العجاف التي لا يرغب الفقراء العرب في رؤيتها تتكرر، فقد خسر عشرات الآلاف
وظائفهم، واندلعت "أزمات الخبز" من القاهرة إلى تونس، وجرى رفع الدعم عن
الكثير من السلع الرئيسية، وباتت أحلام البسطاء بوظيفة وشقة متواضعة خيالات
بعيدة المنال.
ولم توفر الأزمة سكان الدول العربية الفقيرة أو الغنية، فبعد اعتناق
المنطقة لـ"مبادئ السوق،" جاءت الأزمة لتوجه ضربة للطبقات الفقيرة التي كان
يجب أن تحظى بالحماية خلال "المراحل الانتقالية." وفي الدول الثرية وجد
الملايين ثرواتهم التي ادخروها بأسواق المال وهي تتبدد مع اللون الأحمر
الذي غمر المؤشرات.
ويتطلع الفقراء العرب للعام المقبل بمشاعر متضاربة، فهو أول من عانى من
آثار الأزمات الاقتصادية، ولكنهم يشكّون بأن يكونوا أول من يستفيد من
الانتعاش المرتقب، خاصة وأنهم اعتادوا على دفع فواتير التقلبات الاقتصادية
وتعثر الخطط الحكومية.
ولا يخفي خالد أبو إسماعيل، مستشار الحد من الفقر والسياسة الاقتصادية في
مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الإقليمي بالقاهرة، قلقه حيال قدرة
العديد من الدول العربية على تجاوز آثار الأزمة وتحقيق "أهداف الألفية"
التي وضعتها الأمم المتحدة لخفض عدد الفقراء إلى النصف بحلول عام 2015،
ونشر التعليم وتمكين المرأة.
وقال أبو إسماعيل، في حديث مع CNN بالعربية: "لقد أنجزنا تقريراً خاصاً حول
الدول العربية ووضعها بالنسبة لتطبيق أهداف الألفية والأزمات المتلاحقة
التي مرت بها المنطقة والعالم، لأننا واجهنا في الواقع أكثر من أزمة، وخلص
التقرير إلى أن تأثير أزمة الغذاء والوقود على الفقراء كان أكبر من تأثير
الأزمة المالية."
وأعاد أبو إسماعيل السبب إلى أن معظم الدول التي تأثرت بارتفاع أسعار
الوقود فيها الكثير من الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وهي تتأثر أكثر من
سواها، مثل سوريا واليمن ومصر والمغرب.
وتابع قائلاً: "مصر كانت تدعم القمح وعدد من المواد الغذائية الأخرى،
وارتفع الأسعار مع إنهاء الدعم يزيد من نسب الفقر، وقد أثبتت الدراسات التي
عملنا عليها أن أثر ارتفاع أسعار الغذاء والوقود على الفقر هو مباشر أما
الأزمة المالية فهي تتفاوت من حيث التأثير بحسب اندماج الدول العربية
بالنظام المالي العالمي، لذلك نرى أن الأثر الأكبر للأزمة المالية في
المنطقة ظهر بدول الخليج التي تضررت صناديقها السيادية وأسواق المال فيها."
ورغم أن أبو إسماعيل رأى أنه في عام 2010 سيكون مسار النمو في دول المنطقة
أفضل، وستتمكن الحكومات من تجاوز المرحلة الصعبة من الأزمة، غير أنه لفت
إلى وجود تفاوت لا يمكن إغفاله بين الدول العربية.
وشرح قائلاً: "تونس مثلاً مرتبطة بالأسواق الأوروبية، وتأثرت الصناعة
والتصدير فيها بشكل مباشر، وامتد التأثير إلى دول أخرى في شمال أفريقيا،
مثل المغرب التي باتت تعاني من مصاعب بسبب عدم قدرة الأسواق الأوروبية على
استيعاب العمالة الزائدة التي كانت تهاجر إليها من المغرب، وعموماً أقول أن
المشكلة ستكون أكبر في الدول الفقيرة العاجزة عن تمويل مشاريع تحفيز
اقتصادية، مثل اليمن والسودان."
وبالنسبة لتأثير الأزمة على الشرائح العربية الفقيرة وعلى "أهداف الألفية"
قال أبو إسماعيل: "كان هناك تفاوت بين الدول العربية في مكافحة الفقر
وتحقيق أهداف الألفية حتى قبل الأزمة المالية العالمية، فهناك دول وصلت إلى
مراحل متقدمة على هذا الصعيد، حتى قياساً للدول الكبرى، وهي بمعظمها دول
خليجية، ويضاف إليها الأردن وتونس."
وتابع: "وهناك مجموعة ثانية حققت نتائج جزئية على صعيد إنجاز هذه الأهداف،
وبينها مصر وسوريا، والسبب يعود إلى قلة مواردها، وتبقى المجموعة الثالثة
التي لم تتمكن من تحقيق معظم الأهداف، وهي ليست على المسار المرجو، والأزمة
الحالية وآثارها ستعقد مسارها، خاصة إن استمر ارتفاع أسعار المواد
الغذائية والوقود."
من جهته، قال كمال حمدان، المحلل الاقتصادي اللبناني المتخصص في أوضاع
أسواق العمل وصاحب الدراسات المتعددة حول الفقر والبطالة في المنطقة، في
حديث مع CNN بالعربية، إنه يمكن تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات،
تسهيلاً لدراسة الآثار الاجتماعية للأزمة فيها.
وأضاف: "هناك ثلاث مجموعات من الدول العربية، فهناك دول الخليج التي فيها
ثروة كبيرة وقلة في الكثافة السكانية، وهي تستورد العمالة من الخارج، وهناك
دول فيها موارد كبيرة وكثافة سكانية في آن، بما يغنيها عن استيراد
العمالة، مثل العراق والجزائر، والمجموعة الثالثة هي دول فيها ثقل
ديموغرافي وقلة موارد، وعلى رأسها مصر واليمن ولبنان وسوريا وتونس
والمغرب."
ورأى حمدان أن معظم دول المنطقة "تسير بشكل ملزم لتوجيهات المنظمات الدولية
لتحرير اقتصادها وزيادة دور القطاع الخاص وإعادة النظر بسياسة الدعم
وتحرير الأسعار وتحرير تحويلات الأموال وخفض الجمارك، وهو ما تسميه
المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي بالتصحيح الهيكلي أو
الشفافية وزيادة الحوكمة."
ولفت إلى أن كل دول المنطقة "قد ركبت هذه الموجة، حتى تلك التي كانت تعتمد
أنظمة موجهة أو تدخلية مثل سوريا والعراق والجزائر،" ولفت إلى أن هذه
السياسات "انعكست على صورة انتعاش للفئات فوق المتوسطة من حيث الدخل، وقد
ازدادت ثروتها وفرص استثمارها، ولكن هذا الشريحة محدودة من حيث الحجم،
بينما الشريحة الأكبر، وهي من الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة تدهورت
أوضاعها بسبب رفع الدعم وتراجع الدولة عن بعض وظائفها."
وتناول حمدان، الذي عمل عدة مرات كمستشار لمهمات إقليمية أدارتها مؤسسات
تابعة للأمم المتحدة، أوضاع الدول العربية بشكل إجمالي قائلاً: "القنبلتان
الأكبر في المنطقة هما مصر واليمن، فاليمن فيها مخاطر كبيرة مع تراجع
إنتاجها النفطي وتراجع الإصلاحات وتزايد الصراعات الداخلية ومخاطر الحرب
الأهلية، أما مصر فقد حققت نسب مرتفعة من النمو في الفترة الماضية، ولكنها
فشلت في نقل ثمار هذا النمو للشرائح الشعبية الدنيا والفقراء، ما انعكس
سوءا في توزيع الثورة."
وتابع: "لبنان كان فيه أعلى معدل نمو في آخر ثلاثة عقود، ولكن النمو بدأ
يتباطأ قليلاً، وهناك مؤشرات على تزايد الفقر والبطالة، ونحن نعمل على
دراسات سننشرها قريباً تؤكد هذا الأمر، خاصة وأن لبنان يواجه مشكلة مركبة
تتمثل في تدفق آلاف الخريجين الجامعيين سنوياً إلى سوق العمل غير القادر
على استيعابهم، وفي الوقت عينه انسداد آفاق الهجرة أمامهم إلى الدول التي
كانوا يقصدونا سابقاً والتي هي بدورها تعاني مشاكل اقتصادية وبطالة، ومن
جانب آخر يعود إلى لبنان الآلاف من المهاجرين الذين فقدوا وظائفهم في
الخارج، وهذا يبرر تزايد البطالة."
وأردف حمدان بالقول: "في سوريا أزمة بطالة كبيرة، وكذلك بالعراق الذي وجد
نفسه بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين وما تبعه من سنوات شهدت هدر
الكثير من الأموال والطاقات بحاجة لإعادة بناء كامل بنيته التحتية، وهناك
بعض التقدم الاقتصادي في العراق، ولكن ظاهرة الفقر ما زالت قوية."
بالنسبة للخليج، رأى حمدان أن الأوضاع جيدة، شرط ثبات أسعار النفط عند
مستوياتها وابتعاد شبح الأزمات السياسية التي قد تفجيرها ضربات أمريكية أو
إسرائيلية على إيران، وإن كان قد لفت إلى وجود "تفاوت في أداء الدول،
فالكويت تعرضت لأزمات وتراجع اقتصادي، أما دبي فكانت المتضرر الأكبر،
والأمل أن تبقى مدعومة من جارتها أبوظبي، وهذا من سيحصل على أرض الواقع."
وبالنسبة للسعودية، وهي الدول الخليجية الأكبر من حيث السكان، وكذلك الأكثر
ثراء، قال حمدان: "المشكلة أن الثروة تتمركز بيد أقلية، ونلاحظ أن الطبقة
الوسطى السعودية تشبه من حيث أوضاعها المعيشة الطبقات المماثلة في سائر
الدول العربية، ولديها حاجات كبيرة ومتطلبات عديدة."
ولفت حمدان إلى مشكلة ما وصفه بـ"مشكلة الفوارق المناطقية في المملكة،"
واعتبر أن هذا ما يدفع العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لإعداد
مشاريع تنموية لهذه المناطق لأهداف سياسية وأمنية، لأن الفقر في نهاية
المطاف يشكل بؤرة مثالية لنمو الإرهاب