القبض على الشيخين سيف والفيل وبراءة جميع النساء
اضطر جمال عبدالناصر إلى التراجع عن قراره السابق وأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: مصطفى نصر
مديرية أمن الإسكندرية
مساء 21 يونيو/حزيران 1955، الجو شديد الحرارة بشارع عبدالمنعم القريب جدا من ضريح سيدي أبي الدرداء. وعبدالقادر محمود – العقيد بمديرية أمن الإسكندرية - يتصفح مجموعة من الأوراق أمامه، يدق الباب، يدخل جندي، يدق الأرض بقدميه ويقول:
- امرأة بالباب تطلب مقابلتك.
يشير العقيد له بأن يدخلها. تدخل امرأة شابة، ترتدي ملابس متواضعة وصندلا في قدميها، تقول في ارتباك وخجل:
- أنا كنت رافعة قضية نفقة لي ولاولادي عطية وفريدة. والمحكمة برئاسة الشيخ الفيل حكمت لي بنفقة 240 قرشا فقط رغم أن دخل زوجي 14 جنيها في الشهر.
ضاق العقيد بحديثها، فهو لا يملك تغيير الحكم:
- قدمي اعتراض على ذلك في المحكمة الشرعية.
- قدمت.
- وما المشكلة الآن؟!
ترددت طويلا حتى ضاق العقيد بها:
- تكلمي ماذا تريدين؟
- القاضي يريد ...
- ماذا يريد؟
بكت، ففهم العقيد، فسألها ليتأكد:
- هل طلب منك شيئا؟
أومأت برأسها. ما الذي يريده هذا الشيخ من امرأة فقيرة كهذه غير جسدها.
أحس العقيد بالضيق، فقال:
- وما اسمك؟!
- شفيقة شاكر.
رق العقيد لحالها، فقد كانت ترتعش، وهي تتحدث، أشار إليها بالجلوس.
جلست، كانت جميلة ولم تستطع الملابس المتواضعة وغير المتناسقة أن تخفي هذا الجمال.
قالت من بين دموعها:
- عملت معارضة في الحكم وقدمت المستندات المطلوبة. لكن القاضي ظل يؤجل القضية. وفي الجلسة الأخيرة طلب مقابلتي على انفراد وقال لي: نظمي سيشرح لك كل شيء.
- ومن نظمي هذا؟
- صبي المحامي الذي يترافع عني.
- وماذا قال لك نظمي هذا؟
وبكت مرة أخرى. لعنت زوجها ألف مرة لأنه كان سببا في موقفها هذا. قالت:
- قال إن القاضي يريدني في الحرام.
أخرج العقيد ورقة من مكتبه وكتب اسمها، وسألها عن عنوان بيتها، قالت:
- 7 شارع ابن خليفة بالباب الجديد.
وقف وصافحها في ابتسام، كان معجبا بموقفها:
- سأتصل بك.
خرجت المرأة من باب مديرية الأمن، وقفت أمام محطة الترام التي ستنقلها إلى "محطة مصر" القريبة من بيتها. بينما اتصل العقيد بمحافظ الإسكندرية "كمال الديب"، فأشار المحافظ بعرض الموضوع علي النيابة العامة، وأن تتم التحقيقات في سرية تامة.
كانت شفيقة شاردة معظم الوقت، الرجل طلقها بعد خلافات بسيطة، إنه يكسب كثيرا، وينفق ما يكسبه على ملذاته، وسهراته الدائمة مع زملائه الصنايعية. في ليلة اشتد الشجار بينهما، فطردها من شقته.
أخذت ابنها عطية وابنتها فريدة وعادت إلى بيت أمها في الباب الجديد. عاشت مع أمها الفقيرة. البيت دور واحد، مبني بالخشب والطوب، في الشتاء تتساقط مياه المطر من خلال قطع الخشب الصغيرة بين العروق الخشبية والحديدية، تضطر أمها أن تسد الثغرات بالأسمنت والرمل.
هي ليس لديها دخل، والولد عطية والبنت فريدة في حاجة إلى طعام ومصروف يومي مثل باقي الأطفال.
زارتها أخت زوجها المتعاطفة معها والتي تأتي لتري أطفال أخيها وتعطف عليهما. عندما رأتها ضمتها شفيقة لصدرها وبكت. حكت لها عما حدث من الشيخ الفيل ومن العقيد الذي شكت له في مديرية الأمن. إنها لم تحك هذا لأمها، خشية أن تنقل هذا للجيران، وينتشر الخبر في المنطقة، ولن ينوبها سوى الفضيحة. فلماذا حكت لأخت زوجها؟! ربما أرادت أن تبين لها إنها شريفة، وربما أرادت أن تحكي الأخت ما حدث لأخيها فيأتي ويردها وتنتهي كل مشاكلها.
***
داخل أروقة النيابة كانت الأوراق تنتقل بسرعة من مكتب إسماعيل حسن رئيس النيابة وإلى مكتب محمود عباس الغمراوي وكيل أول النيابة الذي أسرع بدوره إلى استدعاء السيدة الشاكية لفحص بلاغها وبدء التحقيق فيه. بعدها أمر وكيل أول النيابة أن تساير السيدة شفيقة شاكر القاضي وتتظاهر بقبول عرضه والاستجابة لرغبته في 'الخلوة' التي يريدها. وفي نفس الوقت تأمر النيابة بأن تقوم المباحث بعمل التحريات ومايلزم من مراقبات!
جاءت شفيقة إلى مديرية الأمن بعد عدة أيام وقابلت العقيد عبدالقادر محمود وأخبرته بأنها ذهبت إلى مقر المحكمة الشرعية في المنشية وقابلت الشيخ الفيل الذي أخذها من يدها وذهب بها إلى زميله الشيخ عبدالفتاح سيف وكيل المحكمة وتم الاتفاق على اللقاء في الساعة السادسة من مساء نفس اليوم بمكتب المحامي الشرعي محمود الكحلاوى، وهناك سيقابلون سيدتين أخريين مطلقتين تنضمان إلى السهرة المرتقبة في إحدى الفيلات.
أكدت التحريات بأن الشيخين عبدالقادر الفيل وعبدالفتاح سيف يتقابلان مع النساء في فيللا تاجر مشهور في الإسكندرية بمنطقة السيوف الهادئة ذات الفيلات القليلة الراقية. فيأمر كبار المسئولين بمتابعة الواقعة بدقة متناهية قبل إخطار القيادة السياسية، بل ويأمر رئيس النيابة بوضع الفيللا تحت الحصار الأمني من كل الاتجاهات وعدم اقتحام المكان إلا بحضوره شخصيا ومعه باقي أعضاء النيابة العامة.
داخل مكتب المحامي الشرعي
مكتب مشهور في منزل قديم بشارع جامع سلطان، بابه منفصل عن باب البيت، وفراندة كبيرة أمام المكتب، تجلس فيها النسوة المتشحات بالملاءات السوداء انتظارا لدورهن في مقابلة المحامي أو مساعده.
نظمي – وكيل المحامي - طويل ونحيف ويدخن سجائره بشراهة. سيدات كثيرات يحدثنه ويسألن عن قضاياهن، وهو يبتسم لهن، تأتي رشيدة فايد، امرأة تميل للسمرة، ترتدي ملابس أنيقة، تركها زوجها بعد أن تعرف على امرأة أكثر منها جمالا وأقل عمرا، وعدها الشيخ سيف الذي ينظر قضيتها بأنه سيحكم لها بمبلغ كبير جدا، وهي في حاجة إلى هذا المبلغ.
تتحدث همسا مع نظمي، يشير إلى مقعد كبير (دكة) لتجلس فوقه، ثم جاءت بعد وقت قصير نوال الدسوقي، قصيرة، وفي وجهها نمش، كانت عصبية وقلقة، جلست بجوار رشيدة دون قول، لم تتحدث مع نظمي، وواضح أنها جاءت إلى هذا المكتب كثيرا. نظرت حولها في ضيق، وصاحت في وكيل المحامي:
- ألن ننتهي من هذه المشكلة.
أحس نظمي أنها ستفسد كل شيء بعصبيتها، فأسرع إليها:
- اهدئي، قبل أن تشربي شايك، ستكون الزبونة الثالثة جاءت، وسننتهي من كل شيء.
- ولماذا تأخرت؟!
دخلت شفيقة، تعرف هذا المكان جيدا. فقد دلتها عليه جارتها في شارع ابن خليفة القريب من هنا، قالت:
- محامي شرعي ليس له مثيل، يخرب بيت الخصم رجل أو امرأة.
عرفت المحامي الأستاذ محمود الكحلاوى، وصبيه نظمي.
وعندما علمت أن القاضي حكم لها بنفقة شهرية 240 قرشا في الشهر بكت. لكن نظمي اقترب منها، وربت على ظهرها قائلا:
- القاضي يمكن أن يرفع النفقة ويضاعفها، لكن نظرة منك.
وفعل بعينيه وفمه ووجهه كله إشارات ضايقتها.
لم تصدقه أول الأمر، ظنت أنه يدعي هذا ليأخذ نقودا منها، لكن القاضي في اليوم التالي، أمسك يدها بطريقة موحية ففهمت أن نظمي كان صادقا في قوله.
قال نظمى:
- لقد اكتملت الشلة، تشربوا الشاي أولا.
وقفت نوال الدسوقي في عصبية وقالت: ياللا بينا.
لكن رشيدة قالت:
- نشرب الشاي أولا.
في كل مرة يدعوهن نظمي إلى شرب الشاي ولم يفعلها مرة واحدة. ولا تذكر شفيقة أنها رأت كوبا للشاي في يد أحد في المكتب سوى المحامي محمود الكحلاوي.
ركب نظمي بجوار سائق التاكسي، وركبت النسوة الثلاث في الخلف. قال نظمي:
- سنذهب إلى السيوف.
قدم نظمي سيجارة إلى سائق التاكسي، ودخنا معا وهما يتحدثان عن منطقة السيوف، المليئة بفيللات الأغنياء، ومعظمها سكنا للملذات.
توقفت السيارة عند مزلقان فيكتوريا المغلق لمرور قطار أبو قير، وأشار نظمي إلى الشيخين الفيل وسيف اللذين أسرعا إلى التاكسي، ركب سيف بجوار نظمي، وانحشر الفيل بجوار النسوة الثلاث. كان نظمي مهذبا في الحديث معهما، لا يخاطبهما إلا بلقب: "فضيلتك".
نظر سيف خلفه وداعب نوال، أعاد عليها ما يذكره لها كلما قابلها: سأجعل زوجك ينظر خلفه وهو سائر من شدة الخوف منك، وسأجعله يحدث نفسه.
وهي اكتفت بابتسامة مغتصبة. وتابعت ما يحدث في ضيق، لدرجة أنها كانت تزفر من وقت لآخر. وشوقية لم تعلق بشيء.
فيللا التاجر الكبير في السيوف
أشار نظمي إلى فيللا كبيرة حولها خواء، توقف التاكسي، ونزل نظمي بعد أن حاسب السائق. وتحدث الفيل مع سيف وضحكا وهما يتابعان النسوة الثلاث. لقد أعجبا بجمال شوقية، واختلفا من الذي سيبدأ معها. جاء نظمي، أسرع إلى الشيخين معتذرا لتأخره وهو يحاسب سائق التاكسي.
ودخلا الباب الحديدي الكبير المفتوح، ساروا جميعا في دخلة محاطة بالشجيرات القصيرة، فواجههم بابا كبيرا مضاءً من الداخل. دقه نظمي في خفة، ففتحه شاب يلبس بيجامة كان قريبا منه، وتبعه آخر أكبر منه سنا، كان يرتدي بيجامة قريبة من لون بيجامة أخيه.
- أهلا بكم.
تراجعت نوال دسوقي. الله يلعن هذه الأيام التي الجأتها إلى موقف قذر مثل هذا، لو كانت قتلت زوجها؛ لكان أهون مما يحدث. وترددت رشيدة ثم دخلت. وواضح أن الشيخين يبديان اهتماما خاصا بشوقية التي دخلت صامتة؛ تتابع المكان برهبة. قال نظمي للشابين: والدكما موجود في الإسكندرية؟
قال أحدهما وهو يتابع النسوة الثلاث في اهتمام:
- في البيت الثاني.
لقد جاء الشيخان كثيرا إلى هذا المكان، أحيانا لمقابلة صاحبه التاجر المشهور، لكن الجلسة تكون قاصرة على تدخين الحشيش وشرب الخمر، لكن ولداه يشتركان في السهرات التي تحليها النساء، دون علم والدهما. نظمي يتصل بهما ويوضب كل شيء.
يسكن التاجر الكبير في بيت كبير في شارع فرنسا، وهذه الفيللا لملذاته، ويأتيها الولدان أحيانا بحجة المذاكرة، غير هذا فالفيللا مغلقة ومهجورة معظم الوقت.
لقد جاءاها الولدان منذ نصف ساعة – لا أكثر – لإعداد الجلسة، اشتريا الحشيش والخمر، فكل اللوازم على حسابهما الخاص – هذا هو الاتفاق مع نظمي – مقابل الاستمتاع بجسد النساء اللاتي يأتي بهن في كل مرة.
جلس الشيخان على المقاعد الخرزانية الواسعة، وأخذا يتحركان بهما حركات رتيبة فأحسا بسعادة غامرة، وكادت النسوة الثلات أن يهربن من المكان الموحش، إنهن يشتركن في هذه المغامرة لأول مرة. بكت نوال الدسوقي، ومسحت دموعها خشية أن تغضب الشيخين فيحكما عليها بأحكام تذلها أمام أعدائها، أقارب زوجها.
قدم نظمي الأشياء التي اشتراها ولدا التاجر الكبير: اللحوم والأسماك والكبد، والفاكهة. يدعي نظمي أمام الشيخين أنه يدفع ثمن هذه الأشياء من جيبه الخاص حبا فيهما، ويدعي أمام محامية أن الجلسة تكلفت كذا. ويدفع المحامي مقابل أن يكسب كل القضايا المقدمة أمام الشيخين.
كانت النسوة وكأنهن في انتظار استجواب في قسم البوليس، ترتعش أجسادهن. مد الشيخ الفيل يده نحو ظهر شوقية، أراد أن يخطفها من زميله، لكنها تباعدت وهي تبتسم. ومد الشيخ سيف يده نحو يد نوال الدسوقي، فأبعدتها قائلة:
- انتظر حتى استرد أنفاسي.
ضحك الرجال جمعيا وكأنها قالت نكتة، وأشعل نظمي الفحم في مدفأة فخارية، وأخذ ينفخ فيها حتي أحمر وجهه، وكاد شاربه أن يحترق عندما هبت النار فجأة. فضحك الرجال. أحس سيف بأن الفيل لن يترك له شوقية، فركز على الأقل منها جمالا – نوال الدسوقي- أما رشيدة فهي كبيرة في السن، وكان زوجها محقا عندما تركها وغوي غيرها. لكنها قد تنفع ولدا من ولدي التاجر الكبير. أما نظمي فهو لا يشترك إلا في تدخين الحشيش وشرب الخمر وأكل المزات طوال الليل.
وضع سيف ذراعه حول رقبة نوال، وهمس في أذنها:
- سأحكم لك من أول جلسة، وزوجك الذي عذبك؛ سأعذبه.
لانت المرأة، وتركته يداعب صدرها. عندما أراد أن يمد يده نحو أشياء أخرى، قالت:
- ليس أمام الناس.
ضحك، وأمر نظمي بإعداد حجرة لهما.
حمل نظمي مرتبة من فوق أحد الأسرة ورماها على أرض حجرة مجاورة، وفرشها بملاءة ذات خطوط خضراء، فسار بها سيف ممسكا بوسط نوال، ورماها في عنف فوق المرتبة، لم تكن سعيدة، وكان قلبها يدق في عنف، لكن ما فعله زوجها هو وأخواته معها يستحق أن تضحي بكل شيء.
سمع الولدان أصواتا غريبة فوق سطح الفيللا، أرادا أن يتحدثا في هذا، لكن الأصوات ضاعت، وانشغلا بالأشياء المسلية أمامهما. وفجأة دخلت القوات المكان دون أن تدق بابا. دخلوا من النوافذ المفتوحة لتُخرج دخان الحشيش. كانت مصيبة. الشيخ الفيل لم يفعل شيئا سوى أن لمس ظهر شوقية التي كانت تتابع الأشياء في صمت وقلق؛ تنتظر القوات التي اتفقت معها على الهجوم. ورشيدة أكلت كثيرا، فهي منذ سنوات لم تذق هذه الفواكه، ولم تذق هذه الأنواع من الأسماك.
كان سيف مشغولا بجسد نوال، ظن ما يحدث في الخارج ضجة يحدثها الشابان، من تأثير الخمر والحشيش، وجد الرتب الكبيرة، العقيد عبدالقادر محمود، الرائد علي لطفي، النقيب محمد توفيق، ومجموعة من رجال البوليس لحفظ النظام.
التحقيق
تم القبض على الجميع بما فيهم شفيقة شاكر (المُبلغة) ونقلوا بسيارت البوليس إلى نقطة بوليس المنتزة.
أسرع المحامي العام بالاتصال تليفونيا بوزير العدل الذي تولى بنفسه إخطار القيادة السياسية ليتخذ مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبدالناصر قرارا في الواقعة. هل تتم إحالتها إلى القضاء العسكري لمحاكمة المتهمين، أم أن هناك اتجاها آخر؟
يقرأ جمال عبدالناصر تفاصيل الواقعة المذهلة، ويدور الحديث في مجلس قيادة الثورة، يرى عبدالناصر الاكتفاء بأن يقدم القاضيان استقالتهما، خاصة أنهما من عائلات كبيرة، فالشيخ الفيل من أسرة شهيرة بمحافظة البحيرة تنحدر من الأشراف بالسعودية، وهي من نسل الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، وتضم أكثر من ثلاثين ألف مواطن مصري، وفيهم ثلاثون على الأقل من الأسرة القضائية وصلوا لأعلى المناصب كرؤساء لمحاكم الاستئناف والجنايات.
لكن مصطفى أمين وصحافة أخبار اليوم التي كانت سباقة في كشف الأسرار مهما كانت توابع المغامرة الصحفية. نشرت الجريدة تحت عنوان 'قضية العصر' تفاصيل ما جرى في فيللا السيوف وهكذا أصبحت القضية علي كل لسان. وكان باعة الصحف يملأون الشوارع صياحا: اقرا حادثة القاضي بتاع النسوان.
واضطر جمال عبدالناصر إلى التراجع عن قراره السابق ويأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة.
المحاكمة
في الجلسة الأولى التي كانت علنية اكتظت قاعة المحكمة بالحضور بصورة لم تحدث من قبل. وعندما صاح الحاجب قائلا: "محكمة"؛ هبّ الجلوس وقوفا، ودخلت هيئة المحكمة، المستشارون: رئيس الجلسة ثم عضو اليمين فعضو اليسار وتبعهم أعضاء النيابة، الوكيل الأول الذي حقق الواقعة ثم وكيلان للنيابة، والكل يرتدي الردنجوت الأسود ويضع الوسام المخصص له، وهو باللون الأخضر للمحكمة واللونين الأخضر والأحمر للنيابة.
بعد ثوان، مرت بطيئة ثقيلة، قال الرئيس:
- فُتحت الجلسة.
كان الشيخ الفيل حزينا مهموما، بينما الشيخ سيف مبتسما ابتسامة تشي باللامبالاة. وكانت السيدتان قد ارتدت كل منهما ملاءة سوداء، لا تظهر منها شيئا، بينما قبع وكيل المحامي في ركن بعيد. والشابان - ابنا صاحب الفيللا - يجلسان بجانب وكيل المحامي وقد تغير شكلهما من الهم والأسى. بينما تجلس شفيقة شاكر في الصف الأول مجاورة للمحامين. وزوجها الذي ردها لعصمته منذ أيام؛ يجلس في الصف الثاني سعيدا بزوجته؛ يحدث أخته وأم زوجته.
بعد أن فُتحت الجلسة تلا السكرتير قرار الاتهام بصوت عال، وبعد ذلك طلبت النيابة نظر الدعوى في جلسة سرية مراعاة لحسن الآداب، فأمرت المحكمة بذلك فانفض الجمع.
نُظُرت الدعوى من ثم في جلسات سرية بدأت بسؤال المحكمة للمتهمين عن التهم المنسوبة إليهم، فأنكر القاضيان الاتهام بكل بنوده، لكنه كان رفضا مرسلا، لأنهما- كلاهما أو أحدهما- لم يبين السبب في وجوده في مكان الضبط، ومع سيدات لهن قضايا تنظر أمامهما، ومضاجعة الشيخ سيف لواحدة منهن، وسبب وجود وكيل المحامي، وزجاجات الخمر وأدوات تدخين الحشيش، وجوهر الحشيش ذاته، ولا رد أحدهما على شهادة الشاهدة – شفيقة شاكر - التي ذكرت تفاصيل دقيقة عما دار حتى الضبط.
وكان اعتراف السيدتين رشيدة فايد ونوال الدسوقي إحكاما لحبل الاتهام على عنقي القاضيين تفصيلا حتى يتمتعن بالإعفاء من العقوبة، ذلك أن قانون العقوبات المصري يعفي من العقوبة الراشي إذا ما اعترف أمام المحكمة بواقعة الرشوة، لأن قصد المشرع من التأثيم عقاب الموظف المرتشي.
كانت شهادات رجال البوليس مثماثلة، زاد فيها ما ذكره العقيد عبدالقادر محمود من أنه شمّ رائحة السائل الذي كان على الملاءة، ولما تبين أنه سائل منوي تحفظ على الملاءة ضمن أدلة الدعوى. وجاء في اعتراف السيدة نوال الدسوقي أن القاضي عبدالرحمن سيف قد ضاجعها قبل أن يحدث الضبط.
وأفاضت الشاهدة – شفيقة شاكر - بما دار في "القعدة" من حديث ومن تعليقات الشيخ سيف التي كان يضحك من ترديدها وهو في قفص الاتهام.
بدأت المرافعات بالنيابة العامة تؤكد الاتهام وتثبته بالأدلة القاطعة، وتبين التفسير الصحيح لمواد الاتهام، وتلا النيابة دفاع المتهمين الذي كان تحصيل حاصل.
الحكم
صدر الحكم الذي نطق به المستشار البهنساوي وجاء كالآتي:
الأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة ألفي جنيه للشيخ عبدالقادر الفيل رئيس محكمة المنشية الشرعية. وبراءته من تهمة الزنا!
الأشغال الشاقة المؤبدة للشيخ عبدالفتاح سيف وكيل المحكمة وغرامة ألفي جنيه.
السجن خمس سنوات وغرامة خمسائة جنيه لكل من الشابين أصحاب الفيلا.
السجن 7 سنوات وغرامة 500 جنيه لوكيل المحامي الشرعي.
براءة جميع النساء!
مصطفى نصر ـ الإسكندرية
اضطر جمال عبدالناصر إلى التراجع عن قراره السابق وأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: مصطفى نصر
مديرية أمن الإسكندرية
مساء 21 يونيو/حزيران 1955، الجو شديد الحرارة بشارع عبدالمنعم القريب جدا من ضريح سيدي أبي الدرداء. وعبدالقادر محمود – العقيد بمديرية أمن الإسكندرية - يتصفح مجموعة من الأوراق أمامه، يدق الباب، يدخل جندي، يدق الأرض بقدميه ويقول:
- امرأة بالباب تطلب مقابلتك.
يشير العقيد له بأن يدخلها. تدخل امرأة شابة، ترتدي ملابس متواضعة وصندلا في قدميها، تقول في ارتباك وخجل:
- أنا كنت رافعة قضية نفقة لي ولاولادي عطية وفريدة. والمحكمة برئاسة الشيخ الفيل حكمت لي بنفقة 240 قرشا فقط رغم أن دخل زوجي 14 جنيها في الشهر.
ضاق العقيد بحديثها، فهو لا يملك تغيير الحكم:
- قدمي اعتراض على ذلك في المحكمة الشرعية.
- قدمت.
- وما المشكلة الآن؟!
ترددت طويلا حتى ضاق العقيد بها:
- تكلمي ماذا تريدين؟
- القاضي يريد ...
- ماذا يريد؟
بكت، ففهم العقيد، فسألها ليتأكد:
- هل طلب منك شيئا؟
أومأت برأسها. ما الذي يريده هذا الشيخ من امرأة فقيرة كهذه غير جسدها.
أحس العقيد بالضيق، فقال:
- وما اسمك؟!
- شفيقة شاكر.
رق العقيد لحالها، فقد كانت ترتعش، وهي تتحدث، أشار إليها بالجلوس.
جلست، كانت جميلة ولم تستطع الملابس المتواضعة وغير المتناسقة أن تخفي هذا الجمال.
قالت من بين دموعها:
- عملت معارضة في الحكم وقدمت المستندات المطلوبة. لكن القاضي ظل يؤجل القضية. وفي الجلسة الأخيرة طلب مقابلتي على انفراد وقال لي: نظمي سيشرح لك كل شيء.
- ومن نظمي هذا؟
- صبي المحامي الذي يترافع عني.
- وماذا قال لك نظمي هذا؟
وبكت مرة أخرى. لعنت زوجها ألف مرة لأنه كان سببا في موقفها هذا. قالت:
- قال إن القاضي يريدني في الحرام.
أخرج العقيد ورقة من مكتبه وكتب اسمها، وسألها عن عنوان بيتها، قالت:
- 7 شارع ابن خليفة بالباب الجديد.
وقف وصافحها في ابتسام، كان معجبا بموقفها:
- سأتصل بك.
خرجت المرأة من باب مديرية الأمن، وقفت أمام محطة الترام التي ستنقلها إلى "محطة مصر" القريبة من بيتها. بينما اتصل العقيد بمحافظ الإسكندرية "كمال الديب"، فأشار المحافظ بعرض الموضوع علي النيابة العامة، وأن تتم التحقيقات في سرية تامة.
كانت شفيقة شاردة معظم الوقت، الرجل طلقها بعد خلافات بسيطة، إنه يكسب كثيرا، وينفق ما يكسبه على ملذاته، وسهراته الدائمة مع زملائه الصنايعية. في ليلة اشتد الشجار بينهما، فطردها من شقته.
أخذت ابنها عطية وابنتها فريدة وعادت إلى بيت أمها في الباب الجديد. عاشت مع أمها الفقيرة. البيت دور واحد، مبني بالخشب والطوب، في الشتاء تتساقط مياه المطر من خلال قطع الخشب الصغيرة بين العروق الخشبية والحديدية، تضطر أمها أن تسد الثغرات بالأسمنت والرمل.
هي ليس لديها دخل، والولد عطية والبنت فريدة في حاجة إلى طعام ومصروف يومي مثل باقي الأطفال.
زارتها أخت زوجها المتعاطفة معها والتي تأتي لتري أطفال أخيها وتعطف عليهما. عندما رأتها ضمتها شفيقة لصدرها وبكت. حكت لها عما حدث من الشيخ الفيل ومن العقيد الذي شكت له في مديرية الأمن. إنها لم تحك هذا لأمها، خشية أن تنقل هذا للجيران، وينتشر الخبر في المنطقة، ولن ينوبها سوى الفضيحة. فلماذا حكت لأخت زوجها؟! ربما أرادت أن تبين لها إنها شريفة، وربما أرادت أن تحكي الأخت ما حدث لأخيها فيأتي ويردها وتنتهي كل مشاكلها.
***
داخل أروقة النيابة كانت الأوراق تنتقل بسرعة من مكتب إسماعيل حسن رئيس النيابة وإلى مكتب محمود عباس الغمراوي وكيل أول النيابة الذي أسرع بدوره إلى استدعاء السيدة الشاكية لفحص بلاغها وبدء التحقيق فيه. بعدها أمر وكيل أول النيابة أن تساير السيدة شفيقة شاكر القاضي وتتظاهر بقبول عرضه والاستجابة لرغبته في 'الخلوة' التي يريدها. وفي نفس الوقت تأمر النيابة بأن تقوم المباحث بعمل التحريات ومايلزم من مراقبات!
جاءت شفيقة إلى مديرية الأمن بعد عدة أيام وقابلت العقيد عبدالقادر محمود وأخبرته بأنها ذهبت إلى مقر المحكمة الشرعية في المنشية وقابلت الشيخ الفيل الذي أخذها من يدها وذهب بها إلى زميله الشيخ عبدالفتاح سيف وكيل المحكمة وتم الاتفاق على اللقاء في الساعة السادسة من مساء نفس اليوم بمكتب المحامي الشرعي محمود الكحلاوى، وهناك سيقابلون سيدتين أخريين مطلقتين تنضمان إلى السهرة المرتقبة في إحدى الفيلات.
أكدت التحريات بأن الشيخين عبدالقادر الفيل وعبدالفتاح سيف يتقابلان مع النساء في فيللا تاجر مشهور في الإسكندرية بمنطقة السيوف الهادئة ذات الفيلات القليلة الراقية. فيأمر كبار المسئولين بمتابعة الواقعة بدقة متناهية قبل إخطار القيادة السياسية، بل ويأمر رئيس النيابة بوضع الفيللا تحت الحصار الأمني من كل الاتجاهات وعدم اقتحام المكان إلا بحضوره شخصيا ومعه باقي أعضاء النيابة العامة.
داخل مكتب المحامي الشرعي
مكتب مشهور في منزل قديم بشارع جامع سلطان، بابه منفصل عن باب البيت، وفراندة كبيرة أمام المكتب، تجلس فيها النسوة المتشحات بالملاءات السوداء انتظارا لدورهن في مقابلة المحامي أو مساعده.
نظمي – وكيل المحامي - طويل ونحيف ويدخن سجائره بشراهة. سيدات كثيرات يحدثنه ويسألن عن قضاياهن، وهو يبتسم لهن، تأتي رشيدة فايد، امرأة تميل للسمرة، ترتدي ملابس أنيقة، تركها زوجها بعد أن تعرف على امرأة أكثر منها جمالا وأقل عمرا، وعدها الشيخ سيف الذي ينظر قضيتها بأنه سيحكم لها بمبلغ كبير جدا، وهي في حاجة إلى هذا المبلغ.
تتحدث همسا مع نظمي، يشير إلى مقعد كبير (دكة) لتجلس فوقه، ثم جاءت بعد وقت قصير نوال الدسوقي، قصيرة، وفي وجهها نمش، كانت عصبية وقلقة، جلست بجوار رشيدة دون قول، لم تتحدث مع نظمي، وواضح أنها جاءت إلى هذا المكتب كثيرا. نظرت حولها في ضيق، وصاحت في وكيل المحامي:
- ألن ننتهي من هذه المشكلة.
أحس نظمي أنها ستفسد كل شيء بعصبيتها، فأسرع إليها:
- اهدئي، قبل أن تشربي شايك، ستكون الزبونة الثالثة جاءت، وسننتهي من كل شيء.
- ولماذا تأخرت؟!
دخلت شفيقة، تعرف هذا المكان جيدا. فقد دلتها عليه جارتها في شارع ابن خليفة القريب من هنا، قالت:
- محامي شرعي ليس له مثيل، يخرب بيت الخصم رجل أو امرأة.
عرفت المحامي الأستاذ محمود الكحلاوى، وصبيه نظمي.
وعندما علمت أن القاضي حكم لها بنفقة شهرية 240 قرشا في الشهر بكت. لكن نظمي اقترب منها، وربت على ظهرها قائلا:
- القاضي يمكن أن يرفع النفقة ويضاعفها، لكن نظرة منك.
وفعل بعينيه وفمه ووجهه كله إشارات ضايقتها.
لم تصدقه أول الأمر، ظنت أنه يدعي هذا ليأخذ نقودا منها، لكن القاضي في اليوم التالي، أمسك يدها بطريقة موحية ففهمت أن نظمي كان صادقا في قوله.
قال نظمى:
- لقد اكتملت الشلة، تشربوا الشاي أولا.
وقفت نوال الدسوقي في عصبية وقالت: ياللا بينا.
لكن رشيدة قالت:
- نشرب الشاي أولا.
في كل مرة يدعوهن نظمي إلى شرب الشاي ولم يفعلها مرة واحدة. ولا تذكر شفيقة أنها رأت كوبا للشاي في يد أحد في المكتب سوى المحامي محمود الكحلاوي.
ركب نظمي بجوار سائق التاكسي، وركبت النسوة الثلاث في الخلف. قال نظمي:
- سنذهب إلى السيوف.
قدم نظمي سيجارة إلى سائق التاكسي، ودخنا معا وهما يتحدثان عن منطقة السيوف، المليئة بفيللات الأغنياء، ومعظمها سكنا للملذات.
توقفت السيارة عند مزلقان فيكتوريا المغلق لمرور قطار أبو قير، وأشار نظمي إلى الشيخين الفيل وسيف اللذين أسرعا إلى التاكسي، ركب سيف بجوار نظمي، وانحشر الفيل بجوار النسوة الثلاث. كان نظمي مهذبا في الحديث معهما، لا يخاطبهما إلا بلقب: "فضيلتك".
نظر سيف خلفه وداعب نوال، أعاد عليها ما يذكره لها كلما قابلها: سأجعل زوجك ينظر خلفه وهو سائر من شدة الخوف منك، وسأجعله يحدث نفسه.
وهي اكتفت بابتسامة مغتصبة. وتابعت ما يحدث في ضيق، لدرجة أنها كانت تزفر من وقت لآخر. وشوقية لم تعلق بشيء.
فيللا التاجر الكبير في السيوف
أشار نظمي إلى فيللا كبيرة حولها خواء، توقف التاكسي، ونزل نظمي بعد أن حاسب السائق. وتحدث الفيل مع سيف وضحكا وهما يتابعان النسوة الثلاث. لقد أعجبا بجمال شوقية، واختلفا من الذي سيبدأ معها. جاء نظمي، أسرع إلى الشيخين معتذرا لتأخره وهو يحاسب سائق التاكسي.
ودخلا الباب الحديدي الكبير المفتوح، ساروا جميعا في دخلة محاطة بالشجيرات القصيرة، فواجههم بابا كبيرا مضاءً من الداخل. دقه نظمي في خفة، ففتحه شاب يلبس بيجامة كان قريبا منه، وتبعه آخر أكبر منه سنا، كان يرتدي بيجامة قريبة من لون بيجامة أخيه.
- أهلا بكم.
تراجعت نوال دسوقي. الله يلعن هذه الأيام التي الجأتها إلى موقف قذر مثل هذا، لو كانت قتلت زوجها؛ لكان أهون مما يحدث. وترددت رشيدة ثم دخلت. وواضح أن الشيخين يبديان اهتماما خاصا بشوقية التي دخلت صامتة؛ تتابع المكان برهبة. قال نظمي للشابين: والدكما موجود في الإسكندرية؟
قال أحدهما وهو يتابع النسوة الثلاث في اهتمام:
- في البيت الثاني.
لقد جاء الشيخان كثيرا إلى هذا المكان، أحيانا لمقابلة صاحبه التاجر المشهور، لكن الجلسة تكون قاصرة على تدخين الحشيش وشرب الخمر، لكن ولداه يشتركان في السهرات التي تحليها النساء، دون علم والدهما. نظمي يتصل بهما ويوضب كل شيء.
يسكن التاجر الكبير في بيت كبير في شارع فرنسا، وهذه الفيللا لملذاته، ويأتيها الولدان أحيانا بحجة المذاكرة، غير هذا فالفيللا مغلقة ومهجورة معظم الوقت.
لقد جاءاها الولدان منذ نصف ساعة – لا أكثر – لإعداد الجلسة، اشتريا الحشيش والخمر، فكل اللوازم على حسابهما الخاص – هذا هو الاتفاق مع نظمي – مقابل الاستمتاع بجسد النساء اللاتي يأتي بهن في كل مرة.
جلس الشيخان على المقاعد الخرزانية الواسعة، وأخذا يتحركان بهما حركات رتيبة فأحسا بسعادة غامرة، وكادت النسوة الثلات أن يهربن من المكان الموحش، إنهن يشتركن في هذه المغامرة لأول مرة. بكت نوال الدسوقي، ومسحت دموعها خشية أن تغضب الشيخين فيحكما عليها بأحكام تذلها أمام أعدائها، أقارب زوجها.
قدم نظمي الأشياء التي اشتراها ولدا التاجر الكبير: اللحوم والأسماك والكبد، والفاكهة. يدعي نظمي أمام الشيخين أنه يدفع ثمن هذه الأشياء من جيبه الخاص حبا فيهما، ويدعي أمام محامية أن الجلسة تكلفت كذا. ويدفع المحامي مقابل أن يكسب كل القضايا المقدمة أمام الشيخين.
كانت النسوة وكأنهن في انتظار استجواب في قسم البوليس، ترتعش أجسادهن. مد الشيخ الفيل يده نحو ظهر شوقية، أراد أن يخطفها من زميله، لكنها تباعدت وهي تبتسم. ومد الشيخ سيف يده نحو يد نوال الدسوقي، فأبعدتها قائلة:
- انتظر حتى استرد أنفاسي.
ضحك الرجال جمعيا وكأنها قالت نكتة، وأشعل نظمي الفحم في مدفأة فخارية، وأخذ ينفخ فيها حتي أحمر وجهه، وكاد شاربه أن يحترق عندما هبت النار فجأة. فضحك الرجال. أحس سيف بأن الفيل لن يترك له شوقية، فركز على الأقل منها جمالا – نوال الدسوقي- أما رشيدة فهي كبيرة في السن، وكان زوجها محقا عندما تركها وغوي غيرها. لكنها قد تنفع ولدا من ولدي التاجر الكبير. أما نظمي فهو لا يشترك إلا في تدخين الحشيش وشرب الخمر وأكل المزات طوال الليل.
وضع سيف ذراعه حول رقبة نوال، وهمس في أذنها:
- سأحكم لك من أول جلسة، وزوجك الذي عذبك؛ سأعذبه.
لانت المرأة، وتركته يداعب صدرها. عندما أراد أن يمد يده نحو أشياء أخرى، قالت:
- ليس أمام الناس.
ضحك، وأمر نظمي بإعداد حجرة لهما.
حمل نظمي مرتبة من فوق أحد الأسرة ورماها على أرض حجرة مجاورة، وفرشها بملاءة ذات خطوط خضراء، فسار بها سيف ممسكا بوسط نوال، ورماها في عنف فوق المرتبة، لم تكن سعيدة، وكان قلبها يدق في عنف، لكن ما فعله زوجها هو وأخواته معها يستحق أن تضحي بكل شيء.
سمع الولدان أصواتا غريبة فوق سطح الفيللا، أرادا أن يتحدثا في هذا، لكن الأصوات ضاعت، وانشغلا بالأشياء المسلية أمامهما. وفجأة دخلت القوات المكان دون أن تدق بابا. دخلوا من النوافذ المفتوحة لتُخرج دخان الحشيش. كانت مصيبة. الشيخ الفيل لم يفعل شيئا سوى أن لمس ظهر شوقية التي كانت تتابع الأشياء في صمت وقلق؛ تنتظر القوات التي اتفقت معها على الهجوم. ورشيدة أكلت كثيرا، فهي منذ سنوات لم تذق هذه الفواكه، ولم تذق هذه الأنواع من الأسماك.
كان سيف مشغولا بجسد نوال، ظن ما يحدث في الخارج ضجة يحدثها الشابان، من تأثير الخمر والحشيش، وجد الرتب الكبيرة، العقيد عبدالقادر محمود، الرائد علي لطفي، النقيب محمد توفيق، ومجموعة من رجال البوليس لحفظ النظام.
التحقيق
تم القبض على الجميع بما فيهم شفيقة شاكر (المُبلغة) ونقلوا بسيارت البوليس إلى نقطة بوليس المنتزة.
أسرع المحامي العام بالاتصال تليفونيا بوزير العدل الذي تولى بنفسه إخطار القيادة السياسية ليتخذ مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبدالناصر قرارا في الواقعة. هل تتم إحالتها إلى القضاء العسكري لمحاكمة المتهمين، أم أن هناك اتجاها آخر؟
يقرأ جمال عبدالناصر تفاصيل الواقعة المذهلة، ويدور الحديث في مجلس قيادة الثورة، يرى عبدالناصر الاكتفاء بأن يقدم القاضيان استقالتهما، خاصة أنهما من عائلات كبيرة، فالشيخ الفيل من أسرة شهيرة بمحافظة البحيرة تنحدر من الأشراف بالسعودية، وهي من نسل الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، وتضم أكثر من ثلاثين ألف مواطن مصري، وفيهم ثلاثون على الأقل من الأسرة القضائية وصلوا لأعلى المناصب كرؤساء لمحاكم الاستئناف والجنايات.
لكن مصطفى أمين وصحافة أخبار اليوم التي كانت سباقة في كشف الأسرار مهما كانت توابع المغامرة الصحفية. نشرت الجريدة تحت عنوان 'قضية العصر' تفاصيل ما جرى في فيللا السيوف وهكذا أصبحت القضية علي كل لسان. وكان باعة الصحف يملأون الشوارع صياحا: اقرا حادثة القاضي بتاع النسوان.
واضطر جمال عبدالناصر إلى التراجع عن قراره السابق ويأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة.
المحاكمة
في الجلسة الأولى التي كانت علنية اكتظت قاعة المحكمة بالحضور بصورة لم تحدث من قبل. وعندما صاح الحاجب قائلا: "محكمة"؛ هبّ الجلوس وقوفا، ودخلت هيئة المحكمة، المستشارون: رئيس الجلسة ثم عضو اليمين فعضو اليسار وتبعهم أعضاء النيابة، الوكيل الأول الذي حقق الواقعة ثم وكيلان للنيابة، والكل يرتدي الردنجوت الأسود ويضع الوسام المخصص له، وهو باللون الأخضر للمحكمة واللونين الأخضر والأحمر للنيابة.
بعد ثوان، مرت بطيئة ثقيلة، قال الرئيس:
- فُتحت الجلسة.
كان الشيخ الفيل حزينا مهموما، بينما الشيخ سيف مبتسما ابتسامة تشي باللامبالاة. وكانت السيدتان قد ارتدت كل منهما ملاءة سوداء، لا تظهر منها شيئا، بينما قبع وكيل المحامي في ركن بعيد. والشابان - ابنا صاحب الفيللا - يجلسان بجانب وكيل المحامي وقد تغير شكلهما من الهم والأسى. بينما تجلس شفيقة شاكر في الصف الأول مجاورة للمحامين. وزوجها الذي ردها لعصمته منذ أيام؛ يجلس في الصف الثاني سعيدا بزوجته؛ يحدث أخته وأم زوجته.
بعد أن فُتحت الجلسة تلا السكرتير قرار الاتهام بصوت عال، وبعد ذلك طلبت النيابة نظر الدعوى في جلسة سرية مراعاة لحسن الآداب، فأمرت المحكمة بذلك فانفض الجمع.
نُظُرت الدعوى من ثم في جلسات سرية بدأت بسؤال المحكمة للمتهمين عن التهم المنسوبة إليهم، فأنكر القاضيان الاتهام بكل بنوده، لكنه كان رفضا مرسلا، لأنهما- كلاهما أو أحدهما- لم يبين السبب في وجوده في مكان الضبط، ومع سيدات لهن قضايا تنظر أمامهما، ومضاجعة الشيخ سيف لواحدة منهن، وسبب وجود وكيل المحامي، وزجاجات الخمر وأدوات تدخين الحشيش، وجوهر الحشيش ذاته، ولا رد أحدهما على شهادة الشاهدة – شفيقة شاكر - التي ذكرت تفاصيل دقيقة عما دار حتى الضبط.
وكان اعتراف السيدتين رشيدة فايد ونوال الدسوقي إحكاما لحبل الاتهام على عنقي القاضيين تفصيلا حتى يتمتعن بالإعفاء من العقوبة، ذلك أن قانون العقوبات المصري يعفي من العقوبة الراشي إذا ما اعترف أمام المحكمة بواقعة الرشوة، لأن قصد المشرع من التأثيم عقاب الموظف المرتشي.
كانت شهادات رجال البوليس مثماثلة، زاد فيها ما ذكره العقيد عبدالقادر محمود من أنه شمّ رائحة السائل الذي كان على الملاءة، ولما تبين أنه سائل منوي تحفظ على الملاءة ضمن أدلة الدعوى. وجاء في اعتراف السيدة نوال الدسوقي أن القاضي عبدالرحمن سيف قد ضاجعها قبل أن يحدث الضبط.
وأفاضت الشاهدة – شفيقة شاكر - بما دار في "القعدة" من حديث ومن تعليقات الشيخ سيف التي كان يضحك من ترديدها وهو في قفص الاتهام.
بدأت المرافعات بالنيابة العامة تؤكد الاتهام وتثبته بالأدلة القاطعة، وتبين التفسير الصحيح لمواد الاتهام، وتلا النيابة دفاع المتهمين الذي كان تحصيل حاصل.
الحكم
صدر الحكم الذي نطق به المستشار البهنساوي وجاء كالآتي:
الأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة ألفي جنيه للشيخ عبدالقادر الفيل رئيس محكمة المنشية الشرعية. وبراءته من تهمة الزنا!
الأشغال الشاقة المؤبدة للشيخ عبدالفتاح سيف وكيل المحكمة وغرامة ألفي جنيه.
السجن خمس سنوات وغرامة خمسائة جنيه لكل من الشابين أصحاب الفيلا.
السجن 7 سنوات وغرامة 500 جنيه لوكيل المحامي الشرعي.
براءة جميع النساء!
مصطفى نصر ـ الإسكندرية