المحكمة الدستورية العليا المصرية
قضية رقم 31 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
مبادئ الحكم: أصل البراءة - افتراض البراءة - جنائي - دستور - دعوى دستورية - قانون
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 20 مايو سنة 1995 م، الموافق 20 ذو الحجة سنة 1415 هـ
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر
رئيس المحكمة
والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله
أعضاء
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي
رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدي أنور صابر
أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 31 لسنة 16 قضائية "دستورية"·
المقامة من
السيد/ ...
ضد
1- السيد/ رئيس الجمهورية
2- السيد/ رئيس مجلس الشعب
3- السيد/ رئيس مجلس الوزراء
4- السيد/ وزير التموين والتجارة الداخلية
5- السيد/ وزير الصناعة
6- السيد/ وزير الصحة
7- السيد/ وزير العدل
8- السيد المستشار/ النائب العام
الإجراءات
بتاريخ الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1994 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 فيما تضمنه من افتراض العلم بالغش أو الفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين ما لم يثبت حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة اختتمتها بطلب الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة·
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة قدمت المدعي إلى المحاكمة الجنائية أمام محكمة جنح الساحل في قضية الجنحة رقم 1201 لسنة 1994 بوصف أنه في يوم 20/11/1993 بدائرة قسم الساحل: عرض شيئا من أغذية الإنسان غير مطابق للمواصفات على النحو المبين بالأوراق، وطلبت عقابه بالمواد 2/1، 7، 8، 9 من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، وكذلك مواد القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها. وبجلسة 23/4/1994 قضت محكمة جنح الساحل حضوريا بتغريم المدعي مائتي جنيه والمصادرة، ونشر الحكم في جريدتين واسعتي الانتشار. استأنف المدعي ذلك الحكم أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية في قضية الجنحة المستأنفة رقم 6719 لسنة 1994 س. شمال. وبجلسة 23/6/1994 دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 - المشار إليه؛ وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، فقد صرحت له برفع دعواه بعدم الدستورية، وحددت لنظر الدعوى الموضوعية جلسة 1/12/1994، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش - المشار إليه - كانت تنص - قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994 - على ما يأتي:
"يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين:
1- من غش أو شرع في أن يغش شيئا من أغذية الإنسان أو الحيوان أو من العقاقير أو من الحاصلات الزراعية أو الطبيعية معدا للبيع، أو من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئا من هذه الأغذية أو العقاقير أو الحاصلات، مغشوشة كانت أو فاسدة، مع علمه بذلك.
ويفترض العلم بالغش أو الفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة، أو من الباعة الجائلين، ما لم يثبت حسن نيته، ومصدر الأشياء موضوع الجريمة".
وحيث إنه بتاريخ 29 من ديسمبر سنة 1994 نشر بالجريدة الرسمية القانون رقم 281 لسنة 1994 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش مستعيضا عن نص المادة الثانية السالف بيانها بالنص الآتي:
"يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تجاوز ثلاثين ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر:
1- ...
2- كل من غش أو شرع، في أن يغش شيئا من أغذية الإنسان أو الحيوان، أو من العقاقير أو النباتات الطبية، أو الأدوية أو من الحاصلات الزراعية، أو المنتجات الطبيعية، أو من المنتجات الصناعية معدا للبيع، وكذلك كل من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئا من هذه الأغذية أو العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو الحاصلات، أو منتجات مغشوشة كانت أو فاسدة، أو انتهى تاريخ صلاحيتها مع علمه بذلك".
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، أن إلغاء المشرع لقاعدة قانونية بذاتها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طبقت عليه خلال فترة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه تتحقق بإبطالها مصلحته الشخصية المباشرة؛ ذلك أن الأصل في القاعدة القانونية هو سريانها على الوقائع التي تتم خلال الفترة من تاريخ العمل بها وحتى إلغائها؛ فإذا استعيض عنها بقاعدة قانونية جديدة، سرت الواقعة الجديدة من الوقت المحدد لنفاذها؛ ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها؛ وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين؛ فما نشأ في ظل القاعدة القانونية القديمة من المراكز القانونية؛ وجرت آثارها خلال فترة نفاذها؛ يظل محكوما بها وحدها.
وحيث إن مناط المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية؛ وذلك بأن يكون الفصل في المطاعن الدستورية لازما للفصل في النزاع الموضوعي، وكان جوهر الطعن ينصب على تحديد المكلف بحمل عبء الإثبات في جريمة عرض شيء من أغذية الإنسان - مغشوشا أو فاسدا - من زاوية دستورية، فإن الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية المشار إليها - قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994 آنف البيان - هي التي يتحدد بها نطاق الطعن بعدم الدستورية.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم التاجر أو البائع الجائل بغش الأغذية التي يعرضها للبيع أو فسادها إذا لم يثبت حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، يكون قد خالف افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة 67 من الدستور.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو القانون الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه فنص في المادة 86 منه على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع؛ ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية... كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين بالدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة 165 منه على أن "السلطة القضائية مستقلة؛ وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون".
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين - طبقا للمادة 86 من الدستور- لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على ولايتها، وإخلالا بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور عنى في مادته السابعة والستين بضمان الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه.
وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضي الدستور في المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية. وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وانما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوى الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.
وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة. وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة مبينا طبيعتها، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية - وخلال مدة معقولة - وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة - إذا خلصت إليها - إلى تحقيق موضوعي أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67 منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية - التي كفلها الدستور لكل فرد - بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية. ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها مبادئ الشريعة الإسلامية في قوله عليه السلام "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فاخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"؛ وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 منه، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها؛ وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنهاInnocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption it does not rest on any other proved facts, it is assumed. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها فقد ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة، لازال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور؛ ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية. ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن النص المطعون فيه بعد أن أفصح عن أن جريمة غش الأغذية أو عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة للبيع جريمة عمدية، باشتراطه العلم بغش المادة موضوعها أو فسادها، نص على أن هذا العلم يفترض في جانب المشتغلين بالتجارة أو الباعة الجائلين ما لم يثبت المخالف حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة. وبذلك أحل المشرع توافر صفة معينة في المتهم محل واقعة علمه بغش أو فساد ما يعرضه من أغذية، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلا على ثبوت واقعة العلم بغش أو فساد السلعة التي كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها في إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلى المتهم؛ وبوجه خاص "القصد الجنائي العام" ممثلا في إرادة إتيان الفعل، مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه على النحو المتقدم لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ إذ الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها؛ ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها. وقد التزم قانون قمع التدليس والغش الأصل العام في القرائن القانونية بما قررته المذكرة الإيضاحية لكل من القانونين رقمي 80 لسنة 1961 و106 لسنة 1980 المعدلين له من أن "افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين، ينفيه اثبات حسن النية ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، وأنه من المسلمات أن إثبات حسن النية هو إثبات أن المتهم قد اتبع القواعد المقررة قانونا أو التي يجري بها العرف التجاري في التحقق من أن الأشياء المضبوطة ليست مغشوشة أو فاسدة"، "اعتبارا بأن هذا الإثبات سهل ميسور على التجار الذين يراعون واجب الذمة في معاملاتهم".
وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم؛ وغدا نفيه عبئا ملقى على عاتق المتهم مثلما هو الشأن في القرائن القانونية؛ ذلك أن المشرع هو الذي تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية؛ وأعفى النيابة العامة بالتالي من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هي أنها من عمل المشرع - على التفصيل السابق إيراده - وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونها إلا على ضوء ما يكون في تقديره غالبا أو راجحا في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه - وحتى بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية في المجال الجنائي - تنافي واقع الحياة العملية، وما يتم فيها في الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق ببضائع شتي متنوعة المصادر، يجرى التعامل فيها عبر حلقات متعددة منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها إلى أن تصل يد عارضها الأخير؛ ويتم تداولها والتعامل فيها على امتداد حلقاتها هذه؛ وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التي تفرضها التشريعات المختلفة؛ وتقوم على تنفيذها الجهات الحكومية المختصة في منابعها سواء داخل مصادر إنتاجها المحلية؛ أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها· ولازم ما تقدم؛ أن عدم إثبات عارض السلعة الغذائية وما جري مجراها لمصدرها، لا يفيد بالضرورة علمه بغشها أو بفسادها، كما أن تكليفه بإثبات حسن نيته باعتباره من المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون في تلك السلع وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا يعدو أن يكون أمرا عسرا ومتميعا في آن واحد. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة التي اختارها النص المطعون فيه - وفي الأعم الأغلب من الأحوال - لاعتبار واقعة العلم بغش السلعة أو فسادها ثابتة بحكم القانون؛ ولا تربطها علاقة منطقية بها؛ وتغدو هذه القرينة بالتالي مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقرة إلى أسسها الموضوعية؛ ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور.
وحيث إنه لما كانت جريمة عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التي تطرح عليها، من علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينيا لا ظنيا ولا افتراضيا، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها - وعلى ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا - لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ وكان النص المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية مقحما بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذي تجريه بنفسها تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. إذ كان ذلك؛ فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة - بالنص المطعون فيه - من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بغش السلعة التي يعرضها أو فسادها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها؛ وعن أن تقول كلمتها بشأنها؛ بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية؛ ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه في كل وقائعها وعناصرها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق في الدفاع. وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها. لما كان ذلك؛ وكان النص المطعون عليه - وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي - قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة في حقه بغير دليل؛ ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل؛ وكان النص المطعون عليه - وعلى ضوء ما تقدم جميعه - ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ ومن الحرية الشخصية؛ كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفا لأحكام المواد 2، 14، 67، 69، 86، 165 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
قضية رقم 31 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
مبادئ الحكم: أصل البراءة - افتراض البراءة - جنائي - دستور - دعوى دستورية - قانون
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 20 مايو سنة 1995 م، الموافق 20 ذو الحجة سنة 1415 هـ
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر
رئيس المحكمة
والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله
أعضاء
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي
رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدي أنور صابر
أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 31 لسنة 16 قضائية "دستورية"·
المقامة من
السيد/ ...
ضد
1- السيد/ رئيس الجمهورية
2- السيد/ رئيس مجلس الشعب
3- السيد/ رئيس مجلس الوزراء
4- السيد/ وزير التموين والتجارة الداخلية
5- السيد/ وزير الصناعة
6- السيد/ وزير الصحة
7- السيد/ وزير العدل
8- السيد المستشار/ النائب العام
الإجراءات
بتاريخ الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1994 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 فيما تضمنه من افتراض العلم بالغش أو الفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين ما لم يثبت حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة اختتمتها بطلب الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة·
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة قدمت المدعي إلى المحاكمة الجنائية أمام محكمة جنح الساحل في قضية الجنحة رقم 1201 لسنة 1994 بوصف أنه في يوم 20/11/1993 بدائرة قسم الساحل: عرض شيئا من أغذية الإنسان غير مطابق للمواصفات على النحو المبين بالأوراق، وطلبت عقابه بالمواد 2/1، 7، 8، 9 من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، وكذلك مواد القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها. وبجلسة 23/4/1994 قضت محكمة جنح الساحل حضوريا بتغريم المدعي مائتي جنيه والمصادرة، ونشر الحكم في جريدتين واسعتي الانتشار. استأنف المدعي ذلك الحكم أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية في قضية الجنحة المستأنفة رقم 6719 لسنة 1994 س. شمال. وبجلسة 23/6/1994 دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 - المشار إليه؛ وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، فقد صرحت له برفع دعواه بعدم الدستورية، وحددت لنظر الدعوى الموضوعية جلسة 1/12/1994، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش - المشار إليه - كانت تنص - قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994 - على ما يأتي:
"يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين:
1- من غش أو شرع في أن يغش شيئا من أغذية الإنسان أو الحيوان أو من العقاقير أو من الحاصلات الزراعية أو الطبيعية معدا للبيع، أو من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئا من هذه الأغذية أو العقاقير أو الحاصلات، مغشوشة كانت أو فاسدة، مع علمه بذلك.
ويفترض العلم بالغش أو الفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة، أو من الباعة الجائلين، ما لم يثبت حسن نيته، ومصدر الأشياء موضوع الجريمة".
وحيث إنه بتاريخ 29 من ديسمبر سنة 1994 نشر بالجريدة الرسمية القانون رقم 281 لسنة 1994 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش مستعيضا عن نص المادة الثانية السالف بيانها بالنص الآتي:
"يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تجاوز ثلاثين ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر:
1- ...
2- كل من غش أو شرع، في أن يغش شيئا من أغذية الإنسان أو الحيوان، أو من العقاقير أو النباتات الطبية، أو الأدوية أو من الحاصلات الزراعية، أو المنتجات الطبيعية، أو من المنتجات الصناعية معدا للبيع، وكذلك كل من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئا من هذه الأغذية أو العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو الحاصلات، أو منتجات مغشوشة كانت أو فاسدة، أو انتهى تاريخ صلاحيتها مع علمه بذلك".
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، أن إلغاء المشرع لقاعدة قانونية بذاتها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طبقت عليه خلال فترة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه تتحقق بإبطالها مصلحته الشخصية المباشرة؛ ذلك أن الأصل في القاعدة القانونية هو سريانها على الوقائع التي تتم خلال الفترة من تاريخ العمل بها وحتى إلغائها؛ فإذا استعيض عنها بقاعدة قانونية جديدة، سرت الواقعة الجديدة من الوقت المحدد لنفاذها؛ ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها؛ وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين؛ فما نشأ في ظل القاعدة القانونية القديمة من المراكز القانونية؛ وجرت آثارها خلال فترة نفاذها؛ يظل محكوما بها وحدها.
وحيث إن مناط المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية؛ وذلك بأن يكون الفصل في المطاعن الدستورية لازما للفصل في النزاع الموضوعي، وكان جوهر الطعن ينصب على تحديد المكلف بحمل عبء الإثبات في جريمة عرض شيء من أغذية الإنسان - مغشوشا أو فاسدا - من زاوية دستورية، فإن الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية المشار إليها - قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994 آنف البيان - هي التي يتحدد بها نطاق الطعن بعدم الدستورية.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم التاجر أو البائع الجائل بغش الأغذية التي يعرضها للبيع أو فسادها إذا لم يثبت حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، يكون قد خالف افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة 67 من الدستور.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو القانون الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه فنص في المادة 86 منه على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع؛ ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية... كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين بالدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة 165 منه على أن "السلطة القضائية مستقلة؛ وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون".
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين - طبقا للمادة 86 من الدستور- لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على ولايتها، وإخلالا بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور عنى في مادته السابعة والستين بضمان الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه.
وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضي الدستور في المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية. وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وانما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوى الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.
وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة. وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة مبينا طبيعتها، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية - وخلال مدة معقولة - وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة - إذا خلصت إليها - إلى تحقيق موضوعي أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67 منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية - التي كفلها الدستور لكل فرد - بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية. ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها مبادئ الشريعة الإسلامية في قوله عليه السلام "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فاخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"؛ وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 منه، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها؛ وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنهاInnocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption it does not rest on any other proved facts, it is assumed. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها فقد ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة، لازال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور؛ ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية. ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن النص المطعون فيه بعد أن أفصح عن أن جريمة غش الأغذية أو عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة للبيع جريمة عمدية، باشتراطه العلم بغش المادة موضوعها أو فسادها، نص على أن هذا العلم يفترض في جانب المشتغلين بالتجارة أو الباعة الجائلين ما لم يثبت المخالف حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة. وبذلك أحل المشرع توافر صفة معينة في المتهم محل واقعة علمه بغش أو فساد ما يعرضه من أغذية، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلا على ثبوت واقعة العلم بغش أو فساد السلعة التي كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها في إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلى المتهم؛ وبوجه خاص "القصد الجنائي العام" ممثلا في إرادة إتيان الفعل، مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه على النحو المتقدم لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ إذ الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها؛ ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها. وقد التزم قانون قمع التدليس والغش الأصل العام في القرائن القانونية بما قررته المذكرة الإيضاحية لكل من القانونين رقمي 80 لسنة 1961 و106 لسنة 1980 المعدلين له من أن "افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين، ينفيه اثبات حسن النية ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، وأنه من المسلمات أن إثبات حسن النية هو إثبات أن المتهم قد اتبع القواعد المقررة قانونا أو التي يجري بها العرف التجاري في التحقق من أن الأشياء المضبوطة ليست مغشوشة أو فاسدة"، "اعتبارا بأن هذا الإثبات سهل ميسور على التجار الذين يراعون واجب الذمة في معاملاتهم".
وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم؛ وغدا نفيه عبئا ملقى على عاتق المتهم مثلما هو الشأن في القرائن القانونية؛ ذلك أن المشرع هو الذي تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية؛ وأعفى النيابة العامة بالتالي من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هي أنها من عمل المشرع - على التفصيل السابق إيراده - وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونها إلا على ضوء ما يكون في تقديره غالبا أو راجحا في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه - وحتى بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية في المجال الجنائي - تنافي واقع الحياة العملية، وما يتم فيها في الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق ببضائع شتي متنوعة المصادر، يجرى التعامل فيها عبر حلقات متعددة منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها إلى أن تصل يد عارضها الأخير؛ ويتم تداولها والتعامل فيها على امتداد حلقاتها هذه؛ وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التي تفرضها التشريعات المختلفة؛ وتقوم على تنفيذها الجهات الحكومية المختصة في منابعها سواء داخل مصادر إنتاجها المحلية؛ أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها· ولازم ما تقدم؛ أن عدم إثبات عارض السلعة الغذائية وما جري مجراها لمصدرها، لا يفيد بالضرورة علمه بغشها أو بفسادها، كما أن تكليفه بإثبات حسن نيته باعتباره من المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون في تلك السلع وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا يعدو أن يكون أمرا عسرا ومتميعا في آن واحد. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة التي اختارها النص المطعون فيه - وفي الأعم الأغلب من الأحوال - لاعتبار واقعة العلم بغش السلعة أو فسادها ثابتة بحكم القانون؛ ولا تربطها علاقة منطقية بها؛ وتغدو هذه القرينة بالتالي مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقرة إلى أسسها الموضوعية؛ ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور.
وحيث إنه لما كانت جريمة عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التي تطرح عليها، من علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينيا لا ظنيا ولا افتراضيا، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها - وعلى ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا - لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ وكان النص المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية مقحما بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذي تجريه بنفسها تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. إذ كان ذلك؛ فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة - بالنص المطعون فيه - من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بغش السلعة التي يعرضها أو فسادها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها؛ وعن أن تقول كلمتها بشأنها؛ بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية؛ ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه في كل وقائعها وعناصرها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق في الدفاع. وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها. لما كان ذلك؛ وكان النص المطعون عليه - وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي - قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة في حقه بغير دليل؛ ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل؛ وكان النص المطعون عليه - وعلى ضوء ما تقدم جميعه - ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ ومن الحرية الشخصية؛ كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفا لأحكام المواد 2، 14، 67، 69، 86، 165 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.