الملف الطائفى ساخن، ويحتاج إلى تبريد عاجل. لم تنته المساجلات الطائفية طيلة السنوات الماضية، لكنها ازدادت تركزا، واشتعالا منذ يوليو الماضى، واستمرت فى التصاعد، وحملت أبعادا غير مألوفة، مما يستوجب تدخلا حكوميا سريعا.
المشكلة ليست فى وجود مشاعر أو حتى مشاحنات طائفية، ولكن فى شيوع حالة من الاحتقان المتبادل بين المسيحيين والمسلمين، تجد من يغذيها على الطرفين، مما قد يؤدى إلى حدوث انفلات هنا أو هناك، أو ردود فعل انتفاضية عشوائية تتزامن مع مناخ سياسى ملتبس، وانتخابات قادمة استبقها بعض المرشحين بتمهيد نيرانى، وأوضاع اقتصادية تزداد تعقيدا يوما بعد يوم.
(1)
البداية كانت فى يوليو الماضى عندما تظاهر الأقباط لخمسة أيام متتالية فى صحن الكاتدرائية مطالبين بعودة السيدة كاميليا شحاتة زوجة قس فى دير مواس بدعوى تعرضها للاختطاف. وبعد أن عثرت أجهزة الأمن على السيدة المذكورة، قيل إنها كانت طرف أحد أقاربها إثر خلاف عائلى مع زوجها. مرت أيام، ولم تعد كاميليا شحاتة إلى بيت زوجها أو إلى بيت أسرتها أو حتى تظهر فى المجتمع كامرأة عادية.
ظهرت شائعات على الجانب الإسلامى تقول إن زوجة القس سعت إلى التحول إلى الإسلام، لكن أجهزة الأمن ألقت القبض عليها، وسلمتها إلى الكنيسة. واندلعت المظاهرات إثر ذلك فى مساجد مختلفة من النور إلى الفتح ثم إلى جامع عمرو بن العاص، وانتقلت إلى مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية. ورفع المتظاهرون، الذين بدا عليهم المظهر السلفى، شعارات تطالب بعودة كاميليا شحاتة «الأسيرة» لدى الأقباط.
اللافت أنه فى مظاهرات الأقباط والمسلمين رفعت لافتات شملت مصطلحات تبدو جديدة على العلاقات الإسلامية ــ المسيحية، وهى أقرب إلى ما يسمى فى الاجتماع السياسى نمط «المافيا» فى النظر إلى الظواهر Mafia Style، مثل «خطف، أسر، أسيرات، الإرهابية، العصابة، إكراه، السجن...إلخ»، وتقدم محامون ببلاغ للنائب العام يطالبون فيه بتفتيش الأديرة والكنائس بحثا عن السيدات المسلمات المتحفظ عليهن.
وقبل انقضاء شهر رمضان، والتهديد بمظاهرة مليونية تصل إلى الكاتدرائية ظهرت السيدة كاميليا شحاتة فى شريط مسجل بثته مواقع الكترونية، أعلنت فيه مسيحيتها، ونفت شائعات تحولها إلى الإسلام.
(2)
القضية التى تطفو على السطح هى «كاميليا شحاتة»، ولكن باطن العلاقات الإسلامية ــ المسيحية فى حالة غليان. هناك استمرار فى وجود هموم يعانى منها الأقباط، بعضها يمتد لقرن أو أكثر، أبرزها مسألة بناء وترميم الكنائس، وشغل المواقع القيادية فى بعض مؤسسات الدولة، والتمثيل السياسى المناسب فى المجالس المنتخبة، برلمانيا ومحليا، نقابيا وأهليا، ووجود أطروحات إسلامية تنال من حقهم فى المواطنة المتساوية من خلال أحياء مفاهيم الذمية، وما شابه. وهناك على الجانب الإسلامى شعور بأن الأقباط فى حالة «استقواء»، وقد تحولت الكنيسة إلى «دولة داخل الدولة».
شائعات تنتشر على الجانبين، وساعد الإنترنت على إعادة إنتاجها، وتداولها على نطاق واسع، وبلغت حدا خطيرا لم يعد الصمت مجديا معه. إذ بالإضافة إلى الشائعات التى تتحدث عن الأسلمة والتنصير أعاد البعض طرح قضايا لا معنى لها سوى إضافة مزيد من الزيت على النار. مثال على ذلك القول بأن الأقباط مواطنون أصليون، والمسلمون وافدون، أو أن الكنائس والأديرة بها مخازن للأسلحة، أو ترديد شائعات بأن الكنيسة لديها خطة لتقسيم مصر إلى دولة قبطية فى الجنوب، وأخرى مسلمة فى الشمال. هذه التصريحات ألفناها فى نهاية السبعينيات من القرن العشرين فى أواخر حكم الرئيس السادات.
اليوم يعاد إنتاجها، وإحياء المناخ السلبى الذى أحاط بها.
ولعل الأكثر خطورة فيما يجرى دعاوى مقاطعة الأقباط اقتصاديا واجتماعيا التى تنتشر على الانترنت، وتدعمها جبهة علماء الأزهر، التى قام الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الراحل، بحلها، ومنذ ذلك الحين تفرغت لإشاعة مناخ من التزمت، والتشدد، والتعصب فى الحياة العامة، ليس فقط فى العلاقات الإسلامية المسيحية.
وتظهر هذه الدعوة على مواقع الانترنت، والرسائل التى تتداول عبر البريد الإلكترونى من مقاطعة الشركات المملوكة لأقباط، واستعراض أسماء منتجاتها، وتقديم بدائل استهلاكية أخرى.
هناك فتاوى دينية تحرم هذا النوع من المقاطعة، ولكن فى ضوء الشحن الطائفى المتكرر فإن العيون تغلق، والآذان تصم، ويصبح صوت العقل خافتا أمام صحوة الغرائز الطائفية.
(3)
رغم كل ما يجرى ويحدث، تظهر الحكومة فى واد، والناس فى واد آخر. لم نجد مسئولا حكوميا تصدى لما يجرى من تصعيد طائفى بالنقد والتفنيد.مجلس الشعب لم يتحرك. ومجلس الوزراء لم يهتم، باستثناء وزارة الداخلية التى تحمل على عاتقها إدارة الملف منذ سنوات فى غيبة كاملة للمؤسسات السياسية.
ولم يظهر صوت للمؤسسات صاحبة الولاية على الإعلام. رغم كل ما يكتب من تحريض طائفى، ظاهر ومستبطن لم يصدر تقرير واحد عن المجلس الأعلى للصحافة ينتقد أداء الصحف، وهو المجلس الذى لا يكل ولا يمل عن نقد أداء الصحف إذا خلطت بين الإعلان والتحرير، أو نشرت أخبارا مجهلة.
ولم يحدث أن حاسبت أو حتى نصحت نقابة الصحفيين أعضاءها بالكف عن الإثارة الطائفية.
وهكذا فإن الملف الدينى فى المجتمع المصرى بلا صاحب. بمعنى أن الكل يتحدث فيه، ويعتبره مرتعا للمساجلات والشائعات دون أن تأخذ جهة مرجعية على عاتقها مسئولية تصحيح الأفكار، وإزالة المخاوف. من الملفت أن مؤسسات الدولة لم يعد يعنيها ــ بدرجات متفاوتة ــ هذا الملف، وهناك من يرى أنها تريد تمديد هذه الحالة المحتقنة.
لا أظن ذلك، ولكن ما تفسير عدم التدخل الحكومى لوقف ما يجرى من شحن طائفى منظم؟
المشكلة ليست فى وجود مشاعر أو حتى مشاحنات طائفية، ولكن فى شيوع حالة من الاحتقان المتبادل بين المسيحيين والمسلمين، تجد من يغذيها على الطرفين، مما قد يؤدى إلى حدوث انفلات هنا أو هناك، أو ردود فعل انتفاضية عشوائية تتزامن مع مناخ سياسى ملتبس، وانتخابات قادمة استبقها بعض المرشحين بتمهيد نيرانى، وأوضاع اقتصادية تزداد تعقيدا يوما بعد يوم.
(1)
البداية كانت فى يوليو الماضى عندما تظاهر الأقباط لخمسة أيام متتالية فى صحن الكاتدرائية مطالبين بعودة السيدة كاميليا شحاتة زوجة قس فى دير مواس بدعوى تعرضها للاختطاف. وبعد أن عثرت أجهزة الأمن على السيدة المذكورة، قيل إنها كانت طرف أحد أقاربها إثر خلاف عائلى مع زوجها. مرت أيام، ولم تعد كاميليا شحاتة إلى بيت زوجها أو إلى بيت أسرتها أو حتى تظهر فى المجتمع كامرأة عادية.
ظهرت شائعات على الجانب الإسلامى تقول إن زوجة القس سعت إلى التحول إلى الإسلام، لكن أجهزة الأمن ألقت القبض عليها، وسلمتها إلى الكنيسة. واندلعت المظاهرات إثر ذلك فى مساجد مختلفة من النور إلى الفتح ثم إلى جامع عمرو بن العاص، وانتقلت إلى مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية. ورفع المتظاهرون، الذين بدا عليهم المظهر السلفى، شعارات تطالب بعودة كاميليا شحاتة «الأسيرة» لدى الأقباط.
اللافت أنه فى مظاهرات الأقباط والمسلمين رفعت لافتات شملت مصطلحات تبدو جديدة على العلاقات الإسلامية ــ المسيحية، وهى أقرب إلى ما يسمى فى الاجتماع السياسى نمط «المافيا» فى النظر إلى الظواهر Mafia Style، مثل «خطف، أسر، أسيرات، الإرهابية، العصابة، إكراه، السجن...إلخ»، وتقدم محامون ببلاغ للنائب العام يطالبون فيه بتفتيش الأديرة والكنائس بحثا عن السيدات المسلمات المتحفظ عليهن.
وقبل انقضاء شهر رمضان، والتهديد بمظاهرة مليونية تصل إلى الكاتدرائية ظهرت السيدة كاميليا شحاتة فى شريط مسجل بثته مواقع الكترونية، أعلنت فيه مسيحيتها، ونفت شائعات تحولها إلى الإسلام.
(2)
القضية التى تطفو على السطح هى «كاميليا شحاتة»، ولكن باطن العلاقات الإسلامية ــ المسيحية فى حالة غليان. هناك استمرار فى وجود هموم يعانى منها الأقباط، بعضها يمتد لقرن أو أكثر، أبرزها مسألة بناء وترميم الكنائس، وشغل المواقع القيادية فى بعض مؤسسات الدولة، والتمثيل السياسى المناسب فى المجالس المنتخبة، برلمانيا ومحليا، نقابيا وأهليا، ووجود أطروحات إسلامية تنال من حقهم فى المواطنة المتساوية من خلال أحياء مفاهيم الذمية، وما شابه. وهناك على الجانب الإسلامى شعور بأن الأقباط فى حالة «استقواء»، وقد تحولت الكنيسة إلى «دولة داخل الدولة».
شائعات تنتشر على الجانبين، وساعد الإنترنت على إعادة إنتاجها، وتداولها على نطاق واسع، وبلغت حدا خطيرا لم يعد الصمت مجديا معه. إذ بالإضافة إلى الشائعات التى تتحدث عن الأسلمة والتنصير أعاد البعض طرح قضايا لا معنى لها سوى إضافة مزيد من الزيت على النار. مثال على ذلك القول بأن الأقباط مواطنون أصليون، والمسلمون وافدون، أو أن الكنائس والأديرة بها مخازن للأسلحة، أو ترديد شائعات بأن الكنيسة لديها خطة لتقسيم مصر إلى دولة قبطية فى الجنوب، وأخرى مسلمة فى الشمال. هذه التصريحات ألفناها فى نهاية السبعينيات من القرن العشرين فى أواخر حكم الرئيس السادات.
اليوم يعاد إنتاجها، وإحياء المناخ السلبى الذى أحاط بها.
ولعل الأكثر خطورة فيما يجرى دعاوى مقاطعة الأقباط اقتصاديا واجتماعيا التى تنتشر على الانترنت، وتدعمها جبهة علماء الأزهر، التى قام الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الراحل، بحلها، ومنذ ذلك الحين تفرغت لإشاعة مناخ من التزمت، والتشدد، والتعصب فى الحياة العامة، ليس فقط فى العلاقات الإسلامية المسيحية.
وتظهر هذه الدعوة على مواقع الانترنت، والرسائل التى تتداول عبر البريد الإلكترونى من مقاطعة الشركات المملوكة لأقباط، واستعراض أسماء منتجاتها، وتقديم بدائل استهلاكية أخرى.
هناك فتاوى دينية تحرم هذا النوع من المقاطعة، ولكن فى ضوء الشحن الطائفى المتكرر فإن العيون تغلق، والآذان تصم، ويصبح صوت العقل خافتا أمام صحوة الغرائز الطائفية.
(3)
رغم كل ما يجرى ويحدث، تظهر الحكومة فى واد، والناس فى واد آخر. لم نجد مسئولا حكوميا تصدى لما يجرى من تصعيد طائفى بالنقد والتفنيد.مجلس الشعب لم يتحرك. ومجلس الوزراء لم يهتم، باستثناء وزارة الداخلية التى تحمل على عاتقها إدارة الملف منذ سنوات فى غيبة كاملة للمؤسسات السياسية.
ولم يظهر صوت للمؤسسات صاحبة الولاية على الإعلام. رغم كل ما يكتب من تحريض طائفى، ظاهر ومستبطن لم يصدر تقرير واحد عن المجلس الأعلى للصحافة ينتقد أداء الصحف، وهو المجلس الذى لا يكل ولا يمل عن نقد أداء الصحف إذا خلطت بين الإعلان والتحرير، أو نشرت أخبارا مجهلة.
ولم يحدث أن حاسبت أو حتى نصحت نقابة الصحفيين أعضاءها بالكف عن الإثارة الطائفية.
وهكذا فإن الملف الدينى فى المجتمع المصرى بلا صاحب. بمعنى أن الكل يتحدث فيه، ويعتبره مرتعا للمساجلات والشائعات دون أن تأخذ جهة مرجعية على عاتقها مسئولية تصحيح الأفكار، وإزالة المخاوف. من الملفت أن مؤسسات الدولة لم يعد يعنيها ــ بدرجات متفاوتة ــ هذا الملف، وهناك من يرى أنها تريد تمديد هذه الحالة المحتقنة.
لا أظن ذلك، ولكن ما تفسير عدم التدخل الحكومى لوقف ما يجرى من شحن طائفى منظم؟