بسم الله الرحمن الرحيم
ربما كانت هذه مسألة المسائل في مشروع هذا القانون، ولذلك استدعت أغلب التعليقات، واقتصر بعضها عليها دون سواها، وقد أورد المشروع النص الخاص بالخلع في مادته رقم (20) بفقراتها الخمس وبادئ ذي بدء أود أن أبيِّن أن الخلاف حول الخلع بين المؤيدين للقانون والمعارضين له لا يدور حول مشروعيته، فهي متفق عليها بين الجميع، ولا يخلو كتاب من أمهات كتب الفقه من باب يعالج فيه الخلع، لكن الخلاف يدور حول مدى جواز إجبار الزوج على القبول به، أو مدي جواز إعطاء سلطة إيقاع الخلع للقاضي، ثم يدور حول آثار الحكم كما يقررها مشروع القانون * أما أن تكون سلطة إيقاع الخلع إلى القاضي فإنها يتنازعها في الفقه الإسلامي مذهبان، مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة، وهو أن الخلع يقع بين الزوجين دون تدخل من القاضي، والمذهب الثاني مذهب سعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين وزياد بن عبيد الثقفي(ابن أبيه)، وكلهم من نبلاء التابعين. ( تفسير القرطبي جـ3 ص*)، والقول: إن الخلع يقع دون تدخل القاضي معناه أن يتراضى الزوجان علي ذلك، فإذا لم يتراضيا فماذا يكون الحل؟ لا شك أنه ليس أمام المرأة الكارهة للحياة مع زوجها إلا اللجوء إلي القضاء، وهذا هو معنى مذهب التابعين الذين قالوا: يوقعه السلطان (أي أن الزوجين هنا في حال شقاق تخاف فيها الزوجة ألا تقيم حدود الله (بمعني عدم قدرتها علي الوفاء بحقوق الزوج) ولا بد من الفصل بينهما ولا يملك ذلك إلا القضاء.
*ووقائع الخلع في عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- كانت ثلاث حالات، أولها: قضية ثابت بن قيس مع امرأته جميلة بنت سلول، وكان مهرها حديقة ردتها إليه، وطلقها بأمر النبي -صلي الله عليه وسلم- (صحيح البخاري جـ9 ص395 الحديث5273)، والثانية: قضيته أيضًا وحبيبة بنت سهل، وكان مهرها حديقتين ردتهما إليه وطلقها (شرح السنة للإمام البغوي جـ9 ص194)، والثالثة: قضية أخت أبي سعيد الخدري (الصحابي الجليل) التي شكت من زوجها، وشكا منها زوجها إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فأمرها النبي -صلي الله عليه وسلم- أن ترد إليه حديقة كان قد دفعها إليها مهرًا ويطلقها (رواه البيهقي والدارقطني عن أبي سعيد الخدري وذكره القرطبي في تفسيره جـ3 ص141 والمطيعي في تكملة المجموع جـ18)* والمستفاد من هذه الوقائع الثلاث أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أوقع الطلاق بلسان الزوج، أي بأمر الزوج أن يطلق الزوجة الكارهة له، فماذا لو أبى الزوج أن يطلق؟ لاشك أن الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وكل قاض بعده يملك إيقاع الطلاق جبرًا عن الزوج كالطلاق للضرر وأسباب أخرى كالغيبة وعدم النفقة والعنة وما إليها يوقع في هذه الحالات كلها جبرًا عن الرجل بحكم القاضي، وكذلك الخلع ولا فرق والقول بغير ذلك يجعل الرجل الذي لا ترضى زوجته بعشرته قادرًا علي إمساكها علي الرغم من إرادتها، وهو ما يخالف علة تشريع الخلع، وأنه للمرأة في مقابل الطلاق المشروع للرجل، فحيث يكره الرجل المرأة يستطيع أن يطلقها، وإن كان الأكثر لا يفعلون، وحيث تبغض المرأة الرجل تستطيع مخالعته، فإن رضي فبها، وإن أبى أوقع القاضي طلقة بائنة جبرًا عنه، ويكون الواجب بالخلع طلاقًا بائنًا، لأن المرأة تعطي الرجل المهر الذي دفعه إليها لتملك أمر نفسها، فلو جعلناه طلاقًا رجعيًا لم يتم لها ذلك، وهو ما ينافي مقصود تشريع الخلع نفسه (تفسير القرطبي جـ3 ص146 وحسن الأسوة لمحمد صديق البخاري).
والملاحظ في حالات الخلع التي رويت عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن المهر المأمور برده فيها كان عقارًا (حديقة) مما تزيد قيمته عادة، ولا تثبت أو تنقص إلا نادرًا، أما المهر في زمننا هذا فإنه عادة مبلغ من النقود تنقص قيمته كل يوم، فماذا أعد القانون لكي يكون العوض الذي يأخذه الرجل في حالة الخلع مساويًا لما دفعه؟ ولنتصور رجلاً دفع منذ عشرين سنة عشرة آلاف جنيه مهرًا، ثم عرض عليه اليوم استردادها في الخلع، هل يكون شأنه شأن صاحب الأرض الزراعية الذي أمره الرسول بطلاق امرأته وأمرها بردِّها إليه، ولا يعترض علي هذا التساؤل بزعم أن الزيادة على المأخوذ في المهر النقدي تثير شبهة الربا، لأننا لسنا بصدد عقد قرض أو وديعة مثلية مما تثور معه هذه الشبهة، وإنما نحن بصدد تعويض تدفعه المرأة إلى الرجل، وقد سمّاه الفقهاء في المذاهب كلها عوضًا في مقابلة ما تفعله وبأسرته من هدم لبناء الزوجية وتشتيت لشمل الأسرة بسبب ما تحسه هي من بغضها إياه والتعويض ينبغي أن يكون عادلاً ومقابلاً للضرر وجابرًا له، ويؤيد ذلك ما قرره ابن قدامة في المغني من أن جمهور الفقهاء يرون جواز الخلع علي أكثر من المهر (الجزء10 ص270 * فما دمنا نصنع تشريعا جديدا نتوخى به العدل بين أطراف الأسرة جميعًا، فالأصح أن نجعل ما تدفعه المرأة مساويًا في قيمته الحقيقية وقت الخلع للقيمة الحقيقية لما قبضته المرأة مهرًا وقت الزواج، حتى لا نجمع على الرجل ضياع ماله وهدم بيته، والواجب عندي مؤخر الصداق عند الطلاق أو الوفاة بالطريقة نفسها لئلا تضار المرأة بسبب لا يد لها فيه.
* وقد جعلت الفقرة الأخيرة من المادة (20) من مشروع القانون حكم الخلع غير قابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن، والأوفق في النظر القانوني الصحيح أن يساوي بين الخلع وبين أنواع التطليق الأخرى التي يوقعها القاضي جبرًا عن الرجل، وكلها تقبل الطعن عليها بطرق الطعن المقررة، ولا فرق بينها وبين الخلع يوجب اختصاصه بحكم عدم جواز الطعن، والتخوف هنا من طول إجراءات التقاضي عند الطعن يعالج بتجديد مدة للفصل فيه لا تجاوز أقصي مدة العدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام بالتقويم الهجري، فلو حددنا مدة الفصل في الطعن بأربعة يكون في ذلك ظلم على المرأة، ولا إجحاف بالرجل بحرمانه من حقه في الطعن على قضاء لا يرتضيه.
والله أعلم
ربما كانت هذه مسألة المسائل في مشروع هذا القانون، ولذلك استدعت أغلب التعليقات، واقتصر بعضها عليها دون سواها، وقد أورد المشروع النص الخاص بالخلع في مادته رقم (20) بفقراتها الخمس وبادئ ذي بدء أود أن أبيِّن أن الخلاف حول الخلع بين المؤيدين للقانون والمعارضين له لا يدور حول مشروعيته، فهي متفق عليها بين الجميع، ولا يخلو كتاب من أمهات كتب الفقه من باب يعالج فيه الخلع، لكن الخلاف يدور حول مدى جواز إجبار الزوج على القبول به، أو مدي جواز إعطاء سلطة إيقاع الخلع للقاضي، ثم يدور حول آثار الحكم كما يقررها مشروع القانون * أما أن تكون سلطة إيقاع الخلع إلى القاضي فإنها يتنازعها في الفقه الإسلامي مذهبان، مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة، وهو أن الخلع يقع بين الزوجين دون تدخل من القاضي، والمذهب الثاني مذهب سعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين وزياد بن عبيد الثقفي(ابن أبيه)، وكلهم من نبلاء التابعين. ( تفسير القرطبي جـ3 ص*)، والقول: إن الخلع يقع دون تدخل القاضي معناه أن يتراضى الزوجان علي ذلك، فإذا لم يتراضيا فماذا يكون الحل؟ لا شك أنه ليس أمام المرأة الكارهة للحياة مع زوجها إلا اللجوء إلي القضاء، وهذا هو معنى مذهب التابعين الذين قالوا: يوقعه السلطان (أي أن الزوجين هنا في حال شقاق تخاف فيها الزوجة ألا تقيم حدود الله (بمعني عدم قدرتها علي الوفاء بحقوق الزوج) ولا بد من الفصل بينهما ولا يملك ذلك إلا القضاء.
*ووقائع الخلع في عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- كانت ثلاث حالات، أولها: قضية ثابت بن قيس مع امرأته جميلة بنت سلول، وكان مهرها حديقة ردتها إليه، وطلقها بأمر النبي -صلي الله عليه وسلم- (صحيح البخاري جـ9 ص395 الحديث5273)، والثانية: قضيته أيضًا وحبيبة بنت سهل، وكان مهرها حديقتين ردتهما إليه وطلقها (شرح السنة للإمام البغوي جـ9 ص194)، والثالثة: قضية أخت أبي سعيد الخدري (الصحابي الجليل) التي شكت من زوجها، وشكا منها زوجها إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فأمرها النبي -صلي الله عليه وسلم- أن ترد إليه حديقة كان قد دفعها إليها مهرًا ويطلقها (رواه البيهقي والدارقطني عن أبي سعيد الخدري وذكره القرطبي في تفسيره جـ3 ص141 والمطيعي في تكملة المجموع جـ18)* والمستفاد من هذه الوقائع الثلاث أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أوقع الطلاق بلسان الزوج، أي بأمر الزوج أن يطلق الزوجة الكارهة له، فماذا لو أبى الزوج أن يطلق؟ لاشك أن الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وكل قاض بعده يملك إيقاع الطلاق جبرًا عن الزوج كالطلاق للضرر وأسباب أخرى كالغيبة وعدم النفقة والعنة وما إليها يوقع في هذه الحالات كلها جبرًا عن الرجل بحكم القاضي، وكذلك الخلع ولا فرق والقول بغير ذلك يجعل الرجل الذي لا ترضى زوجته بعشرته قادرًا علي إمساكها علي الرغم من إرادتها، وهو ما يخالف علة تشريع الخلع، وأنه للمرأة في مقابل الطلاق المشروع للرجل، فحيث يكره الرجل المرأة يستطيع أن يطلقها، وإن كان الأكثر لا يفعلون، وحيث تبغض المرأة الرجل تستطيع مخالعته، فإن رضي فبها، وإن أبى أوقع القاضي طلقة بائنة جبرًا عنه، ويكون الواجب بالخلع طلاقًا بائنًا، لأن المرأة تعطي الرجل المهر الذي دفعه إليها لتملك أمر نفسها، فلو جعلناه طلاقًا رجعيًا لم يتم لها ذلك، وهو ما ينافي مقصود تشريع الخلع نفسه (تفسير القرطبي جـ3 ص146 وحسن الأسوة لمحمد صديق البخاري).
والملاحظ في حالات الخلع التي رويت عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن المهر المأمور برده فيها كان عقارًا (حديقة) مما تزيد قيمته عادة، ولا تثبت أو تنقص إلا نادرًا، أما المهر في زمننا هذا فإنه عادة مبلغ من النقود تنقص قيمته كل يوم، فماذا أعد القانون لكي يكون العوض الذي يأخذه الرجل في حالة الخلع مساويًا لما دفعه؟ ولنتصور رجلاً دفع منذ عشرين سنة عشرة آلاف جنيه مهرًا، ثم عرض عليه اليوم استردادها في الخلع، هل يكون شأنه شأن صاحب الأرض الزراعية الذي أمره الرسول بطلاق امرأته وأمرها بردِّها إليه، ولا يعترض علي هذا التساؤل بزعم أن الزيادة على المأخوذ في المهر النقدي تثير شبهة الربا، لأننا لسنا بصدد عقد قرض أو وديعة مثلية مما تثور معه هذه الشبهة، وإنما نحن بصدد تعويض تدفعه المرأة إلى الرجل، وقد سمّاه الفقهاء في المذاهب كلها عوضًا في مقابلة ما تفعله وبأسرته من هدم لبناء الزوجية وتشتيت لشمل الأسرة بسبب ما تحسه هي من بغضها إياه والتعويض ينبغي أن يكون عادلاً ومقابلاً للضرر وجابرًا له، ويؤيد ذلك ما قرره ابن قدامة في المغني من أن جمهور الفقهاء يرون جواز الخلع علي أكثر من المهر (الجزء10 ص270 * فما دمنا نصنع تشريعا جديدا نتوخى به العدل بين أطراف الأسرة جميعًا، فالأصح أن نجعل ما تدفعه المرأة مساويًا في قيمته الحقيقية وقت الخلع للقيمة الحقيقية لما قبضته المرأة مهرًا وقت الزواج، حتى لا نجمع على الرجل ضياع ماله وهدم بيته، والواجب عندي مؤخر الصداق عند الطلاق أو الوفاة بالطريقة نفسها لئلا تضار المرأة بسبب لا يد لها فيه.
* وقد جعلت الفقرة الأخيرة من المادة (20) من مشروع القانون حكم الخلع غير قابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن، والأوفق في النظر القانوني الصحيح أن يساوي بين الخلع وبين أنواع التطليق الأخرى التي يوقعها القاضي جبرًا عن الرجل، وكلها تقبل الطعن عليها بطرق الطعن المقررة، ولا فرق بينها وبين الخلع يوجب اختصاصه بحكم عدم جواز الطعن، والتخوف هنا من طول إجراءات التقاضي عند الطعن يعالج بتجديد مدة للفصل فيه لا تجاوز أقصي مدة العدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام بالتقويم الهجري، فلو حددنا مدة الفصل في الطعن بأربعة يكون في ذلك ظلم على المرأة، ولا إجحاف بالرجل بحرمانه من حقه في الطعن على قضاء لا يرتضيه.
والله أعلم