تحمل الرؤية الفلسفية المعاصرة مزاجا سلبيا ومتشائما تجاه مستقبل الانسانية، وبالاضافة الى ذلك نجد ان العلوم الطبيعية تقدم براهين وحججا يجب ان تؤخذ في الحسبان، فثمة تشكك حقيقي في مقدرة الكوكب الارضي على مواجهة المخاطر البيئية المتصاعدة، ويمكن ان نصف القرن العشرين بانه اكثر القرون التي عززت ذلك التصور القاتم لمستقبل المسيرة الانسانية، وحتى يمكن التفكير في المذاهب الفكرية العريضة التي تسيدت القرن الماضي كالسريالية والوجودية والبنيوية والتفكيكية على انها محاولات متواصلة للتحايل على القناعة البشرية باقتراب النهاية.
في وسط تلك الفسيفساء، وفي مرحلة متأخرة من القرن العشرين بدأ الحديث عن حضارة ما بعد الانسان، في خلط متعمد بين الاثارة الروائية واقتباس مبطن من روايات جورج اورويل وروايات الخيال العلمي لويلز وبين المنهجية العلمية الصارمة التي اصبحت تتقاطع مع الاعتبارات الاخلاقية للجماعة الانسانية، وفي وسط تلك الفوضى استطاع المفكر الالماني اليهودي اريك فروم ان يقدم خريطة محددة المعالم للانسانية للتعاطي مع حضارة ما بعد الانسان وصعود دور التقنية ومظاهرها في الحياة الانسانية من خلال مؤلفه المهم ثورة الامل – نحو انسنة التقنية- واذا تمثلت النقطة المضيئة في تجربة فروم في نجاحه من الافلات النزعة الروائية لمنظري ما بعد الانسان وكشف الحيلة الدرامية المستهلكة في روايات اورويل وتحديدا روايته (1984) ورواية الدورس هاكسلي (افضل العوالم) اللتين كتبتا في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، فان منجزه الحقيقي تركز في سيطرته على المنهجية العلمية الصارمة، على النمط التجريبي لاميل دوركايم مؤسس علم الاجتماع المعاصر.
في ثورة الامل ينتقد فروم النزعة الاستهلاكية للمجتمع الانساني الحديث ويحذر من بيروقراطية جديدة قائمة على التنميط وتعتمد على تغييب المشاعر الانسانية والايمان الديني والقيم الانسانية وحتى ووفق وصفه الانفعالات العميقة مثل الفرح والحزن، وبرغم ان فروم كتب ثورة الامل على خلفية الحركة الطلابية في 1968 الا ان اقواله وفرضياته تصبح مفهومة اكثر في الوقت الراهن وسطوة الاعلام media واخلاقيات التواصل عبر الانترنت ووسائل الاتصال المعاصرة الاخرى، فاصبحت فكرة الحياة الافتراضية قائمة لتمهد لكائن سلبي منقاد استهلاكي بفطرته، بما يبرر اخلاقيا فكرة التعاطي مع الاستنساخ والذكاء الاصطناعي، ولكن المعادلة تصبح اكثر خطورة فشتى المشكلات الاقتصادية يمكن ان تحل في ظل المعطيات التي يقدمها العلم الحديث، الندرة ستنسحب امام الانتاج المستنسخ والحلول النووية للطاقة، والرشد في القرارات سيصبح متوفرا في المنظومات الشجرية المدعمة بنظم القرارات الالكترونية matrices ودواليك، وحتى اللغة يمكن ان تتم عولمتها من خلال شاشات المايكروسوفت واستحداث علامات تواصل جديدة، ولكن ذلك كله يدفعنا للتساؤل عن التكلفة التي لا تنحصر في تقييم الاعراض الجانبية لتطبيق مجتمع ما بعد الانسان، ولكن في الخيارات المتاحة المحكومة بمنطق المقامرة المفتوحة.
فروم يهرب من التوصيف المسبق ويفكك الارتهان الايدلوجي في وعي مستقبلي حقيقي وانتماء انساني مبدئي، ويقدم مقترحه للتعامل مع مجتمع التقنية المفرطة الذي يخيم على حياتنا بصورة محمومة الذي ينهض على انقاض فكرة الامل ليناقش مسألة الايمان كركيزة اساسية للوقوف في وجه الغول التقني ولكنه يميز اولا بين الايمان العقلي والايمان غير المعقول، فالايمان العقلي نتيجة، وفق فروم، لفعالية داخلية والايمان غير العقلي هو الخضوع لشيء محدد يقبل كانه حقيقي دون الاهتمام بمعرفة ما اذا كان كذلك ام لا، وبذلك وبتمهيده لفكرة قوة الروح يعود فروم بشكل غير قصدي لفكرة الايمان الصوفي والتجربة الانسانية المجردة، وتصبح البسالة الانسانية التي يدعو لها فروم في مواجهة التقنية المفرطة معادلا موضوعيا لفكرة المجاهدة الصوفية، بما يغري متتبعي المنهجيات المقارنة لمد ثمة خط وهمي من المعلم محيي الدين بن عربي لابن رشد وصولا بسبينوزا ولغاية فروم القرن العشرين، ولكن ذلك كله يصبح خارج الموضوع، في تساؤل ضروري حول طبيعة الايمان الذي يمكن ان يصعد للمواجهة.
الايمان التقليدي يقف بصورة سلبية امام التقنية وحقائقها الملموسة، ولكن الايمان الديني في صورته الاولية امتداد للايمان التوراتي والمسيحي والاسلامي لاحقا الذي يحتفي بفكرة الانسان، وفي جوهره الحقيقي يصبح الايمان بالاله ايمانا بالانسانية وتفردها واحقيتها في البقاء، بعكس الديانات الطبقية والسوداوية، ويقف الايمان الديني بصورته التقدمية (ربما كخليط بين الصوفية الحديثة وفكرة الـ new ages) في الطليعة لمواجهة شياطين التقنية، بدلا من الاستسلام لفكرة التعقيم الفكري وتدجين نزعة الامل والايمان في الانسان، ان مسألة الالوهة تحمل عمقا فلسفيا جدليا سفسطائيا، يمكن ان يتواصل فيها التنازع والجذب والشد للما لا نهاية بين اوليات الفيزياء ودهاليز المنطق، لكن فكرة العلاقة الالهية – الانسانية مسألة اخرى ومصير يحمله كل انسان بداخله، بوصلة مستمرة للحفاظ على الوشائج الانسانية في المجتمع، ومسألة اخلاقية ومبدئية مركزية.
ان تفهم الخلفية التأسيسية الشخصية والعلمية لاريك فروم المولود لعائلة يهودية ارثوذكسية المانية في سنة 1900 والحائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة حول موضوع (القانون اليهودي : مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي) والمتخصص لاحقا في علم النفس التحليلي تضعنا على المنابع الاساسية لفكرته حول ثورة الامل في مواجهة مجتمع التقنية المفرطة الذي اصبحنا نعايشه كواقع، او على الاقل نعاين بداياته التي بدات توضح معالمه الآتية. وبذلك يمكن ان نتمسك بنقطة البداية في فلسفة فروم وانقلابه المبدئي على التوصيفات المسبقة والاكليشيهات التقليدية من يسار وشيوعية ورأسمالية، وبقدر ما يدعو فروم لفلسفة جديدة فانه يقدم اسهامه دون ان يحتكر الحقيقة لنفسه، ولكن يبدو ان الانسانية اصبحت مولعة بالقيود اللغوية وتمارس اقصى درجات الاستسلام السادي للدلالات، ويظهر تقسيم ليبرالي – محافظ كاحد الشياطين الجديدة في وقت لا يتسع لكثير من التفاصيل او التهويمات التي قدمتها الـ Foreign Policy في عددها قبل الاخير عن الصراع بين الليبراليين والمحافظين، ففكرة التقسيم بتلك الصورة تمثل برأيي اعادة صياغة ركيكة لقصة سفينة نوح لتمهد لعالم استهلاكي مدلل ومحدود للغاية يستفيد من ثمار التقنية المفرطة، واذا كان المحافظون يرفضون بضراوة فكرة النشوء والترقي الا ان مقولة البقاء للافضل تبقى الآية الافتتاحية للاهوت ما بعد الانسان.
في وسط تلك الفسيفساء، وفي مرحلة متأخرة من القرن العشرين بدأ الحديث عن حضارة ما بعد الانسان، في خلط متعمد بين الاثارة الروائية واقتباس مبطن من روايات جورج اورويل وروايات الخيال العلمي لويلز وبين المنهجية العلمية الصارمة التي اصبحت تتقاطع مع الاعتبارات الاخلاقية للجماعة الانسانية، وفي وسط تلك الفوضى استطاع المفكر الالماني اليهودي اريك فروم ان يقدم خريطة محددة المعالم للانسانية للتعاطي مع حضارة ما بعد الانسان وصعود دور التقنية ومظاهرها في الحياة الانسانية من خلال مؤلفه المهم ثورة الامل – نحو انسنة التقنية- واذا تمثلت النقطة المضيئة في تجربة فروم في نجاحه من الافلات النزعة الروائية لمنظري ما بعد الانسان وكشف الحيلة الدرامية المستهلكة في روايات اورويل وتحديدا روايته (1984) ورواية الدورس هاكسلي (افضل العوالم) اللتين كتبتا في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، فان منجزه الحقيقي تركز في سيطرته على المنهجية العلمية الصارمة، على النمط التجريبي لاميل دوركايم مؤسس علم الاجتماع المعاصر.
في ثورة الامل ينتقد فروم النزعة الاستهلاكية للمجتمع الانساني الحديث ويحذر من بيروقراطية جديدة قائمة على التنميط وتعتمد على تغييب المشاعر الانسانية والايمان الديني والقيم الانسانية وحتى ووفق وصفه الانفعالات العميقة مثل الفرح والحزن، وبرغم ان فروم كتب ثورة الامل على خلفية الحركة الطلابية في 1968 الا ان اقواله وفرضياته تصبح مفهومة اكثر في الوقت الراهن وسطوة الاعلام media واخلاقيات التواصل عبر الانترنت ووسائل الاتصال المعاصرة الاخرى، فاصبحت فكرة الحياة الافتراضية قائمة لتمهد لكائن سلبي منقاد استهلاكي بفطرته، بما يبرر اخلاقيا فكرة التعاطي مع الاستنساخ والذكاء الاصطناعي، ولكن المعادلة تصبح اكثر خطورة فشتى المشكلات الاقتصادية يمكن ان تحل في ظل المعطيات التي يقدمها العلم الحديث، الندرة ستنسحب امام الانتاج المستنسخ والحلول النووية للطاقة، والرشد في القرارات سيصبح متوفرا في المنظومات الشجرية المدعمة بنظم القرارات الالكترونية matrices ودواليك، وحتى اللغة يمكن ان تتم عولمتها من خلال شاشات المايكروسوفت واستحداث علامات تواصل جديدة، ولكن ذلك كله يدفعنا للتساؤل عن التكلفة التي لا تنحصر في تقييم الاعراض الجانبية لتطبيق مجتمع ما بعد الانسان، ولكن في الخيارات المتاحة المحكومة بمنطق المقامرة المفتوحة.
فروم يهرب من التوصيف المسبق ويفكك الارتهان الايدلوجي في وعي مستقبلي حقيقي وانتماء انساني مبدئي، ويقدم مقترحه للتعامل مع مجتمع التقنية المفرطة الذي يخيم على حياتنا بصورة محمومة الذي ينهض على انقاض فكرة الامل ليناقش مسألة الايمان كركيزة اساسية للوقوف في وجه الغول التقني ولكنه يميز اولا بين الايمان العقلي والايمان غير المعقول، فالايمان العقلي نتيجة، وفق فروم، لفعالية داخلية والايمان غير العقلي هو الخضوع لشيء محدد يقبل كانه حقيقي دون الاهتمام بمعرفة ما اذا كان كذلك ام لا، وبذلك وبتمهيده لفكرة قوة الروح يعود فروم بشكل غير قصدي لفكرة الايمان الصوفي والتجربة الانسانية المجردة، وتصبح البسالة الانسانية التي يدعو لها فروم في مواجهة التقنية المفرطة معادلا موضوعيا لفكرة المجاهدة الصوفية، بما يغري متتبعي المنهجيات المقارنة لمد ثمة خط وهمي من المعلم محيي الدين بن عربي لابن رشد وصولا بسبينوزا ولغاية فروم القرن العشرين، ولكن ذلك كله يصبح خارج الموضوع، في تساؤل ضروري حول طبيعة الايمان الذي يمكن ان يصعد للمواجهة.
الايمان التقليدي يقف بصورة سلبية امام التقنية وحقائقها الملموسة، ولكن الايمان الديني في صورته الاولية امتداد للايمان التوراتي والمسيحي والاسلامي لاحقا الذي يحتفي بفكرة الانسان، وفي جوهره الحقيقي يصبح الايمان بالاله ايمانا بالانسانية وتفردها واحقيتها في البقاء، بعكس الديانات الطبقية والسوداوية، ويقف الايمان الديني بصورته التقدمية (ربما كخليط بين الصوفية الحديثة وفكرة الـ new ages) في الطليعة لمواجهة شياطين التقنية، بدلا من الاستسلام لفكرة التعقيم الفكري وتدجين نزعة الامل والايمان في الانسان، ان مسألة الالوهة تحمل عمقا فلسفيا جدليا سفسطائيا، يمكن ان يتواصل فيها التنازع والجذب والشد للما لا نهاية بين اوليات الفيزياء ودهاليز المنطق، لكن فكرة العلاقة الالهية – الانسانية مسألة اخرى ومصير يحمله كل انسان بداخله، بوصلة مستمرة للحفاظ على الوشائج الانسانية في المجتمع، ومسألة اخلاقية ومبدئية مركزية.
ان تفهم الخلفية التأسيسية الشخصية والعلمية لاريك فروم المولود لعائلة يهودية ارثوذكسية المانية في سنة 1900 والحائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة حول موضوع (القانون اليهودي : مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي) والمتخصص لاحقا في علم النفس التحليلي تضعنا على المنابع الاساسية لفكرته حول ثورة الامل في مواجهة مجتمع التقنية المفرطة الذي اصبحنا نعايشه كواقع، او على الاقل نعاين بداياته التي بدات توضح معالمه الآتية. وبذلك يمكن ان نتمسك بنقطة البداية في فلسفة فروم وانقلابه المبدئي على التوصيفات المسبقة والاكليشيهات التقليدية من يسار وشيوعية ورأسمالية، وبقدر ما يدعو فروم لفلسفة جديدة فانه يقدم اسهامه دون ان يحتكر الحقيقة لنفسه، ولكن يبدو ان الانسانية اصبحت مولعة بالقيود اللغوية وتمارس اقصى درجات الاستسلام السادي للدلالات، ويظهر تقسيم ليبرالي – محافظ كاحد الشياطين الجديدة في وقت لا يتسع لكثير من التفاصيل او التهويمات التي قدمتها الـ Foreign Policy في عددها قبل الاخير عن الصراع بين الليبراليين والمحافظين، ففكرة التقسيم بتلك الصورة تمثل برأيي اعادة صياغة ركيكة لقصة سفينة نوح لتمهد لعالم استهلاكي مدلل ومحدود للغاية يستفيد من ثمار التقنية المفرطة، واذا كان المحافظون يرفضون بضراوة فكرة النشوء والترقي الا ان مقولة البقاء للافضل تبقى الآية الافتتاحية للاهوت ما بعد الانسان.
اذا كان القرن العشرين اكثر العصور دموية في تاريخ الانسانية بحربيه العالميتين - بطبيعة الحال لاحقا لجريمة قتل قابيل التي ذهبت في اقل من دقيقة باكثر من عشر البشرية- فانه اكثر عصور الانسانية انتاجا للفكر والفلسفة بما يجعله محطة مهمة تستحق التوقف والقراءة، لان ملايين الصفحات الشبكية(internet) التي تضاف الى المعرفة الانسانية بشكل يومي، اصبحت تفقد هويتها الابداعية تحت ضغط الكم المرعب، وكان الفكر الانساني يستسلم في مرحلة ما بعد الحداثة للتمهيد بصورة او باخرى لمجتمع ما بعد الانسان وشروطه، انها مرحلة متقدمة من الفوضى تشبه عملية تخريب متن الكتاب من خلال مئات التعليقات والهوامش لعشرات القراء، وبذلك تصبح الخصوصية الانسانية المرتبطة بفكرة الصوفية الفردية (الباسلة) مهددة في بقائها واستمراريتها بصفتها الخاصرة الهشة امام تغول التقنية الحديثة بطريقة تشبه ما تنبأ به اورويل في روايته 1984، ربما تأتي متأخرة بعض الشيء وبقدر اقل من الصراحة ولكن بطريقة اكثر انتهازية وكذبا.