الحوار المعاكس
كم هو رائع أن نتفق في كل شيء وعلى كل شيء ولكن الأروع من ذلك أن نتفق حين نختلف في الرأي وأن يقبل كل منا الآخر دون إساءة أو تجريح أو شخصنة فالمهنه الراقية هي من تعلم أبناءها وتوجههم على أدب الحوار وفن محاورة الآخر وقرع الحجة بالحجة وتعلمهم ثقافة الاتفاق كما تعلمهم ثقافة الاختلاف .
لأن من يملك الحوار وأدبه يملك الفكر والحجة والدليل ومن لا يملك ذلك يصبح مشوّه الفكر فاقدا لبوصلة الحياة فاقدا للاتزان وهذه هي كارثتنا .
وهذا ما نراه في أنفسنا ولا نراه في خصمنا نلجأ إلى حوار الآخرون يحاججوننا بالعقل والمنطق ونحن نحاججهم بالصوت العالي والكلمة النابية والتهويش وربما نلجأ إلى حوار الأيدي أو ما على الطاولات أو المنصات من أشياء قابلة لتكون قذائف وصواريخ حين عجزت ثقافتنا الهلامية عن إنجادنا بالكلمة والحجة .
تلك هي القضية التي نحتاج منها إلى إعادة النظر في حياتنا العمليه والمهنيه بنقابتنا التي يجب أن تهتم بتعزيز مهارات الحوار لنحقق من خلالها فن صناعة الحوار وقبول الرأي والرأي الآخر .لقد علمنا الإسلام العظيم مهارات فن الحوار وكيف نحاور ؟ وكيف نختلف كيف نحب وكيف نكره بعيدا عن الحقد الذي يملأ القلوب ويعمي البصر والبصيرة .علمنا الدين الحنيف أصول المجادلة حتى مع الآخر ويؤكد ذلك قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن كم نحن بحاجة إلى الاستماع إلى بعضنا البعض .
كم نحن بحاجة إلى نقابه نتعلم فيها ثقافة الاختلاف كما نتعلم ثقافة الاتفاق وإذا اختلفنا نتعلم كيف نختلف وكيف نتعلم أنه من حقنا أن نختلف ومن حقنا أن نفكر بالطريقة التي نراها فلا حجْر علينا وعلى فكرنا طالما أنه لا يمس العقيدة والمنظومة القيمية في تعملتنا كما لا يجوز بأي حال من الأحوال مصادرة الرأي وتسفيهه فعندما فقدنا فن الحوار في كل مكان نكون فيه لجأنا إلى العنف الكلامي والمشاجرات لأنه الطريق الأسهل لتحقيق غاياتنا صرنا نفكر بصوت عالٍ حتى نسكت الطرف الآخر ونحن نعلم أنه على حق ونسينا أنه بالكلمة الطيبة نحصل على ما نريد ويحضرني في هذا المجال هذا الحوار بين هارون الرشيد ورجل دخل عليه لينصحه قال له هذا الرجل : سأكلمك بكلام غليظ فقال له الرشيد : هوِّن عليك فإنَّ الله تبارك وتعالى أرسلَ مَنْ هو خير منك موسى وهارون إلى مَنْ هو شرٌّ منّي فرعون فقال لهما : فقولا له قولاً ليّنا .
لم تعد الكلمة وهي أساس الحوار سببا في العنف في مجتمعنا نحن معشر المحامين بل صارت النظرة يرسلها شخص إلى شخص آخر سببا له من غير كلام أو حوار تحولنا إلى معنّفين فكيف لو كان هناك حوار ؟ ولم نعد قادرين على قبول الرأي والرأي الآخر .
و حسن الخطاب وعدم الاستفزاز وازدراء الغيرفالحوار غير الجدال . واحترام أراء الآخرين شرط نجاحه ولنا في حوار الأنبياء مع أقوامهم أسوه حسنةفموسى وهارون أمرا أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يذكر أو يخشى . وفى سورة سبأ يسوق الله لنا أسلوبا لمخاطبة غير المسلمين حيث يقول فى معرض الحوار . وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .
فالموضوعية في الحوار والتحرّر من المؤثرات الجانبية التي تبعدك عن طريق الوصول إلى بيت الحقيقة . وقد كان النبيّ (ص) يحاور المشركين ليقودهم إلى الإقرار بالحقيقة من خلال تجميده لقناعاته
فرغم أنّ النبي لديه (كتاب مبين) لكنّه يطالب محاوريه بالابتداء من نقطة الصفر وتناسي الخلفيات الفكرية والعقيدية حتى يكون الحوار متحرراً من أي عامل خارجي .
اُنظر إلى هذه المحاورات التي تجري بالحكمة والموعظة الحسنة :
قدم إلى المدينة المنورة اعرابي من البادية وذهب إلى المسجد النبويّ كي يظفر بمال من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً بين أصحابه فدنا منه وطلب مساعدته فأعطاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً من المال إلاّ أنّ الاعرابي لم يقنع بما أعطاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث رآه قليلاً فتفوّه على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلمات بذيئة مما أثار غضب أصحاب النبي عليه فقاموا يريدون طرحه أرضاً فأبى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم ذلك ثمّ خرج مصطحباً الاعرابي إلى بيته فزاده شيئاً من المال فأظهر الرضا والامتنان وقال : جزاك الله من أهل وعشيرة خيرا .
فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء وأنا أخشى أن يصيبك منهم أذى فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلته بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك فاستجاب الاعرابي لذلك ونفّذ ما وعد به .
وهنا أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقدّم لأصحابه درساً في الحوار البعيد عن الانفعال و العنف فقال : مثلي ومثل هذا يقصد الاعرابي مثل رجل له ناقة شردت منه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاّ نفورا فناداهم صاحبها : خلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم فتوجّه لها بين يديها فأخذها من قمام الأرض فردّها حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها ثمّ استوى عليها .
إنّ الحوار الذي يدور في جو نفسي رائق أضمن في الوصول إلى النتائج المرضية . ولذلك لا نتردد في القول إنّ الحوار فن وليس قدرة كلامية أو ثقافية فقط .
بهدوئك وأدبك وأخلاقك جرّ محاورك إلى ساحة الأدب والتهذيب والتزام أصول الحوار وإذا رفض فلا تدخل في مهاترة .
لتكن الحقيقة غايتك من الحوار فما عداها لا يمكن اعتباره حواراً جاداً ونافعاً .