
وأجاب عن سؤال آخر أنه كان يسير حول النقراشي باشا وخلفه أشخاص كثيرون يرتدون ملابس ملكية.
-عندما دخلت الوزارة بزيك العسكري وقبل أن يصل النقراشي باشا. ألم يعترضك أحد؟
-لا.
-وهل أنت تعرف شخص النقراشي باشا؟
-أعرف شكله من الصور.
-متى صممت على قتل النقراشي باشا.
-من حوالي جمعتين.
-ما هي الظروف التي كونت فيها فكرة القتل.
-نبتت هذه الفكرة عندي، وهي فكرة قتله، في جملة ظروف تجمعت عندي، وهي أولا موضوع السودان فإنه لم يقم بأي عمل إيجابي. وثانيا فلسطين فإنها ضاعت وأخذها اليهود وهذا يرجع إلى تهاون النقراشي باشا.
والعامل الثالث أنه اعتدى على الإسلام وهو أنه شرد الطلبة من الكليات وحل جماعة المسلمين وما يتصل بها من شركات كانت جماعة الإخوان المسلمين قد أقامتها فهو أمر بحلها وأنا لما رحت كلية الطب البيطري علشان الدراسة قالوا لي أنك مبعد لنشاطك مع أن الكلية بتاعتنا لم تشترك في حوادث كلية الطب أو الجامعة فكل هذه العوامل جعلتني أفكر في الإقدام على هذا العمل وهو قتل النقراشي باشا أي أنه من أسبوعين أنا صممت على قتله.
-كيف رتبت هذه الجريمة.
-أنا كنت ماشي في وكالة البلح من سبعة أيام فلقيت واحد معه بدلة الضابط إللي أنا لابسها الآن ويقول عنها أنها جديدة وعارضها للبيع فلما وجدت البدلة لاحظت أن قماشها كويس فاشتريتها بثلاثة جنيه ونصف وكذلك اشتريت المسدس من مدة خمسة أيام من واحد في عين شمس وهو واحد عربي لا أعرفه وكذلك الطلقات اشتريتها منه باثنين جنيه وبعدين لبست البدلة النهارده وجيت النهارده وجيت هنا ومعي المسدس علشان أقتل النقراشي.
-وهل ذهبت إلى سوق البلح كما تقول خصيصًا لمشتري بدلة الضابط.
-أنا قصدي أقول سوق الكانتو الموجود في الفحامين وأنا رحت مصادفة هناك فوجدت الرجل إللي باع لي البدلة هناك فاشتريتها.
-وما الذي جعلك أن تشتري هذه البدلة وهي بدلة ضابط إذا كنت لم تذهب خصيصًا لمشتراها.
-البدلة صوف وجديدة ولما وجدت أن ثمنها ثلاثة جنيهات ونصف وده ثمن بسيط اشتريتها.
-وهل كنت تنوي أن تلبسها وهي على هذه الصورة وبزيها الأصلي.
-ده ما يمنعش أن الواحد يلبس بدلة ضابط.
-ولكنها بدلة بزراير صفراء وعلى كتفها نجمتين ولا يلبسها إلى ضابط أو من يريد أن يتعمد التزيي بها لغرض خاص.
-ده ما فيهاش تعمد.
-وهل خرجت من منزلك في صباح اليوم ترتديها.
-لا.
-ما هي الملابس التي كانت عليك وقت خروجك من المنزل في هذا الصباح.
-بنطلون جبردين وجرس.
-وأين كانت بدلة الضابط.
-كنت عاينها تحت سلم بيتنا.
-وأين الجرس والبنطلون.
-لما لبست بدلة الضابط رميت الجرس والبنطلون الجبردين في النيل.
-ولم رميتها؟.
-علشان أتخلص منها.
-وكيف كنت تخفي بدلة الضابط من يوم أن اشتريتها.
-كنت عاينها في الشنطة تحت السرير وفي الليلة الماضية أي ليلة أمس أخذتها ووضعتها تحت السلم.
-ألم تطلع أحدًا من أهلك على أنك اشتريت بدلة ضابط؟
-لا.
-ولم أخفيت ذلك على أهلك؟
-ما حدش يسألني من أهل البيت على أي حاجة أعملها.
-من الذي يقيم معك في المنزل؟
-والدتي إقبال حسني وأخي محمد عيسى أحمد حسن وهو طالب في مدرسة فاروق الأول الثانوية ولي أختين إحداهما هدى والثانية فاطمة ولي أخ ضابط يقيم في الخارج في منزل بمفرده ويسمى حسن أحمد حسن وهو ضابط بسلاح المدفعية ومتزوج وله أولاد.
-متى دخلت كلية الطب البيطري؟
-هذه رابع سنة وأنا في السنة الثالثة.
-وهل تقبض الخمسين جنيه في يدك.
-أنا أقبض الخمسين جنيه على دفعات وقبضت من هذا المبلغ مرة عشرة، ومرة عشرين، ووالدتي هي التي تتولى الصرف علينا من هذا المبلغ، وأنا باخد من هذا المبلغ مصاريف شخصية إلى حوالي جنيه أو اثنين جنيه ومن هذا المبلغ اشتريت المسدس والبدلة.
-اذكر لنا أين ذهبت من وقت خروجك من المنزل في صباح هذا اليوم.
-رحت في الغيطان نواحي الوايلي وقلعت الجرس والبنطلون ولبست بدلة الضابط وبعدين رحت على قصر النيل رميت البنطلون والجرس وجيت على الداخلية.
-ألم يرك أحد وأنت تخلع ملابسك وتستبدلها بملابس الضابط.
-لا.
-ما الذي جعلك أن تغير ملابسك وترتكب الجريمة وأنت بزي ضابط.
-أنا لبست ضابط علشان أضمن أن العملية تتم.
-إذن أنت تدرك أنه كان من الصعب أن تتم الجريمة دون أن تكون باللباس العسكري الذي أنت عليه الآن.
-أنا قلت قبل الآن أني لبستها لكي أتمكن من دخول الوزارة أي وزارة الداخلية وهذا أهم شيء.
-في أي وقت فكرت أن ترتدي هذا الزي وترتكب هذه الجريمة.
-بعد ما اشتريت البدلة افتكرت أني أرتكب بها الجريمة.
-أين كنت تضع المسدس قبل اليوم.
-كنت شايله باستمرار.
-هل تعرف الأعمال الحكومية التي يقوم بها دولة النقراشي باشا.
-أنا أعرف أنه رئيس الحكومة ويقوم بأعمال الداخلية والخارجية.
-ومن أين عرفت أنه سيحضر اليوم لوزارة الداخلية حتى أنك اخترتها لارتكاب جريمتك.
-أنا جي ارتجالي كده.
-وإذا لم يكن قد حضر فما الذي كنت تفعله.
-أروح على البيت.
-ولكنك كما تقول اعتزمت قتله، وأنك أعددت كل الوسائل للجريمة.
-أنا كنت أروح البيت.
-ولكنك ألقيت بملابسك الأصلية في النيل.
-كنت أرجع وأنا ضابط البيت لأن ما فيش وسيلة غير كده.
-وما الذي جعلك أن تفهم أنه يصل في الميعاد الذي وصلت أنت فيه إلا إذا كنت تراقبه وتراقب ساعات وصوله والأمكنة الحكومية التي يتردد عليها حتى أنك انتظرته في وزارة الداخلية اليوم.
-أنا أعرف أنه بيروح مجلس الوزراء ويتردد على الداخلية والخارجية فقلت آجي النهارده الداخلية.
وهكذا وصل القاتل طول التحقيق، يحاور ويداور، ويرواغ المحقق إلى أن كان يوم 14 يناير سنة 1949 م أي بعد مقتل النقراشي باشا بستة عشر يومًا، حيث بدأ أول اعترافه الصحيح، وكان ذلك غداة حادث محاولة نسف دار حكمة الاستئناف، وعقب صدور بيان المرحوم الشيخ حسن البنا، الذي استنكر فيه جريمة قتل النقراشي باشا، وتبرأ من مرتكبيها، وندد بهم.
وانتهى هذا الاعتراف المفصل، بأن أشرك معه خمسة آخرين من جماعة الإخوان هم: محمد مالك يوسف محمد مالك موظف بمطار ألماظه، وعمره 25 سنة، وعاطف عطية حلمي طالب بكلية الطب وعمره 25 سنة، و كمال سيد سيد القزاز تاجر موبيليات وعمره 26 سنة وعبد العزيز أحمد البقلي ترزي أفرنكي وعمره 26 سنة والشيخ سيد سابق محمد التهامي وعمره 35 سنة وهو من العلماء،
وهؤلاء هم الذين وضعت أسمائهم؛ ومعهم عبد المجيد أحمد حسن، قائمة الاتهام الأولى وقد وجهت إلى الأول تهمة القتل العمد من سبق الإصرار والترصد، والباقون اشتركوا معه بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة في ارتكاب هذه الجريمة وجريمة إحراز سلاح بدون ترخيص.
اعتراف ثانٍ
ولم تمض أيام على رفع الدعوى العمومية على هؤلاء المتهمين الستة، وإرسال أوراق القضية إلى سكرتارية محكمة الاستئناف تمهيدًا لتحديد جلسة المحاكمة، حتى أرسل عبد المجيد أحمد حسن خطابًا لسعادة النائب العام، يبدي فيه رغبته في تكملة اعترافاته.
وكان من نتيجة هذه الاعترافات التكميلية -وسنوردها بالتفصيل مع الاعترافات الأولى في حينه- التي تولاها سعادة محمد مختار عبد الله بك رئيس المحكمة العسكرية العليا بنفسه، وبمعانة الأستاذ أحمد موافي، وذلك بناء على طلب سعادة محمود منصور باشا النائب العام في ذلك الحين، إذ رأت النيابة أن يقوم بسماع هذه الاعترافات قاض تحقيق ينتدبه رئيس محكمة مصر.
كان من نتيجة هذه الاعترافات التكميلية أن رفعت النيابة الدعوى العمومية على تسعة متهمين آخرين، وبذلك بلغ عدد المتهمين في هذه القضية خمسة عشر متهمًا.
وهؤلاء التسعة هم: السيد فايز عبد المطلب وهو مهندس ومقاول مباني وعمره 29 سنة، ومحمد صلاح الدين عبد المعطي موظف بوزارة الدفاع وعمره 30 سنة وشفيق إبراهيم أنس موظف بوزارة الزراعة وعمره 21 سنة
–وهو محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة لمحاولته نسف محكمة الاستئناف ومحمود كامل السيد طالب بكلية الحقوق وعمره 23 سنة وعبد الحليم محمد أحمد طالب بكلية الآداب وعمره 24 سنة ومحمود حلمي فرج موظف بوزارة الداخلية وعمره 27 سنة، ومحمد أحمد علي موظف بقسم المباني بالأشغال وعمره 25 سنة، وجلال الدين يس طالب بكلية التجارة وعمره 24 سنة، ومحمد نايل محمود إبراهيم طالب بكلية الهندسة وعمره 20 سنة.
وقد وجهت إليهم تهمة الاشتراك مع عبد المجيد أحمد حسن بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة في ارتكاب جريمتي قتل محمود فهمي النقراشي باشا عمدًا مع سبق الإصرار والترصد وإحراز سلاح ناري بدون ترخيص، بأن انعقدت إرادتهم على قتل المجني عليه بوصف كونهم هم وعبد المجيد أحمد حسن أعضاء في جمعية إرهابية من وسائلها القتل ووقع اختيارهم عليه لتنفيذ الجريمة، فأمروه بارتكابها وجهزوا له السلاح، والملابس العسكرية، ورسموا له كيفية ارتكاب الجريمة ووضعوا خطة لمؤازرته أثناء تنفيذها.
بدء المحاكمة
حددت المحكمة العسكرية العليا يوم السبت 6 أغسطس سنة 1949 للبدء في المحاكمة، ولم يتوقع الناس أن تنظر القضية في مثل هذا الشهر الشديد الحرارة لاسيما وأن أكثر المحامين من أعضاء هيئة الدفاع كانوا يقضون عطلة الصيف خارج القاهرة.
ومع ذلك عقدت الجلسة في "هذا الموعد" وكانت المحكمة مؤلفة من صاحب العزة محمد مختار عبد الله بك رئيسًا، وأصحاب العزة محمد شكري طلحة بك ومحمد غالب عطية بك. والأميرالايين أحمد صالح أمين بك وإبراهيم زكي الأرناؤوطي بك أعضاء.
ومثل الاتهام الأستاذ محمد عبد السلام وجلس إلى جانبه الأستاذ محمد إسماعيل عروض، الأفوكاتو العمومي وقتئذ والمستشار الآن وقام بأعمال السكرتارية الأستاذان محمد حسن النجار وحسين عبد الرحمن.
كلمة رئيس المحكمة
وقد ألقى رئيس المحكمة في هذه الجلسة الكلمة التالية:
لعل الدفاع يذكر أن المتهم الأول عبد المجيد أحمد حسن أبدى في تحقيق قضية الاتفاق الجنائي، أقوالاً تناولت واقعة مقتل النقراشي باشا والاشتراك فيه،
ونظرًا إلى أن هذه الأقوال صدرت عن متهم مقدم للمحاكمة، وتناولت متهمين مقدمين معه بتهمة الاشتراك في القتل، فقد عرضت النيابة أمر هذه الأقوال على المحكمة لترى رأيها فيما تأمر به من اجراءات.
وبما أن المحكمة قد اتصلت بالدعوى، فقد قررت في جلسة سابقة ندب رئيسها لتحقيق الأقوال الجديدة التي أدلى بها المتهم الأول، وقد انتهت المحكمة من تحقيقها ورأت أن تحيل الأوراق الخاصة بهذا التحقيق للنيابة لاتخاذ ما تراه، وأظن أن هذه فرصة لحضرات المحامين ليطلعوا ويستعدوا في القضية.
وهنا استأذنت النيابة من المحكمة بأن تعلن متهمين جدد وبتقرير جديد، أن كان هناك محل لذلك، فأذن رئيس المحكمة بذلك قائلاً أن للنيابة حق في أن ترفع الدعوى على من تشاء وتحتفظ المحكمة لنفسها بالحق الذي خوله لها القانون.
ثم أجلت القضية إلى جلسة 20 أغسطس، وهذه هي الجلسة التي رفعت النيابة بعدها الدعوى العمومية على المتهمين التسعة الآخرين على نحو ما قدمنا.
جلسة 20 أغسطس: ضم قضية مقتل سائق السيارة الأرمني
وقد عدت هذه الجلسة برئاسة محمد مختار عبد الله بك وعضوية محمد غالب عطية بك ومحمد عبد العزيز كامل بك، ومثل النيابة الأستاذ محمد إسماعيل عوض المحامي العام.
وفي هذه الجلسة طلب الدفاع ضم قضية مقتل سائق السيارة الأرمني الذي قيل على لسان عبد المجيد أن بعض زملائه قتلوه بحقنة بمادة سامة، كما طلب الدفاع تأجيل القضية ليستعدوا، والتصريح لهم بإعلان شهود نفي، وإحالة بعض المتهمين إلى الطبيب الشرعي لفحص ما بهم من إصابات من جراء تعذيب البوليس لهم على حد قولهم.
وبعد مناقشة قصيرة، قررت المحكمة تأجيل القضية أسبوعًا واحدًا.
جلسة 27 أغسطس: محاولة ضم قضية السيارة الجيب وعدة دفوع
وكان الزحام شديدًا في هذه الجلسة، ولوحظ امتلاء القاعة بالسيدات من أقارب المتهمين.
وقد مثل الاتهام في هذه الجلسة الأستاذان محمد عبد السلام و محمد عبد الله المحامي العام الآن.
وحاول الدفاع عبثًا في هذه الجلسة أن يحمل المحكمة على تأجيل القضية، فقد أصرت على نظرها.
وطلب الأستاذ أحمد حسين ضم قضية السيارة الجيب ونظرها مع هذه القضية لارتباطها بها في الأدلة والمرافعة إذ ليست هناك أدلة ضد موكله في هذه القضية وإنما الأدلة المقامة عليها مستمدة من قضية سيارة الجيب.
ورد رئيس المحكمة قائلاً أن هذا المتهم وجهت إليه تهمة الاشتراك في الاتفاق الجنائي،
فالمحكمة لا يهمها إلا الأدلة والوقائع القائمة في هذه القضية وهي لا تتأثر من أي شيء آخر، فأمامها وقائع محددة فليس لها أن تتأثر بقضية أخرى لا يزال التحقيق فيها مستمرًا.
ووافقت المحكمة على إعلان عبد الرحمن عمار بك لسماع شهادته في قضية التدرب على استعمال الأسلحة في جبل المقطم التي حفظتها النيابة.
وبعد ذلك تلى قرار الاتهام، ثم نودي المتهمون وسئلوا عن التهم المنسوبة إليهم فأنكروها جميعًا ما عدا القاتل –عبد المجيد- فقد اعترف بها وقال أنه كان واقعًا تحت تأثير.
ونادت الحكمة محمد مالك وأمرته بالحضور أمام المنصة وطلبت إليه أن يكشف عن الإصابات التي في جسمه فكشف عن ساقه اليسرى، وشوهد أثر بها.
وأثار الأستاذ محمود الحناوي في هذه الجلسة مسألة رد رئيس المحكمة وبنى الرد على أسباب كثيرة.
وقد نظر الرد وتقرر رفضه، وحظرت المحكمة نشر ما دار حول هذا الطلب.
دفع فرعي
ثم وقف الأستاذ يوسف يعقوب المحامي عن كمال السيد القزاز و محمد صلاح الدين ودفع دفعًا فرعيًا ببطلان التحقيق الذي أجراه رئيس المحكمة وطلب استبعاده من أوراق الدعوى.
ومضى حضرته يشرح هذا الدفع فقال أن أساس الطعن ليس الجدل حول ما إذا كانت محاكم الجنايات تملك إرجاء مثل هذا التحقيق وبالكيفية التي تم بها ولكن أساسه هو هل هذه المحكمة في تأليفها القانوني والأغراض التي هدف المشرع إليها من إنشائها تستمتع بجميع السلطات التي يخولها القانون لمحاكم الجنايات، ومن ذلك حق التصدي للدعوى العامة بإدخال متهمين جدد، أو اجراء التحقيق المطعون فيه، وبالكيفية التي تم بها، مهما قيل من أن النيابة، هي التي طلبته أو فوضت الأمر فيه.
ومضى فقال:
فإذا رجعنا إلى قانون تحقيق الجنايات الصادر في سنة 1904 وجدنا المادة 62 تقصد حق التصدي في الدعوى العمومية على محكمة الاستئناف وبذلك خرجت المحاكم الابتدائية وقضاتها من النص.
فلما ألغى نظام الدرجتين في الجنايات وحل محله نظام محاكم الجنايات، تمسكت هذه المحاكم بهذا الحق معتبرة نفسها أنها حلت محل دائرة الجنايات بمحكمة الاستئناف وقد أقرتها محكمة النقض في هذا الرأي.
والسؤال بعد ذلك هو هل المحكمة التي نترافع أمامها من حيث تأليفها القضائي محكمة جنايات أو محكمة شبيهة بها بقطع النظر عن العنصر العسكري الداخل فيها.
وبعد أن تناول بالبحث المادة الخاصة بتأليف المحكمة العسكرية قال أنه إذا كان وزير العدل قد درج على سنة اختيار القضاء جميعهم من مستشاري محكمة الاستئناف فليس ذلك نزولاً على ما يتطلبه القانون ولكن زيادة في ضمانات المحاكم حتى لا يقال أن المحاكم التي تنظر الجنايات العسكرية تتكون من قضاة أقل مرتبة وخبرة من القضاة الذين ينظرون الجنايات المدنية،
وهذا الاجراء الصائب لا يغير من الأوضاع شيئًا، بمعنى أنه لا يسبغ على المحكمة التي تنظر الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة أشد من الحبس. سلطة أوسع لمجرد اختيار قضاتها من بين مستشاري محكمة الاستئناف لأن هذا يؤدي إلى اختلاف سلطة المحكمة واختصاصاتها تبعًا لاختيار الوزير لا لحكم القانون.
وانتهى الأستاذ يوسف إلى القول أنه إذا كان قد أثير في الفقه والقضاء بحوث حول ما إذا كان يجوز للمحكمة أن تنتدب النيابة لاجراء تحقيق في دعوى مطروحة أمامها أم يجب أن تجريه هي بنفسها، فإن العكس أي ندب النيابة للمحكمة مفروغ بعدم جوازه.
رد النيابة
ثم قام الأستاذ محمد عبد السلام ممثل الاتهام، ورد على هذا الدفع فقال أنه طبقًا للمواد الخاصة بحق الاستئثار المستمد من القانون العام والأحكام العرفية ترى النيابة أن للمحكمة الحق في أن تجري تحقيقًا تكميليًّا وتدخل متهمين جددًا وأن حقها في هذه القضية كحق محاكم الجنايات العادية، وأن محكمة النقض والإبرام قد أعطت هذا الحق للمحاكم المؤلفة من قضاة،
كما أعطته للمحاكم المؤلفة من مستشارين وعلى ذلك يكون استئثار هذه المحكمة باجراء التحقيق بوساطة أحد حضرات أعضائها، هو اجراء سليم يتفق مع القانون.
رفض الدفع
ثم رفعت الجلسة للمداولة ثم أصدر رئيس المحكمة قرارها في الدفع وهو يقضي برفضه.
دفعان آخران
وعقب ذلك وقف الأستاذ عبد الكريم محمود منصور المحامي عن سيد سابق، وقد دفعين فرعيين أولهما خاص بأن الأمر العسكري،
الذي أحال على المحكمة العسكرية هذه القضية لا يعد باطلاً فحسب، بل غير موجود أصلاً وذلك لعدم عرضه على البرلمان في ظرف أسبوع من تاريخ صدوره وفق القانون رقم 73 لسنة 1923 حيث إن إحالة جرائم القانون العام على المحكمة العسكرية ليس من ضمن المسائل المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 15 لسنة 1923 التي حددت اختصاصات المحاكم العسكرية.
أما الدفع الثاني فخاص بعدم اختصاص المحاكم العسكرية بالنظر في قضية عقوبتها الإعدام.
وتكلم عن الدفع الأول من الناحية القانونية، فقال إن هذا الأمر العسكري كان يجب عرضه على مجلس الوزراء فالبرلمان وينال موافقته. وأكد أن هذا الأمر لم يعرض على البرلمان، ولم يستطع أن يجزم إذا كان قد عرض على مجلس الوزراء أم لا.
ثم تكلم عن الدفع الثاني فاستشهد بأحكام محاكم إنجلترا التي استمد منها التشريع المصري، وضرب مثلاً بقضية شخص حكم عليه بالإعدام في قضية نظرت أمام محكمة عسكرية اتهم فيها بالتجسس على إنجلترا. فقدم التماسًا في الحكم، ودفع هذا الدفع عند نظر الالتماس وقضى بإلغاء الحكم.
وهنا كانت الساعة قد بلغت الثانية إلا عشرة دقائق، فرفعت الجلسة على أن تعقد صباح اليوم التالي، ليواصل الأستاذ عبد الكريم منصور بحثه القانوني في هذا الدفع.
جلسة 28 أغسطس: المرافعة في الدفوع
كانت الرغبة شديدة في شهود هذه الجلسة فازدحمت قاعة الجلسة بعدد كبير من النظارة.
وقد احتج الأستاذ أحمد حسين المحامي عن المتهم الثالث في هذه الجلسة على إحدى الصحف بوصفها المتهمين بأنهم إرهابيون، وطلبت المحكمة من النيابة اتخاذ ما تراه من اجراءات نحو هذه الصحيفة.
كما قال الأستاذ أحمد حسين أنه يتمسك بإحالة المتهم الأول إلى الطبيب الشرعي لفحص قواه العقلية على الرغم من تنازل محامي هذا المتهم عن هذا الطلب. إذ إنه يرى أن ذلك من مصلحة موكله المتهم الثالث. وطلب أيضًا أن يسمح له بتقرير استشاري عن هذه الحالة.
وقال القاتل إن جلال الدين يس، أحد المتهمين طلب إليه أن يتظاهر بالجنون، فكذبه جلال.
وحدث أثناء مرافعة الأستاذ عبد الكريم منصور في دفوعه الفرعية التي قدمها، أن وصف وزير العدل بأنه حر دستوري فهو إذن رجل حزبي.
فقاطعته المحكمة طالبة إليه ألا يقحم السياسة في القضية فهي قضية قتل، والمحكمة تنظرها على أساس أنها قضية قتل. وليس لها شأن بالسياسة.
وهنا وقف الأستاذ أحمد حسين وقال محتدًا:
"إن هذه القضية سياسية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فشخص يقتل رئيس الحكومة ليس كشخص يقتل زيدًا من الناس. وما دام الأمر كذلك فإني أطلب إذن استدعاء دولة إبراهيم عبد الهادي باشا، وسعادة الأستاذ محمد حامد جوده، وسعادة عبد الرحمن عزام باشا، لأنه يرى أن هؤلاء الرجال هم الذين أوصلونا إلى هذا المكان".
ورد رئيس المحكمة قائلاً إن المحكمة إذا رأت في أثناء المرافعة ما يدعو إلى سماع أقوالهم فستدعوهم لهذا الغرض.
المرافعة في الدفوع
ثم نهض الأستاذ عبد الكريم منصور، واستأنف مرافعته في الدفوع الفرعي الثاني، وهو خاص بعدم اختصاص المحاكم العسكرية بنظر قضية عقوبتها الإعدام. ثم قدم أربعة دفوع أخرى هي:
أولاً: إن قضاء المحاكم العسكرية هو بمثابة القضاء المستعجل، حتى إن سعادة رئيس المحكمة رفض التأجيل بحجة أنه قضاء مستعجل، وأن الثابت قانونًا أن الواقعة إذا مضى عليها عدة شهور، فقد انتفت الحكمة من تقديمها إلى قضاء مستعجل، وقد مضى حوالي سنة على هذا الحادث. فلا يصح نظرها أمام محكمة عسكرية.
ثانيًا: إن القانون رقم 73 لسنة 1948 قد حدد للمحاكم العسكرية اختصاصًا في مسائل معينة بالذات، وحرم عليه أن يتوسع فيها أو يزيد عنها وبشرط آخر هو ألا يستخدمها إلا بغرض حفظ أرواح الجنود في فلسطين بطريق مباشر وقد فسر القانون أن التحريض على كراهية الحكومة، وإن كان من شأنه أن يولد ثورة تؤثر على الجيش في فلسطين،
إلا أنه لا يجوز استخدام الأحكام العرفية في محاكمة من يتهمون به إلا إذا قامت الثورة فعلاً، فحادث قتل النقراشي قد وقع فعلاً، ولم تتأثر الجيوش المصرية به هناك، فهذا يدل على أنه لا صلة له بحفظ الأرواح في فلسطين، فهو إذن قتل عادي كغيره من الحوادث، وإذن لا تكون هناك ثمة ضرورة لتقديم القضية للمحاكم العسكرية.
ثالثًا: بطلان المحاكمة في هذه القضية أصلاً لعدم وجود قضاء مؤلف تأليفًا قانونيًا
"FAUTE DE JURIDICTION"
وذلك وفقًا للمادة الرابعة من المادة "49" من قانون الأحكام العسكرية التي تحيل عليها المادة السابعة من هذا القانون، وهي تقضي بعدم صلاحية القاضي العسكرية إذا كان قد أجرى تحقيقًا على انفراد وسمع شهودًا بعيدًا عن جلسة المحاكمة.
رابعًا: إن القانون، إن كان قد حرم المتهمين من طرق الطعن في الأحكام فإنه قد حتم مراجعة هذه الأحكام بوساطة وزير العدل، ثم الحاكم العسكري العام، الذي له أن يخفف الحكم أو يحفظ الدعوى بعد الحكم فيها، ومعنى ذلك البراءة، فإذا كانت هناك مصلحة سياسية لدى هذه الجهات المكملة مراجعة بحث هذه الأحكام حفظت القضية.
وبعد أن أفاض في شرح نصوص مختلفة من قوانين الأحكام العرفية، والأحكام العسكرية واستشهد بأحكام المحاكم في إنجلترا التي أخذ المشرع المصري منها هذه القوانين قال إنها جميعًا تقطع بعدم اختصاص المحاكم العسكرية المؤلمة بمقتضى قانون الأحكام العرفية بالحكم في قضية عقوبتها الإعدام.
ثم قال: إن لديه دفوعًا أخرى وطلب إعطاءه مهلة لإعدادها وتقديمها في مذكرة.
رد النيابة
وقد رد الأستاذ محمد عبد السلام ممثل الاتهام على الدفع الأول اخلاص ببطلان الأمر العسكري، الذي أحال هذه القضية على المحكمة العسكرية فقال إنه سبق أن دفع مثل هذا الدفع أمام المحاكم العسكرية في قضية الضابط المتهم بتسهيل هرب حسين توفيق أحمد. وأن النيابة تكتفي بما جاء في حيثيات قرار المحكمة القاضي برفض الدفع.
وفيما يختص بالدفع الثاني الخاص بعدم اختصاص المحكمة العسكرية بنظر قضية عقوبتها الإعدام، فقد شرح نص المادتين 5 و 6 من قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923، وقال إنه يستخلص منهما اختصاص هذه المحكمة بنظر القضية.
أقوال الشهود
وعقب ذلك نودي الشاهد الأول الصاغ عبد المجيد خيرت الضابط ببلوك السواري وياور المغفور له النقراشي باشا، فلبى وأقسم اليمين وروى كيف وقع الحادث فقال إنه في هذا اليوم خرج مع النقراشي باشا من منزله في الساعة العاشرة إلا ثلثًا ولما وصل الركب إلى دار وزارة الداخلية نزل دولته من السيارة وسار الشاهد إلى يساره حتى وصل إلى باب المصعد وعندئذ سمع طلقين ناريين ورأى المتهم وفي يده المسدس وتمكن من اعتقاله مع بعض زملائه.
ومما قاله هذا الشاهد ردًا على أسئلة المحكمة، أنه عندما دخل صالة الوزارة، لفت نظره وقوف ضابط على مقربة من باب المصعد،
وظن أن المكلفين حراستها قد قاموا بواجبهم وأن الضابط مسئول عن حراسة الصالة قد استقبلهم عند الباب وسار أمام الباشا وأنه لم ير المتهم وهو يطلق الرصاص ولكنه رآه بعد ذلك، وكان مرتديًا بذلة ضابط بوليس برتبة الملازم الأول سوداء اللون،
وأنه كان يقوم بحراسة النقراشي باشا منذ ستة أشهر سابقة على يوم الحادث، وأنهم كانوا يغيرون الطريق في كل مرة ابتداء من ميدان الأوبرا وأن مواعيد خروج الباشا من منزله كانت مختلفة، فحينًا يخرج في الساعة التاسعة وحينًا في الساعة التاسعة والنصف.
وردًا على سؤال آخر للمحكمة، بأن هناك تحقيقًا إداريًا خاصًا بطريقة الحراسة في الصالة. ثم سمعت المحكمة شهادة الملازم الثاني محمد حباطي وقد كان في حراسة الفقيد أيضًا، ولم تخرج شهادته عن شهادة الصاغ عبد المجيد خيرت.
وطلبت المحكمة من النيابة أن تعلن الضابط المكلف بحراس باب الوزارة الخارجي ومراقبة الداخلية. كما طلب الأستاذ أحمد حسين، إعلان القائمقام محمد وصفي رئيس حرس الوزارات لسماع شهادته؛ لأنه سبق أن أصدر أمرًا بعدم السماح لأي شخص كائنًا من كان الوقوف في الصالة وقت وصول رئيس الحكومة فوافقت المحكمة على هذا الطلب.
وبعد ذلك أخذت المحكمة في سماع شهادة كل من الكونستابل جمال الكاشف، والأمباشي عبد الرحمن نصار، والأول كان منوطًا به المراقبة حول بناء الوزارة قبيل مقدم رئيس الحكومة ولذلك لم ير شيئًا،
والثاني كانت مهمته إخلاء صالة الوزارة الداخلية من الجمهور عندما يتلقى إشارة بقرب وصول النقراشي باشا، ومما قاله إنه لاحظ وجود ضابط يقف داخل الصالة ويتحدث إلى الجاويش المكلف بالحراسة، ولما سأل الجاويش عمن يتحدث إليه، أجابه: "ده حضرة الضابط" فأدى له التحية وانصرف.
وسألته المحكمة: طيب ما لفتش نظرك وجود ضابط غريب عن الوزارة وليه ما سألتوش عن سبب وقوفه.
يا سعادة البك دي مسألة كانت بعيدة عن عقلي بعد الأرض عن السما وما كنتش أتصور إللي حدث أبدًا، وغير كده أنا تحرجت أن أسأل الضابط لأن احتكاكنا بالضباط قليل، وخشيت أسأله أحسن يغضب، فسألت زميلي الجاويش ولما قال لي "ده حضرة الضابط" أديت التحية وانصرفت. جلسة 29 أغسطس
وفي هذه الجلسة استمعت المحكمة إلى بقية شهود الإثبات، فنودي اليوزباشي مصطفى علوان الضابط بإدارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية ونلخص شهادته، في أنه كان موجودًا في بهو الوزارة وقت وقوع الحادث، وشاهد عبد المجيد وهو يطلق الرصاص، واشترك في اعتقاله، وقد سأله عن اسمه فذكر له أنه طالب، وأنه من جماعة الإخوان، وأنه قتل النقراشي باشا لأن سياسته لا تعجبه.
وأضاف هذا الشاهد قائلاً: إن هناك عيارًا آخر، غير الأعيرة الثلاثة التي أطلقت، أطلق بعد وقوع الحادث، ولا يعرف مصدره ومن المحتمل أن يكون أطلق من أحد الحراس، وأنه كانت هناك إشاعة تقول، إنه كان للمتهم شركاء موجودين في الوزارة وقت الحادث، ولعل أحدهم هو الذي أطلقه.
ولم يستطع هذا الشاهد أن يعلل لماذا لم يذكر هذه الواقعة للنائب العام في التحقيق.
وشهد الصول محمد البهي شرف بأنه سمع صوت عيارين ناريين، وأعقبهما صوت عيار آخر، ولما انكب مع زملائه على المتهم، إنهال الناس عليه ضربًا ظنًا منهم أنه القاتل.
وشهد الترزي محمد حسين أحمد، بأن عبد العزيز البقلي، أحد المتهمين، حضر إليه، ومعه قطعة قماش سوداء مقصوصة ببطلونًا، وطلب إليه خياطتها، وأخبره أنه لضابط يريد السفر، ورجاه أن يتم صناعتها في يوم الأحد وهو لا يذكر اليوم الذي تسلم فيه القماش من البقلي، ويرجح أنه كان يوم خميس أو جمعة، وقد قابل البقلي بعد حادث النقراشي باشا، ولم يدر بينهما حديث حول الحادث، وكان البقلي خائفًا لأنه من جماعة الإخوان.
وشهد مصطفى عبد المنعم الترزي بأنه ساهم مع عبد العزيز البقلي في حياكة "الجاكتة" التي كان يرتديها المتهم وقت الحادث، وأن كمال القزاز حضر مرة ومعه المتهم صاحب "الجاكتة" وعمل المقاس ثم انصرفا.
وفي اليوم التالي أخذ عبد العزيز البقلي الجاكتبة وذهب ليقيسها على المتهم ثم عاد بها وانتهى عملها في مساء ذلك اليوم.
ولما عرضت المحكمة على الشاهد المتهم عبد المجيد، عرفه.
وهنا قال الأستاذ يوسف يعقوب أن هذا الشاهد لم يتعرف على عبد المجيد في التحقيق.
وشهد محمد أحمد دياب بأنه أجر شقة بمنزله بوساطة سمسار إلى شخصين قيل له أنهما طالبان بالجامعة، وبعد بضعة أيام من كتابة عقد الإيجار تقابل مع أحدهما وهو محمد نايل وسأله عن سبب عدم رؤيته له ولزميله فأجابه بأن والدتهما مريضة ويرغبان في ترك المنزل.
ثم اختفيا ثم عادا وأبلغاه أنهما سيحضران عربة لنقل الأثاث، ولكنهما لم يعودا، وأراد ساكن استئجار الشقة، فاضطر الشاهد إلى دخولها من المنور، فلم يجد فيها إلا بعض أسرة وثلاثة مقاعد.
وقد عرف الشاهد من المتهمين الموجودين في القفص محمد نايل، ومحمود كامل، وعبد المجيد محمد أحمد.
وأجاب الشاهد ردًا على سؤال المحكمة؛ بأنه لم ير ضابطًا أو جنودًا يخرجون أو يترددون على المنزل، ولم يسمع ذلك من أحد من الجيران، وأن نايل وزميله كانا مستأجرين الشقة أثناء وقوع الحادث.
اعترافات القاتل
وبعد انتهاء شهادة الشهود، نادى رئيس المحكمة عبد المجيد حسن؛ فخرج من القفص في حراسة بعض الضباط ووقف في حرم المحكمة ثم سأل رئيس المحكمة الأستاذ أحمد السادة المحامي، والمتهم عما إذا كان يمانعان في أن يدلي عبد المجيد بأقواله فأجابا بالنفي.
وسمحت المحكمة للمتهم بالجلوس إذ كان بادي الأعياء من جراء صومه الطويل الذي بدأ منذ أكثر من شهر قبل المحكمة تكفيرًا عن جريمته كما يقول: ثم بدأ المتهم يسرد لقضاته قصته بلغة عربية سليمة فقال:
كيف بدأ التأثير عليَّ
لقد بدأ التأثير علي في سنة 1942، وكنت طالبًا في مدرسة فؤاد الأول الثانوية وأؤدي صلاة الظهر بمسجد المدرسة؛ لأنني نشأت نشأة دينية من صغري فعرفت في المسجد أشخاصًا ينتمون إلى جمعية الإخوان المسلمين فعرضوا علي بعض مجلات هذه الجمعية كما كانوا يحدثوني عنها،
وأذكر أن من بين هؤلاء الإخوان الطالب جمال عطية وفي سنة 1943 التحقت بأقرب شعبة للإخوان قريبة من منزلي، وهي شعبة الظاهر وتقع بشارع سكاكيني وانضممت إليها وقد دلني عليها حسين محمد عبد السميع وهو أيضًا من الإخوان وطالب بمدرسة فؤاد الأول.
وبانخراطي في جمعية الإخوان اشتركت في أنظمتها، فدخلت فرقة الجوالة والفرقة العسكرية، وتعلمنا النظام العسكري فالطاعة العمياء.
نظام الأسرة
كما التحقت بنظام يطلق عليه اسم "نظام الأسرة" وتتكون كل أسرة بين خمسة أشخاص وعشرة، وهي إما أن تكون من الطلبة أو الموظفين أو العمال وكان من أعضاء الأسرة التي انضممت إليها محمد الدمرداش عبد السميع وعبد زايد، وعيد محفوظ، ومصطفى سليم أبو الخير، وهم من الطلبة.
ومن تعاليم "نظام الأسرة" أن كل فرد من أسرة يعرف جميع شئون أعضاء أسرته، من النواحي الاجتماعية والثقافية، والأخلاقية، والعائلية، ويوجد كل هذا في برنامج الأسر وأنظمتها ولا أستطيع أن أتذكر الآن تفصيل هذا البرنامج،
وما أذكره أن الأسرة كانت تعقد اجتماعًا أسبوعيًّا في منزل أحد الأعضاء، وليس في مقر الشعبة، حتى تكون ملمة بأحوال كل عضو، وعلى معرفة تامة بحالته، وكنا نتدارس في هذه الاجتماعات ونتلو القرآن، ونحفظ أجزاء منه، ونقرأ في كتب أدبية، ودينية، وتاريخية.
وكان من برنامج نظام الأسر أيضًا أن نقوم برحلات، ونحضر اجتماعات روحية مع أشخاص يفهمون الدعوة أكثر من أفراد الأسرة، وكانت نتيجة هذا النظام أن صار كل فرد من أعضاء الأسرة يعرف أمور إخوانه، ظاهرة كانت أو خفية.
أسرة جديدة
وفي سنة 1944 افتتحت شعبة حدائق القبة، وانتقل هذا النظام إلى هذه الشعبة، وكونت أسرة من الطلبة كان أعضاؤها حسين محمد عبد السميع، وأحمد عادل كمال، وطاهر عماد الدين، وأحمد محمود كامل، وممدوح حافظ، ومحمد وجيه الباجوري، وصلاح الأفندي، وكنت أنا عضوًا بهذه الأسرة؛ لأن اتصالي بشعبة الحدائق قطع صلتي بشعبة الظاهر، وسارت هذه الأسرة على نفس النظام.
وقد عرض على سعادة النائب العام أوراقًا ضبطت بشبعة الحدائق ومن بينها ورقة اعترفت أنها كتبت بخطي، وهي تشمل أسماء رهط الجوالة بالشعبة.
وكنت طوال هذه المدة أحضر أنا والإخوان حديث الثلاثاء بالمركز العام لجمعية الإخوان المسلمين، كما كنت أحضر حديثًا آخر خاصًا بالطلبة فقط. يعطي في يوم الخميس باستمرار. وكان المحاضر هو الأستاذ حسن البنا.
وبسبب تأثير هذه الأنظمة، انخرطت تمامًا في جماعة الإخوان المسلمين حتى أنني كنت مندوبًا للجمعية في مدرسة فؤاد الأول، وأنا في السنة التوجيهية.
وأحب أن أذكر أيضًا أن من أنظمة الإخوان التفرقة بين الأفراد، فبعضهم إخوان عاملون، والبعض مشتركون، والآخرون مؤيدون، وفي الأوراق المضبوطة بشعبة الحدائق جدول يشتمل على بعض الأسماء ومعلومات خاصة بأصحابها، كنت أنا كاتب هذا الجدول، وقد كتبته من نسختين.
وكان الأستاذ حسن البنا يعقد اجتماعات خاصة للإخوان العاملين فقط، وقد علمت أنه جاء مرة إلى شعبة الحدائق واجتمع بالإخوان العاملين سرًّا ويمكن الاستشهاد على ذلك بسؤال الإخوان العاملين المكتوبة أسماؤهم في الجدول الذي حررته.
الدعوة المحمدية
وفي أواخر سنة 1945، أو أوائل سنة 1946، طلب مني حسين عبد السميع أن أذهب إلى منزله، وحدد لي موعدًا فتخلفت عنه، فأرسل لي جمال عطية في يوم آخر لمقابلته في منزله، فذهبت ولما قابلته أخذني في سيارة وكان بها شخص عرفت فيما بعد أن اسمه أحمد حجازي، وقال لي حسين عنه إنه من الإخوان الموثوق فيهم فثق في كل كلمة يقولها.
وقد بدأ حجازي يسرد علي دعوة الإخوان المسلمين، ولا ينقصها لتصير شبيهة بالدعوة المحمدية إلا استعمال السلاح، وأن الإخوان لم ينسوا هذا الباب. وسيقومون بتنفيذه وعرض علي القبول بالانضمام معهم في هذا النظام.
فسألته هل هذا أمر صادر من المركز العام، فقال نعم، وعلى هذا الأساس وافقت على الدخول في هذا النظام باعتبار أنه نظام كنظام الجوالة ونظام الأسر. وإنه يختلف عنهما بأنه مقصور على الإخوان الذين يثبت أنهم مخلصون لدعوة الإخوان تمامًا، والدليل على هذا أن هذا النظام لا يوجد اسم خاص وكان معروفًا بين الإخوان باسم "نظام خاص".
أما نشاط الإخوان فكان معروفًا باسم "المحيط العام" وكان من ضمن أعضاء هذا النظام حسين عبد السميع، وكان في الحقيقة يعرف كل شيء، وهو الذي رشح أحمد عادل كمال.
جم