قوام عمل المحامي هو وكالته عن غيره ، فعقد الوكالة هو الرابط بين المحامي وموكله ، وبسبب عدم العلم بأحكام هذا العقد وما يرتبه من حقوق وواجبات متبادلة بين المحامي وموكله تتفاقم المشكلات حتى تصل إلى حد فقدان الثقة والاتهامات المتبادلة بين الطرفين ، وإن كان المحامي هو صاحب النصيب الأوفر من تلك الاتهامات بسبب جهل كثير من المحامين بأحكام عقد الوكالة بصفة عامة وبحقوق الموكل المترتبة على هذا العقد بصفة خاصة وذلك من الوجهة الشرعية ، فتضيع حقوق الموكلين بسبب الجهل تارة وبسبب الاستهانة بعقاب تعمد إضاعتها تارة أو قل تارات كثيرة .
وفي هذا الباب محاولة لتسليط الضوء على هذا العقد وفقًا لمنهجنا العلمي في البحث حيث نبدأ بتعريف الوكالة ، ثم نعرج بسرد أدلة مشروعيتها بصفة عامة وإن كان بحث مشروعية التوكيل بالخصومة قد تقدم في الباب الأول من هذا البحث ، ثم نتابع البحث ببيان أركان هذا العقد ، ثم ببيان حكم الوكالة ، ثم ببيان أحكام انعقاد الوكالة الصحيحة ، ثم نختم البحث ببيان انتهاء الوكالة .
( والوكالة ـ بفتح الواو وقد تكسر ـ التفويض والحفظ ، تقول : وكلت فلانا إذا استحفظته ، ووكلت الأمر إليه بالتخفيف إذا فوضته إليه ، وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا أو مقيدا ) ([1]).
( الوكالة ـ بفتح الواو وكسرها ـ لغة التفويض والحفظ ، وشرعا تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة ليفعله في حياته ) ([2]).
(والحاصل أنها في اللغة بمعنى التوكيل وهو تفويض التصرف إلى الغير ؛ الثاني في معناها اصطلاحا فهي إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم .كذا في العناية ) ([3]).
( والوكالة في اللغة تذكر ويراد بها الحفظ قال الله عز وجل )وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( ([4]) أي الحافظ وقال تبارك وتعالى : )لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ([5]) قال الفراء : أي حفيظا . وتذكر ، ويراد بها الاعتماد وتفويض الأمر قال الله تعالى : )وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ( ([6]) وقال الله تعالى عز وجل خبرا عن سيدنا هود عليه الصلاة والسلام )إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ( ([7]) أي اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه ، وفي الشريعة يستعمل في هذين المعنيين أيضا على تقرير الوضع اللغوي وهو تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل ) ([8]).
تعريفنا المختار للوكالة :
من جملة ما سبق يمكن أن نعرف الوكالة بالآتي :
الوكالة لغة :
التفويض إلى الغير ورد الأمر إليه .
الوكالة اصطلاحا :
إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف معلوم يقبل النيابة ليفعله حال حياته .
الفصل الثاني
في أدلة مشروعية الوكالة
أولا : الأدلة من الكتاب :
قوله تعالى : )فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً(([9]) .
وقوله تعالى : )اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(([10]) .
وقوله تعالى : )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ([11]).
ثانيا : الأدلة من السنة :
عن أبي رافع (( أن رسول الله استسلف ([sup][12])[/sup] من رجل بكرًا ([sup][13])[/sup] فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلا خيًارا([sup][14])[/sup] رباعيًا ([sup][15]) [/sup]. فقال : أعطه إياه ، إن خيار الناس أحسنهم قضاء )) ([16]) .
فهذا توكيل في قضاء الدين .
وعن زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما عن النبي قال : (( واغد يا أنيس ، اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) ([17]).
وهذا توكيل في التحقق والتثبت من وقوع الجريمة ، ثم توكيل في إقامة الحد في حال ثبوت وقوعها .
وعن علي قال : (( بعثني النبي فقمت على البُدْن ([sup][18])[/sup] فأمرني فقسمت لحومها ، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها )) ([19]).
وهذا توكيل فيما ذكر من القيام على نحر البدن ثم قسمتها .
وعن عقبة بن عامر : (( أن النبي أعطاه غنما يقسمها على صحابته، فبقي عتود ([sup][20])[/sup] ، فذكره للنبي فقال: ضح به أنت )) ([21]).
وهذا توكيل في القسمة .
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (( أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب ([sup][22]) [/sup]فقال رسول الله : أكل تمر خيبر هكذا . قال : لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله : لا تفعل بع الجمع ([sup][23]) [/sup]بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا )) ([24]).
وهذه وكالة بالصرف والميزان .
وعن سهل بن سعد قال : (( جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ، إني قد وهبت لك من نفسي . فقال رجل : زوجنيها . قال: (قد زوجناكها بما معك من القرآن) )) ([25]).
وهذه وكالة من المرأة للإمام في النكاح .
وعن أبي هريرة قال: (( وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله . قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة . قال : فخليت عنه ، فأصبحت فقال النبي : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قال : قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة ، وعيالا فرحمته فخليت سبيله . قال: (أما إنه قد كذبك ، وسيعود) فعرفت أنه سيعود ، لقول رسول الله : (إنه سيعود) فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله . قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود . فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك ؟ ) قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخليت سبيله ، قال: (أما إنه كذبك ، وسيعود) فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله ، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ، ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت : ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي : (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله : (ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله . قال : (ما هي ؟ ) قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم ـ (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ـ وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي : (أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ) قال : لا ، قال : (ذاك شيطان) )) ([26]).
وهذه وكاله بالحفظ والرعاية .
وعن أنس بن مالك قال : (( كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ([sup][27])[/sup] ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت ، فقال: (بخ ([sup][28])[/sup] ، ذلك مال رائح ، ذلك مال رائح ، قد سمعت ما قلت فيها ، وأرى أن تجعلها في الأقربين) قال: أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه )) ([29]) وفي رواية (رابح) بدلاً من (رائح).
فقوله ( فضعها يا رسول الله حيث شئت ) توكيل من أبي طلحة لرسول الله بالتصرف.
والأحاديث الدالة على مشروعية الوكالة كثيرة ونكتفي منها بهذا القدر .
قال محمد بن على الشوكاني : ( أما كون الوكالة تجوز في كل شيء فلأنه قد ثبت منه التوكيل في قضاء الدين ، كما في حديث أبي رافع أنه أمره أن يقضي الرجل بكره (*) ، وقد تقدم وثبت عنه التوكيل في استيفاء الحد كما في حديث (( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) (*) وهو في الصحيح ... ، وثبت عنه التوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها وجلودها وهو في الصحيح (*) ، وثبت عنه التوكيل في حفظ زكاة رمضان كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة (*) ، وثبت عنه أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه وقد تقدم في الضحايا وثبت عنه أنه وكل أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة وقد تقدم ، وثبت عنه أنه قال لجابر : (( إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا )) ([30]) كما أخرجه أبو داود والدارقطني وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللا للثمن لما ثبت عنه (( أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه )) (*) وقد تقدم وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا ستة معلقة والباقية موصولة .
وعن عروة بن أبي الجعد البارقي (( أن النبي أعطاه دينارا ليشتري به له شاة فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه )) ([31]) رواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وهذا توكيل بالشراء ) ([32]).
وقال ابن حزم الظاهري : ( كتاب الوكالة والتذكية وطلب الحقوق وإعطائها وأخذ القصاص في النفس فما دونها وتبليغ الإنكاح والبيع والشراء والإجارة والاستئجار كل ذلك من الحاضر والغائب سواء ، ومن المريض والصحيح سواء ، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل إلا أن يبرىء صاحب الحق من حقه ، برهان ذلك بعثة رسول الله الولاة لإقامة الحدود والحقوق على الناس ولأخذ الصدقات وتفريقها ، وقد كان بلال على نفقات رسول الله وقد كان له نظار على أرضه بخيبر وفدك ) ([33]).
ثالثا : الدليل من الإجماع عل مشروعية الوكالة :
( وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على جواز التوكيل ؛ لأن بالناس حاجة إليه ولأن من الناس من لا يتمكن من فعل ما يحتاج إليه بنفسه ، إما لقلة معرفته بذلك أو لكثرته أو لأنه يتنزه عن ذلك فجاز التوكيل ) ([34]).
وكذا نقل الإجماع على مشروعيتها أبو يحي زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري ([35]) ومحمد بن على الشوكاني ([36]) ومنصور بن يونس بن إدريس البهوتي ([37]).
للوكالة أربعة أركان نص عليها الفقهاء وهى :
أولاً : ما فيه التوكيل أو محل التوكيل .
وثانياً : الموكل وهو من يصدر عنه التوكيل .
وثالثاً : الوكيل وهو من صدر له التوكيل .
ورابعاً : الصيغة ويقصد بها الإيجاب والقبول .
وتفصيل تلك الأركان على النحو الآتي :
أولاً : ما فيه التوكيل ( محل عقد الوكالة )
ما فيه التوكيل وهو محل العقد له شروط وهي
1. الشرط الأول : أن يكون مملوكًا للموكل
فلو وكله في طلاق من سينكحها ، أو قضاء دين سيلزمه ، أو تزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها ، أو بيع عقار أو منقول لا يملكه وما أشبه ذلك لم يصح على الأصح .
2. الشرط الثاني : أن يكون قابلا للنيابة : -
والذي يقبل النيابة أنواع منها العبادات ، والأصل امتناع النيابة فيها ، ويستثنى الحج والزكاة والكفارات والصدقات وذبح الهدي والأضحية ، وفي صوم الولي عن الميت خلاف ، وألحق بالعبادات الشهادات والأيمان ، ومن الأيمان الإيلاء واللعان والقسامة فلا يصح التوكيل في شيء منها قطعا ، ولا في الظهار على الأصح ، وفي معنى الأيمان النذور وتعليق الطلاق والعتق .
ومنها المعاملات فيجوز التوكيل في طرفي البيع بأنواعه كالسلم والصرف والتولية وغيرها ، وفي الرهن والهبة والصلح والإبراء والحوالة والضمان والكفالة والشركة والمضاربة والإجارة والجعالة والمساقاة والإيداع والإعارة والأخذ بالشفعة والوقف والوصية وقبولها ، وفي وجه شاذ لا يجوز التوكيل في الوصية لأنها قربة ، ويجوز التوكيل في طرفي عقد النكاح والخلع وفي تنجيز الطلاق ، ويجوز في الرجعة على الأصح ، ويجوز التوكيل في قبض الأموال وفي قبض الديون وإقباضها ([38]).
ويجوز التوكيل في الخصومة وهو في الأصل محل هذا البحث وقد سبق .
الشرط الثالث : أن يكون ما وكل فيه معلوما من بعض الوجوه بحيث لا يجهل أو يسهل علمه :
( قال إمام الحرمين والغزالي : لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير . فباطلة ، وإن ذكر الأمور المتعلقة به مفصلة فقال : وكلتك في بيع أملاكي وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي . صح توكيله ولو قال : وكلتك في كل أمر هو إلي مما يقبل التوكيل . ولم يفصل أجناس التصرفات فوجهان أصحهما البطلان ، وأما طريقة سائر الأصحاب فقالوا لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير ، أو في كل أموري ، أو في جميع حقوقي ، أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء ، أو أنت وكيلي فتصرف في مالي كيف شئت . لم تصح الوكالة ، قالوا : ولو قال : وكلتك في بيع أموالي ، أو استيفاء ديوني ، أو استرداد ودائعي ، أو إعتاق عبيدي . صحت وهذه الطريقة هي الصحيحة نقلا ومعنى ، وقد نص عليها الشافعي ، وأما الوكالة الخاصة ففيها صور : إحداها لو وكله في بيع جميع أمواله أو قضاء ديونه واستيفائها صح قطعا ، ولا يشترط كون أمواله معلومة على الصحيح ، وكلامالبغوي يقتضي اشتراطه ، وفي فتاوى القفال لو قال : وكلتك في استيفاء ديوني على الناس . جاز ) ([sup][39][/sup]).
وفي هذا الباب محاولة لتسليط الضوء على هذا العقد وفقًا لمنهجنا العلمي في البحث حيث نبدأ بتعريف الوكالة ، ثم نعرج بسرد أدلة مشروعيتها بصفة عامة وإن كان بحث مشروعية التوكيل بالخصومة قد تقدم في الباب الأول من هذا البحث ، ثم نتابع البحث ببيان أركان هذا العقد ، ثم ببيان حكم الوكالة ، ثم ببيان أحكام انعقاد الوكالة الصحيحة ، ثم نختم البحث ببيان انتهاء الوكالة .
الفصل الأول
في تعريف الوكالة
في تعريف الوكالة
( والوكالة ـ بفتح الواو وقد تكسر ـ التفويض والحفظ ، تقول : وكلت فلانا إذا استحفظته ، ووكلت الأمر إليه بالتخفيف إذا فوضته إليه ، وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا أو مقيدا ) ([1]).
( الوكالة ـ بفتح الواو وكسرها ـ لغة التفويض والحفظ ، وشرعا تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة ليفعله في حياته ) ([2]).
(والحاصل أنها في اللغة بمعنى التوكيل وهو تفويض التصرف إلى الغير ؛ الثاني في معناها اصطلاحا فهي إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم .كذا في العناية ) ([3]).
( والوكالة في اللغة تذكر ويراد بها الحفظ قال الله عز وجل )وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( ([4]) أي الحافظ وقال تبارك وتعالى : )لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ([5]) قال الفراء : أي حفيظا . وتذكر ، ويراد بها الاعتماد وتفويض الأمر قال الله تعالى : )وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ( ([6]) وقال الله تعالى عز وجل خبرا عن سيدنا هود عليه الصلاة والسلام )إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ( ([7]) أي اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه ، وفي الشريعة يستعمل في هذين المعنيين أيضا على تقرير الوضع اللغوي وهو تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل ) ([8]).
تعريفنا المختار للوكالة :
من جملة ما سبق يمكن أن نعرف الوكالة بالآتي :
الوكالة لغة :
التفويض إلى الغير ورد الأمر إليه .
الوكالة اصطلاحا :
إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف معلوم يقبل النيابة ليفعله حال حياته .
الفصل الثاني
في أدلة مشروعية الوكالة
أولا : الأدلة من الكتاب :
قوله تعالى : )فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً(([9]) .
وقوله تعالى : )اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(([10]) .
وقوله تعالى : )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ([11]).
ثانيا : الأدلة من السنة :
عن أبي رافع (( أن رسول الله استسلف ([sup][12])[/sup] من رجل بكرًا ([sup][13])[/sup] فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلا خيًارا([sup][14])[/sup] رباعيًا ([sup][15]) [/sup]. فقال : أعطه إياه ، إن خيار الناس أحسنهم قضاء )) ([16]) .
فهذا توكيل في قضاء الدين .
وعن زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما عن النبي قال : (( واغد يا أنيس ، اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) ([17]).
وهذا توكيل في التحقق والتثبت من وقوع الجريمة ، ثم توكيل في إقامة الحد في حال ثبوت وقوعها .
وعن علي قال : (( بعثني النبي فقمت على البُدْن ([sup][18])[/sup] فأمرني فقسمت لحومها ، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها )) ([19]).
وهذا توكيل فيما ذكر من القيام على نحر البدن ثم قسمتها .
وعن عقبة بن عامر : (( أن النبي أعطاه غنما يقسمها على صحابته، فبقي عتود ([sup][20])[/sup] ، فذكره للنبي فقال: ضح به أنت )) ([21]).
وهذا توكيل في القسمة .
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (( أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب ([sup][22]) [/sup]فقال رسول الله : أكل تمر خيبر هكذا . قال : لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله : لا تفعل بع الجمع ([sup][23]) [/sup]بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا )) ([24]).
وهذه وكالة بالصرف والميزان .
وعن سهل بن سعد قال : (( جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ، إني قد وهبت لك من نفسي . فقال رجل : زوجنيها . قال: (قد زوجناكها بما معك من القرآن) )) ([25]).
وهذه وكالة من المرأة للإمام في النكاح .
وعن أبي هريرة قال: (( وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله . قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة . قال : فخليت عنه ، فأصبحت فقال النبي : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قال : قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة ، وعيالا فرحمته فخليت سبيله . قال: (أما إنه قد كذبك ، وسيعود) فعرفت أنه سيعود ، لقول رسول الله : (إنه سيعود) فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله . قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود . فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك ؟ ) قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخليت سبيله ، قال: (أما إنه كذبك ، وسيعود) فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله ، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ، ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت : ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي : (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله : (ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله . قال : (ما هي ؟ ) قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم ـ (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ـ وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي : (أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ) قال : لا ، قال : (ذاك شيطان) )) ([26]).
وهذه وكاله بالحفظ والرعاية .
وعن أنس بن مالك قال : (( كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ([sup][27])[/sup] ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت ، فقال: (بخ ([sup][28])[/sup] ، ذلك مال رائح ، ذلك مال رائح ، قد سمعت ما قلت فيها ، وأرى أن تجعلها في الأقربين) قال: أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه )) ([29]) وفي رواية (رابح) بدلاً من (رائح).
فقوله ( فضعها يا رسول الله حيث شئت ) توكيل من أبي طلحة لرسول الله بالتصرف.
والأحاديث الدالة على مشروعية الوكالة كثيرة ونكتفي منها بهذا القدر .
قال محمد بن على الشوكاني : ( أما كون الوكالة تجوز في كل شيء فلأنه قد ثبت منه التوكيل في قضاء الدين ، كما في حديث أبي رافع أنه أمره أن يقضي الرجل بكره (*) ، وقد تقدم وثبت عنه التوكيل في استيفاء الحد كما في حديث (( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) (*) وهو في الصحيح ... ، وثبت عنه التوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها وجلودها وهو في الصحيح (*) ، وثبت عنه التوكيل في حفظ زكاة رمضان كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة (*) ، وثبت عنه أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه وقد تقدم في الضحايا وثبت عنه أنه وكل أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة وقد تقدم ، وثبت عنه أنه قال لجابر : (( إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا )) ([30]) كما أخرجه أبو داود والدارقطني وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللا للثمن لما ثبت عنه (( أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه )) (*) وقد تقدم وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا ستة معلقة والباقية موصولة .
وعن عروة بن أبي الجعد البارقي (( أن النبي أعطاه دينارا ليشتري به له شاة فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه )) ([31]) رواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وهذا توكيل بالشراء ) ([32]).
وقال ابن حزم الظاهري : ( كتاب الوكالة والتذكية وطلب الحقوق وإعطائها وأخذ القصاص في النفس فما دونها وتبليغ الإنكاح والبيع والشراء والإجارة والاستئجار كل ذلك من الحاضر والغائب سواء ، ومن المريض والصحيح سواء ، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل إلا أن يبرىء صاحب الحق من حقه ، برهان ذلك بعثة رسول الله الولاة لإقامة الحدود والحقوق على الناس ولأخذ الصدقات وتفريقها ، وقد كان بلال على نفقات رسول الله وقد كان له نظار على أرضه بخيبر وفدك ) ([33]).
ثالثا : الدليل من الإجماع عل مشروعية الوكالة :
( وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على جواز التوكيل ؛ لأن بالناس حاجة إليه ولأن من الناس من لا يتمكن من فعل ما يحتاج إليه بنفسه ، إما لقلة معرفته بذلك أو لكثرته أو لأنه يتنزه عن ذلك فجاز التوكيل ) ([34]).
وكذا نقل الإجماع على مشروعيتها أبو يحي زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري ([35]) ومحمد بن على الشوكاني ([36]) ومنصور بن يونس بن إدريس البهوتي ([37]).
الفصل الثالث
في أركان عقد الوكالة
في أركان عقد الوكالة
للوكالة أربعة أركان نص عليها الفقهاء وهى :
أولاً : ما فيه التوكيل أو محل التوكيل .
وثانياً : الموكل وهو من يصدر عنه التوكيل .
وثالثاً : الوكيل وهو من صدر له التوكيل .
ورابعاً : الصيغة ويقصد بها الإيجاب والقبول .
وتفصيل تلك الأركان على النحو الآتي :
أولاً : ما فيه التوكيل ( محل عقد الوكالة )
ما فيه التوكيل وهو محل العقد له شروط وهي
1. الشرط الأول : أن يكون مملوكًا للموكل
فلو وكله في طلاق من سينكحها ، أو قضاء دين سيلزمه ، أو تزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها ، أو بيع عقار أو منقول لا يملكه وما أشبه ذلك لم يصح على الأصح .
2. الشرط الثاني : أن يكون قابلا للنيابة : -
والذي يقبل النيابة أنواع منها العبادات ، والأصل امتناع النيابة فيها ، ويستثنى الحج والزكاة والكفارات والصدقات وذبح الهدي والأضحية ، وفي صوم الولي عن الميت خلاف ، وألحق بالعبادات الشهادات والأيمان ، ومن الأيمان الإيلاء واللعان والقسامة فلا يصح التوكيل في شيء منها قطعا ، ولا في الظهار على الأصح ، وفي معنى الأيمان النذور وتعليق الطلاق والعتق .
ومنها المعاملات فيجوز التوكيل في طرفي البيع بأنواعه كالسلم والصرف والتولية وغيرها ، وفي الرهن والهبة والصلح والإبراء والحوالة والضمان والكفالة والشركة والمضاربة والإجارة والجعالة والمساقاة والإيداع والإعارة والأخذ بالشفعة والوقف والوصية وقبولها ، وفي وجه شاذ لا يجوز التوكيل في الوصية لأنها قربة ، ويجوز التوكيل في طرفي عقد النكاح والخلع وفي تنجيز الطلاق ، ويجوز في الرجعة على الأصح ، ويجوز التوكيل في قبض الأموال وفي قبض الديون وإقباضها ([38]).
ويجوز التوكيل في الخصومة وهو في الأصل محل هذا البحث وقد سبق .
الشرط الثالث : أن يكون ما وكل فيه معلوما من بعض الوجوه بحيث لا يجهل أو يسهل علمه :
( قال إمام الحرمين والغزالي : لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير . فباطلة ، وإن ذكر الأمور المتعلقة به مفصلة فقال : وكلتك في بيع أملاكي وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي . صح توكيله ولو قال : وكلتك في كل أمر هو إلي مما يقبل التوكيل . ولم يفصل أجناس التصرفات فوجهان أصحهما البطلان ، وأما طريقة سائر الأصحاب فقالوا لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير ، أو في كل أموري ، أو في جميع حقوقي ، أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء ، أو أنت وكيلي فتصرف في مالي كيف شئت . لم تصح الوكالة ، قالوا : ولو قال : وكلتك في بيع أموالي ، أو استيفاء ديوني ، أو استرداد ودائعي ، أو إعتاق عبيدي . صحت وهذه الطريقة هي الصحيحة نقلا ومعنى ، وقد نص عليها الشافعي ، وأما الوكالة الخاصة ففيها صور : إحداها لو وكله في بيع جميع أمواله أو قضاء ديونه واستيفائها صح قطعا ، ولا يشترط كون أمواله معلومة على الصحيح ، وكلامالبغوي يقتضي اشتراطه ، وفي فتاوى القفال لو قال : وكلتك في استيفاء ديوني على الناس . جاز ) ([sup][39][/sup]).