مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
عدل سابقا من قبل محمد راضى مسعود في السبت أغسطس 01, 2009 2:45 pm عدل 1 مرات