إعفاء العامل من المسئولية التأديبية عن المخالفة المرتكبة
تنفيذاً لأمر رئيسه في العمل
تمهيد :
المخالفة الإدارية قوامها مخالفة الواجبات التي تنص عليها القوانين واللوائح ، أو الخروج على مقتضى الواجب في أعمال الوظيفة ، أو الظهوربمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة . و تقوم الجريمة التأديبية بتوافر ركنيها الأساسيين ، و هما : الركن المادي و الركن المعنوي ، أما الركن المادي فيتوافر في العمل الإيجابي أو السلبي الذي يتضمن مخالفة للواجبات الوظيفية أو الخروج على مقتضياتها ، وأما الركن المعنوي فيتحصل في وقوع الفعل المكون للذنب الإداري عن إرادة آثمة تتجه إلى إحداثه . ( يراجع : المحكمة الإدارية العليا في 11/5/1963 س 8 ص 72 – أ/ محمود صالح – شرح قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة – طبعة أولى سنة 1996 – ص 450 ).
و لا تقوم المسئولية التاديبية و لا يسأل العامل إلا إذا توافرت أركانها وقام الدليل اليقيني على ثبوتها من وقائع مادية و قانونية تكون ركن السبب في القرار التأديبي ، و هناك حالات تنتفي فيها المسئولية التأديبية ، و حالات أخرى يعفى فيها من تلك المسئولية ، و الفرق بين الإعفاء من المسئولية و بين انتفائها أو انعدامها ؛ أن الإعفاء من المسئولية يتحقق في حالة قيام المسئولية أساساً ن إلا أن هناك أسباب قامت في العامل حالت بينه و بين توقيع الجزاء التأديبي عليه ، و هذه الأسباب مردها إلى حكم القانون ، سواء نص عليها قانون العاملين أو غيره من القوانين . أما انعدام المسئولية فيتوافر في حالة عدم تحقق المسئولية أساساً في جانب العامل لعدم قيام السبب المبرر لتوقيع الجزاء عليه ، وهو قيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون احد أركان القرار الإداري و هو المشكل لركن السبب . ( أ/ محمود صالح – المرجع السابق – ص 459 .
ومن الحالات التي يعفى فيها من المسئولية التأديبية ، الإعفاء من الجزاء استناداً إلى أمر صادر من الرئيس ، و هو ما سنوضحه فيما يلي .
النص القانوني الحاكم للمسألة :
أشير بداءة إلى أن هذا الأصل في الإعفاء من المسئولية ليس بدعاً من المشرع ، فقد سبق أن قرره القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة ، كما ردده القانون رقم 46 لسنة 1964 بنظام العاملين المدنيين ، و كذا نص عليه القانون رقم 58 لسنة 1971 الذي حل محل القانون الأخير، ثم أقره النظام القانوني الحالي ، سواء في قانون العاملين المدنيين بالدولة أم في قانون العاملين بالقطاع العام ، على النحو التالي .
تنص المادة 78 من قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 على أن : ( لا يعفى العامل من الجزاء استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه إلا إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من الرئيس بالرغم من تبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و تنص الفقرة الثانية من المادة 80 من قانون العاملين بالقطاع العام رقم 48 لسنة 1978 على أنه : ( و يعفى العامل من الجزاء إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و البين من هاتين المادتين أن مضمونهما واحد ، و أن لهما تعلق بأوامر الرؤساء ، ذلك أن الأصل هو طاعة الرؤساء في العمل ، و قد ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى أن ( من أهم واجبات الوظيفة أن يطيع الموظف الأمر الصادر إليه من رئيسه ، مادام متعلقاً بأعمال وظيفته ، و أن ينفذه فور إبلاغه به ، لا أن يناقشه أو يمتنع عن تنفيذه بحجة عجزه عن القيام به ، فالرئيس هو الذي يقوم بحسب التدرج الإداري بتوزيع الأعمال على موظفي الجهة الإدارية الواحدة ، و هو المسئول أولاً و أخيراً عن سير العمل في الوحدة التي يرأسها ....) الطعن رقم 1090 لسنة 7 ق – جلسة 11/5/1963 – المرجع السابق ص 431 .
و إذا كان هذا هو الأصل ، إلا أنه ليس على إطلاقه ، فالرئيس بشر ، و البشر غير معصومين من الخطأ ، و قد يكون في أوامر الرئيس ما يشكل مخالفة ، و إطاعة المرؤوس لأوامر رئيسه في تلك الحالة يعد أمراً له بارتكاب المخالفة و تحريض عليها ، و ارتكاب المخالفة أمر محظور و منهي عنه ، و مرتكبها معرض للعقاب ، فلو أجبر العامل المرؤوس على طاعة رئيسه رغم كونه يشكل مخالفة لأوقعه ذلك في حرج شديد لا مناص له منه ، إمّا إطاعة أمر الرئيس فيعد شريكاً له في المسئولية ، و إمّا رفض الطاعة فيكون مسئولاً أيضاً لمجرد ذلك الرفض ، و توفيقاً بين طاعة أمر الرئيس و بين حماية العامل من المسئولية عن عمل مصدره الرئيس ، أجيز للعامل الاعتراض على مثل تلك الأوامردرءً للمسئولية عنه ، و لكن بشرائط معينة حددها المشرع ، و لذلك حين أوجب المشرع على العامل تنفيذ ما يصدر إليه من أوامر لم يطلق تلك الأوامرمن القيد ، بل تطلب أن تكون موافقة للنظم القانونية السارية ، فقد نصت المادة 78 من قانون العاملين بالقطاع العام على أنه : ( يجب على العامل مراعاة الأحكام الآتية : ........... 8- أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر و ذلك في حدود القوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ....)، كما نصت المادة 86 من قانون العاملين المدنيين بالدولة على أنه ( يجب على العامل أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر بدقة و أمانة ، و ذلك في حدود القوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ).
شروط الإعفاء من المسئولية التأديبية عن تنفيذ أمر الرئيس :
المستفاد من نص المادتين المشار إليهما سلفاَ أنه يشترط لإعفاء العامل من المسئولية عن تنفيذ أوامر الرئيس المخالفة للقانون ، ثلاثة شروط ، و ذلك على النحو التالي :
أولاً : صدور أمر من الرئيس الإداري بإتيان فعل أو امتناع عن فعل يعد مخالفة مالية أو إدارية :
و مفاد ذلك أن مسألة أولية يلزم توافرها ، تمثل حجر الزاوية في تلك المسئولية ، هي صدور أمرمن الرئيس لمرؤوسه بإتيان فعل ( أمر إيجابي ) أو امتناع عنه ( أمر سلبي ) ، و لا يكفي مجرد صدور أمر من الرئيس الإداري ، بل يلزم أن يكون الأمر مشكلاً مخالفة ، و إلا لا نكون بصدد أية مسئولية إذا لم يتضمن ذلك الإمر مخالفة ما للقانون ، و يستوي أن تكون المخالفة المذكورة مالية أو إدارية . و المقصود بالرئيس هنا هو من له سلطة توجيه العامل و إصدار الأوامر له ، و كان على العامل التزام بطاعة أمره ، و يثبت ذلك من خلال النظام القانوني و اللائحي المعمول به بكل جهة حسب الأحوال .
و الأمرالصادر من الرئيس إنما يشكل مخالفة إذا تعارض مع حكم القاعدة التنظيمية الواجبة الإتباع ، أما إذا تعارض مع قاعدة جائزة أو غير واجبة فلا يعد مخالفاً للقانون .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" الموظف العام يمارس الوظيفة العامة مستهدفاً غاية الصالح العام ، و يلزم أن يؤديها طبقاً للقوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ، يجب على كل موظف عام أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر وتعليمات من الرؤساء ،على أن تكون هذه الأوامر متفقة مع أحكام القوانين واللوائح و النظم المعمول بها التي يحظر القانون مخالفتها أو تعدي حدودها ، عالج المشرع صورة ما إذا تعارض أمر الرئيس الذي تجب طاعته مع حكم القاعدة التنظيمية الأمرة الواجبة الإتباع ............. ". الطعن رقم 2853 لسنة 33 ق – جلسة 27 /5/1989 – مشار إليه بمؤلف الدكتور/ حامد الشريف – مجموعة المبادئ القضائية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا منذ إنشائها حتى الآن – طبعة 2009 – الجزء الخامس ص 119 ، 120 .
و من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الإعفاء من المسئولية الراهنة ينتفي مناطه – حتى لو توافرت جميع شروطه – إذا كان الأمر الصادر من الرئيس ينطوي على مخالفة تشكل جريمة جنائية ، ففي هذه الحالة لا يجدي العامل و لا يشفع له التذرع بأنه ارتكب تلك الجريمة تنفيذاً لأمر الرئيس .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" الإعفاء من السئولية في حالة ارتكاب الموظف المخالفة تنفيذاً لأمر رئيسه ، منوط بأن يكون اامر الرئيس مكتوباً وأن ينبه الموظف المرؤوس رئيسه بالمخالفة كتابة ، ثبوت أن المخالفات تشكل في ذاتها جرائم جنائية ، لا يقبل فيها القول بارتكابها تنفيذاً لأمرالرئيس ". الطعن رقم 589 لسنة 40 ق – جلسة 3/12/1994 – بالمرجع السابق ص 116 .
ثانياً : أن ينبه العامل رئيسه بالمخالفة :
لابد إذن على العامل المرؤوس حتى يعفى من المسئولية ، أن يكون له دور إيجابي يستظهر منه كونه جديراً بهذا الإعفاء ، و يستشف منه كذلك أنه كان حسن النية ، و ذلك بأن يقوم بتنبيه رئيسه ، و المقصود بالتنبيه هو أن يبصّر العامل رئيسه بوجه المخالفة فيما أمر به ذلك الرئيس ، عسى أن يجد له سميعاً مجيباً ، و دور العامل هنا ليس فقط حماية لنفسه من العقاب ، فيما أعتقد ، بل هو دور وجوبياً حماية لسيادة القانون من أن يمسها رئيس ، الأصل فيه أنه مؤتمن على تطبيق تلك السيادة و الخضوع لها ، باعتباره ممثلاً للدولة في نطاق عمله ، تلك الدولة التي تخضع هي ذاتها لسيادة القانون ، فإذا ما حاول ذلك الرئيس مخالفة القانون فيما يصدره من أوامر كان لزاماً على المرؤوس أن يراجعه و يبدي رأيه في ذلك ، في حدود الأطر و الضوابط القانونية السارية .
فمن المقرر في قضاء المحكمة الإدارية العليا أنه " لا طاعة لرئيس في مخالفة أحكام القانون ، و على المرؤوس أن يراجع رئيسه كتابة في شأن مخالفة تعليماته للقانون " الطعن رقم 1101 لسنة 38 ق – جلسة 17/2/1996 – بالمرجع السابق ص 117 .
فإذا ما أصر الرئيس على تنفيذ الأمر، رغم تنبيه العامل له ، فعلى العامل تنفيذه ، إذ أنه وفقاً لما قضت به المحكمة الإدارية العليا " وجوب التمييز بين تنبيه المرؤوس رئيسه إلى المخالفة و إبداء رأيه في ذلك ، و بين الاعتراض على الأوامر والامتناع عن تنفيذها ، ليس للعامل بعد أن أبدى وجهة نظره أن يعترض على ما استقر عليه رأي رؤسائه في هذا الصدد ، أو أن يمتنع عن تنفيذه " الطعن رقم 263 لسنة 11 ق – جلسة 2/3/1968 – بالمرجع السابق ص 115 ، وفي هذه الحالة تكون المسئولية على عاتق الرئيس وحده ، و ذلك وفقاً لصريح نص المادتين الحاكمتين لتلك المسئولية و السابق الإشارة إليهما ، فإن لم ينبه العامل رئيسه كان شريكاً لرئيسه في المسئولية باعتباره راضياً عن ارتكاب المخالفة .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا في ذلك بأن :
" موافقة الرئيس لا تبرر مخالفة القانون، بل إن أمره المخالف للقانون للمرؤوس لا يعفي الأخير من المسئولية إلا لو ثبت ان أمر الرئيس قد صدر إليه كتابة فاعترض عليه كتابة فأصر الرئيس على تنفيذ مرؤوسيه للمخالفة ، في هذه الحالة تكون المسئولية على الرئيس مصدر الأمر وحده " . الطعن رقم 966 لسنة 32 ق – جلسة 25/3/1989 ، و في ذات المعنى : الطعن رقم 1907 لسنة 39 ق – جلسة 13/1/1996 – بالمرجع السابق ص 117 ، 119 .
ثالثاً : ثبوت صدور أمر الرئيس و تنبيه العامل كتابة :
منعاً لتناثر النزاع في مجال إثبات المسئولية عن تنفيذ أوامر الرئيس ، و حداً من محاولات التحايل على القانون ، و تيقناً من مسئولية كل من الرئيس و المرؤوس ، فقد استلزم القانون أن يكون الأمر الصادر من الرئيس و التنبيه الصادر من المرؤوس ، مكتوبين ، و لما كان الأمر هنا مجال إعفاء من المسئولية ، فقد غدا من الطبيعي إلزام المرؤوس بإثبات ذلك ، فهذا هو صريح نص المادة 78 من قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 التي نصت على أنه : ( لا يعفى العامل من الجزاء استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه إلا إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من الرئيس بالرغم من تبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده )، و صريح نص الفقرة الثانية من المادة 80 من قانون العاملين بالقطاع العام رقم 48 لسنة 1978 التي نصت على أنه : ( و يعفى العامل من الجزاء إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و هو ما أكدته المحكمة الإدارية العليا حيث قضت بأن :
" إعفاء الطاعن من مسئوليته استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه ، رهين بأن يثبت أن ارتكابه للمخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب صادر إليه من هذا الرئيس ، و بأن يكون الطاعن قد نبه رئيسه إلى وجه المخالفة فيما أمر به رئيسه ". الطعن رقم 2576 لسنة 37 ق - جلسة 7/2/1996 – بالمرجع السابق ص 118 .
و على ذلك فإن المرؤوس في حالة صدور أمر له من رئيسه يشكل مخالفة ، يحق له مطالبة رئيسه بأن يكون أمره مكتوباً ، حتى يتسنى له الاعتراض عليه كتابة ، فإن قصر في ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، و يعتبر مسلكه حينئذ مخالفة تأديبية تستوجب مساءلته .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" للموظف في غير حالة الضرورة ، أن يطلب لتنفيذ أمر رئيسه أن يكون مكتوباً ، و له أن يعترض كتابة على هذا الأمر المكتوب إذا رأى أنه ينطوي على مخالفة لقاعدة تنظيمية آمرة ، امتثال الموظف لأمر شفهي من رئيسه رغم اعتقاده أنه مخالف للقانون يعتبر مخالفة تأديبية تستوجب المساءلة ، و لا يجوز للموظف أن يدفع عن نفسه تلك المسئولية إلى أمر شفهي من رئيسه غير مستند إلى صحيح حكم القانون ". الطعن رقم 1304 لسنة 32 ق – جلسة 13/5/1989 – بالمرجع السابق ص 119 .
حالات استثنائية من الإلتزام بإثبات الأمر و التنبيه بالكتابة :
الأصل المتقدم – المتعلق بإثبات الأمر والتنبيه بالكتابة – ليس على إطلاقه ، إذ أن هناك حالات يستثنى منها شرط الكتابة ، و هي حالات من إنشاء و اجتهاد المحكمة الإدارية العليا ، حسبما تبين لي من متابعة أحكامها ، و ذلك على النحو التالي :
1- اعتراف الرئيس بصدور الأمر منه ، و ذلك من أقوى الأدلة القانونية المعتبرة ، و الإقرار حسبما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الرقيمة 104 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 ، حجة قاطعة على المقر ، طالما كان ذلك صادراً عن إرادة حرة و مختارة غير معيبة بما يبطلها ، فإذا اعترف الرئيس بإصداره الأمر عومل بمقتضاه و اعتبر الأمر كأنه مكتوباً .
2- حالات الضرورة العاجلة : ذلك أنه في ظل الظروف و الأوضاع العادية يكون هناك مجالاً للمجادلة و المناقشة في شأن الأوامر الصادرة من الرؤساء و ضرورة صدورها مكتوبة إذا كانت تشكل مخالفة ، أما إذا كانت الظروف التي صدر فيها الأمر ظروف قاهرة ، و قصد بهذا الأمر مواجهة خطر داهم ، تستوجب تنفيذه فوراً ، و لا تحتمل بالتالي صدورها مكتوبة أو المطالبة بذلك ، فإن المرؤوس حينئذ يعتبر معذوراً ، و يجوز له تنفيذ الأمر الشفهي الصادر من رئيسه ، و لا يجوز التمسك في مواجهته بشرط كون أمر الرئيس مكتوباً ، و لا بكون التنبيه الصادر منه هو الآخر مكتوباً ، مع ملاحظة أن كل حالة تقدر على حدة ، شريطة أن يكون توافر حالة الضرورة أو الخطر الداهم مستخلصاً استخلاصاً سائغاً ، له مايسانده من الأوراق و الواقع الثابت وفقاً للأصول القانونية المقررة .
فقد عبرت المحكمة الإدارية العليا عن هاتين الحالتين بقضائها بأن :
" الأصل أن الدليل الكامل الذي يعتد به قانوناً طبقاً لصريح نص المادة 78 من القانون رقم 47 لسنة 1978 أن يكون الأمر المخالف للقانون الصادر من الرئيس مكتوباً ، أو أن يعترف هذا الرئيس بإصداره، ما لم يثبت وجود ظروف قاهرة تحول دون ذلك ، كظرف مواجهة خطر داهم كفيضان أوكحرب أوحريق خطير " . الطعن رقم 3533 لسنة 32 ق – جلسة 22/4/1989 – بالمرجع السابق ص 119
" للموظف في غير حالات الضرورة العاجلة ، أن يطلب لتنفيذ أمر رئيسه أن يكون مكتوباً و له ........... " . الطعن رقم 1304 لسنة 32 ق – جلسة 13/5/1989 – بالمرجع السابق ص 119 .
3- حالة الإكراه المعنوي أو الأدبي :
نظراً لكون علاقات العمل بين الرئيس و مرؤوسه متنوعة و مختلفة ، و قد تشتد ويشوبها ظروف قهرية تؤثر سلباً في حرية و إرادة العامل ، و الواقع العملي ملئ من مثل ذلك ، و من أجل ذلك فإنه إذا ثبت أن إرادة العامل المرؤوس قد اعتورها إكراه أدبي أو معنوي مما أفقده حريته في الإختيار، سواء في شأن مطالبته بصدور أمر رئيسه مكتوباً ، أو في شأن تنبيهه رئيسه إلى المخالفة كتابة ، فلا يطلب منه حينئذ تقديم الدليل الكتابي .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" مناط إعفاء العامل من المسئولية استناداً لأمر رئيسه لا يتحقق إلا إذا أثبت العامل أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيه العامل لرئيسه كتابة ، يعفى العامل إذا أثبت أن ثمة إكراهاً أدبياً أو معنوياً شاب إرادته و أفقده حريته ، سواء في طلبه كتابة الأمر إليه أو في تنبيه رئيسه إلى المخالفة ، في هذه الحالة يكون العامل فاقداً لحرية الإرادة في التصرف ...... " .
الطعن رقم 1525 لسنة 36 ق – جلسة 11/11/1995 – بالمرجع السابق ص 116 .
إلا أن ذلك لا يعنى أ ن كل ما قد يمارس ضد المرؤوس يعد إكراهاً أدبياً ، و إلا لانقلب الأمر إلى تحايل من العامل على أحكام القانون بزعم توافر هذه الإكراه ، بل كل حالة ينظر إليها على حدة ، و على ذلك فإن مجرد تذرع العامل بالخوف من الرئيس ، أو التعلل بإرضاء الرئيس تجنباً لانتقامه ، أو الخوف من أن يحرم من مزايا معينة ، كل تلكم الأسباب لا تصلح لأن تكون إكراهاً أدبياً ، و بالتالي لا تنفي مسئولية العامل ، و لا تعفيه من شرط تقديم الدليل الكتابي .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا في ذلك بأن :
" للموظف في غير حالات الضرورة العاجلة أن يتطلب لتنفيذ أمررئيسه أن يكون مكتوباً ، و له أن يعترض على هذا الأمرالمكتوب إذا رأي أنه ينطوي على مخالفة لقاعدة تنظيمية آمرة ، إذا قام الموظف بالامتثال لأمر شفهي من رئيسه رغم اعتقاده و علمه أنه مخالف للقانون ، فإنه يكون قد ارتكب مخالفة تأديبية ، لا يجدي أن يبدي المرؤوس أنه نفذ تعليمات رئيسه الشفوية خوفاً من بطشه أو ارضاء له حتى لا يتعرض للانتقام أو الخوف من الحرمان من مزايا أو منفعة ذاتية .......... ".
الطعنان رقما 2989 ، 3048 لسنة 39 ق – جلسة 23/3/1996 – بالمرجع السابق ص 117 .
منقول.
تنفيذاً لأمر رئيسه في العمل
تمهيد :
المخالفة الإدارية قوامها مخالفة الواجبات التي تنص عليها القوانين واللوائح ، أو الخروج على مقتضى الواجب في أعمال الوظيفة ، أو الظهوربمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة . و تقوم الجريمة التأديبية بتوافر ركنيها الأساسيين ، و هما : الركن المادي و الركن المعنوي ، أما الركن المادي فيتوافر في العمل الإيجابي أو السلبي الذي يتضمن مخالفة للواجبات الوظيفية أو الخروج على مقتضياتها ، وأما الركن المعنوي فيتحصل في وقوع الفعل المكون للذنب الإداري عن إرادة آثمة تتجه إلى إحداثه . ( يراجع : المحكمة الإدارية العليا في 11/5/1963 س 8 ص 72 – أ/ محمود صالح – شرح قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة – طبعة أولى سنة 1996 – ص 450 ).
و لا تقوم المسئولية التاديبية و لا يسأل العامل إلا إذا توافرت أركانها وقام الدليل اليقيني على ثبوتها من وقائع مادية و قانونية تكون ركن السبب في القرار التأديبي ، و هناك حالات تنتفي فيها المسئولية التأديبية ، و حالات أخرى يعفى فيها من تلك المسئولية ، و الفرق بين الإعفاء من المسئولية و بين انتفائها أو انعدامها ؛ أن الإعفاء من المسئولية يتحقق في حالة قيام المسئولية أساساً ن إلا أن هناك أسباب قامت في العامل حالت بينه و بين توقيع الجزاء التأديبي عليه ، و هذه الأسباب مردها إلى حكم القانون ، سواء نص عليها قانون العاملين أو غيره من القوانين . أما انعدام المسئولية فيتوافر في حالة عدم تحقق المسئولية أساساً في جانب العامل لعدم قيام السبب المبرر لتوقيع الجزاء عليه ، وهو قيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون احد أركان القرار الإداري و هو المشكل لركن السبب . ( أ/ محمود صالح – المرجع السابق – ص 459 .
ومن الحالات التي يعفى فيها من المسئولية التأديبية ، الإعفاء من الجزاء استناداً إلى أمر صادر من الرئيس ، و هو ما سنوضحه فيما يلي .
النص القانوني الحاكم للمسألة :
أشير بداءة إلى أن هذا الأصل في الإعفاء من المسئولية ليس بدعاً من المشرع ، فقد سبق أن قرره القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة ، كما ردده القانون رقم 46 لسنة 1964 بنظام العاملين المدنيين ، و كذا نص عليه القانون رقم 58 لسنة 1971 الذي حل محل القانون الأخير، ثم أقره النظام القانوني الحالي ، سواء في قانون العاملين المدنيين بالدولة أم في قانون العاملين بالقطاع العام ، على النحو التالي .
تنص المادة 78 من قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 على أن : ( لا يعفى العامل من الجزاء استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه إلا إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من الرئيس بالرغم من تبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و تنص الفقرة الثانية من المادة 80 من قانون العاملين بالقطاع العام رقم 48 لسنة 1978 على أنه : ( و يعفى العامل من الجزاء إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و البين من هاتين المادتين أن مضمونهما واحد ، و أن لهما تعلق بأوامر الرؤساء ، ذلك أن الأصل هو طاعة الرؤساء في العمل ، و قد ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى أن ( من أهم واجبات الوظيفة أن يطيع الموظف الأمر الصادر إليه من رئيسه ، مادام متعلقاً بأعمال وظيفته ، و أن ينفذه فور إبلاغه به ، لا أن يناقشه أو يمتنع عن تنفيذه بحجة عجزه عن القيام به ، فالرئيس هو الذي يقوم بحسب التدرج الإداري بتوزيع الأعمال على موظفي الجهة الإدارية الواحدة ، و هو المسئول أولاً و أخيراً عن سير العمل في الوحدة التي يرأسها ....) الطعن رقم 1090 لسنة 7 ق – جلسة 11/5/1963 – المرجع السابق ص 431 .
و إذا كان هذا هو الأصل ، إلا أنه ليس على إطلاقه ، فالرئيس بشر ، و البشر غير معصومين من الخطأ ، و قد يكون في أوامر الرئيس ما يشكل مخالفة ، و إطاعة المرؤوس لأوامر رئيسه في تلك الحالة يعد أمراً له بارتكاب المخالفة و تحريض عليها ، و ارتكاب المخالفة أمر محظور و منهي عنه ، و مرتكبها معرض للعقاب ، فلو أجبر العامل المرؤوس على طاعة رئيسه رغم كونه يشكل مخالفة لأوقعه ذلك في حرج شديد لا مناص له منه ، إمّا إطاعة أمر الرئيس فيعد شريكاً له في المسئولية ، و إمّا رفض الطاعة فيكون مسئولاً أيضاً لمجرد ذلك الرفض ، و توفيقاً بين طاعة أمر الرئيس و بين حماية العامل من المسئولية عن عمل مصدره الرئيس ، أجيز للعامل الاعتراض على مثل تلك الأوامردرءً للمسئولية عنه ، و لكن بشرائط معينة حددها المشرع ، و لذلك حين أوجب المشرع على العامل تنفيذ ما يصدر إليه من أوامر لم يطلق تلك الأوامرمن القيد ، بل تطلب أن تكون موافقة للنظم القانونية السارية ، فقد نصت المادة 78 من قانون العاملين بالقطاع العام على أنه : ( يجب على العامل مراعاة الأحكام الآتية : ........... 8- أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر و ذلك في حدود القوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ....)، كما نصت المادة 86 من قانون العاملين المدنيين بالدولة على أنه ( يجب على العامل أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر بدقة و أمانة ، و ذلك في حدود القوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ).
شروط الإعفاء من المسئولية التأديبية عن تنفيذ أمر الرئيس :
المستفاد من نص المادتين المشار إليهما سلفاَ أنه يشترط لإعفاء العامل من المسئولية عن تنفيذ أوامر الرئيس المخالفة للقانون ، ثلاثة شروط ، و ذلك على النحو التالي :
أولاً : صدور أمر من الرئيس الإداري بإتيان فعل أو امتناع عن فعل يعد مخالفة مالية أو إدارية :
و مفاد ذلك أن مسألة أولية يلزم توافرها ، تمثل حجر الزاوية في تلك المسئولية ، هي صدور أمرمن الرئيس لمرؤوسه بإتيان فعل ( أمر إيجابي ) أو امتناع عنه ( أمر سلبي ) ، و لا يكفي مجرد صدور أمر من الرئيس الإداري ، بل يلزم أن يكون الأمر مشكلاً مخالفة ، و إلا لا نكون بصدد أية مسئولية إذا لم يتضمن ذلك الإمر مخالفة ما للقانون ، و يستوي أن تكون المخالفة المذكورة مالية أو إدارية . و المقصود بالرئيس هنا هو من له سلطة توجيه العامل و إصدار الأوامر له ، و كان على العامل التزام بطاعة أمره ، و يثبت ذلك من خلال النظام القانوني و اللائحي المعمول به بكل جهة حسب الأحوال .
و الأمرالصادر من الرئيس إنما يشكل مخالفة إذا تعارض مع حكم القاعدة التنظيمية الواجبة الإتباع ، أما إذا تعارض مع قاعدة جائزة أو غير واجبة فلا يعد مخالفاً للقانون .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" الموظف العام يمارس الوظيفة العامة مستهدفاً غاية الصالح العام ، و يلزم أن يؤديها طبقاً للقوانين و اللوائح و النظم المعمول بها ، يجب على كل موظف عام أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر وتعليمات من الرؤساء ،على أن تكون هذه الأوامر متفقة مع أحكام القوانين واللوائح و النظم المعمول بها التي يحظر القانون مخالفتها أو تعدي حدودها ، عالج المشرع صورة ما إذا تعارض أمر الرئيس الذي تجب طاعته مع حكم القاعدة التنظيمية الأمرة الواجبة الإتباع ............. ". الطعن رقم 2853 لسنة 33 ق – جلسة 27 /5/1989 – مشار إليه بمؤلف الدكتور/ حامد الشريف – مجموعة المبادئ القضائية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا منذ إنشائها حتى الآن – طبعة 2009 – الجزء الخامس ص 119 ، 120 .
و من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الإعفاء من المسئولية الراهنة ينتفي مناطه – حتى لو توافرت جميع شروطه – إذا كان الأمر الصادر من الرئيس ينطوي على مخالفة تشكل جريمة جنائية ، ففي هذه الحالة لا يجدي العامل و لا يشفع له التذرع بأنه ارتكب تلك الجريمة تنفيذاً لأمر الرئيس .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" الإعفاء من السئولية في حالة ارتكاب الموظف المخالفة تنفيذاً لأمر رئيسه ، منوط بأن يكون اامر الرئيس مكتوباً وأن ينبه الموظف المرؤوس رئيسه بالمخالفة كتابة ، ثبوت أن المخالفات تشكل في ذاتها جرائم جنائية ، لا يقبل فيها القول بارتكابها تنفيذاً لأمرالرئيس ". الطعن رقم 589 لسنة 40 ق – جلسة 3/12/1994 – بالمرجع السابق ص 116 .
ثانياً : أن ينبه العامل رئيسه بالمخالفة :
لابد إذن على العامل المرؤوس حتى يعفى من المسئولية ، أن يكون له دور إيجابي يستظهر منه كونه جديراً بهذا الإعفاء ، و يستشف منه كذلك أنه كان حسن النية ، و ذلك بأن يقوم بتنبيه رئيسه ، و المقصود بالتنبيه هو أن يبصّر العامل رئيسه بوجه المخالفة فيما أمر به ذلك الرئيس ، عسى أن يجد له سميعاً مجيباً ، و دور العامل هنا ليس فقط حماية لنفسه من العقاب ، فيما أعتقد ، بل هو دور وجوبياً حماية لسيادة القانون من أن يمسها رئيس ، الأصل فيه أنه مؤتمن على تطبيق تلك السيادة و الخضوع لها ، باعتباره ممثلاً للدولة في نطاق عمله ، تلك الدولة التي تخضع هي ذاتها لسيادة القانون ، فإذا ما حاول ذلك الرئيس مخالفة القانون فيما يصدره من أوامر كان لزاماً على المرؤوس أن يراجعه و يبدي رأيه في ذلك ، في حدود الأطر و الضوابط القانونية السارية .
فمن المقرر في قضاء المحكمة الإدارية العليا أنه " لا طاعة لرئيس في مخالفة أحكام القانون ، و على المرؤوس أن يراجع رئيسه كتابة في شأن مخالفة تعليماته للقانون " الطعن رقم 1101 لسنة 38 ق – جلسة 17/2/1996 – بالمرجع السابق ص 117 .
فإذا ما أصر الرئيس على تنفيذ الأمر، رغم تنبيه العامل له ، فعلى العامل تنفيذه ، إذ أنه وفقاً لما قضت به المحكمة الإدارية العليا " وجوب التمييز بين تنبيه المرؤوس رئيسه إلى المخالفة و إبداء رأيه في ذلك ، و بين الاعتراض على الأوامر والامتناع عن تنفيذها ، ليس للعامل بعد أن أبدى وجهة نظره أن يعترض على ما استقر عليه رأي رؤسائه في هذا الصدد ، أو أن يمتنع عن تنفيذه " الطعن رقم 263 لسنة 11 ق – جلسة 2/3/1968 – بالمرجع السابق ص 115 ، وفي هذه الحالة تكون المسئولية على عاتق الرئيس وحده ، و ذلك وفقاً لصريح نص المادتين الحاكمتين لتلك المسئولية و السابق الإشارة إليهما ، فإن لم ينبه العامل رئيسه كان شريكاً لرئيسه في المسئولية باعتباره راضياً عن ارتكاب المخالفة .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا في ذلك بأن :
" موافقة الرئيس لا تبرر مخالفة القانون، بل إن أمره المخالف للقانون للمرؤوس لا يعفي الأخير من المسئولية إلا لو ثبت ان أمر الرئيس قد صدر إليه كتابة فاعترض عليه كتابة فأصر الرئيس على تنفيذ مرؤوسيه للمخالفة ، في هذه الحالة تكون المسئولية على الرئيس مصدر الأمر وحده " . الطعن رقم 966 لسنة 32 ق – جلسة 25/3/1989 ، و في ذات المعنى : الطعن رقم 1907 لسنة 39 ق – جلسة 13/1/1996 – بالمرجع السابق ص 117 ، 119 .
ثالثاً : ثبوت صدور أمر الرئيس و تنبيه العامل كتابة :
منعاً لتناثر النزاع في مجال إثبات المسئولية عن تنفيذ أوامر الرئيس ، و حداً من محاولات التحايل على القانون ، و تيقناً من مسئولية كل من الرئيس و المرؤوس ، فقد استلزم القانون أن يكون الأمر الصادر من الرئيس و التنبيه الصادر من المرؤوس ، مكتوبين ، و لما كان الأمر هنا مجال إعفاء من المسئولية ، فقد غدا من الطبيعي إلزام المرؤوس بإثبات ذلك ، فهذا هو صريح نص المادة 78 من قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 التي نصت على أنه : ( لا يعفى العامل من الجزاء استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه إلا إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من الرئيس بالرغم من تبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده )، و صريح نص الفقرة الثانية من المادة 80 من قانون العاملين بالقطاع العام رقم 48 لسنة 1978 التي نصت على أنه : ( و يعفى العامل من الجزاء إذا أثبت أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب بذلك صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيهه كتابة إلى المخالفة ، و في هذه الحالة تكون المسئولية على مصدر الأمر وحده ).
و هو ما أكدته المحكمة الإدارية العليا حيث قضت بأن :
" إعفاء الطاعن من مسئوليته استناداً إلى أمر صادر إليه من رئيسه ، رهين بأن يثبت أن ارتكابه للمخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب صادر إليه من هذا الرئيس ، و بأن يكون الطاعن قد نبه رئيسه إلى وجه المخالفة فيما أمر به رئيسه ". الطعن رقم 2576 لسنة 37 ق - جلسة 7/2/1996 – بالمرجع السابق ص 118 .
و على ذلك فإن المرؤوس في حالة صدور أمر له من رئيسه يشكل مخالفة ، يحق له مطالبة رئيسه بأن يكون أمره مكتوباً ، حتى يتسنى له الاعتراض عليه كتابة ، فإن قصر في ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، و يعتبر مسلكه حينئذ مخالفة تأديبية تستوجب مساءلته .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" للموظف في غير حالة الضرورة ، أن يطلب لتنفيذ أمر رئيسه أن يكون مكتوباً ، و له أن يعترض كتابة على هذا الأمر المكتوب إذا رأى أنه ينطوي على مخالفة لقاعدة تنظيمية آمرة ، امتثال الموظف لأمر شفهي من رئيسه رغم اعتقاده أنه مخالف للقانون يعتبر مخالفة تأديبية تستوجب المساءلة ، و لا يجوز للموظف أن يدفع عن نفسه تلك المسئولية إلى أمر شفهي من رئيسه غير مستند إلى صحيح حكم القانون ". الطعن رقم 1304 لسنة 32 ق – جلسة 13/5/1989 – بالمرجع السابق ص 119 .
حالات استثنائية من الإلتزام بإثبات الأمر و التنبيه بالكتابة :
الأصل المتقدم – المتعلق بإثبات الأمر والتنبيه بالكتابة – ليس على إطلاقه ، إذ أن هناك حالات يستثنى منها شرط الكتابة ، و هي حالات من إنشاء و اجتهاد المحكمة الإدارية العليا ، حسبما تبين لي من متابعة أحكامها ، و ذلك على النحو التالي :
1- اعتراف الرئيس بصدور الأمر منه ، و ذلك من أقوى الأدلة القانونية المعتبرة ، و الإقرار حسبما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الرقيمة 104 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 ، حجة قاطعة على المقر ، طالما كان ذلك صادراً عن إرادة حرة و مختارة غير معيبة بما يبطلها ، فإذا اعترف الرئيس بإصداره الأمر عومل بمقتضاه و اعتبر الأمر كأنه مكتوباً .
2- حالات الضرورة العاجلة : ذلك أنه في ظل الظروف و الأوضاع العادية يكون هناك مجالاً للمجادلة و المناقشة في شأن الأوامر الصادرة من الرؤساء و ضرورة صدورها مكتوبة إذا كانت تشكل مخالفة ، أما إذا كانت الظروف التي صدر فيها الأمر ظروف قاهرة ، و قصد بهذا الأمر مواجهة خطر داهم ، تستوجب تنفيذه فوراً ، و لا تحتمل بالتالي صدورها مكتوبة أو المطالبة بذلك ، فإن المرؤوس حينئذ يعتبر معذوراً ، و يجوز له تنفيذ الأمر الشفهي الصادر من رئيسه ، و لا يجوز التمسك في مواجهته بشرط كون أمر الرئيس مكتوباً ، و لا بكون التنبيه الصادر منه هو الآخر مكتوباً ، مع ملاحظة أن كل حالة تقدر على حدة ، شريطة أن يكون توافر حالة الضرورة أو الخطر الداهم مستخلصاً استخلاصاً سائغاً ، له مايسانده من الأوراق و الواقع الثابت وفقاً للأصول القانونية المقررة .
فقد عبرت المحكمة الإدارية العليا عن هاتين الحالتين بقضائها بأن :
" الأصل أن الدليل الكامل الذي يعتد به قانوناً طبقاً لصريح نص المادة 78 من القانون رقم 47 لسنة 1978 أن يكون الأمر المخالف للقانون الصادر من الرئيس مكتوباً ، أو أن يعترف هذا الرئيس بإصداره، ما لم يثبت وجود ظروف قاهرة تحول دون ذلك ، كظرف مواجهة خطر داهم كفيضان أوكحرب أوحريق خطير " . الطعن رقم 3533 لسنة 32 ق – جلسة 22/4/1989 – بالمرجع السابق ص 119
" للموظف في غير حالات الضرورة العاجلة ، أن يطلب لتنفيذ أمر رئيسه أن يكون مكتوباً و له ........... " . الطعن رقم 1304 لسنة 32 ق – جلسة 13/5/1989 – بالمرجع السابق ص 119 .
3- حالة الإكراه المعنوي أو الأدبي :
نظراً لكون علاقات العمل بين الرئيس و مرؤوسه متنوعة و مختلفة ، و قد تشتد ويشوبها ظروف قهرية تؤثر سلباً في حرية و إرادة العامل ، و الواقع العملي ملئ من مثل ذلك ، و من أجل ذلك فإنه إذا ثبت أن إرادة العامل المرؤوس قد اعتورها إكراه أدبي أو معنوي مما أفقده حريته في الإختيار، سواء في شأن مطالبته بصدور أمر رئيسه مكتوباً ، أو في شأن تنبيهه رئيسه إلى المخالفة كتابة ، فلا يطلب منه حينئذ تقديم الدليل الكتابي .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
" مناط إعفاء العامل من المسئولية استناداً لأمر رئيسه لا يتحقق إلا إذا أثبت العامل أن ارتكاب المخالفة كان تنفيذاً لأمر مكتوب صادر إليه من رئيسه بالرغم من تنبيه العامل لرئيسه كتابة ، يعفى العامل إذا أثبت أن ثمة إكراهاً أدبياً أو معنوياً شاب إرادته و أفقده حريته ، سواء في طلبه كتابة الأمر إليه أو في تنبيه رئيسه إلى المخالفة ، في هذه الحالة يكون العامل فاقداً لحرية الإرادة في التصرف ...... " .
الطعن رقم 1525 لسنة 36 ق – جلسة 11/11/1995 – بالمرجع السابق ص 116 .
إلا أن ذلك لا يعنى أ ن كل ما قد يمارس ضد المرؤوس يعد إكراهاً أدبياً ، و إلا لانقلب الأمر إلى تحايل من العامل على أحكام القانون بزعم توافر هذه الإكراه ، بل كل حالة ينظر إليها على حدة ، و على ذلك فإن مجرد تذرع العامل بالخوف من الرئيس ، أو التعلل بإرضاء الرئيس تجنباً لانتقامه ، أو الخوف من أن يحرم من مزايا معينة ، كل تلكم الأسباب لا تصلح لأن تكون إكراهاً أدبياً ، و بالتالي لا تنفي مسئولية العامل ، و لا تعفيه من شرط تقديم الدليل الكتابي .
فقد قضت المحكمة الإدارية العليا في ذلك بأن :
" للموظف في غير حالات الضرورة العاجلة أن يتطلب لتنفيذ أمررئيسه أن يكون مكتوباً ، و له أن يعترض على هذا الأمرالمكتوب إذا رأي أنه ينطوي على مخالفة لقاعدة تنظيمية آمرة ، إذا قام الموظف بالامتثال لأمر شفهي من رئيسه رغم اعتقاده و علمه أنه مخالف للقانون ، فإنه يكون قد ارتكب مخالفة تأديبية ، لا يجدي أن يبدي المرؤوس أنه نفذ تعليمات رئيسه الشفوية خوفاً من بطشه أو ارضاء له حتى لا يتعرض للانتقام أو الخوف من الحرمان من مزايا أو منفعة ذاتية .......... ".
الطعنان رقما 2989 ، 3048 لسنة 39 ق – جلسة 23/3/1996 – بالمرجع السابق ص 117 .
منقول.