طبيعة المخالفة التأديبية ومدى خضوعها لمبدأالمشروعية، والعقبات التي تعترض تطبيق هذا المبدأ،ومرد ذلك أن هذه المخالفات تستعصيعلى الحصر والتحديد، فليس بمقدور المشرع تعدادها على وجه الدقة كما هو الشأنبالنسبة للجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات .
ويترتب على ذلك نتائج بالغة الخطورة أهمها : إفساح المجال أمام الرؤساء الإداريين وهيئات التأديب للحكم على تصرفات الموظفين وغيرهم من العاملين في المهن والمؤسسات المختلفة، وتقدير ماإذا كان الفعل الصادر عنهم يُعدّ مخالفة تستوجب التأديب والعقاب .
ورغم إقرارنا بالصعوبات المشار إليها فإننا لا نتردد بالمناداة بضرورة تقنين الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية بأقصى درجة ممكنة من الوضوح، ليكون الأشخاص المخاطبونبهذه القواعد على علم بما هو مطلوب منهم وما هو محظور عليهم، علاوة على أنّ اتباعهذا الأسلوب يُضيق الخناق على سلطات التأديب ويحد من تعسفها في تقديرها وتكييفهالما يصدر عنهم من أفعال، وفي ذلك ضمان لحقوقهم وحماية لحرياتهم .
المقدمةيدور جدل فقهي واسع حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبيةومبدأ المشروعية، ما يستوجب بداية تحديد المقصود بكل من هذين المصطلحين .
ذهب جانب من الفقه إلى تعريف المخالفة أو الجريمة التأديبية بأنها : "كل فعل أو امتناعيرتكبه العامل ويجافي واجبات وظيفته( ) أو هي : "إخلال شخص بواجباته الوظيفية أوالمهنية التي ينتمي إليها سواء أكان هذا الإخلال إيجابياً أم سلبياً( ). ويرى جانبآخر من الفقه : "أن المخالفة التأديبية ليست فقط الإخلال بواجبات الوظيفة أوالمهنة، بل توجد كلما سلك العامل خارج نطاق وظيفته أو مهنته سلوكاً معيباً يمسكرامته أو كرامة المرفق الذي يعمل فيه( ). ويرى بعض الفقهاء: "أن الجريمة التأديبيةتعني عدم التزام الموظف بالأسس التنظيمية والأخلاقية في أثناء تأدية الوظيفةوخارجها"( ).
وأهم ما يمكن استنباطه من هذه التعريفات هو التعميم وعدمالتحديد الدقيق لفحوى المخالفة التأديبية، نظراً لأن هذه التعريفات على درجة منالاتساع بحيث تشمل كل فعل يخل بمقتضيات الوظيفة أو المهنة سواء تعلق بواجباتها أومحظوراتها أو أخلاقياتها، ويستوي وقوع هذا الإخلال داخل نطاق العمل الوظيفي أوخارجه .
ويتبنى القضاء الإداري ذات الموقف في بيانه للمقصود بالمخالفة أوالجريمة التأديبية، فقد جاء في أحد الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي بأنالجريمة أو المخالفة التأديبية تعني : "إخلال الموظف بواجباته الوظيفية بما في ذلكالأفعال المخلة بشرف الوظيفة"( ). ومما ورد في حيثيات أحد الأحكام الصادرة عنالمحكمة الإدارية العليا المصرية قولها : "كل عمل يخالف الواجبات المنصوص عليها فيالقوانين، أو يخرج على مقتضى الواجب الوظيفي، أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامةالوظيفة، يعاقب تأديبياً( )، وكذلك قولها أن الجريمة التأديبية تعني : "إخلالالموظف بواجبات وظيفته أو خروجه على مقتضياتها أو ارتكابه خارج الوظيفة ما ينعكسعليها"( ).
وهذا أيضاً هو موقف محكمة العدل وهي المحكمة الإدارية الوحيدة فيالأردن، إذ تقرر أن المخالفة المسلكية قوامها " مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أومهنته أو مقتضياتها وكرامتها"( )
نخلص من ذلك إلى تعريف المخالفة التأديبيةبأنها : فعل أو امتناع يمثل إخلالاً بواجبات الوظيفة أو المهنة التي ينتمي إليهاشخص ما أو محظوراتها، سواء أوقع ذلك في أثناء ساعات الدوام الرسمي أم بعدها .
أما مبدأ المشروعية بمفهومه العام فيقصد به خضوع جميع السلطات والأفراد أيالحكام والمحكومين لقواعد القانون وأحكامه، بينما يقصد به في مجال التجريم والعقاب: قيام المشرع بتحديد الأفعال التي تُعدّ جرائم، وبيان العقوبات المقررة لها بصورةواضحة ومحددة( ). ويُعدّ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من المبادئ الأساسية فيالتشريعات الحديثة ومن مقتضاه أن لا يُجرّم فعل ولا يعاقب عليه إلابنص قانوني يحددنوع الفعل المجرم وأركانه وشروطه، كما يبين العقوبة المستحقة. ويوفر هذا المبدأحماية قانونية للفرد وضمانة لحقوقه وحرياته؛ بمنع السلطة العامة المختصة من اتخاذأي إجراء بحقه، ما لم يكن قد ارتكب فعلاً ينص القانون على أنه جريمة معاقب عليها .
لذا يجب على القاضي أن يلتزم بالنص القانوني، فلا يسوغ له أن يستند فيتجريمه لأي فعل على القواعد الأخلاقية أو الاجتماعية، أو على تقديره بأن الفعل ضاربالمجتمع، كما لا يسوغ الحكم بعقوبة لم ينص عليها القانون؛ كأن يحظر المشرع فعلاًدون أن يذكر عقوبة لفاعله، أو يطلب القيام بعمل دون النص على عقوبة الامتناع عنالقيام به( ). ومن الواضح أن هذا المبدأ يتكوين من شقين؛ الأول : يتعلق بالتجريم،إذ يجب لاعتبار فعل أو تصرف ما بأنه غير مشروع أن تجرمه وتؤثمه النصوص والقواعدالقانونية، فإن لم يكن هناك نص فلا يُعدّ القيام بهذا الفعل جريمة لأن الأصل فيالأشياء الإباحة. أما الشق (الثاني) فيتعلق بالعقاب، ومضمونه أن الشخص لا يعاقب إلاعلى الفعل الذي يُعدّ جريمة، وبالعقوبة التي حددها المشرع.
وهكذا فإن مبدأالمشروعية يستهدف مصلحة مزدوجة، فهو من جهة يحقق مصلحة الأفراد بعلمهم ومعرفتهمالمسبقة بالأفعال المحظورة عليهم والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضهم للعقاب.
ومن جهة أخرى فإنه يحقق مصلحة المجتمع وأمنه في تخفيض عدد الجرائم أوالمخالفات،لأن قيام المشرع بالنص عليها وعلى العقوبات المقررة لها، يدفع بالكثير منالأشخاص إلى التفكير ملياً والتردد بل والأحجام عن إتيانها، خشية وقوعهم تحت طائلةالمسؤولية، ويطلق على ذلك عنصر الردع أو الأثر الوقائي( ).
إن مبدأالمشروعية بشقيه يعبر عنه بالقاعدة المشهورة في القانون الجنائي : "لا جريمة ولاعقوبة إلاّ بنص "وبما أن بحثنا يقتصر على موضوع الجرمية في المجال التأديبي دونالخوض في العقوبات المقررة لها وتفصيلاته، فسنعرض لهذا المبدأ في شقه الأول المتعلقبالتجريم فقط أي "لا جريمة إلا بنص".
وتتجلى أهمية هذه الدراسة وهدفها في بيانوتحديد مدى العلاقة بين مبدأ المشروعية والمخالفة التأديبية، فهل يخضع هذا النوع منالجرائم للقاعدة السابقة فلا يُعدّ الفعل خاطئاً والسلوك مؤثماً إلا بوجود نصقانوني يجرّمه صراحة؟ أم أن لهذا المبدأ لوناً مختلفاً في هذا المجال فلا يطبق علىالمخالفات التأديبية بهذه الصيغة الصارمة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو الأثر الذييترتب على عدم الالتزام بالتطبيق الحرفي لهذا المبدأ، خاصة بالنسبة لأولئك العاملينفي الوظائف والمهن المختلفة الذين يشكلون شريحة واسعة وقطاعاً كبيراً من مجتمعاتهم؟وكيف يمكن ضمان حقوقهم وعدم الافتئات على حرياتهم، إذا زعمت السلطة الرئاسية أوغيرها من الجهات التأديبية التي تتولى الرقابة والحكم على تصرفاتهم وأعمالهم، أنّفعلاً أو سلوكاً ما يُعدّ مخالفة أو جريمة تستوجب العقاب والتأديب؟وسنتولىفي هذا البحث دراسة هذه المسائل والإجابة عمّا تطرحه من تساؤلات بأسلوب تحليليمقارن في ثلاثة مباحث على النحو التالي :
المبحث الأول : طبيعة المخالفةالتأديبية وصعوبات تحديدها وحصرها تشريعياً.
المبحث الثاني : الأثر المترتب علىصعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبية .
المبحث الثالث : موقف الفقه في تقنينالمخالفات التأديبية .
المبحث الأول : طبيعة المخالفة التأديبية وصعوباتتحديدها تشريعياًباستقراء تعريفات الفقه والقضاء الهادفة إلى تحديد المقصودبالجرم التأديبي، يتضح لنا أن هذا النوع من الجرائم أو المخالفات يتسم بطبيعة خاصةينفرد بها. لذا نجد المشرّع يعرض لتقنينها بأسلوب مغير لما هو متبع في تحديد وحصرالجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، وذلك نظراً للصعوبات التي يواجهها فيالمجال التأديبي، وسنتناول بيان ذلك في مطلبين.
المطلب الأول : الطبيعةالخاصة للمخالفة التأديبيةيرى معظم الفقهاء( ) أن للمخالفة التأديبية طبيعةخاصة تميزها عن سواها من الجرائم والمخالفات، وآية ذلك أنها تستعصي على الحصر، ممايعني أنّه يصعب على المشرع تعدادها وتحديدها بصورة حاسمة. وتتضح هذه الحقيقةباستعراض نصوص القوانين والأنظمة التي تحكم شؤون الموظفين، وما ماثلها من التشريعاتالمنظمة لشؤون طائفة أو مهنة معينة، حيث لم يقم المشرع بتحديد وحصر جميع الواجباتوالمحظورات الوظيفية أو المهنية، والتي يُعدّ الخروج عليها جريمة أو مخالفةتأديبية. فمن الملاحظ أنه يلجأ أحياناً إلى استعمال ألفاظ ومصطلحات تتسم بالغموضوتحتمل العديد من المعاني، وعلى سبيل المثال فإن نظرة فاحصة لنصوص نظام الخدمةالمدنية الأردني رقم (1) لسنة 1998( ) تؤكد هذا المنهج؛ فقد جاء في صدر المادة (43) أن : "الوظيفة العامة مسؤولية وأمانة أخلاقية، تحكمها وتوجه مسيرتها مصادر القيمالدينية والوطنية والقومية والحضارية العربية، والموظف هو وسيلة الدولة في أدائهالدورها وتحقيقاً لهذا الدور على الموظف الالتزام بما يلي .........."وقد أورد النصّتعداداً للواجبات الوظيفية في سبع فقرات. وسنكتفي بذكر نص كل من الفقرتين (ب،ج) منهذه المادة. فقد جاء نص الفقرة (ب) على النحو الآتي :
"أن يتصرف – أي موظف – بأدب وكياسة في صلاته برؤسائه ومرؤوسيه وزملائه، وفي تعامله مع المواطنين، وأنيحافظ في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وحسن سمعتها"، أما الفقرة (ج) فقد نصت على "أن يؤدي واجباته بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، وينفذ أوامر رؤسائه وتوجيهاتهم...".
وعلى الرغم من أن المشرّع قد اتجه إلى تعداد واجبات الموظف العامّة، فإننانلاحظ بأن صياغة هذه الفقرات جاءت بعبارات عامة ينقصها الوضوح، وأحياناً تخلو منالتحديد الدقيق لما تتطلبه من التزامات ( ). فما هي حدود السلوك الذي يتصف بالأدبوالكياسة، وهل يُعدّ طرح الرأي بجرأة وموضوعية خروجاً على هذه الحدود؟ والأهم منذلك ماذا يعني النص: "على أن يحافظ الموظف في جميع الأوقات على شرف الوظيفةوسمعتها"؟وإذا كان من الممكن أن نتصور صعوبة مطالبته الالتزام بذلك داخلوخارج نطاق عمله الوظيفي، فإن التساؤل يثور أيضاً حول تحديد المقصود بمصطلحي : شرفالوظيفة، وحسن سمعتها، وما هي الأعمال التي يمكن اعتبارها إخلالاً بالشرف أوالسمعة؟ولا ريب بأنّ الباب يبقى مفتوحاً أمام الرؤساء والجهات المختصةلتقدير تلك الأفعال والتصرفات. وكذلك الحال بالنسبة لمضمون الفقرة (ج) فضرورةالقيام بالعمل بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، هي مصطلحات تحتمل كثيراً من المعانيوالتفسيرات .
كما تنطبق هذه الملاحظات على صياغة المشرع الأردني للمحظوراتالوظيفية التي ورد النص عليها في المادة (44) من النظام المذكور، فقد جاء فيها : "يحظر على الموظف تحت طائلة المسؤولية التأديبية الإقدام على أي من الأعمالالتالية.... معدداً إياها في سبع فقرات أيضاً. وعلى سبيل المثال فقد تكرر ذكر مصطلحاستغلال الوظيفة في الفقرتين (ج، و) من هذه المادة، وهو تعبير فضفاض يتصف بالإبهاموعدم الوضوح.
وبناء على ما سبق ذهب غالبية الفقه إلى القول بعدم إمكانيةتحديد وحصر المخالفات التأديبية بصورة جامعة مانعة، وبالتالي عدم خضوعها لمبدأ : لاجريمة بغير نص، إذ يكفي أن يرتكب الموظف أو العامل فعلاً يُعدّ مخالفاً لمقتضياتالوظيفة أو المهنة التي ينتسب إليهان سواء أنص المشرع على تلك المخالفة بعينها أملم ينص عليها( ).
ويعلق بعض الفقه على مسلك المشرع التأديبي وما يمكناستخلاصه من نتائج بقوله :
"إن الأفعال المكونة للجريمة التأديبية لم ترد علىسبيل الحصر، كما هو الشأن في الجريمة الجنائية، وكل ما ورد في قوانين العاملين هوبيان واجباتهم والأعمال المحظورة عليهم بصفة عامة دونما تحديد دقيق. غير أنّ عدموجود نص مجرّم لفعل ما لا يعني أنه مباح، فهذه الأفعال غير محددة على سبيل الحصر،ولا تخضع لقاعدة لا جريمة بغير نص، وإنما يجوز لمن يملك سلطة التأديب قانوناً، أنيرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع من الموظف ذنباً تأديبياً، إذا كان ذلك العمل لايتفق مع واجبات وظيفته. وعليه فلا يمكن حصر الذنوب التأديبية مقدماً"( )
ويؤكد هذا التوجه الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات،فالشائع أنّ المشرّع يحرّم على الموظف ارتكاب مجموعة من الافعال على وجه التحديد،وفي نفس الوقت يحظر عليه بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلالبكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً من الأعمال، دون أن يحدد مظاهر هذا الخروج، أوحالات ذلك الإخلال، أو حصر تلك الأفعال.
ويستخلص من هذا الأسلوب أنالمخالفات التأديبية لا يمكن حصرها سلفاً بأفعال محددة. وعليه فإنّ القانون الإداريلا يأخذ بمبدأ شرعية المخالفة، الذي يوجب تحديد كافة الافعال، التي يؤدي ارتكابهاإلى تقرير المسؤولية على سبيل الحصر بنصوص قاطعة( ).
ولعل الطبيعة الخاصةللمخالفة التأديبية وما تمخض عنها من النتائج التي ظهرت جلية في مسلك المشرع، كانتالسبب الذي حدا ببعض الفقه إلى معالجة هذا الموضوع تحت عنوان :"غياب تطبيق مبدأشرعية الجريمة) في المجال التأديبي( ).
وفي المقابل يرى جانب آخر من الفقهأنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة او الجريمة التأديبية، معاعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ. و حجتهم أنه إذا كان القانونالتأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا يعني عدمالخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي. فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً يتفق مع طبيعةالقانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع واجبات الوظيفةومقتضياتها( ).
ويخلص أنصار هذا الا تجاه إلى القول :
"لذلك لا نترددفي الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأيالمخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزةلمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه. فمبدأالشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطةتقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهيالتي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراًمجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"( ).
ورغم قناعتنا بقوة الحججوالتبريرات التي استند إليها أصحاب الرأي الأول، وهم غالبية الفقه، للتدليل وبحقعلى صعوبة حصر المخالفات التأديبية، إلاّ أنّنا نخالفهم في النتيجة التي توصلواإليها، من ناحية إقرارهم بعدم خضوع هذه المخالفات لمبدأ المشروعية، وقولهم بأنها لاتخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص .
فهذا المبدأ ليس غائباً أو غير مطبق، ولكنهيتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن وقوعها واحتسابها إخلالاًبمقتضيات الوظيفة أو المهنة. فالأسلوب المتبع أن يتولى المشرع تعداد معظم الواجباتوالمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة، لكنه يحتاط ،فيورد أحياناًعبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها من الأفعال، وهو مضطر لاتباعهذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات.
وقد اعترف القضاء الإداريبهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن تؤكد المحكمة الإداريةالعليا ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف قائلة:
"إن الأخطاء التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها،وذلك بمخالفة ما تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذهالواجبات في نصوص صريحة أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"( ).
المطلب الثاني : الصعوبات التي تواجه المشرّع في تحديد وحصر المخالفات التأديبيةيمكن تلخيصالأسباب والمبررات التي تضفي على المخالفة التأديبية طابعاً خاصاً، بحيث يتعذر علىالمشرع تعدادها وحصرها على النحو التالي :
أولاً: اتساع نطاق هذا النوع منالمخالفاتإن تعدد وتنوع الواجبات والمحظورات الوظيفية، وتشعبها الهائل، يجعلمهمة المشرّع في سعيه لتحديدها وحصرها أمراً عسيراً، وعليه فإن تحديد كافةالمخالفات الإيجابية والسلبية التي يستحق فاعلها العقاب والتأديب ليس بالأمراليسير، نظراً لارتباطها بمقتضيات الوظائف المختلفة والمهن المتنوعة، وهي التي يصعبالإحاطة بكافة جوانبها وتفصيلاتها، بل إنها ترتبط بصورة أدق بطبيعة العمل ذاته الذيتختلف متطلباته باختلاف المراكز الوظيفية( ) .
وتظهر المحاولات العديدةالتي بذلت لتصنف هذا النوع من المخالفات، ومدى تباينها واتساع نطاقها. فقد ذهب بعضالفقه إلى تقسيمها بناء على طبيعة الخطأ المرتكب إلى نوعين :
1. مخالفات إدارية : وتشمل الأفعال التي تتضمن الخروج على مقتضى الواجب الوظيفي وخاصة ما هو منصوصعليه في القوانين واللوائح والتعليمات المختلفة وأوامر الرؤساء.
2. مخالفاتمالية : وتتضمن الإخلال بالقواعد والأحكام المالية المقررة، وكذلك كل إهمال أوتقصير يترتب عليه ضياع حق من الحقوق المالية، أو من شأنه أن يؤدي إلى ذلك، كماتتنوع مصادر هذه المخالفات فقد تكون مخلفات دستورية، أو قانونية، أو لائحية( ).
ويمكن إضافة أنواع أخرى لهذا التقسيم كالمخالفات المسلكية أو الأخلاقيةالتي من شأنها الإخلال بسمعة الموظف أو كرامة الوظيفة . بينما يرى جانب آخر منالفقه تقسيم المخالفات التأديبية من حيث مضمونها إلى ثلاثة أنواع: فهي إما أن تتعلقبالعمل ويطلق عليها المخالفات ذات الطابع المهني، وإما أن تكون ذات طابع سياسي،وأخيراً المخالفات ذات الطابع الأخلاقي. ثم يعود لبيان أصناف كل نوع منها( ).
وتأسيساً على ذلك لجأ المشرّع في بعض الدول كمصر على سبيل المثال، إلى وضعلوائح تتضمن تصنيفاً لأنواع المخالفات التأديبية، حيث تولى تقسيمها بموجب هذهاللوائح إلى المجموعات الآتية :
- مخالفات تتعلق بمواعيد العمل .
- مخالفاتتتعلق بأداء الواجبات الوظيفية .
- مخالفات تتعلق بنظام العمل، مخالفات تتعلقبالسلوك .
- مخالفات تتعلق بالوحدة الوطنية والسلم العام( ).
ويتضح من هذهالمحاولات التي بذلها الفقه أو ذكرها المشرع لتقسيم الواجبات الوظيفية، مدى ما تتصفبه من تعدد وتنوع. ومن جهة أخرى تزداد صعوبة حصر المخالفات التأديبية؛ نظراً لأنالواجبات الوظيفية تلتقي وتتشابك مع القواعد والمبادئ التي تحكم سير المرافقالعامة. وأهمها : مبدأ دوران سير المرفق العام بانتظام واطراد، ومبدأ المساواة أمامالمرافق العامة، ومبدأ المساواة أمام المرافق العامة، ومبدأ قابلية قواعد المرفقالعام للتبديل والتغيير. لذا فإن جميع الأفعال أو الأخطاء التي تنطوي على إخلالمباشر أو غير مباشر بأي من هذه المبادئ تُعدّ مخالفات تأديبية( ).
وبناءً عليهفإن مهمة المشرّع في تحديد هذه الأفعال وتعدادها على وجه الدقة، تبدو مهمة شاقةوعسيرة، تعتريها الكثير من الصعوبات، ويتعذر القيام بها على الوجه الأمثل. ونظراًلتعدد وتنوع الواجبات والمحظورات بل واختلافها باختلاف طبيعة الوظائف والأعمالوالاختصاصات، ذهب بعض الفقه إلى التعلق على هذه الصعوبات بقوله :
"إن ما يعدخطأً تأديبياً يسأل عنه أحد كبار الموظفين المشاركين في إعداد السياسة العامةللدولة، أو أحد القضاة أو أحد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، قد لا يُعدّ كذلكبالنسبة لموظفي التنفيذ. لهذا يتعين تقدير المخالفات المسلكية في كل حالة على حدةحسب طبيعة الوظيفة وموقعها في السلم الإداري، والمحيط الاجتماعي الذي ارتكبت فيهتلك الأفعال. وهكذا ينبغي مراعاة كافة الاعتبارات السابقة عند تكييف الأفعال التييقترفها الموظف. ويعني ذلك تعدد المخالفات المسلكية بشكل غير متناه، مما يعد عقبةحقيقية تحول دون تطبيق مبدأ شرعية الجرائم التأديبية( ).
بل لقد وصل الأمرإلى احتساب العديد من الأفعال التي تقع من الموظف في حياته الخاصة وخارج نطاق العملالوظيفي مخالفات تأديبية، إذا كانت تؤثر على سمعته أو على كرامة المرفق الذي يعملفيه : "ويستوي أن يكون الفعل المكون للمخالفة التأديبية متصلاً بأعمال وظيفته أوغير متصل بها وإنما يتعلق بحياته الخاصة. وبصرف النظر عما إذا كان الفعل يعد منالجرائم المخلة بالشرف أم لا؟.
ومما قضى به مجلس الدولة الفرنسي في طعنإحدى النقابات المهنية (لجنة الدفاع عن الحريات المهنية للمحاسبين الخبراء):
"على كل عضو بالنقابة، الامتناع حتى خارج نطاق ممارسة مهنته، عن أي عمل من شأنهأن يفقد المهنة اعتبارا..، وأن مهمة النقابة في السهر على مستوى المهنة تتضمن سلطةحظر أي فعل أو عمل من شأنه المساس بهذا الاعتبار ولو تعلق بالحياة الخاصة لأعضاءالمهنة"( ).
ومثال ذلك الفضائح المتعلقة بسمعة الموظف، والعلاقات الجنسيةغير المشروعة أو المشاركة في عمليات التهريب( ) ومن هذه الأفعال أيضاً شرب الخمرولعب القمار، وكذلك فإن جريمة تبديد الموظف لأموال زوجته بصورة منتقدة لا تعد منالجرائم المخلة بالشرف؛ إلا أنها قد تكون ذنباً إدارياً يُسوغ مؤخذاته تأديبياً،لأن هذا التصرف بحد ذاته يُعدّ سلوكاً معيباً ينعكس أثره على سمعة الوظيفة أو يمساعتبار شاغليها( ). كما أحتسبت محكمة العدل العليا التحرش بالنساء والفتيات، دليلاًعلى سوء السلوك ومخالفة مسلكية تستوجب العقاب التأديبي، نظراً لما تنطوي عليه هذهالأفعال، من إخلال بحسن السمعة والأخلاق الحميدة، التي يجب أن يتحلى بها الموظف( ).
ولا شك بأن الحكم على الأفعال والتصرفات بهذه الطريقة التي تؤدي إلى توسيعنطاق ما يعد مخالفات أو جرائم تأديبية، يُعدّ خروجاً على مبدأ شرعية الجريمةالمقررة في قانون العقوبات، والمعبر عنه بقاعدة لا جريمة إلا بنص، وهي من القواعدالأساسية في التشريع الحديث( ).
لذا يمكن القول بأن الجرائم التأديبيةبخلاف لجرائم الجنائية ليست محددة على سبيل الحصر، فمن الصعب تعداد كافة الواجباتوتقنينها على وجه الدقة نظراً لكثرتها وتشبعها وتنوعها .
ثانياً: صعوبةالوصف والتحديد اللغوي الدقيق للواجبات الوظيفيةإن الصياغة اللغوية المحكمةللقواعد القانونية بعبارات واضحة ودقيقة، تؤدي إلى تحديد مضمونها وفهم فحواها منقبل المخاطبين بأكمها، مما يعينهم على أداء الواجبات المنوطة هم واجتناب الافعالالمحظورة عليهم.
وتزداد الأهمية لهذا التحديد التشريعي في مجال التجريم،ونعني به في هذا المقالم المجال التأديبي باستعمال ألفاظ محددة المعاني، فالأشخاصالذين يعملون في الوظائف والمهن المختلفة بهم بأمس الحاجة إلى ذلك، نظراً لما يحققههذا التحديد القانوني من ضمانات جوهرية تحميهم من تعسف الرؤساء الإداريين في الحكمعلى سلوكهم وتصرفاتهم وتكييف أفعالهم، بأنها تعد مخالفات أو جرائم تستوجب التأديب .
إن وصف الأفعال الخاطئة التي تعتبر مخالفات تأديبية على نحو دقيق أمر بعيدالمنال وهو على أهميته يبدو متعذراً إن لم يكن مستحيلاً على صعيد التنفيذ والتحقق،وخاصة من حيث صياغة القواعد التشريعية، قانوناً كان أو نظاماً( ). فالمصطلحاتوالنصوص المتعلقة بتحديد واجبات الموظفين غالباً ما يشوبها الغموض، لأن كثيراً منالألفاظ والتعابير المستعملة في مجال التأديب لا تزال غير محددة، وغير واضحة المعنى .
وعلى سبيل المثال فإن الواجب الأول للموظفينوعمال الإدارة، وهو الذي لا يمكنوضعه في نص قانوني جامد، بل يجب أن يكون محفوراً في قلوبهم، وحاضراً في خواطرهم،يتلخص في أنهم ملزمون من قبل الدولة والمجتمع، بالإخلاص المطلق غير المحدود في أداءواجباتهم. ويستدعي ذلك أن يضعوا تحت تصرف الدولة والمجتمع، بالإخلاص المطلق غيرالمحدود في أداء واجباتهم. ويستدعي ذلك أن يضعوا تحت تصرف الدولة والمجتمع، جميعأوقاتهم وملكاتهم ومعارفهم، وأن يتحرروا من كل غرض شخصي وأن يراعوا منتهى الدقةوالأمانة في تصرفاتهم. وأن يفضلوا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، مع مراعاةاعتبارات الشرف في حياتهم الخاصة والعامة. فكيف يمكن صياغة هذه الواجبات شبهالأخلاقية في قوالب قانونية جامدة؟ ( )
لا شك بأن الإجابة ستكون بالنفي،فمن العسير على المشرع ترجمة واجبات الموظف وصياغتها بألفاظ وعبارات محددة، وأحكامقانونية منضبطة كواجب الولاء الوظيفي، والمحافظة على شرف المهنة، وكرامة الوظيفة،أو القيام بالعمل بدقة وأمانة وإخلاص .
إن ذكر مثل هذه الواجبات بهذاالأسلوب المرن وهذه الصياغة اللغوية الفضفاضة، يعني أننا نقف أمام عقبة كأداء، وأنهذه المخالفات تستعصي على الحصر والتحديد، ويظهر ذلك من الغموض الذي يشوب النصوصالتشريعية التي تتعرض لبيان أو تعداد هذه الأفعال، وبالتالي يصعب إعطاؤها مفهوماًواضحاً ومعنى محدداً.
"ويعد الغموض وعدم تحديد العديد من الواجبات أوالمحظورات الوظيفية، عقبة حقيقية تحول دون تطبيق مبدأ شرعية الجريمة في الميدانالتأديبي. وقد أتيحت الفرصة عدة مرات لمجلس الدولة الفرنسي لإبداء الرأي حول مخالفةواجب التحفظ الذي يلتزم به الموظفون عند التعبير عن آرائهم السياسية. ومع أن هذاالواجب يتصل بحرية التعبير عن الرأي إلا أن مجلس الدولة فصل في هذه الحالات استناداإلى معايير مختلفة واعتبارات متباينة يمكننا وصفها بأنها اعتبارات نسبية( ).
وهكذا يبدو جلياً أن المشرع يواجه العديد من الصعوبات في المجال التأديبي،بعضها يتعلق بتعدد الأفعال التي تعدّ مخالفات تأديبية وتنوعها، فهي على درجة كبيرةمن الاتساع، بحيث يصعب الإحاطة بكافة جوانبها وتفصيلاتها. والبعض الآخر يتصلبالصياغة القانونية أي التعابير والمصطلحات اللغوية المستعملة لوصف الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية، وتعذر تحديد المقصود بها على وجه الدقة بعباراتواضحة وألفاظ منضبطة، لا تحتمل التأويل أو الاختلاف في تفسيرها وبيان معانيها.
المبحث الثاني : الأثر المترتب على صعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبيةيجمع الفقه على أن الأثر الناجم عن عجز المشرع عن تحديد الجرائم التأديبيةوحصرها، يتجلى في منح سلطة التأديب القدرة على القيام بدور فعّال لتقدير تصرفاتموظفيها، فيما إذا كانت تشكل ذنباً تأديبياً أم لا ( ). ولا ريب بخطورة هذا الأمر،لذا لا بد من قيام السلطة القضائية بمراقبة هذه السلطة التقديرية الواسعة التييمارسها الرؤساء الإداريون وهيئات التأديب. وسنعرض لدراسة ذلك في مطلبين.
المطلب الأول : تمتع السلطات التأديبية بسلطة تقديرية واسعةإنّالإقرار بالطبيعة الخاصة للمخالفة التأديبية، وهي المتمثلة بتعذر تعدادها وحصرهاتشريعياً بشكل جامع مانع، يقودنا إلى نتيجة منطقية تتلخص في إفساح المجال أمامالسلطة الإدارية، لتقدير وتكييف سلوك موظفيها وعمالها( )، والحكم على ما يصدر عنهممن أفعال إيجابية أو سلبية على النحو الذي تراه مناسباً، مما يُعدّ خروجاً على مبدأالمشروعية في مجال التجريم والعقاب.
وبهذا المعنى يقول الدكتور الطماوي "مادام أن المشرع لم يحصر الأعمال الممنوعة على الموظفين والتي تكون جريمة تأديبية فإنتحديد هذه الأعمال متروك لتقدير الجهات التأديبية سواء أكانت جهات رئاسية أم جهاتقضائية"( ).
كما يقر القضاء الإداري بسلطة الإدارة التقديرية في هذاالمجال، وحقها في الحكم على تصرفات عمالها. ومما قضى به مجلس الدولة الفرنسي : "أنالمخالفة التأديبية لا تخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص، لذا يجوز للسلطة الإداريةالمختصة تقدير ما إذا كان الفعل الذي اقترفه الموظف يُعدّ مخالفاً لواجباتهالوظيفية"( ).
كما قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر بأنه: "يجوز لمنيملك سلطة التأديب أن يرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع من الموظف عند مباشرة أعمالوظيفة ذنباً تأديبياً، إذ كان ذلك العمل لا يتفق مع واجبات وظيفته"( ).
وعلىهذا النهج سارت محكمة العدل العليا في الأردن، فقد جاء في حكمها الصادر بتاريخ 10/10/1998 قولها: "من حق الإدارة إحالة أي موظف إلى الملاحقة التأديبية إذا نُسبتإليه افعال أو تصرفات تستدعي المساءلة التأديبية، ويدخل هذا الحق في إطار الصلاحياتالتقديرية للسلطة الإدارية"( ).
ونبادر إلى القول بأن السلطة التقديريةالتي تمارسها سلطة التأديب ليست مطلقة من كل ضابط أو قيد، بل يجب أن يكون الفعلالمنسوب للشخص المعني منطوي على خطأ معين بحيث يمكن احتسابه إخلالاً بواجب أو محظوروظيفي أو مهني. أي أن سلطة التقدير في المجال التأديبي ليست سلطة تحكمية، بل تخضعلضوابط معينة حتى لا تقضي إلى تغول الإدارة وافتئاتها على حقوق موظفيها وعمالهاوحرياتهم .
ولذا يثار التساؤل عن حدود هذه السلطة، وهل يكفي مجرد الادعاءبأن الشخص قد ارتكب مخالفة تخل بواجباته؟ ويجيب الفقه على ذلك بقوله : "مهما كانتحرية السلطة الإدارية في تقديرها لعناصر الجريمة التأديبية، فإنها ملزمة بأن تستندفي هذا التقدير إلى وقائع معينة ارتكبها الموظف"( ). الأمر الذي يقتضي قيام جهةمحايدة ومستقلة بالتحقق من صحة وسلامة هذا التقدير .
المطلب الثاني : الرقابة القضائية على سلطة التأديب التقديريةتضطلع المحاكم الإدارية بولايتهاواختصاصها في الرقابة على السلطة التقديرية التي تمارسه السلطات الإدارية التأديبيةسواء من ناحية الوجود المادي للوقائع، أو تكييفها لهذه الأفعال، إضافة إلى رقابتهاعلى مدى تناسب الجزاء مع الجرم المقترف، وبيان ذلك على النحو الآتي :
أولاً: رقابة القضاء الإداري على الوجود المادي للوقائع .
ويقصد بذلك وقوع فعل إيجابيأو سلبي على خلاف ما يقضي به الواجب الوظيفي ويشترط ظهور السلوك أو التصرف الذييأتيه الموظف إلى حيز الواقع، "أما مجرد التفكير أو النوايا فلا يُعدّ مخالفةتأديبية، إذا بقيت هذه الأفكار حبيسة في الصدر ولم تترجم إلى أعمال تبرز إلىالوجود"( ).
ويتحقق السلوك الإيجابي بقول أو فعل، كالتعدي على الرؤساء أوتجريحهم والطعن بكرامتهم، أو تمزيق السجلات أو الوثائق، أو اختلاس أموال المرفقالعام.
أما السلوك السلبي فيتحقق بامتناع الموظف عن أداء عمله أو عدمالقيام بواجبه، كالتغيب وعدم الحضور في أوقات الدوام، أو عدم دفع المستحقات الماديةالمؤتمن عليها لأصحابها. وعلى هذا الأساس لا يكفي ادعاء أو زعم سلطة التأديب بأنالموظف قد ارتكب فعلاً يخل بواجبات وظيفته أو اتهامه بأنه قد تصرف بصورة شائنة، بليجب أن يكون الفعل أو التصرف محدداً وواضحاً( ). أما توجيه اتهام عام أو مبهمللموظف دون بيان الفعل أو المخالفة التي أتاها، فلا يُعدّ مكوّناً للركن الماديللخطأ الوظيفي.
ويؤكد القضاء الإداري على ضرورة تحديد الوقائع وعدمالاكتفاء بالتعميم، فقد قرر مجلس الدولة الفرنسي في قضية (Berard) "أن مجرد الطعنبالسلوك العام للموظف سواء كان هذا السلوك مهنياً أو أخلاقياً، دون تحديد ماهية هذاالسلوك، لا يُعدّ مبرراً لإيقاع العقاب"( ).
وفي حكمه في قضية (Bensalah Mohammed) رفض الاعتراف بشرعية العقوبة المستندة إلى تصرفات الموظف، لعدم ذكر وقائعمعينة( ).
ومن أحكام القضاء الإداري المصري نشير إلى حكم محكمة القضاءالإداري المصري الصادر بتاريخ 25 نوفمبر 1953 فقد جاء فيه : "لكي تكون ثمة جريمةتأديبية تستوجب المؤاخذة وتستأهل العقاب، يجب أن يرتكب الموظف فعلاً يُعدّ إخلالاًبواجبات وظيفته أو مقتضياتها، وهو ما قررته المحكمة الإدارية العليا في قضية الموظفالذي كان يعمل حارساً بحديقة الأزبكية، إذ تقول :
"يتعين لإدانة الموظف أوالعامل ومجازاته إدرياً أن يثبت أنّه قد وقع منه فعل إيجابي أو سلبي محدد...، فإذاانعدم ذلك فلم يقع منه أي إخلال بواجبات وظيفته أو الخروج على مقتضياتها، فلا يكونثمة ذنب إداري"( ).
وتؤكد محكمة العدل العليا في كثير من أحكامها على خضوعالوقائع المكونة للركن المادي للمخالفة التأديبية لرقابتها، فقد قضت في حكمهاالصادر بتاريخ 21/9/1994:
"إن القرار الصادر عن المجلس التأديبي بالاستغناء عنخدمات الموظف، لإصراره وباستمرار على عدم تنفيذ أوامر رؤسائه والقيام بالعمل الذيانتدب له، يشكل مخالفة مسلكية صريحة لأحكام المادة (42) من نظام موظفي جامعة العلوموالتكنولوجيا"( ) .
كما قضت بأنه: "يتبين من أوراق الدعوى، أن المستدعي كانيعمل معلماً بوزارة التربية والتعليم، وقد فرضت عليه العقوبات التأديبية بسبب تأخرهعن الدوام الرسمي بشكل مستمر ومغادرة العمل قبل نهاية الدوام، وتلاعبه بتسجيل أوقاتالدوام..." ( ).
وفي حكمها الصادر بتاريخ 24/11/1998 تقرر أيضاً: "أن ثبوتارتكاب الموظف المستدعي لمخالفات تمثلت في قبوله كشف التقدير الذاتي من المكلف دونطلب قسائم معلومات، ودون دراسة الملف، يشكل مخالفة مسلكية، تستوجب توجيه الإنذارله"( ).
وتخلص المحكمة إلى ضرورة ارتكاب الموظف لأفعال معينة ووقائع محددةتستوجب العقاب حتى يمكن القول بوقوع مخالفة تأديبية، أو على حد تعبيرها (مخالفةمسلكية). لذا نجدها تقرر بعبارة واضحة وصريحة في حكمها الصادر بتاريخ 22/4/1999بأنه : "لا يجوز توقيع العقاب على الموظف إلا إذا كانت الوقائع المنسوبة إليه تشكلبحد ذاتها مخالفة مسلكية"( ).
نستنتج من هذه الأحكام بأنه لا بد من وقوعفعل معين يُعدّ إخلالاً بالواجبات الوظيفية أو مقتضياتها، أما النعوت المرسلةوالاتهامات العامة فلا يعوّل عليها للقول بوقوع مخالفة تأديبية. وبناء عليه : "لابد من وجود السبب في القرار التأديبي الذي يتمثل في مخالفة واجبات الوظيفة أوالخروج على مقتضاها. وتلتزم الإدارة بأن يكون لقرارها التأديبي سبب صحيح، إذ أنّسلطتها مقيدة في هذا الشأن، وتخضع لرقابة القضاء"( ).
ثانياً: رقابة القضاءالإداري على تكييف الأفعاللا يكتفي القضاء بالتثبت من حدوث وقائع معينة تكوّنالمخالفة التأديبية، بل يتولى التأكد من صحة تكييفها القانوني؛ أي الوصف الذي تخلعهالإدارة عليها. فقد قضى مجلس الدولة الفرنسي" بأن رفض المعلم قبول أكثر من (25) تلميذاً في الفصل لا يعد إضراباً" ( ). وهذا ما فعله القضاء الإداري المصري، فقدرفضت المحكمة الإدارية العليا في كثير من أحكامها، الاعتراف بصحة التكييف الذياستندت إليه الإدارة، مثال ذلك قولها :
" إن علاقة العامل (الموظف) برئيسهأساسها التزام حدود الأدب واللياقة وحسن السلوك، وبالتالي فلا تثريب على الموظف فيإبداء رأيه صراحة أمام رئيسه، ما دام لم يجانب ما تقتضيه وظيفته من تحفظ ووقار، حتىلو كان رأيه مخالفاً لرأي رئيسه"( ). وكذلك قولها :
"إنّ تكييف الواقعة بمايجعلها من الذنوب الإدارية إنما مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة، ومبلغ انضباط هذاالتكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف، هو الخروج على مقتضيات الواجب الوظيفي،أو الإخلال بحسن السلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً"( ).
وتؤكدمحكمة العدل العليا على حقها في بسط رقابتها ليس على ثبوت الوقائع فقط، بل وعلى (تكييفها) أيضاً، مثال ذلك حكمها في القضية رقم 125/96، إذ تقرر :
"إنّ مغادرةالموظف مكان عمله بسبب مرض والدته، بعد أن تقدم بطلب إذن للمغادرة، ثم طلبه الإجازةعن الفترة التي تغيب فيها شارحاً ظروف مغادرته، لا يُعدّ مخالفة مسلكية ولا يستدعيفي مثل هذه الظروف إيقاع العقوبة بحقه"( ).
أما حكمها الصادر في القضية رقم 342/98 فقد جاء فيه: "أنّ محكمة العدل العليا هي محكمة وقائع ومحكمة قانون، ومنحقها مراقبة العنصر الواقعي من القرار الإداري وأن تتأكد من ثبوت الواقعة، .. ومنتكييف الفعل المنسوب للموظف، وما إذا كان يشكل ذنباً إدارياً( ). وبذات المعنى تقررفي حكمها الصادر في القضية رقم 80/99: "أن مجرد اقتناع رجل الإدارة بالواقعة لايحول دون تدخل المحكمة في بسط رقابتها على ثبوت الواقعة، وعلى تكييف الفعل المنسوبللموظف، إن كان يشكل ذنباً تأديبياً"( ).
وفي حكمها الصادر بتاريخ 24/2/2000 أقرت المحكمة بصحة تكييف سلطة التأديب للأفعال التي اقترفها المحاميالمتدرب باعتبارها ماسة بشرف المهنة وسمعتها، ومما جاء في حيثيات هذا الحكم :
"بما أن المستدعي كان بتاريخ الشكوى مسجلاً في نقابة المحامين متدرباً، وأنهتفوه بألفاظ نابية بحق المشتكى تتنافى مع الأخلاق والآداب العامة، كما أقدم على ضربالمشتكي. وحيث إنّ هذه الأفعال كانت أمام جمع من الناس وفي مكان عام، فإنها تشكلإخلالاً بواجبات المحامي المنصوص عليها في قانون النقابة والأنظمة الصادرة بموجبه،وفي لائحة آداب المهنة. ويكون المستدعي بذلك قد ارتكب مخالفة مسلكية تمس شرف المهنةوكرامتها وتؤثر على سمعتها"( ).
من هذه الأحكام نستنتج أنّ محاكم القضاءالإداري، لا تسلم بالوصف أو التكييف القانوني الذي تخلعه السلطات التأديبية علىالأفعال والتصرفات التي يرتكبها الموظفون، بل تخضعه للتمحيص وتبسط رقابتها عليهللتأكد من صحة هذا التكييف أو عدم صحته.
ثالثاً: رقابة القضاء الإداري على مدىالتناسب بين درة خطورة الذنب والجزاء المفوض ( ).
إن قيام القضاء الإداريبالتحقق من ملاءمة العقوبة للخطأ الوظيفي، وأنّ هذه العقوبة غير مشوبة بالغلو، يشكلضمانة أخرى لحماية الموظفين من تعدي الإدارة أو طغيانها. ومما قضت به المحكمةالإدارية العليا في القضية المعروفة بقضية كاتب مهمات السكة الحديد( ).
"لئن كانت كثرة الأعمال المعهود بها إلى الموظف، ليس من شأنها أن تعفيه منالمسؤولية عما وقع من تقصير، إلا أنّ هذا التقصير في الظروف التي حدث فيها لا يرقىإلى مرتبة الإهمال الجسيم. ومن حيث إنّ القرار الصادر بفصل المدعي قد قام على تكييفالمخالفة المسندة إليه بما جيعلها من الذنوب الإدارية الجسيمة التي تندرج تحت البندالثالث من جدول مخالفات المجموعة الأولى، واختار لها أشد الجزاءات وهو الفصل منالخدمة، فإنه يكون قد خالف القانون".
ولمحكمة العدل العليا دور فاعل فيمجال الرقابة على التناسب بين جسامة الذنب ومقدر العقوبة التي تفرضها سلطة التأديب،فقد جاء في حكمها الصادر في القضية رقم 15/89:
"للسلطة التأديبية صلاحية تقديرخطورة الذنب، وما يناسبه من جزاء، إلا أن مشروعية هذه السلطة التقديرية رهن بأن لايشوب استعمالها غلو. ومن صور هذا الغلو عدم الملائمة الظاهرة بين اخطورة الذنبالإداري ونوع لجزاء ومقداره( ). ومما ورد في حكمها الصادر في القضية رقم 255/95 :
"ترى المحكمة أن المجلس التا>يبي بعد إلغاء قراره السابق عاد وفرض عقوبةالاستغناء عن الخدمة، وهي عقوبة أدنى من العقوبة الأولى في تدرجها، إلا أن من شأنهاإقصاء المستدعي عن عمله. لذا فإن هذه العقوبة لا تتناسب مع المخالفة المرتكبة منقبل الموظف، لهذا نقرر بالأكثرية إلغاء القرار الطعين".( )
كما قضت بأن :
"للسلطة التأديبية صلاحية تقدير خطورة الذنب الإداري وما يناسبه من جزاء، إلاأن مشروعية هذه السلطة التقديرية رهن بأن لا يشوب استعمالها غلو. وحيث لا نجد فيقرار المستدعي ضده المطعون فيه، ما يفيد بانطوائه على قسوة، بل هناك ملاءمة بينخطورة الذنب الإداري الذي أتاه المستدعي والجزاء المفروض عليه، فإن أسباب الطعن لاترد على القرار الطعين، وتكون الدعوى حقيقة بالرد"( ).
وتؤكد المحكمة علىهذا الاتجاه بقولها في حكمها الصادر في القضية رقم 511/98 :
"يستفاد من نصالمادة (94/ي) من نظام موظفي مؤسسة الملكية الأردنية رقم 77 لسنة 1979 بأنه إذاارتكب الموظف مخالفة للقوانين والأنظمة، أو أقدم على تصرف أو عمل مخل بالمسئولياتالمنوطة به، فتوقع عليه إحدى العقوبات المسلكية. ومنها عقوبة العزل. إنّ محاولةالطيار الهوبط في مطار لم يفتح بعد بدلاً من المطار الواجب الهبوط فيه، يشكل مخالفةمسلكية تستوجب العقاب. إلا أ عقوبة العزل المفروضة على الموظف المستدعي مشوبةبالغلو، مما يخرجها عن نطاق المشروعية، ويجعل القرار الطعين حقيقياً بالإلغاء"( ).
وبهذه المناسبة نشير إلى الحكم الصادر في القضية رقم 290/2001 فقد جاء فيه :
"إنّ قرار المجلس التأديبي بشطب المهندسة المستدعية من سجلات النقابة، يُعدمن أشد العقوبات المنصوص عليها في قانون نقابة المهندسين، إذ ينهي حياتها المهنية،وفي ذلك مغالاة في فرض العقوبة، فليس هناك تناسب بين الذنب المقترف والعقوبةالتأديبية. ويكون ذلك ضرباً من ضروب إساءة استعمال السلطة"( ).
وهكذا نلاحظأنّ المحكمة تبسط رقابتها على تقدير السلطات التأديبية لخطورة الذنب المقترف ومايناسبه من جزاء، للتحقق من أنه غير مشوب بالغلو، فإذا تبين لها عكس ذلك فإنها تقضيبإلغائه باعتباره ضرباً من ضروب التعسف أو إساءة استعمال السلطة.
ولا بدلنا من التنبيه في هذا المقام إلى أن عدم الكفاءة امهنية لا تعد مخالفة تأديبية فهيتعني عدم قدرة الموظف على إنجاز المهام المنوطة به كما ينبغي. وفي هذه الحالة يمكنللإدارة اتخاذ إجراءات معينة تختلف عن الإجراءات التأديبية، كإلحاق الموظف بدوراتتدريبية لتأهيله لعمله، أو استبدال وظيفته، أو النقل إلى موقع يتناسب وقدراته، أوالصل لعدم الكفاءة المهنية. وتنظم القوانين الوظيفية وأنظمة الخدمات المدنية حلولاًللمشكلات المتعلقة بالكفاءة المهنية، وقد تولى نظام الخدمة المدنية الأردني علاجهذه الحالة في الفصل التاسع بعنوان "تقييم الأداء" ( ).
المبحث الثالث : موقف الفقه من تقنين المخالفات التأديبيةيرى بعض الفقه أنّ عملية التقنين تعنيإصدار تشريع يتضمن مجموعة المبادئ التي تتخذ أساساً لتنظيم الروابط والعلاقاتالقانونية، كما يتضمن مجموع القواعد القانونية المنظمة لتلك الروابط( ). ومن وجهةنظرنا فإنّ المقصود بالتقنين في هذا املجال: هو قيام المسرّع بتحديد الأفعال التيتعتبر مخالفات أو جرائم تأديبية، وتقدير الجزاء الملائم لكل منها .
وقدتباينت مواقف الفقهاء من فكرة التقنين وإمكانيته ومدى ضرورته، ما أسفر عن بروزاتجاهين رئيسيين؛ أحدهما يؤيد هذه الفكرة والآخر يعارضها .
أولاً: الاتجاهالمؤيد لفكرة التقنينذهب جانب من الفقه إلى المناداة بتقنين الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية، الي يجب على الموظفين والعاملين في المهن المختلفةالالتزام بها. ويحتج أنصار هذا الرأي بالأسانيد التالية( ):
1. أنّ تقنين هذهالواجبات يؤدي إلى فهم المخاطبين بها لما هو مطلوب منهم القيام به، وإدراكهم للمهامالمنوطة بهم، وتبصيرهم بأعمالهم وما يجب عليهم فعله أو اجتنابه. وبعكس ذلك سيتركأداء هذه الواجبات، على كثرتها وتنوعها، لمجرد تصورات غير منضبطة وبالصورة التيتتراءى لرؤسائهم :
2. أنّ طائفة الموظفين والعاملين في القطاعات والمؤسساتالمختلفة، على كبر نحجمها في كثير من المجتمعات، بأمس احلاجة غلى الأمانة في حياتهمالوظيفية والمهنية، والاطمئنان على حاضرهم ومستقبلهم، لا أن يفاجأوا بأفعال تُعدّمخالفات أو جرائم يؤاخذون بها ويحاسبون عليها دون تحذيرهم بها ويحاسبون مسبقاً مناقترافها، وسيكون اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقهم في
ويترتب على ذلك نتائج بالغة الخطورة أهمها : إفساح المجال أمام الرؤساء الإداريين وهيئات التأديب للحكم على تصرفات الموظفين وغيرهم من العاملين في المهن والمؤسسات المختلفة، وتقدير ماإذا كان الفعل الصادر عنهم يُعدّ مخالفة تستوجب التأديب والعقاب .
ورغم إقرارنا بالصعوبات المشار إليها فإننا لا نتردد بالمناداة بضرورة تقنين الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية بأقصى درجة ممكنة من الوضوح، ليكون الأشخاص المخاطبونبهذه القواعد على علم بما هو مطلوب منهم وما هو محظور عليهم، علاوة على أنّ اتباعهذا الأسلوب يُضيق الخناق على سلطات التأديب ويحد من تعسفها في تقديرها وتكييفهالما يصدر عنهم من أفعال، وفي ذلك ضمان لحقوقهم وحماية لحرياتهم .
المقدمةيدور جدل فقهي واسع حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبيةومبدأ المشروعية، ما يستوجب بداية تحديد المقصود بكل من هذين المصطلحين .
ذهب جانب من الفقه إلى تعريف المخالفة أو الجريمة التأديبية بأنها : "كل فعل أو امتناعيرتكبه العامل ويجافي واجبات وظيفته( ) أو هي : "إخلال شخص بواجباته الوظيفية أوالمهنية التي ينتمي إليها سواء أكان هذا الإخلال إيجابياً أم سلبياً( ). ويرى جانبآخر من الفقه : "أن المخالفة التأديبية ليست فقط الإخلال بواجبات الوظيفة أوالمهنة، بل توجد كلما سلك العامل خارج نطاق وظيفته أو مهنته سلوكاً معيباً يمسكرامته أو كرامة المرفق الذي يعمل فيه( ). ويرى بعض الفقهاء: "أن الجريمة التأديبيةتعني عدم التزام الموظف بالأسس التنظيمية والأخلاقية في أثناء تأدية الوظيفةوخارجها"( ).
وأهم ما يمكن استنباطه من هذه التعريفات هو التعميم وعدمالتحديد الدقيق لفحوى المخالفة التأديبية، نظراً لأن هذه التعريفات على درجة منالاتساع بحيث تشمل كل فعل يخل بمقتضيات الوظيفة أو المهنة سواء تعلق بواجباتها أومحظوراتها أو أخلاقياتها، ويستوي وقوع هذا الإخلال داخل نطاق العمل الوظيفي أوخارجه .
ويتبنى القضاء الإداري ذات الموقف في بيانه للمقصود بالمخالفة أوالجريمة التأديبية، فقد جاء في أحد الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي بأنالجريمة أو المخالفة التأديبية تعني : "إخلال الموظف بواجباته الوظيفية بما في ذلكالأفعال المخلة بشرف الوظيفة"( ). ومما ورد في حيثيات أحد الأحكام الصادرة عنالمحكمة الإدارية العليا المصرية قولها : "كل عمل يخالف الواجبات المنصوص عليها فيالقوانين، أو يخرج على مقتضى الواجب الوظيفي، أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامةالوظيفة، يعاقب تأديبياً( )، وكذلك قولها أن الجريمة التأديبية تعني : "إخلالالموظف بواجبات وظيفته أو خروجه على مقتضياتها أو ارتكابه خارج الوظيفة ما ينعكسعليها"( ).
وهذا أيضاً هو موقف محكمة العدل وهي المحكمة الإدارية الوحيدة فيالأردن، إذ تقرر أن المخالفة المسلكية قوامها " مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أومهنته أو مقتضياتها وكرامتها"( )
نخلص من ذلك إلى تعريف المخالفة التأديبيةبأنها : فعل أو امتناع يمثل إخلالاً بواجبات الوظيفة أو المهنة التي ينتمي إليهاشخص ما أو محظوراتها، سواء أوقع ذلك في أثناء ساعات الدوام الرسمي أم بعدها .
أما مبدأ المشروعية بمفهومه العام فيقصد به خضوع جميع السلطات والأفراد أيالحكام والمحكومين لقواعد القانون وأحكامه، بينما يقصد به في مجال التجريم والعقاب: قيام المشرع بتحديد الأفعال التي تُعدّ جرائم، وبيان العقوبات المقررة لها بصورةواضحة ومحددة( ). ويُعدّ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من المبادئ الأساسية فيالتشريعات الحديثة ومن مقتضاه أن لا يُجرّم فعل ولا يعاقب عليه إلابنص قانوني يحددنوع الفعل المجرم وأركانه وشروطه، كما يبين العقوبة المستحقة. ويوفر هذا المبدأحماية قانونية للفرد وضمانة لحقوقه وحرياته؛ بمنع السلطة العامة المختصة من اتخاذأي إجراء بحقه، ما لم يكن قد ارتكب فعلاً ينص القانون على أنه جريمة معاقب عليها .
لذا يجب على القاضي أن يلتزم بالنص القانوني، فلا يسوغ له أن يستند فيتجريمه لأي فعل على القواعد الأخلاقية أو الاجتماعية، أو على تقديره بأن الفعل ضاربالمجتمع، كما لا يسوغ الحكم بعقوبة لم ينص عليها القانون؛ كأن يحظر المشرع فعلاًدون أن يذكر عقوبة لفاعله، أو يطلب القيام بعمل دون النص على عقوبة الامتناع عنالقيام به( ). ومن الواضح أن هذا المبدأ يتكوين من شقين؛ الأول : يتعلق بالتجريم،إذ يجب لاعتبار فعل أو تصرف ما بأنه غير مشروع أن تجرمه وتؤثمه النصوص والقواعدالقانونية، فإن لم يكن هناك نص فلا يُعدّ القيام بهذا الفعل جريمة لأن الأصل فيالأشياء الإباحة. أما الشق (الثاني) فيتعلق بالعقاب، ومضمونه أن الشخص لا يعاقب إلاعلى الفعل الذي يُعدّ جريمة، وبالعقوبة التي حددها المشرع.
وهكذا فإن مبدأالمشروعية يستهدف مصلحة مزدوجة، فهو من جهة يحقق مصلحة الأفراد بعلمهم ومعرفتهمالمسبقة بالأفعال المحظورة عليهم والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضهم للعقاب.
ومن جهة أخرى فإنه يحقق مصلحة المجتمع وأمنه في تخفيض عدد الجرائم أوالمخالفات،لأن قيام المشرع بالنص عليها وعلى العقوبات المقررة لها، يدفع بالكثير منالأشخاص إلى التفكير ملياً والتردد بل والأحجام عن إتيانها، خشية وقوعهم تحت طائلةالمسؤولية، ويطلق على ذلك عنصر الردع أو الأثر الوقائي( ).
إن مبدأالمشروعية بشقيه يعبر عنه بالقاعدة المشهورة في القانون الجنائي : "لا جريمة ولاعقوبة إلاّ بنص "وبما أن بحثنا يقتصر على موضوع الجرمية في المجال التأديبي دونالخوض في العقوبات المقررة لها وتفصيلاته، فسنعرض لهذا المبدأ في شقه الأول المتعلقبالتجريم فقط أي "لا جريمة إلا بنص".
وتتجلى أهمية هذه الدراسة وهدفها في بيانوتحديد مدى العلاقة بين مبدأ المشروعية والمخالفة التأديبية، فهل يخضع هذا النوع منالجرائم للقاعدة السابقة فلا يُعدّ الفعل خاطئاً والسلوك مؤثماً إلا بوجود نصقانوني يجرّمه صراحة؟ أم أن لهذا المبدأ لوناً مختلفاً في هذا المجال فلا يطبق علىالمخالفات التأديبية بهذه الصيغة الصارمة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو الأثر الذييترتب على عدم الالتزام بالتطبيق الحرفي لهذا المبدأ، خاصة بالنسبة لأولئك العاملينفي الوظائف والمهن المختلفة الذين يشكلون شريحة واسعة وقطاعاً كبيراً من مجتمعاتهم؟وكيف يمكن ضمان حقوقهم وعدم الافتئات على حرياتهم، إذا زعمت السلطة الرئاسية أوغيرها من الجهات التأديبية التي تتولى الرقابة والحكم على تصرفاتهم وأعمالهم، أنّفعلاً أو سلوكاً ما يُعدّ مخالفة أو جريمة تستوجب العقاب والتأديب؟وسنتولىفي هذا البحث دراسة هذه المسائل والإجابة عمّا تطرحه من تساؤلات بأسلوب تحليليمقارن في ثلاثة مباحث على النحو التالي :
المبحث الأول : طبيعة المخالفةالتأديبية وصعوبات تحديدها وحصرها تشريعياً.
المبحث الثاني : الأثر المترتب علىصعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبية .
المبحث الثالث : موقف الفقه في تقنينالمخالفات التأديبية .
المبحث الأول : طبيعة المخالفة التأديبية وصعوباتتحديدها تشريعياًباستقراء تعريفات الفقه والقضاء الهادفة إلى تحديد المقصودبالجرم التأديبي، يتضح لنا أن هذا النوع من الجرائم أو المخالفات يتسم بطبيعة خاصةينفرد بها. لذا نجد المشرّع يعرض لتقنينها بأسلوب مغير لما هو متبع في تحديد وحصرالجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، وذلك نظراً للصعوبات التي يواجهها فيالمجال التأديبي، وسنتناول بيان ذلك في مطلبين.
المطلب الأول : الطبيعةالخاصة للمخالفة التأديبيةيرى معظم الفقهاء( ) أن للمخالفة التأديبية طبيعةخاصة تميزها عن سواها من الجرائم والمخالفات، وآية ذلك أنها تستعصي على الحصر، ممايعني أنّه يصعب على المشرع تعدادها وتحديدها بصورة حاسمة. وتتضح هذه الحقيقةباستعراض نصوص القوانين والأنظمة التي تحكم شؤون الموظفين، وما ماثلها من التشريعاتالمنظمة لشؤون طائفة أو مهنة معينة، حيث لم يقم المشرع بتحديد وحصر جميع الواجباتوالمحظورات الوظيفية أو المهنية، والتي يُعدّ الخروج عليها جريمة أو مخالفةتأديبية. فمن الملاحظ أنه يلجأ أحياناً إلى استعمال ألفاظ ومصطلحات تتسم بالغموضوتحتمل العديد من المعاني، وعلى سبيل المثال فإن نظرة فاحصة لنصوص نظام الخدمةالمدنية الأردني رقم (1) لسنة 1998( ) تؤكد هذا المنهج؛ فقد جاء في صدر المادة (43) أن : "الوظيفة العامة مسؤولية وأمانة أخلاقية، تحكمها وتوجه مسيرتها مصادر القيمالدينية والوطنية والقومية والحضارية العربية، والموظف هو وسيلة الدولة في أدائهالدورها وتحقيقاً لهذا الدور على الموظف الالتزام بما يلي .........."وقد أورد النصّتعداداً للواجبات الوظيفية في سبع فقرات. وسنكتفي بذكر نص كل من الفقرتين (ب،ج) منهذه المادة. فقد جاء نص الفقرة (ب) على النحو الآتي :
"أن يتصرف – أي موظف – بأدب وكياسة في صلاته برؤسائه ومرؤوسيه وزملائه، وفي تعامله مع المواطنين، وأنيحافظ في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وحسن سمعتها"، أما الفقرة (ج) فقد نصت على "أن يؤدي واجباته بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، وينفذ أوامر رؤسائه وتوجيهاتهم...".
وعلى الرغم من أن المشرّع قد اتجه إلى تعداد واجبات الموظف العامّة، فإننانلاحظ بأن صياغة هذه الفقرات جاءت بعبارات عامة ينقصها الوضوح، وأحياناً تخلو منالتحديد الدقيق لما تتطلبه من التزامات ( ). فما هي حدود السلوك الذي يتصف بالأدبوالكياسة، وهل يُعدّ طرح الرأي بجرأة وموضوعية خروجاً على هذه الحدود؟ والأهم منذلك ماذا يعني النص: "على أن يحافظ الموظف في جميع الأوقات على شرف الوظيفةوسمعتها"؟وإذا كان من الممكن أن نتصور صعوبة مطالبته الالتزام بذلك داخلوخارج نطاق عمله الوظيفي، فإن التساؤل يثور أيضاً حول تحديد المقصود بمصطلحي : شرفالوظيفة، وحسن سمعتها، وما هي الأعمال التي يمكن اعتبارها إخلالاً بالشرف أوالسمعة؟ولا ريب بأنّ الباب يبقى مفتوحاً أمام الرؤساء والجهات المختصةلتقدير تلك الأفعال والتصرفات. وكذلك الحال بالنسبة لمضمون الفقرة (ج) فضرورةالقيام بالعمل بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، هي مصطلحات تحتمل كثيراً من المعانيوالتفسيرات .
كما تنطبق هذه الملاحظات على صياغة المشرع الأردني للمحظوراتالوظيفية التي ورد النص عليها في المادة (44) من النظام المذكور، فقد جاء فيها : "يحظر على الموظف تحت طائلة المسؤولية التأديبية الإقدام على أي من الأعمالالتالية.... معدداً إياها في سبع فقرات أيضاً. وعلى سبيل المثال فقد تكرر ذكر مصطلحاستغلال الوظيفة في الفقرتين (ج، و) من هذه المادة، وهو تعبير فضفاض يتصف بالإبهاموعدم الوضوح.
وبناء على ما سبق ذهب غالبية الفقه إلى القول بعدم إمكانيةتحديد وحصر المخالفات التأديبية بصورة جامعة مانعة، وبالتالي عدم خضوعها لمبدأ : لاجريمة بغير نص، إذ يكفي أن يرتكب الموظف أو العامل فعلاً يُعدّ مخالفاً لمقتضياتالوظيفة أو المهنة التي ينتسب إليهان سواء أنص المشرع على تلك المخالفة بعينها أملم ينص عليها( ).
ويعلق بعض الفقه على مسلك المشرع التأديبي وما يمكناستخلاصه من نتائج بقوله :
"إن الأفعال المكونة للجريمة التأديبية لم ترد علىسبيل الحصر، كما هو الشأن في الجريمة الجنائية، وكل ما ورد في قوانين العاملين هوبيان واجباتهم والأعمال المحظورة عليهم بصفة عامة دونما تحديد دقيق. غير أنّ عدموجود نص مجرّم لفعل ما لا يعني أنه مباح، فهذه الأفعال غير محددة على سبيل الحصر،ولا تخضع لقاعدة لا جريمة بغير نص، وإنما يجوز لمن يملك سلطة التأديب قانوناً، أنيرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع من الموظف ذنباً تأديبياً، إذا كان ذلك العمل لايتفق مع واجبات وظيفته. وعليه فلا يمكن حصر الذنوب التأديبية مقدماً"( )
ويؤكد هذا التوجه الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات،فالشائع أنّ المشرّع يحرّم على الموظف ارتكاب مجموعة من الافعال على وجه التحديد،وفي نفس الوقت يحظر عليه بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلالبكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً من الأعمال، دون أن يحدد مظاهر هذا الخروج، أوحالات ذلك الإخلال، أو حصر تلك الأفعال.
ويستخلص من هذا الأسلوب أنالمخالفات التأديبية لا يمكن حصرها سلفاً بأفعال محددة. وعليه فإنّ القانون الإداريلا يأخذ بمبدأ شرعية المخالفة، الذي يوجب تحديد كافة الافعال، التي يؤدي ارتكابهاإلى تقرير المسؤولية على سبيل الحصر بنصوص قاطعة( ).
ولعل الطبيعة الخاصةللمخالفة التأديبية وما تمخض عنها من النتائج التي ظهرت جلية في مسلك المشرع، كانتالسبب الذي حدا ببعض الفقه إلى معالجة هذا الموضوع تحت عنوان :"غياب تطبيق مبدأشرعية الجريمة) في المجال التأديبي( ).
وفي المقابل يرى جانب آخر من الفقهأنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة او الجريمة التأديبية، معاعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ. و حجتهم أنه إذا كان القانونالتأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا يعني عدمالخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي. فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً يتفق مع طبيعةالقانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع واجبات الوظيفةومقتضياتها( ).
ويخلص أنصار هذا الا تجاه إلى القول :
"لذلك لا نترددفي الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأيالمخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزةلمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه. فمبدأالشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطةتقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهيالتي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراًمجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"( ).
ورغم قناعتنا بقوة الحججوالتبريرات التي استند إليها أصحاب الرأي الأول، وهم غالبية الفقه، للتدليل وبحقعلى صعوبة حصر المخالفات التأديبية، إلاّ أنّنا نخالفهم في النتيجة التي توصلواإليها، من ناحية إقرارهم بعدم خضوع هذه المخالفات لمبدأ المشروعية، وقولهم بأنها لاتخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص .
فهذا المبدأ ليس غائباً أو غير مطبق، ولكنهيتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن وقوعها واحتسابها إخلالاًبمقتضيات الوظيفة أو المهنة. فالأسلوب المتبع أن يتولى المشرع تعداد معظم الواجباتوالمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة، لكنه يحتاط ،فيورد أحياناًعبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها من الأفعال، وهو مضطر لاتباعهذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات.
وقد اعترف القضاء الإداريبهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن تؤكد المحكمة الإداريةالعليا ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف قائلة:
"إن الأخطاء التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها،وذلك بمخالفة ما تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذهالواجبات في نصوص صريحة أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"( ).
المطلب الثاني : الصعوبات التي تواجه المشرّع في تحديد وحصر المخالفات التأديبيةيمكن تلخيصالأسباب والمبررات التي تضفي على المخالفة التأديبية طابعاً خاصاً، بحيث يتعذر علىالمشرع تعدادها وحصرها على النحو التالي :
أولاً: اتساع نطاق هذا النوع منالمخالفاتإن تعدد وتنوع الواجبات والمحظورات الوظيفية، وتشعبها الهائل، يجعلمهمة المشرّع في سعيه لتحديدها وحصرها أمراً عسيراً، وعليه فإن تحديد كافةالمخالفات الإيجابية والسلبية التي يستحق فاعلها العقاب والتأديب ليس بالأمراليسير، نظراً لارتباطها بمقتضيات الوظائف المختلفة والمهن المتنوعة، وهي التي يصعبالإحاطة بكافة جوانبها وتفصيلاتها، بل إنها ترتبط بصورة أدق بطبيعة العمل ذاته الذيتختلف متطلباته باختلاف المراكز الوظيفية( ) .
وتظهر المحاولات العديدةالتي بذلت لتصنف هذا النوع من المخالفات، ومدى تباينها واتساع نطاقها. فقد ذهب بعضالفقه إلى تقسيمها بناء على طبيعة الخطأ المرتكب إلى نوعين :
1. مخالفات إدارية : وتشمل الأفعال التي تتضمن الخروج على مقتضى الواجب الوظيفي وخاصة ما هو منصوصعليه في القوانين واللوائح والتعليمات المختلفة وأوامر الرؤساء.
2. مخالفاتمالية : وتتضمن الإخلال بالقواعد والأحكام المالية المقررة، وكذلك كل إهمال أوتقصير يترتب عليه ضياع حق من الحقوق المالية، أو من شأنه أن يؤدي إلى ذلك، كماتتنوع مصادر هذه المخالفات فقد تكون مخلفات دستورية، أو قانونية، أو لائحية( ).
ويمكن إضافة أنواع أخرى لهذا التقسيم كالمخالفات المسلكية أو الأخلاقيةالتي من شأنها الإخلال بسمعة الموظف أو كرامة الوظيفة . بينما يرى جانب آخر منالفقه تقسيم المخالفات التأديبية من حيث مضمونها إلى ثلاثة أنواع: فهي إما أن تتعلقبالعمل ويطلق عليها المخالفات ذات الطابع المهني، وإما أن تكون ذات طابع سياسي،وأخيراً المخالفات ذات الطابع الأخلاقي. ثم يعود لبيان أصناف كل نوع منها( ).
وتأسيساً على ذلك لجأ المشرّع في بعض الدول كمصر على سبيل المثال، إلى وضعلوائح تتضمن تصنيفاً لأنواع المخالفات التأديبية، حيث تولى تقسيمها بموجب هذهاللوائح إلى المجموعات الآتية :
- مخالفات تتعلق بمواعيد العمل .
- مخالفاتتتعلق بأداء الواجبات الوظيفية .
- مخالفات تتعلق بنظام العمل، مخالفات تتعلقبالسلوك .
- مخالفات تتعلق بالوحدة الوطنية والسلم العام( ).
ويتضح من هذهالمحاولات التي بذلها الفقه أو ذكرها المشرع لتقسيم الواجبات الوظيفية، مدى ما تتصفبه من تعدد وتنوع. ومن جهة أخرى تزداد صعوبة حصر المخالفات التأديبية؛ نظراً لأنالواجبات الوظيفية تلتقي وتتشابك مع القواعد والمبادئ التي تحكم سير المرافقالعامة. وأهمها : مبدأ دوران سير المرفق العام بانتظام واطراد، ومبدأ المساواة أمامالمرافق العامة، ومبدأ المساواة أمام المرافق العامة، ومبدأ قابلية قواعد المرفقالعام للتبديل والتغيير. لذا فإن جميع الأفعال أو الأخطاء التي تنطوي على إخلالمباشر أو غير مباشر بأي من هذه المبادئ تُعدّ مخالفات تأديبية( ).
وبناءً عليهفإن مهمة المشرّع في تحديد هذه الأفعال وتعدادها على وجه الدقة، تبدو مهمة شاقةوعسيرة، تعتريها الكثير من الصعوبات، ويتعذر القيام بها على الوجه الأمثل. ونظراًلتعدد وتنوع الواجبات والمحظورات بل واختلافها باختلاف طبيعة الوظائف والأعمالوالاختصاصات، ذهب بعض الفقه إلى التعلق على هذه الصعوبات بقوله :
"إن ما يعدخطأً تأديبياً يسأل عنه أحد كبار الموظفين المشاركين في إعداد السياسة العامةللدولة، أو أحد القضاة أو أحد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، قد لا يُعدّ كذلكبالنسبة لموظفي التنفيذ. لهذا يتعين تقدير المخالفات المسلكية في كل حالة على حدةحسب طبيعة الوظيفة وموقعها في السلم الإداري، والمحيط الاجتماعي الذي ارتكبت فيهتلك الأفعال. وهكذا ينبغي مراعاة كافة الاعتبارات السابقة عند تكييف الأفعال التييقترفها الموظف. ويعني ذلك تعدد المخالفات المسلكية بشكل غير متناه، مما يعد عقبةحقيقية تحول دون تطبيق مبدأ شرعية الجرائم التأديبية( ).
بل لقد وصل الأمرإلى احتساب العديد من الأفعال التي تقع من الموظف في حياته الخاصة وخارج نطاق العملالوظيفي مخالفات تأديبية، إذا كانت تؤثر على سمعته أو على كرامة المرفق الذي يعملفيه : "ويستوي أن يكون الفعل المكون للمخالفة التأديبية متصلاً بأعمال وظيفته أوغير متصل بها وإنما يتعلق بحياته الخاصة. وبصرف النظر عما إذا كان الفعل يعد منالجرائم المخلة بالشرف أم لا؟.
ومما قضى به مجلس الدولة الفرنسي في طعنإحدى النقابات المهنية (لجنة الدفاع عن الحريات المهنية للمحاسبين الخبراء):
"على كل عضو بالنقابة، الامتناع حتى خارج نطاق ممارسة مهنته، عن أي عمل من شأنهأن يفقد المهنة اعتبارا..، وأن مهمة النقابة في السهر على مستوى المهنة تتضمن سلطةحظر أي فعل أو عمل من شأنه المساس بهذا الاعتبار ولو تعلق بالحياة الخاصة لأعضاءالمهنة"( ).
ومثال ذلك الفضائح المتعلقة بسمعة الموظف، والعلاقات الجنسيةغير المشروعة أو المشاركة في عمليات التهريب( ) ومن هذه الأفعال أيضاً شرب الخمرولعب القمار، وكذلك فإن جريمة تبديد الموظف لأموال زوجته بصورة منتقدة لا تعد منالجرائم المخلة بالشرف؛ إلا أنها قد تكون ذنباً إدارياً يُسوغ مؤخذاته تأديبياً،لأن هذا التصرف بحد ذاته يُعدّ سلوكاً معيباً ينعكس أثره على سمعة الوظيفة أو يمساعتبار شاغليها( ). كما أحتسبت محكمة العدل العليا التحرش بالنساء والفتيات، دليلاًعلى سوء السلوك ومخالفة مسلكية تستوجب العقاب التأديبي، نظراً لما تنطوي عليه هذهالأفعال، من إخلال بحسن السمعة والأخلاق الحميدة، التي يجب أن يتحلى بها الموظف( ).
ولا شك بأن الحكم على الأفعال والتصرفات بهذه الطريقة التي تؤدي إلى توسيعنطاق ما يعد مخالفات أو جرائم تأديبية، يُعدّ خروجاً على مبدأ شرعية الجريمةالمقررة في قانون العقوبات، والمعبر عنه بقاعدة لا جريمة إلا بنص، وهي من القواعدالأساسية في التشريع الحديث( ).
لذا يمكن القول بأن الجرائم التأديبيةبخلاف لجرائم الجنائية ليست محددة على سبيل الحصر، فمن الصعب تعداد كافة الواجباتوتقنينها على وجه الدقة نظراً لكثرتها وتشبعها وتنوعها .
ثانياً: صعوبةالوصف والتحديد اللغوي الدقيق للواجبات الوظيفيةإن الصياغة اللغوية المحكمةللقواعد القانونية بعبارات واضحة ودقيقة، تؤدي إلى تحديد مضمونها وفهم فحواها منقبل المخاطبين بأكمها، مما يعينهم على أداء الواجبات المنوطة هم واجتناب الافعالالمحظورة عليهم.
وتزداد الأهمية لهذا التحديد التشريعي في مجال التجريم،ونعني به في هذا المقالم المجال التأديبي باستعمال ألفاظ محددة المعاني، فالأشخاصالذين يعملون في الوظائف والمهن المختلفة بهم بأمس الحاجة إلى ذلك، نظراً لما يحققههذا التحديد القانوني من ضمانات جوهرية تحميهم من تعسف الرؤساء الإداريين في الحكمعلى سلوكهم وتصرفاتهم وتكييف أفعالهم، بأنها تعد مخالفات أو جرائم تستوجب التأديب .
إن وصف الأفعال الخاطئة التي تعتبر مخالفات تأديبية على نحو دقيق أمر بعيدالمنال وهو على أهميته يبدو متعذراً إن لم يكن مستحيلاً على صعيد التنفيذ والتحقق،وخاصة من حيث صياغة القواعد التشريعية، قانوناً كان أو نظاماً( ). فالمصطلحاتوالنصوص المتعلقة بتحديد واجبات الموظفين غالباً ما يشوبها الغموض، لأن كثيراً منالألفاظ والتعابير المستعملة في مجال التأديب لا تزال غير محددة، وغير واضحة المعنى .
وعلى سبيل المثال فإن الواجب الأول للموظفينوعمال الإدارة، وهو الذي لا يمكنوضعه في نص قانوني جامد، بل يجب أن يكون محفوراً في قلوبهم، وحاضراً في خواطرهم،يتلخص في أنهم ملزمون من قبل الدولة والمجتمع، بالإخلاص المطلق غير المحدود في أداءواجباتهم. ويستدعي ذلك أن يضعوا تحت تصرف الدولة والمجتمع، بالإخلاص المطلق غيرالمحدود في أداء واجباتهم. ويستدعي ذلك أن يضعوا تحت تصرف الدولة والمجتمع، جميعأوقاتهم وملكاتهم ومعارفهم، وأن يتحرروا من كل غرض شخصي وأن يراعوا منتهى الدقةوالأمانة في تصرفاتهم. وأن يفضلوا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، مع مراعاةاعتبارات الشرف في حياتهم الخاصة والعامة. فكيف يمكن صياغة هذه الواجبات شبهالأخلاقية في قوالب قانونية جامدة؟ ( )
لا شك بأن الإجابة ستكون بالنفي،فمن العسير على المشرع ترجمة واجبات الموظف وصياغتها بألفاظ وعبارات محددة، وأحكامقانونية منضبطة كواجب الولاء الوظيفي، والمحافظة على شرف المهنة، وكرامة الوظيفة،أو القيام بالعمل بدقة وأمانة وإخلاص .
إن ذكر مثل هذه الواجبات بهذاالأسلوب المرن وهذه الصياغة اللغوية الفضفاضة، يعني أننا نقف أمام عقبة كأداء، وأنهذه المخالفات تستعصي على الحصر والتحديد، ويظهر ذلك من الغموض الذي يشوب النصوصالتشريعية التي تتعرض لبيان أو تعداد هذه الأفعال، وبالتالي يصعب إعطاؤها مفهوماًواضحاً ومعنى محدداً.
"ويعد الغموض وعدم تحديد العديد من الواجبات أوالمحظورات الوظيفية، عقبة حقيقية تحول دون تطبيق مبدأ شرعية الجريمة في الميدانالتأديبي. وقد أتيحت الفرصة عدة مرات لمجلس الدولة الفرنسي لإبداء الرأي حول مخالفةواجب التحفظ الذي يلتزم به الموظفون عند التعبير عن آرائهم السياسية. ومع أن هذاالواجب يتصل بحرية التعبير عن الرأي إلا أن مجلس الدولة فصل في هذه الحالات استناداإلى معايير مختلفة واعتبارات متباينة يمكننا وصفها بأنها اعتبارات نسبية( ).
وهكذا يبدو جلياً أن المشرع يواجه العديد من الصعوبات في المجال التأديبي،بعضها يتعلق بتعدد الأفعال التي تعدّ مخالفات تأديبية وتنوعها، فهي على درجة كبيرةمن الاتساع، بحيث يصعب الإحاطة بكافة جوانبها وتفصيلاتها. والبعض الآخر يتصلبالصياغة القانونية أي التعابير والمصطلحات اللغوية المستعملة لوصف الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية، وتعذر تحديد المقصود بها على وجه الدقة بعباراتواضحة وألفاظ منضبطة، لا تحتمل التأويل أو الاختلاف في تفسيرها وبيان معانيها.
المبحث الثاني : الأثر المترتب على صعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبيةيجمع الفقه على أن الأثر الناجم عن عجز المشرع عن تحديد الجرائم التأديبيةوحصرها، يتجلى في منح سلطة التأديب القدرة على القيام بدور فعّال لتقدير تصرفاتموظفيها، فيما إذا كانت تشكل ذنباً تأديبياً أم لا ( ). ولا ريب بخطورة هذا الأمر،لذا لا بد من قيام السلطة القضائية بمراقبة هذه السلطة التقديرية الواسعة التييمارسها الرؤساء الإداريون وهيئات التأديب. وسنعرض لدراسة ذلك في مطلبين.
المطلب الأول : تمتع السلطات التأديبية بسلطة تقديرية واسعةإنّالإقرار بالطبيعة الخاصة للمخالفة التأديبية، وهي المتمثلة بتعذر تعدادها وحصرهاتشريعياً بشكل جامع مانع، يقودنا إلى نتيجة منطقية تتلخص في إفساح المجال أمامالسلطة الإدارية، لتقدير وتكييف سلوك موظفيها وعمالها( )، والحكم على ما يصدر عنهممن أفعال إيجابية أو سلبية على النحو الذي تراه مناسباً، مما يُعدّ خروجاً على مبدأالمشروعية في مجال التجريم والعقاب.
وبهذا المعنى يقول الدكتور الطماوي "مادام أن المشرع لم يحصر الأعمال الممنوعة على الموظفين والتي تكون جريمة تأديبية فإنتحديد هذه الأعمال متروك لتقدير الجهات التأديبية سواء أكانت جهات رئاسية أم جهاتقضائية"( ).
كما يقر القضاء الإداري بسلطة الإدارة التقديرية في هذاالمجال، وحقها في الحكم على تصرفات عمالها. ومما قضى به مجلس الدولة الفرنسي : "أنالمخالفة التأديبية لا تخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص، لذا يجوز للسلطة الإداريةالمختصة تقدير ما إذا كان الفعل الذي اقترفه الموظف يُعدّ مخالفاً لواجباتهالوظيفية"( ).
كما قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر بأنه: "يجوز لمنيملك سلطة التأديب أن يرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع من الموظف عند مباشرة أعمالوظيفة ذنباً تأديبياً، إذ كان ذلك العمل لا يتفق مع واجبات وظيفته"( ).
وعلىهذا النهج سارت محكمة العدل العليا في الأردن، فقد جاء في حكمها الصادر بتاريخ 10/10/1998 قولها: "من حق الإدارة إحالة أي موظف إلى الملاحقة التأديبية إذا نُسبتإليه افعال أو تصرفات تستدعي المساءلة التأديبية، ويدخل هذا الحق في إطار الصلاحياتالتقديرية للسلطة الإدارية"( ).
ونبادر إلى القول بأن السلطة التقديريةالتي تمارسها سلطة التأديب ليست مطلقة من كل ضابط أو قيد، بل يجب أن يكون الفعلالمنسوب للشخص المعني منطوي على خطأ معين بحيث يمكن احتسابه إخلالاً بواجب أو محظوروظيفي أو مهني. أي أن سلطة التقدير في المجال التأديبي ليست سلطة تحكمية، بل تخضعلضوابط معينة حتى لا تقضي إلى تغول الإدارة وافتئاتها على حقوق موظفيها وعمالهاوحرياتهم .
ولذا يثار التساؤل عن حدود هذه السلطة، وهل يكفي مجرد الادعاءبأن الشخص قد ارتكب مخالفة تخل بواجباته؟ ويجيب الفقه على ذلك بقوله : "مهما كانتحرية السلطة الإدارية في تقديرها لعناصر الجريمة التأديبية، فإنها ملزمة بأن تستندفي هذا التقدير إلى وقائع معينة ارتكبها الموظف"( ). الأمر الذي يقتضي قيام جهةمحايدة ومستقلة بالتحقق من صحة وسلامة هذا التقدير .
المطلب الثاني : الرقابة القضائية على سلطة التأديب التقديريةتضطلع المحاكم الإدارية بولايتهاواختصاصها في الرقابة على السلطة التقديرية التي تمارسه السلطات الإدارية التأديبيةسواء من ناحية الوجود المادي للوقائع، أو تكييفها لهذه الأفعال، إضافة إلى رقابتهاعلى مدى تناسب الجزاء مع الجرم المقترف، وبيان ذلك على النحو الآتي :
أولاً: رقابة القضاء الإداري على الوجود المادي للوقائع .
ويقصد بذلك وقوع فعل إيجابيأو سلبي على خلاف ما يقضي به الواجب الوظيفي ويشترط ظهور السلوك أو التصرف الذييأتيه الموظف إلى حيز الواقع، "أما مجرد التفكير أو النوايا فلا يُعدّ مخالفةتأديبية، إذا بقيت هذه الأفكار حبيسة في الصدر ولم تترجم إلى أعمال تبرز إلىالوجود"( ).
ويتحقق السلوك الإيجابي بقول أو فعل، كالتعدي على الرؤساء أوتجريحهم والطعن بكرامتهم، أو تمزيق السجلات أو الوثائق، أو اختلاس أموال المرفقالعام.
أما السلوك السلبي فيتحقق بامتناع الموظف عن أداء عمله أو عدمالقيام بواجبه، كالتغيب وعدم الحضور في أوقات الدوام، أو عدم دفع المستحقات الماديةالمؤتمن عليها لأصحابها. وعلى هذا الأساس لا يكفي ادعاء أو زعم سلطة التأديب بأنالموظف قد ارتكب فعلاً يخل بواجبات وظيفته أو اتهامه بأنه قد تصرف بصورة شائنة، بليجب أن يكون الفعل أو التصرف محدداً وواضحاً( ). أما توجيه اتهام عام أو مبهمللموظف دون بيان الفعل أو المخالفة التي أتاها، فلا يُعدّ مكوّناً للركن الماديللخطأ الوظيفي.
ويؤكد القضاء الإداري على ضرورة تحديد الوقائع وعدمالاكتفاء بالتعميم، فقد قرر مجلس الدولة الفرنسي في قضية (Berard) "أن مجرد الطعنبالسلوك العام للموظف سواء كان هذا السلوك مهنياً أو أخلاقياً، دون تحديد ماهية هذاالسلوك، لا يُعدّ مبرراً لإيقاع العقاب"( ).
وفي حكمه في قضية (Bensalah Mohammed) رفض الاعتراف بشرعية العقوبة المستندة إلى تصرفات الموظف، لعدم ذكر وقائعمعينة( ).
ومن أحكام القضاء الإداري المصري نشير إلى حكم محكمة القضاءالإداري المصري الصادر بتاريخ 25 نوفمبر 1953 فقد جاء فيه : "لكي تكون ثمة جريمةتأديبية تستوجب المؤاخذة وتستأهل العقاب، يجب أن يرتكب الموظف فعلاً يُعدّ إخلالاًبواجبات وظيفته أو مقتضياتها، وهو ما قررته المحكمة الإدارية العليا في قضية الموظفالذي كان يعمل حارساً بحديقة الأزبكية، إذ تقول :
"يتعين لإدانة الموظف أوالعامل ومجازاته إدرياً أن يثبت أنّه قد وقع منه فعل إيجابي أو سلبي محدد...، فإذاانعدم ذلك فلم يقع منه أي إخلال بواجبات وظيفته أو الخروج على مقتضياتها، فلا يكونثمة ذنب إداري"( ).
وتؤكد محكمة العدل العليا في كثير من أحكامها على خضوعالوقائع المكونة للركن المادي للمخالفة التأديبية لرقابتها، فقد قضت في حكمهاالصادر بتاريخ 21/9/1994:
"إن القرار الصادر عن المجلس التأديبي بالاستغناء عنخدمات الموظف، لإصراره وباستمرار على عدم تنفيذ أوامر رؤسائه والقيام بالعمل الذيانتدب له، يشكل مخالفة مسلكية صريحة لأحكام المادة (42) من نظام موظفي جامعة العلوموالتكنولوجيا"( ) .
كما قضت بأنه: "يتبين من أوراق الدعوى، أن المستدعي كانيعمل معلماً بوزارة التربية والتعليم، وقد فرضت عليه العقوبات التأديبية بسبب تأخرهعن الدوام الرسمي بشكل مستمر ومغادرة العمل قبل نهاية الدوام، وتلاعبه بتسجيل أوقاتالدوام..." ( ).
وفي حكمها الصادر بتاريخ 24/11/1998 تقرر أيضاً: "أن ثبوتارتكاب الموظف المستدعي لمخالفات تمثلت في قبوله كشف التقدير الذاتي من المكلف دونطلب قسائم معلومات، ودون دراسة الملف، يشكل مخالفة مسلكية، تستوجب توجيه الإنذارله"( ).
وتخلص المحكمة إلى ضرورة ارتكاب الموظف لأفعال معينة ووقائع محددةتستوجب العقاب حتى يمكن القول بوقوع مخالفة تأديبية، أو على حد تعبيرها (مخالفةمسلكية). لذا نجدها تقرر بعبارة واضحة وصريحة في حكمها الصادر بتاريخ 22/4/1999بأنه : "لا يجوز توقيع العقاب على الموظف إلا إذا كانت الوقائع المنسوبة إليه تشكلبحد ذاتها مخالفة مسلكية"( ).
نستنتج من هذه الأحكام بأنه لا بد من وقوعفعل معين يُعدّ إخلالاً بالواجبات الوظيفية أو مقتضياتها، أما النعوت المرسلةوالاتهامات العامة فلا يعوّل عليها للقول بوقوع مخالفة تأديبية. وبناء عليه : "لابد من وجود السبب في القرار التأديبي الذي يتمثل في مخالفة واجبات الوظيفة أوالخروج على مقتضاها. وتلتزم الإدارة بأن يكون لقرارها التأديبي سبب صحيح، إذ أنّسلطتها مقيدة في هذا الشأن، وتخضع لرقابة القضاء"( ).
ثانياً: رقابة القضاءالإداري على تكييف الأفعاللا يكتفي القضاء بالتثبت من حدوث وقائع معينة تكوّنالمخالفة التأديبية، بل يتولى التأكد من صحة تكييفها القانوني؛ أي الوصف الذي تخلعهالإدارة عليها. فقد قضى مجلس الدولة الفرنسي" بأن رفض المعلم قبول أكثر من (25) تلميذاً في الفصل لا يعد إضراباً" ( ). وهذا ما فعله القضاء الإداري المصري، فقدرفضت المحكمة الإدارية العليا في كثير من أحكامها، الاعتراف بصحة التكييف الذياستندت إليه الإدارة، مثال ذلك قولها :
" إن علاقة العامل (الموظف) برئيسهأساسها التزام حدود الأدب واللياقة وحسن السلوك، وبالتالي فلا تثريب على الموظف فيإبداء رأيه صراحة أمام رئيسه، ما دام لم يجانب ما تقتضيه وظيفته من تحفظ ووقار، حتىلو كان رأيه مخالفاً لرأي رئيسه"( ). وكذلك قولها :
"إنّ تكييف الواقعة بمايجعلها من الذنوب الإدارية إنما مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة، ومبلغ انضباط هذاالتكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف، هو الخروج على مقتضيات الواجب الوظيفي،أو الإخلال بحسن السلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً"( ).
وتؤكدمحكمة العدل العليا على حقها في بسط رقابتها ليس على ثبوت الوقائع فقط، بل وعلى (تكييفها) أيضاً، مثال ذلك حكمها في القضية رقم 125/96، إذ تقرر :
"إنّ مغادرةالموظف مكان عمله بسبب مرض والدته، بعد أن تقدم بطلب إذن للمغادرة، ثم طلبه الإجازةعن الفترة التي تغيب فيها شارحاً ظروف مغادرته، لا يُعدّ مخالفة مسلكية ولا يستدعيفي مثل هذه الظروف إيقاع العقوبة بحقه"( ).
أما حكمها الصادر في القضية رقم 342/98 فقد جاء فيه: "أنّ محكمة العدل العليا هي محكمة وقائع ومحكمة قانون، ومنحقها مراقبة العنصر الواقعي من القرار الإداري وأن تتأكد من ثبوت الواقعة، .. ومنتكييف الفعل المنسوب للموظف، وما إذا كان يشكل ذنباً إدارياً( ). وبذات المعنى تقررفي حكمها الصادر في القضية رقم 80/99: "أن مجرد اقتناع رجل الإدارة بالواقعة لايحول دون تدخل المحكمة في بسط رقابتها على ثبوت الواقعة، وعلى تكييف الفعل المنسوبللموظف، إن كان يشكل ذنباً تأديبياً"( ).
وفي حكمها الصادر بتاريخ 24/2/2000 أقرت المحكمة بصحة تكييف سلطة التأديب للأفعال التي اقترفها المحاميالمتدرب باعتبارها ماسة بشرف المهنة وسمعتها، ومما جاء في حيثيات هذا الحكم :
"بما أن المستدعي كان بتاريخ الشكوى مسجلاً في نقابة المحامين متدرباً، وأنهتفوه بألفاظ نابية بحق المشتكى تتنافى مع الأخلاق والآداب العامة، كما أقدم على ضربالمشتكي. وحيث إنّ هذه الأفعال كانت أمام جمع من الناس وفي مكان عام، فإنها تشكلإخلالاً بواجبات المحامي المنصوص عليها في قانون النقابة والأنظمة الصادرة بموجبه،وفي لائحة آداب المهنة. ويكون المستدعي بذلك قد ارتكب مخالفة مسلكية تمس شرف المهنةوكرامتها وتؤثر على سمعتها"( ).
من هذه الأحكام نستنتج أنّ محاكم القضاءالإداري، لا تسلم بالوصف أو التكييف القانوني الذي تخلعه السلطات التأديبية علىالأفعال والتصرفات التي يرتكبها الموظفون، بل تخضعه للتمحيص وتبسط رقابتها عليهللتأكد من صحة هذا التكييف أو عدم صحته.
ثالثاً: رقابة القضاء الإداري على مدىالتناسب بين درة خطورة الذنب والجزاء المفوض ( ).
إن قيام القضاء الإداريبالتحقق من ملاءمة العقوبة للخطأ الوظيفي، وأنّ هذه العقوبة غير مشوبة بالغلو، يشكلضمانة أخرى لحماية الموظفين من تعدي الإدارة أو طغيانها. ومما قضت به المحكمةالإدارية العليا في القضية المعروفة بقضية كاتب مهمات السكة الحديد( ).
"لئن كانت كثرة الأعمال المعهود بها إلى الموظف، ليس من شأنها أن تعفيه منالمسؤولية عما وقع من تقصير، إلا أنّ هذا التقصير في الظروف التي حدث فيها لا يرقىإلى مرتبة الإهمال الجسيم. ومن حيث إنّ القرار الصادر بفصل المدعي قد قام على تكييفالمخالفة المسندة إليه بما جيعلها من الذنوب الإدارية الجسيمة التي تندرج تحت البندالثالث من جدول مخالفات المجموعة الأولى، واختار لها أشد الجزاءات وهو الفصل منالخدمة، فإنه يكون قد خالف القانون".
ولمحكمة العدل العليا دور فاعل فيمجال الرقابة على التناسب بين جسامة الذنب ومقدر العقوبة التي تفرضها سلطة التأديب،فقد جاء في حكمها الصادر في القضية رقم 15/89:
"للسلطة التأديبية صلاحية تقديرخطورة الذنب، وما يناسبه من جزاء، إلا أن مشروعية هذه السلطة التقديرية رهن بأن لايشوب استعمالها غلو. ومن صور هذا الغلو عدم الملائمة الظاهرة بين اخطورة الذنبالإداري ونوع لجزاء ومقداره( ). ومما ورد في حكمها الصادر في القضية رقم 255/95 :
"ترى المحكمة أن المجلس التا>يبي بعد إلغاء قراره السابق عاد وفرض عقوبةالاستغناء عن الخدمة، وهي عقوبة أدنى من العقوبة الأولى في تدرجها، إلا أن من شأنهاإقصاء المستدعي عن عمله. لذا فإن هذه العقوبة لا تتناسب مع المخالفة المرتكبة منقبل الموظف، لهذا نقرر بالأكثرية إلغاء القرار الطعين".( )
كما قضت بأن :
"للسلطة التأديبية صلاحية تقدير خطورة الذنب الإداري وما يناسبه من جزاء، إلاأن مشروعية هذه السلطة التقديرية رهن بأن لا يشوب استعمالها غلو. وحيث لا نجد فيقرار المستدعي ضده المطعون فيه، ما يفيد بانطوائه على قسوة، بل هناك ملاءمة بينخطورة الذنب الإداري الذي أتاه المستدعي والجزاء المفروض عليه، فإن أسباب الطعن لاترد على القرار الطعين، وتكون الدعوى حقيقة بالرد"( ).
وتؤكد المحكمة علىهذا الاتجاه بقولها في حكمها الصادر في القضية رقم 511/98 :
"يستفاد من نصالمادة (94/ي) من نظام موظفي مؤسسة الملكية الأردنية رقم 77 لسنة 1979 بأنه إذاارتكب الموظف مخالفة للقوانين والأنظمة، أو أقدم على تصرف أو عمل مخل بالمسئولياتالمنوطة به، فتوقع عليه إحدى العقوبات المسلكية. ومنها عقوبة العزل. إنّ محاولةالطيار الهوبط في مطار لم يفتح بعد بدلاً من المطار الواجب الهبوط فيه، يشكل مخالفةمسلكية تستوجب العقاب. إلا أ عقوبة العزل المفروضة على الموظف المستدعي مشوبةبالغلو، مما يخرجها عن نطاق المشروعية، ويجعل القرار الطعين حقيقياً بالإلغاء"( ).
وبهذه المناسبة نشير إلى الحكم الصادر في القضية رقم 290/2001 فقد جاء فيه :
"إنّ قرار المجلس التأديبي بشطب المهندسة المستدعية من سجلات النقابة، يُعدمن أشد العقوبات المنصوص عليها في قانون نقابة المهندسين، إذ ينهي حياتها المهنية،وفي ذلك مغالاة في فرض العقوبة، فليس هناك تناسب بين الذنب المقترف والعقوبةالتأديبية. ويكون ذلك ضرباً من ضروب إساءة استعمال السلطة"( ).
وهكذا نلاحظأنّ المحكمة تبسط رقابتها على تقدير السلطات التأديبية لخطورة الذنب المقترف ومايناسبه من جزاء، للتحقق من أنه غير مشوب بالغلو، فإذا تبين لها عكس ذلك فإنها تقضيبإلغائه باعتباره ضرباً من ضروب التعسف أو إساءة استعمال السلطة.
ولا بدلنا من التنبيه في هذا المقام إلى أن عدم الكفاءة امهنية لا تعد مخالفة تأديبية فهيتعني عدم قدرة الموظف على إنجاز المهام المنوطة به كما ينبغي. وفي هذه الحالة يمكنللإدارة اتخاذ إجراءات معينة تختلف عن الإجراءات التأديبية، كإلحاق الموظف بدوراتتدريبية لتأهيله لعمله، أو استبدال وظيفته، أو النقل إلى موقع يتناسب وقدراته، أوالصل لعدم الكفاءة المهنية. وتنظم القوانين الوظيفية وأنظمة الخدمات المدنية حلولاًللمشكلات المتعلقة بالكفاءة المهنية، وقد تولى نظام الخدمة المدنية الأردني علاجهذه الحالة في الفصل التاسع بعنوان "تقييم الأداء" ( ).
المبحث الثالث : موقف الفقه من تقنين المخالفات التأديبيةيرى بعض الفقه أنّ عملية التقنين تعنيإصدار تشريع يتضمن مجموعة المبادئ التي تتخذ أساساً لتنظيم الروابط والعلاقاتالقانونية، كما يتضمن مجموع القواعد القانونية المنظمة لتلك الروابط( ). ومن وجهةنظرنا فإنّ المقصود بالتقنين في هذا املجال: هو قيام المسرّع بتحديد الأفعال التيتعتبر مخالفات أو جرائم تأديبية، وتقدير الجزاء الملائم لكل منها .
وقدتباينت مواقف الفقهاء من فكرة التقنين وإمكانيته ومدى ضرورته، ما أسفر عن بروزاتجاهين رئيسيين؛ أحدهما يؤيد هذه الفكرة والآخر يعارضها .
أولاً: الاتجاهالمؤيد لفكرة التقنينذهب جانب من الفقه إلى المناداة بتقنين الواجباتوالمحظورات الوظيفية والمهنية، الي يجب على الموظفين والعاملين في المهن المختلفةالالتزام بها. ويحتج أنصار هذا الرأي بالأسانيد التالية( ):
1. أنّ تقنين هذهالواجبات يؤدي إلى فهم المخاطبين بها لما هو مطلوب منهم القيام به، وإدراكهم للمهامالمنوطة بهم، وتبصيرهم بأعمالهم وما يجب عليهم فعله أو اجتنابه. وبعكس ذلك سيتركأداء هذه الواجبات، على كثرتها وتنوعها، لمجرد تصورات غير منضبطة وبالصورة التيتتراءى لرؤسائهم :
2. أنّ طائفة الموظفين والعاملين في القطاعات والمؤسساتالمختلفة، على كبر نحجمها في كثير من المجتمعات، بأمس احلاجة غلى الأمانة في حياتهمالوظيفية والمهنية، والاطمئنان على حاضرهم ومستقبلهم، لا أن يفاجأوا بأفعال تُعدّمخالفات أو جرائم يؤاخذون بها ويحاسبون عليها دون تحذيرهم بها ويحاسبون مسبقاً مناقترافها، وسيكون اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقهم في