بحـث
سوء النية في جــريمة إعطاء شــيك بدون رصيــد
للسيد الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الـــدرب الأحمر
مجلة المحاماة - العــدد الخامــس - الســنة الرابعــــة والثـــــلاثـــــون سنة 1954
القصد الجنائي:
إن مناط التجريم هو توافر القصد الجنائي لدى الجاني وذلك في الجرائم جميعًا على السواء - والقصد الجنائي قد يكون عامًا أي أن يتعمد الجاني ارتكاب الفعل المكون للركن المادي للجريمة عالمًا أن القانون يحرمه - وهذا النوع من القصد هو القدر اللازم في أغلب الجرائم العمدية حيث يكتفي القانون بمجرد ارتكاب الفعل مع الإرادة وقد يكون القصد الجنائي خاصًا فلا يكتفي القانون في جرائم معينة بمجرد ارتكاب الفعل المادي عن إرادة كاملة بل يستلزم فوق ذلك أن يكون ارتكاب الفعل لغرض خاص.
ففي هذه الحالات لا يتوافر القصد الجنائي إلا إذا كان ارتكاب الفعل تحقيقًا لهذا الغرض الخاص وبذلك قد يدخل الباعث في تكوين القصد الجنائي ويؤثر في الجريمة وجودًا وعدمًا.
ولا يُفهم من ذلك أن فكرة القصد الخاص قاصرة على الحالة التي يمتزج فيها القصد بباعث من لون خاص هو نية الإضرار وإنما يكون القصد خاصًا كلما تطلب المشرع لتحقق ركن العمد أن تتوفر لدى الجاني النية أو الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي ضارة في ذاتها - بغض النظر عن تقدير الجاني لها واعتباره الشخصي إياها - وهنا لا قيام للمسؤولية الجنائية على أساس العمد إلا بتوافر القصد الخاص الذي نص عليه المشرع أي أنه يمكن القول إن التجريم يكون منصبًا على النتيجة الضارة التي تحوط المشرع لها بالنص على العقاب عند توافرها.
والمشرع قد يفصح عن استلزام القصد الجنائي ممتزجًا بالباعث الخبيث أي نية الإضرار (مثال ذلك) في جريمة البلاغ الكاذب (م 305 ع) وجريمة الإتلاف (م 361 ع) وجريمة إعطاء شيك لا يقابله رصيد قائم (م 337 ع) حيث يشترط في الأولى سوء القصد وفي الثانية قصد الإساءة وفي الثالثة سوء النية أو ممتزجًا بالرغبة في تحقق النتيجة الضارة المعينة كما في جريمة تعذيب متهم (م 126 ع) وجريمة النصب (م 336 ع) حيث يشترط في الأولى أن يكون التعذيب بقصد حمل المتهم على الاعتراف وفي الثانية أن يكون الاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها.
فإذا لم يكن اشتراط القصد الخاص منصوصًا عليه صراحةً كما في الأمثلة السابقة فإن طبيعة الجريمة قد توحي بالقول باستلزام هذا القصد كما في السرقة وجرائم القتل العمد والتزوير حيث يلزم أن يقترن القصد الجنائي بالنتيجة الضارة بل إن مناط التجريم في هذه الأنواع من الجرائم هو حدوث هذه النتيجة الضارة بذاتها.
القصد الجنائي في جريمة النصب:
تنص المادة (336) من قانون العقوبات على أنه (يعاقب بالحبس وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا مصريًا أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أي متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها أما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بخصوص ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور - وأما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وأما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة.
وهذه المادة على الوجه المتقدم إنما تبين بجلاء أن القصد الجنائي الذي استلزم المشرع توافره في جريمة النصب إنما هو قصد خاص - فلا يكتفي مجرد علم الجاني بأن الادعاءات التي يدعيها كاذبة بل يجب أن تتصرف نيته إلى الاستيلاء على جزء من ثروة الغير [(1)].
فالقصد الجنائي في جريمة النصب مركب من عنصرين:
الأول: العلم بالاحتيال.
والثاني: نية الاستيلاء على ثروة الغير.
أما عن العنصر الأول - وهو العلم بالاحتيال - فيجب أن يأتي الجاني الفعل وهو عالم بأنه كاذب ومضلل - فإذا كان الجاني يعتقد صحة ما يفعله أو يدعيه فلا عقاب ولو كان اعتقاده خاطئًا، وتذهب بعض الأحكام إلى أن استعمال الطرق السحرية ينهض بذاته دليلاً على سوء القصد في جريمة النصب ولكن يجب البحث دائمًا عن حقيقة اعتقاد الجاني وعليه هو إثبات حسن نيته ومتى ثبتت يتعين البراءة [(2)] والرجوع إلى اعتقاد الجاني يستشفه قاضي الموضوع من بين ثنايا التحقيق وأقوال المتهم.
أما عن العنصر الثاني وهو قصد الاستيلاء على جزء من ثروة الغير - فيفهم منه أنه يجب أن يقصد الجاني من طرق الاحتيال التي يستعملها أن ينتزع جزءًا من ثروة الغير وأن يستولى عليه ويضيفه إلى ملكه دون حق - وتطبيقًا لذلك حكم بأن المادة (336) لا تنطبق على من ينتحل صفة ليست له بقصد حمل بائع على تقسيط ثمن شيء مبيع دفع بعضه معجلاً ثم قام بسداد باقي الأقساط ولكنه عجز في النهاية عن دفع باقيها لأن اتخاذ الصفة الكاذبة لم يقصد به في هذه الحالة سلب مال المجني عليه وإنما قصد به أخذ رضاء البائع بالبيع بثمن بعضه مقسط وبعضه حال، وتكون العلاقة بين البائع والمشتري علاقة مدنية بحتة وليس فيها عمل جنائي [(3)] ومن هذا يظهر لنا أن القصد الجنائي في جريمة النصب وهو قصد خاص بمعنى أنه يجب أن يقصد الجاني الاستيلاء على جزء من ثروة المجني عليه - فإن هذا القصد لا يتوافر والجريمة لا تقوم متى تخلف عنصره الثاني ولو كان المتهم عالمًا بأنه يستعمل أساليب احتيالية للاستيلاء على الشيء كما لو كان يقصد الاستيلاء على شيء معين مزاحًا - وتقدير قصد المتهم أمر تعنى به محكمة الموضوع ويجب أن تستدل على وجوده من ظروف الجريمة وملابساتها جميعًا.
القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها في المادة (337) عقوبات:
تنص المادة (337 ع) على أنه يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى بسوء نية شيكًا لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب أو كان الرصيد أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم الدفع.
وقبل أن نتكلم عن القصد الجنائي في هذه الجريمة بما يندرج تحته حتمًا الكلام عن معنى عبارة (سوء النية) الواردة بالمادة (337) المذكورة - يحسن أن نفسر معنى كلمة الشيك.
أولاً: ما تنص عليه المادة (193) تجاري:
تنص المادة (193) من القانون التجاري على أنه (إذا أثبت من حرر الحوالة الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها أو من حرر الورقة المتضمنة أمرًا بالدفع أن مقابل وفائها كان موجودًا ولم يستعمل في منفعته فحاملها الذي تأخر في تقديمها تضيع حقوقه التي على محررها المذكور.
والحوالة الواجبة الدفع بمجرد الدفع بمجرد الاطلاع عليها كما نصت المادة (193) تجاري إن هي إلا الشيك باعتباره أداة وفاء تقوم مقام النقود - ومعنى كونه أداة وفاء أن حامله ملزم بحسب الأصل أن يتوجه لصرف قيمته في يوم استحقاقه الذي هو يوم سحبه أيضًا.
فإذا تأخر المستفيد عن ذلك اليوم وتوجه للبنك المسحوب عليه فلم يجد له مقابل وفاء فقد أباح القانون التجاري لمحرر الشيك أن يثبت أن مقابل الوفاء كان موجودًا في وقت تحريره وأنه لم يستعمل في منفعته - وإذا استطاع إثبات ذلك فإن المسحوب له الشيك يتحمل مغبة إهماله في صرف قيمته وتأخره في ذلك.
ويلاحظ أن المادة (171) تجاري قضت بوجوب تقديمه للدفع في ظرف خمسة أيام محسوبًا منها اليوم المؤرخ فيه إذا كان مسحوبًا من البلدة التي يكون الدفع فيها - وأما إذا كان مسحوبًا في بلدة أخرى وجب تقديمه في ظرف ثمانية أيام محسوب منها اليوم المؤرخ فيه خلاف مدة المسافة.
وسبب تقصير هذه المواعيد هو رغبة المشرع في أن لا يلزم الساحب بالمحافظة على مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه إلى ما لا نهاية حتى لا تتعرض بنوك الودائع لدفع مبالغ جسيمة في أوقات الأزمات أو الذعر المالي فتقدم إليها شيكات مسحوبة منذ عدة أسابيع أو شهور [(4)].
ثانيًا: الشيك في حكم المادة (337 ع):
وإذ أن المادة (337 ع) نصت على عقوبة إعطاء شيك بدون رصيد فإنه يجب تفسير (كلمة الشيك) بحيث تتسق مع تفسير القانون التجاري لها - وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه متى كان الحكم قد أثبت أن الشيك قد استوفى الشكل الذي يتطلعه القانون لكي تجري الورقة مجرى النقود - فإنه يعد شيكًا بالمعنى المقصود في حكم المادة (337 ع) ولا يؤثر في ذلك أن يكون تاريخه قد أثبت على غير الواقع ما دام أنه هو بذاته يدل على أنه مستحق الأداء بمجرد الاطلاع عليه - ذلك بأن المشرع إنما أراد أن يكون الشيك ورقة مطلقة للتداول وفي حمايتها حماية للجمهور والمعاملات [(5)].
والشيك الذي لا يطابق تاريخ إصداره التاريخ الحقيقي الذي حصل فيه الإصدار يسمى الشيك ذو التاريخ المقدم chéque postdaté - وقد ذهبت معظم الأحكام الفرنسية أن تقديم التاريخ أي ذكر تاريخ الإصدار على خلاف الواقع لا يرفع عن المحرر صفة الشيك وتسري على الساحب المادة (337) عقوبات متى ثبت سوء نيته [(6)] ومن هذا نرى أن القضاء الجنائي المصري والفرنسي لا يتقيد في تفسير لفظ الشيك بكونه مستكملاً كافة شرائط صحته أو غير مستكمل ما دام أن الشيك بحسب ظاهره يفيد أن الدفع بمجرد الاطلاع - فإذا كان للشيك تاريخان تاريخ إصدار وتاريخ استحقاق وثبت كلا التاريخين عليه فإن هذه الورقة بحسب ظاهرها تنتفي عنها صفة الشيك ولا تعدو أن تكون ورقة ائتمان كالكمبيالة فيها ذاتها ما يحول دون التعامل بها بغير صفتها هذه [(7)] ولنا على هذا النظر تعليق وهو أنه إذا ثبت من أي طريق أن الشيك صدر من الساحب في تاريخ سابق على التاريخ الثابت عليه كتاريخ للإصدار أي إذا ظهر حقيقة أن الشيك مقدم التاريخ فنرى أن هذا الوضع لا شك يؤثر في مسؤولية الساحب عندما يتبين أن لا رصيد له تحقيقًا أو إسقاطًا بحسب الظروف والأحوال.
فإذا كانت محكمة النقض المصرية قد قضت أن سوء النية المطلوب في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد قابل للسحب يتحقق بمجرد علم صاحب الشيك أنه وقد تم تحريره ليس له مقابل وفاء [(] فإن معنى ذلك أن علم الساحب بعدم وجود مقابل وفاء له وقت إصداره الشيك ينهض دليلاً على توافر سوء النية لديه ومن ثم تنطبق عليه المادة (337 ع) - إذا كان هو نظر محكمتنا العليا فلا شك أنه في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم يكون من صالح المتهم أن يثبت أنه وقت إصداره الشيك في التاريخ الحقيقي الذي لم يذكر في الشيك كتاريخ للإصدار بل ذكر تاريخ لاحق له - من صالحه أن يثبت أن في ذلك التاريخ كان مقابل الوفاء المستكمل للشروط موجودًا لحساب الساحب ولكننا للأسف نرى أن محكمة النقض ترى أنه لا يُجدي المتهم (ساحب الشيك) أن يثبت أن تحريره إنما كان في تاريخ سابق فطلبه تحقيق ذلك لا يكون مستأهلاً ردًا صريحًا [(9)].
ثالثًا: الأعمال التحضيرية للمادة (337 ع):
كانت المادة (337 ع) بحسب نصها في المشروع تقضي بأنه (يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى شيكًا (مع علمه) بأنه لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب.
وبجلسة 26 يوليو سنة 1937 طرحت هذه المادة بنصها السابق على مجلس النواب فقام النائب عبد المجيد الرمالي واقترح إضافة عبارة (بسوء نية) إلى نص المادة وعلق على ذلك بقوله إنه جرت العادة في الوقت الحاضر تأثرًا بظروف الأزمة على التعامل بالشيكات فتكتب لآجال معينة على أن تدفع في مواعيد الاستحقاق وقد يحل الموعد ويتعذر صرف الشيك لعسر التاجر - مع أنه كان حسن النية وقت تحريره فهل من الإنصاف أن توقع عليه عقوبة الحبس) وقد وافق وزير المالية وقتئذٍ على هذا الاقتراح بإضافة عبارة (بسوء النية) لكن مع حذف عبارة (مع علمه) لأن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم.
وقد قام النائب الأستاذ كامل صدقي وقال إنه لا يستطيع التفرقة بين سوء النية وبين العلم - وأضاف أنه لا يفهم أن شخصًا يجهل مقدار رصيده في البنك ثم هو مع هذا الجهل يعطي شيكًا ويفترض فيه بعد ذلك حسن النية - وهل يمكن التفريق في هذه الحالة بين سوء النية والعلم.
فقام وزير المالية وقال - أضرب مثلاً لما تساءل عنه حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي فمن الجائز أن يحرر شخص شيكًا وهو يعلم أنه ليس له رصيد في البنك ولكنه ينتظر أن يكون له رصيد في موعد الدفع يفي بصرف قيمة الشيك - فليس في هذا جريمة وإن كان فيه إهمال ظاهر - فلا نكن ملكيين أكثر من الملك فنصدر قانونًا أشد حكمًا من القانون الفرنسي الذي اقتبسنا منه حكم هذه المادة، وفي ظني أن حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي يسلم معي بأنه قد يكون هناك علم ولا يكون سوء نية فيحسن إلا نأخذ الأمور طفرة وأن نترك التقدير للقاضي فإذا اتضح له سوء النية أصدر حكمه بالعقوبة.
وقد وافق جميع النواب على المادة بتعديلها المذكور مع التفسير الذي أراده وزير المالية - موافقة إجماعية.
ومما تقدم يتبين أن استبدال عبارة (بسوء نية) بعبارة (مع علمه) التي كانت تتضمنها هذه المادة في مشروع القانون إنما يعني اختلاف العبارتين معنى ومبنى فالعلم لا ينهض دائمًا دليلاً قاطعًا على سوء النية كما يظهر من المناقشات التي ذكرناها آنفًا - ويجب إذن أن نتقيد بالمعنى الذي ذهبت إليه السلطة التشريعية عند إقرارها للنص من أن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم - ولكن العلم قاصر وحده عن إثبات توافر سوء النية الذي استلزم النص توافره كما يبدو.
رابعًا: تفسير سوء النية:
وإذا استقام كل ما تقدم وكان هذا هو ما ذهبت إليه مناقشات مجلس النواب وانتهى إليه قرار النص على الوجه الحالي على معنى اختلاف سوء النية عن العلم - فإنه يبدو أن محكمة النقض المصرية لا ترى هذا الرأي إذ أنها حكمت أن الجريمة المنصوص عليها في المادة (337 ع) تتحقق متى أصدر الساحب الشيك وهو يعلم وقت تحريره بأنه ليس له مقابل وفاء قابل للسحب وقد قصد المشرع بالعقاب على هذه الجريمة حماية الشيك باعتباره أداة وفاء تجري مجرى النقود في المعاملات فهو مستحق الأداء لدى الاطلاع دائمًا - ولهذا فلا يؤثر في قيام الجريمة بالنسبة إلى الساحب أن يكون المسحوب له على علم بحقيقة الواقع - فإذا قضت المحكمة ببراءة المتهم استنادًا إلى أنه كان يأمل لأسباب مقبولة في وجود هذا الرصيد عند تقديم الشيك لصرفه وأن المجني عليها كانت تعلم وقت قبولها الشيك بأنه لا يقابله رصيد مما تنتفي به الجريمة إذ لا يكون محتالاً عليها - فإنه يكون قد أخطأ [(10)].
ونرى أنه إذا كان هذا النظر يستقيم في حالة من حالات سحب الشيك فإنه قطعًا لا يستقيم في حالات أخرى إذ أن كون الشيك بحسب الأصل ورقة واجبة الدفع بمجرد الاطلاع وتقوم مقام النقود في المعاملات فإنه يحدث أحيانًا في الحياة العملية بل وكثيرًا وفي الغالب أن لا تكون هذه الورقة مستحقة الدفع لدى الاطلاع كما في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم - ولا شك أننا من ناحية القانون إن لم نرَ في هذا الشيك ما يعيبه بوصفه شيكًا يدخل في حدود نص المادة (337 ع) - فلا أقل من أن نسمح للساحب (المتهم) أن يثبت أنه وقت سحب هذا الشيك كان لديه رصيد (مقابل وفاء) مستكمل للشروط وأنه لم يسحب هذا الرصيد كله أو بعضه بعد ذلك وإلا كان مستحقًا العقاب أيضًا بنص المادة وإنما أصبح هذا الرصيد غير قابل للصرف بسبب لا دخل لإرادته فيه كالحجز عليه مثلاً من دائني الساحب وهذا ما تشير إليه المادة (193) تجاري التي سردنا نصها آنفًا وإذا استطاع الساحب إثبات ذلك وجب أن تنقضي الجريمة - هذا التفسير هو ما تقتضيه العدالة والذوق القانوني السليم وهو تفسير لا يترك مجالاً للقول بوجود فارق بين روح القانون التجاري والجنائي - هذا الأخير الذي يعني في المادة (337) الشيك بمعناه الوارد بالمادة (193) تجاري.
الصورة الأولى: حالة الشيك ذو التاريخ الصحيح:
أي أن يكون التاريخ الثابت على الشيك هو نفس التاريخ الذي أعطي فيه الشيك فعلاً وفي هذه الحالة الأصل أن مجرد العلم بعدم وجود رصيد كافٍ يتضمن سوء النية - إذ أن الشيك وقد حرر في التاريخ الثابت عليه فإن (الحامل) أو المسحوب له في حل من التوجه لصرف قيمته في الحال - فإذا تبين أن ليس للساحب مقابل وفاء أو أن مقابل الوفاء غير كافٍ لتغطية قيمة الشيك فإن علم الساحب بذلك يعتبر دليلاً على سوء نيته.
وإنما أيضًا يحق للساحب إثبات حسن نيته بأنه كان يجهل عدم استكمال مقابل الوفاء للشروط
اللازمة لصرفه وأن جهله كان مبنيًا على أسباب معقولة ومستساغة - إذ أن القاضي الجنائي وهو يحكم باقتناعه يجب أن تترك له حرية استخلاص سوء النية وبالتالي وجود القصد الجنائي أو عدم وجوده من ظروف وملابسات الواقعة المعروضة عليه - فإن رأى توافر هذا القصد حكم بالعقاب وإلا فيحكم بالبراءة - وقد يعتبر أحيانًا الإهمال الفاحش في هذا السبيل قرينة على سوء النية [(11)].
الصورة الثانية: حالة الشيك ذي التاريخ المقدم chéque postdaté:
أما في حالة تأخير التاريخ عن اليوم الذي أعطي فيه الشيك فعلاً فإنه مجال إثبات حسن النية والدفع به كبير في هذه الصورة وهذا هو ما يُستنتج من سياق المناقشة التي دارت بمجلس النواب عن المادة (337 ع) والتي سردنا جانبًا منها قبل ذلك - فإذا استبان القاضي أن الساحب عند إصداره الشيك في التاريخ الذي أعطي فيه فعلاً ولو كان سابقًا على تاريخ الاستحقاق انصرفت نيته إلى عدم دفع قيمة الشيك وتضييع حق المسحوب له حكم بالعقاب لتوافر عنصر سوء النية - وإن استنتج من وقائع الدعوى وظروفها أن عدم صرف قيمة الشيك إنما جاء بناءً على أمر خارج عن إرادة الساحب فإنه ولو كان قد أخطأ وكان خطأه مؤسسًا على اعتقاد حسن ونية سليمة منه فإن العقاب غير واجب.
وهاتان الصورتان إنما نتكلم عنها في حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته - أما في حالة سحب الرصيد وحالة الأمر بعدم الدفع فإن في نفس العمل الذي يتضمن كل منهما دليل على توافر سوء النية - واستخلاص ذلك سهل ميسور لقاضي الموضوع ولا تثير الإشكال الذي تثيره الحالة الأولى وهي حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته.
خامسًا: نص المادة (337 ع) صورة من صور النصب:
ونرى أن إلحاق نص المادة (337 ع) بنص المادة (336 ع) التي تتكلم عن جريمة النصب والتي سبق أن أبنا القصد الجنائي فيها وأنه يتكون من عنصرين - نرى أن إلحاق المادة الأولى بالثانية في حكم العقاب اعتبار من المشرع أن جريمة إعطاء شيك بدون رصيد صورة من صور جريمة النصب أو تطبيق لها في ناحية خاصة هي ناحية التعامل بالشيك والتي رأى المشرع حمايتها.
لذا كان واجب أن يكون تفسير القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها بالمادة (337 ع) تفسيرًا يتسق مع القصد الجنائي في جريمة النصب، أي يجب القول باعتباره قصدًا خاصًا لا يتوافر إلا بظهور عنصر سوء النية الذي هو الباعث الخبيث أي نية الإضرار بالمسحوب له وتضييع حقه في مقابل الوفاء - وهذا القصد الخاص إنما هو صورة من صور القصد الخاص في جريمة النصب وهو نية الاستيلاء على ثروة الغير كلها أو بعضها - فلا تتم الجريمة إلا بتوافر هذا القصد الخاص فإذا انتفى فإنما يسقط ركنها المعنوي الذي لا تقوم بدونه.
كل هذا يدعونا إليه ما يظهر في العمل من حالات تسحب فيها شيكات ولا يتضمن سحبها سوء نية من أصدرها ومع ذلك يقدم الساحب للمحكمة ويكون من الغبن العقاب في مثل هذه الحالات، فإذا سحب موظف شيكًا على بنك مرتبه محول عليه - في يوم 25 من الشهر وهو يعتقد بناءً على ما علمه من الصحف أو غيرها - أن مرتبات الموظفين ستصرف في ذلك اليوم لمناسبة معينة وكانت الحقيقة أن المرتبات لا تصرف إلا يوم 27 فإنه يجب عدم عقابه على إصدار شيك بدون رصيد - ولو أنه وقت تحرير الشيك لم يكن لديه رصيد وهو يعلم ذلك ولكنه كان حسن النية واعتقد بناءً على أسباب معينة مقبولة أن في تاريخ استحقاق الشيك سيكون لديه رصيد كافٍ لورود راتبه - فتبين أن الشيك لم يصرف في يوم استحقاقه لعدم وجود الرصيد - فإن من العدالة القول إن سوء النية لا يتوافر البتة في هذا الخصوص - ويكون تقدير الظروف التي تبين حسن نية الساحب من خصائص قاضي الموضوع.
كل هذا علاوة على أنه في المجال الجنائي يجب أن لا تترك للأوراق فرصة السيطرة على القضاء بالعقاب على الناس إذا استطاع هؤلاء إثبات حسن النية (مادة 300 إجراءات).
سادسًا: حُسن النية La bonne foi:
والدفع بحُسن النية يجب أن تسمح المحكمة الجنائية للساحب (المتهم) بإثباته بكافة الطرق إذ هو يرادف انتفاء القصد الجنائي وعدم توافر سوء النية وليس الأمر كما تقول محكمة النقض إنه لا يُجدي المتهم طلب إثبات وتحقيق أن تحرير الشيك كان في تاريخ سابق على التاريخ الثابت به - إذ أن حسن النية يطلق بصفة عامة على اعتقاد مشروعية الفعل اعتقادًا مبنيًا على أسباب تبرره ويخضع تقديرها للقاضي وبذلك قضت محكمة النقض في حكم لها قالت فيه (إن حسن النية المؤثر في المسؤولية عن الجريمة رغم توافر أركانها هو من كليات القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض وهو معنى لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم ويكفي أن يكون الشارع قد ضبطه وأرشد إلى عناصره في نص معين أو مناسبة معينة ليستفيد القاضي من ذلك القاعدة العامة الواجبة الاتباع وحسن النية ليس معنى باطنيًا بقدر ما هو موقف أو حالة يوجد فيها الشخص نتيجة ظروف تشوه حكمه على الأمور رغم تقديره لها تقديرًا كافيًا واعتماده في تصرفه على أسباب معقولة [(12)].
هذا هو حُسن النية عرفته محكمة النقض المصرية بأنه من كليات القانون لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم فأي حالة يحق فيها للمتهم إثبات حسن نيته أنسب من محاكمته عن جريمة يشترط فيها القانون توافر سوء النية - ونرى أن السماح للمتهم بإثبات حسن نيته أو أن يدفع به ويدلل عليه لا يستلزم حتمًا إثبات عدم العلم فإن العلم إن كان قرينة في بعض الصور دون الأخرى على توافر سوء النية كما قلنا فإنها قرينة تقبل دائمًا إثبات الدليل العكسي من المتهم علاوة على أن العلم قد لا يعتبر في بعض الحالات متضمنًا سوء النية - وكل هذا يخضع لتقدير القاضي الجنائي ويدخل في تكوين اقتناعه بوجوب العقاب أو عدمه.
هذا هو رأينا في القصد الجنائي في جريمة إعطاء الشيك بدون رصيد - قصد خاص يقوم على سوء النية وقصد الإضرار بالمجني عليه والعلم ما هو إلا قرينة بسيطة على توافر هذا القصد يسمح دائمًا للمتهم بإثبات عكسها والدفع بحسن النية يجد مجاله الحيوي في هذه الجريمة قبل غيرها.
[(1)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 231.
[(2)] المرحوم أحمد بك أمين صـ 750.
[(3)] نقض 23/ 4/ 1934 مجموعة النقض جزء (3) صـ 310 رقم (233).
[(4)] الأوراق التجارية للدكتور صالح طبعة 1950 صـ 409.
[(5)] نقض 30/ 12/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الرابعة عدد 1 صـ 288 رقم (112).
[(6)] نقض فرنسي الدائرة الجنائية 31/ 6/ 1936 Caz. Pal. 15 - 16.
[(7)] نقض 10/ 11/ 1941 القضية 1910 سنة 11 ق.
[(] نقض جنائي 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(9)] نقض 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(10)] نقض جنائي 11/ 3/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الثالثة العدد الثاني صـ 548 رقم 206.
[(11)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 263.
[(12)] نقض جنائي 11 نوفمبر سنة 1946 مجموعة القواعد القانونية جزء 7 رقم 220 صـ 199 وما بعدها.