هذه صفحات من كتاب ـ مازال تحت الطبع ـ كنت كتبته عن نقابة المحامين وبمناسبة الأحداث الجارية اقتطعت جزءا منه كي أضعه بين أيديكم
سفر التكوين
لم يكن الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله يتصور أنه عندما أطلق شرارة بدأ الحركة الإسلامية في نقابة المحامين أن يؤول الأمر إلى ماوصل إليه الآن .. كان ذلك في شتاء عام 1983 وكان الأستاذ عمر التلمساني قد دعى عددا من أبناء الحركة الإسلامية من العاملين بالمحاماه كي يستأنس برأيهم في شأن وضع حجر الأساس للحركة الإسلامية بعمومها في نقابة المحامين .. جلس الأستاذ عمر في مقر الدعوة ( الإخوان ) بالتوفيقية يستمع إلى الشباب والشيوخ .. ويقرأ تصوراتهم الحركية في الشأن الذي دعاهم إليه إلا أنه أعرض بامتعاض عن كل مااستمع إليه إذ كان المتكلمون يتحدثون وكأنهم من أهل الكهف لا يدرون عن واقعهم شيئا .. وعندما انتهى الجميع قام من آخر الصف شاب يطلب الكلمة وعندما أذن له المرشد تكلم واحتد وشرح كل مافي عقله وكانت كلماته تحمل قدرا من اللوم على جيل فشل في وضع أقدام الحركة الإسلامية في نقابة المحامين حتى أصبحت هذه النقابة قلعة من قلاع الأيدولوجيات الليبرالية واليسارية التي تقف في موقع المنافسة مع ما أطلق عليه الباحثون ( الإسلام السياسي ) ... أثار كلام هذا الشاب سخط الكبار وإعجاب الشباب حتى أن المرشد التلمساني انتهره وطلب منه الجلوس إلا أنه عند انصراف الجميع همس المرشد في أذن الشاب مختار نوح قائلا : مُر عليّ في الغد .. وفي اليوم التالي كان التلمساني يستمع من مختار نوح إلى تصور حركي واستراتيجي كامل يسمح للحركة الإسلامية بعمومها ( وليس الإخوان فحسب ) بالولوج إلى نقابة المحامين تلك النقابة التي كانت الحلم للحركة الإسلامية .. مما لاشك فيه أن المرشد وقتها تنفس الصعداء ثم قال لنوح : أنت الآن مسئول عن تنفيذ تصوراتك وأفكارك وسأساعدك ماوسعني الجهد واعلم أنه ستقابلك العديد من المشاكل والصعوبات الجمة ، لن تكون الصعوبات أو المشاكل من المنافسين الذين ينتمون لتوجهات سياسية منافسة ولكن ستقوم عليك الحروب من أبناء جلدتك الفكرية .. أبناء مرجعيتك فاحذر منهم وإذا أردت أن تسلك طريقا في الحركة ووجدت معارضة هدفها توقيفك وإحباطك فقل لمن يعارضك : إنما أفعل ما أمرني به التلمساني ... كانت هذه هي البداية وبعدها جمع مختار نوح من جيله عددا من المحامين الذين يحملون عاطفة دينية ... لم يكن منهم من ينتمي إلى الإخوان المسلمين إلا ثلاثة ورابعهم طالب في كلية الحقوق وبهذا العدد بدأ مختار نوح في تأسيس الصف الإسلامي حيث قام بالطواف في المحافظات والقرى كي يجمع أنصارا من المحامين يعرض عليهم فكرته وتصوراته .. وبدأ العدد في التكاثر من حوله ـ رغم المعوقات العديدة التي وضعها أمامه من أشار عليهم التلمساني ـ إذ كانت مصر وقتها في حالة شعورية فريدة من التدين والإقبال على الحركة الإسلامية التي اكتسبت ثقة الشارع بسبب زعامة وحكمة وحصافة التلمساني وبسبب العلماء والدعاة الذين انتشروا في مصر يصنعون مساحة تأثير غير مسبوقة فكان الشعراوي والغزالي والقرضاوي وكان الشيخ كشك والمحلاوي وحافظ سلامة وكان الزخم الذي صنعته جماعة التبليغ والدعوة في الشارع وبين بسطاء الناس .. لكل هذا ولتلك الكاريزما التي حباها الله لمختار نوح ولملكاته الزعامية وقدراته السياسية والتفاوضية تكونت في نقابة المحامين مجموعة من المحامين يحملون خليطا فكريا وحركيا متناثرا إلا أنه تجمعهم مرجعية واحدة وعاطفة دينية مشبوبة إنتمي بعضهم إلى الإخوان المسلمين عن طريق نوح وظل البعض الآخر بغير انتماء تنظيمي .. وكانت المشكلة الأساسية التي واجهت نوح ومجموعته هي تحت أي غطاء نقابي يعملون ؟ إذ لم يكن التلمساني يحبذ لهم العمل في النقابة تحت راية الإخوان .. كما أنهم يذكرون تلك الليلة التي اجتمعوا فيها مع القطب الإخواني الشهير الاستاذ فريد عبد الخالق الذي قال لهم بكلمات واضحة رقراقة : ينبغي وأنتم تمارسون عملكم النقابي أن تقطعوا الحبل الصُري بينكم وبين الإخوان بل وينبغي أن تنتهي فترة فطامكم الإخواني.. أنتم من المحامين وينبغي أن يكون عملكم لمصلحة المحامين قبل أي مصلحة أخرى ... وبنفس العبارات تقريبا نصحهم المفكر الإسلامي والقانوني العملاق الدكتور توفيق الشاوي ... لذلك كانت حيرتهم .. تحت أي مظلة في نقابة المحامين نعمل ؟.. هل تحت مظلة لجنة الحريات أم تحت مظلة لجنة الشئون العربية أم أم أم ؟
خريف الغضب
كان محمد حسنين هيكل في منتهى الدقة والعلمية عندما وصف الحقبة الساداتية الأخيرة بخريف الغضب .. وكان الغضب الساداتي قد طال من ضمن ما طال نقابة المحامين التي وقفت عقبة كؤود ضد سياسات السادات الداخلية والخارجية ، وكانت مؤتمرات النقابة الرامية إلى تثوير الجماهير ضد اتفاقية كامب ديفيد وضد المساعي التي كانت تهدف إلى توصيل مياه النيل إلى إسرائيل هي أحد أهم وأقوى المواجهات التي أقضت مضجع السادات وأطارت النوم من عينيه .. يستطيع المنصف القول بأن نقابة المحامين وقتها كانت هي بيت الشعب الذي تلجأ إليه الجماهير لكي تستنصر بالمحامين حتى كتبت صحيفة يسارية وقتها عنوانا صحفيا براقا مازلت أذكره يجسد هذا المعنى هو ( وامحاماه ) .. أما عن التركيبة الداخلية لمجلس النقابة وقتها فقد كانت تركيبة فريدة حيث كان التواءم على أفضل مايكون بين اليمين واليسار فنصف المجلس أو يزيد ينتمي إلى حزب الوفد بما فيهم النقيب المرحوم أحمد الخواجة أما النصف الآخر أو انقص منه قليلا فينتمي إلى اليسار بتشكيلاته المتعددة ورغم ذلك كان المجلس كله في حركة واحدة يقودهم نقيب داهية محنك يعرف كيف يعارض وكيف يؤلم خصمه .. وطالما أن الرئيس السادات طاله الألم فقد كان من الطبيعي أن تذوق نقابة المحامين بعضا من هذا الألم فسرعان ما أصدر السادات عام 1981 قانون بقرار يتضمن حل مجلس نقابة المحامين وتعيين مجلس للنقابة على أن يكون نقيبه المرحوم جمال العطيفي .. وغادر الخواجة ومجلسه نقابة المحامين حتى حين إلا أن جموع شباب المحامين ظلوا على دأبهم وإصرارهم على المعارضة الشرسة .. قبيل هذه الغضبة الخريفية وقبل اغتيال السادات كانت قد تشكلت أسرة نقابية من الأسر المهتمة بالشأن النقابي والوطني هي أسرة شباب المحامين وقد تشكلت من جمهرة من الشباب الذي ينتمي إلى اليسار وكان على رأس هذه الأسرة سامح عاشور وصابر عمار وعبد الله خليل وأحمد عبد الحفيظ وعصام الإسلامبولي وغيرهم كثير إلا أنه لم يكن من بينهم من ينتمي إلى التيار الإسلامي ، وكانت هذه المجموعة قد تشكلت على عين الخواجة وتحت رعايته ودعمه .. ظلت هذه المجموعة تناوىء السادات وتساهم في تنظيم المؤتمرات الجماهيرية وتقود غضبة المحامين حتى صدرت إعتقالات سبتمبر التي طالت معظم أعضاء مجلس نقابة المحامين من الوفديين واليساريين كما طالت أحد زعماء أسرة شباب المحامين وهو سامح عاشور .. حين دخل سامح عاشور إلى سجنه وجد هناك من سبقه إليه .. وجد مختار نوح المحامي الإسلامي الذي لم يكن قد توطدت أواصر إخوانيته بعد .. كانت جامعة الأسكندرية قد جمعتهما في سنة واحدة قبل أن ينتقلا سويا إلى جامعة القاهرة ثم جمعتهما نقابة المحامين ثم توالى تلاقيهما وأصبحا صديقين لدودين .
بعد اغتيال السادات خرج سامح عاشور من سجنه وكان هذا الفتى محظوظا إذ إلتقاه الرئيس مبارك مع من التقى بهم من المفرج عنهم فنال سامح مساحة إعلامية لم تكن لتتاح له لولا حبسه وخروجه من محبسه بالصورة التي خرج عليها .. وكان الخواجة قد أقام دعوى أمام المحكمة الدستورية يطالب فيها بعدم دستورية القانون الصادر بحل مجلس النقابة ومن تصاريف القدر أن المستشار فاروق سيف النصر الذي كان رئيسا للمحكمة الدستورية العليا وقتها ـ ووزيرا للعدل بعدها ـ هو الذي أصدر الحكم بعدم دستورية هذا القانون .. ومن بعده قام المرحوم رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب بتمرير قانون جديد للمحاماه إذ استحدث فيه تشكيلا مختلفا لمجلس النقابة وكان هذا التشكيل ينص على أن يكون من بين أعضاء مجلس النقابة عضوين من الشباب لا يزيد سنهما على خمسة وثلاثين عاما ولا تتجاوز مدة عملهما في المحاماه عشر سنوات .. وكان هذا التعديل ينطبق بالحرف على الإبن الروحي للخواجة وهو سامح عاشور الذي كان مقصودا بهذا التعديل كما كان ينطبق ايضا على صابر عمار .. وأذكر أن الخواجة قال لي يوما ما بالحرف الواحد ( أنا عملت قانون علشان سامح وصابر طلع لي في البخت مختار .. فلم أكن أحسب حسابه )
وأجريت الإنتخابات عام 1985 حيث فاز الخواجة بمقعد النقيب في مواجهة ناعمة أمام أحمد شنن وكمال خالد في حين حصل محمد فهيم أمين عضو المجلس الذي ينتمي إلى الوفد على أعلى الأصوات وفاز مختار نوح بالمقعد الأول للشباب مزاحما الكبار في عدد الاصوات ومتفوقا بثلاثة أضعاف على سامح عاشور الذي فاز بالمقعد الثاني ... ورسب صابر عمار الإبن الروحي الثاني للخواجة ..
وبدخول مختار نوح للمجلس بدأت حقبة جديدة في نقابة المحامين وظهرت أمام نوح مظلة شرعية يعمل هو ومجموعته تحتها ومن خلالها هي مظلة لجنة الشريعة الإسلامية وهي إحدى لجان العمل النقابي في نقابة المحامين كان من ضمن أهدافها الرئيسية التي أنشأت من أجلها تقنين الشريعة الإسلامية وعمل أبحاث شرعية وقانونية لهذا الغرض إلا أن المجلس بأكمله رفض إعطاء رئاسة هذه اللجنة أو حتى عضويتها لمختار نوح .. وبدأت المواجهة بين تيار الليبرالية المصرية الذي يضم تحت معطفه كل التيارات السياسية .. والتيار الإسلامي الذي رفع شعار نعم نريدها إسلامية ... وشعار من أجل نقابة يمنحها الإسلام صدق الوعود وتعيش بالإسلام ثبات الموقف .. صراع من أجل مساحة يبتغيها التيار الإسلامي ومحاولة عنيدة من القوى الليبرالية بإغلاق الباب أمامهم وإقصاءهم .. إلا أن الرياح أتت بما لم تشته به السفن
سفر التكوين
لم يكن الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله يتصور أنه عندما أطلق شرارة بدأ الحركة الإسلامية في نقابة المحامين أن يؤول الأمر إلى ماوصل إليه الآن .. كان ذلك في شتاء عام 1983 وكان الأستاذ عمر التلمساني قد دعى عددا من أبناء الحركة الإسلامية من العاملين بالمحاماه كي يستأنس برأيهم في شأن وضع حجر الأساس للحركة الإسلامية بعمومها في نقابة المحامين .. جلس الأستاذ عمر في مقر الدعوة ( الإخوان ) بالتوفيقية يستمع إلى الشباب والشيوخ .. ويقرأ تصوراتهم الحركية في الشأن الذي دعاهم إليه إلا أنه أعرض بامتعاض عن كل مااستمع إليه إذ كان المتكلمون يتحدثون وكأنهم من أهل الكهف لا يدرون عن واقعهم شيئا .. وعندما انتهى الجميع قام من آخر الصف شاب يطلب الكلمة وعندما أذن له المرشد تكلم واحتد وشرح كل مافي عقله وكانت كلماته تحمل قدرا من اللوم على جيل فشل في وضع أقدام الحركة الإسلامية في نقابة المحامين حتى أصبحت هذه النقابة قلعة من قلاع الأيدولوجيات الليبرالية واليسارية التي تقف في موقع المنافسة مع ما أطلق عليه الباحثون ( الإسلام السياسي ) ... أثار كلام هذا الشاب سخط الكبار وإعجاب الشباب حتى أن المرشد التلمساني انتهره وطلب منه الجلوس إلا أنه عند انصراف الجميع همس المرشد في أذن الشاب مختار نوح قائلا : مُر عليّ في الغد .. وفي اليوم التالي كان التلمساني يستمع من مختار نوح إلى تصور حركي واستراتيجي كامل يسمح للحركة الإسلامية بعمومها ( وليس الإخوان فحسب ) بالولوج إلى نقابة المحامين تلك النقابة التي كانت الحلم للحركة الإسلامية .. مما لاشك فيه أن المرشد وقتها تنفس الصعداء ثم قال لنوح : أنت الآن مسئول عن تنفيذ تصوراتك وأفكارك وسأساعدك ماوسعني الجهد واعلم أنه ستقابلك العديد من المشاكل والصعوبات الجمة ، لن تكون الصعوبات أو المشاكل من المنافسين الذين ينتمون لتوجهات سياسية منافسة ولكن ستقوم عليك الحروب من أبناء جلدتك الفكرية .. أبناء مرجعيتك فاحذر منهم وإذا أردت أن تسلك طريقا في الحركة ووجدت معارضة هدفها توقيفك وإحباطك فقل لمن يعارضك : إنما أفعل ما أمرني به التلمساني ... كانت هذه هي البداية وبعدها جمع مختار نوح من جيله عددا من المحامين الذين يحملون عاطفة دينية ... لم يكن منهم من ينتمي إلى الإخوان المسلمين إلا ثلاثة ورابعهم طالب في كلية الحقوق وبهذا العدد بدأ مختار نوح في تأسيس الصف الإسلامي حيث قام بالطواف في المحافظات والقرى كي يجمع أنصارا من المحامين يعرض عليهم فكرته وتصوراته .. وبدأ العدد في التكاثر من حوله ـ رغم المعوقات العديدة التي وضعها أمامه من أشار عليهم التلمساني ـ إذ كانت مصر وقتها في حالة شعورية فريدة من التدين والإقبال على الحركة الإسلامية التي اكتسبت ثقة الشارع بسبب زعامة وحكمة وحصافة التلمساني وبسبب العلماء والدعاة الذين انتشروا في مصر يصنعون مساحة تأثير غير مسبوقة فكان الشعراوي والغزالي والقرضاوي وكان الشيخ كشك والمحلاوي وحافظ سلامة وكان الزخم الذي صنعته جماعة التبليغ والدعوة في الشارع وبين بسطاء الناس .. لكل هذا ولتلك الكاريزما التي حباها الله لمختار نوح ولملكاته الزعامية وقدراته السياسية والتفاوضية تكونت في نقابة المحامين مجموعة من المحامين يحملون خليطا فكريا وحركيا متناثرا إلا أنه تجمعهم مرجعية واحدة وعاطفة دينية مشبوبة إنتمي بعضهم إلى الإخوان المسلمين عن طريق نوح وظل البعض الآخر بغير انتماء تنظيمي .. وكانت المشكلة الأساسية التي واجهت نوح ومجموعته هي تحت أي غطاء نقابي يعملون ؟ إذ لم يكن التلمساني يحبذ لهم العمل في النقابة تحت راية الإخوان .. كما أنهم يذكرون تلك الليلة التي اجتمعوا فيها مع القطب الإخواني الشهير الاستاذ فريد عبد الخالق الذي قال لهم بكلمات واضحة رقراقة : ينبغي وأنتم تمارسون عملكم النقابي أن تقطعوا الحبل الصُري بينكم وبين الإخوان بل وينبغي أن تنتهي فترة فطامكم الإخواني.. أنتم من المحامين وينبغي أن يكون عملكم لمصلحة المحامين قبل أي مصلحة أخرى ... وبنفس العبارات تقريبا نصحهم المفكر الإسلامي والقانوني العملاق الدكتور توفيق الشاوي ... لذلك كانت حيرتهم .. تحت أي مظلة في نقابة المحامين نعمل ؟.. هل تحت مظلة لجنة الحريات أم تحت مظلة لجنة الشئون العربية أم أم أم ؟
خريف الغضب
كان محمد حسنين هيكل في منتهى الدقة والعلمية عندما وصف الحقبة الساداتية الأخيرة بخريف الغضب .. وكان الغضب الساداتي قد طال من ضمن ما طال نقابة المحامين التي وقفت عقبة كؤود ضد سياسات السادات الداخلية والخارجية ، وكانت مؤتمرات النقابة الرامية إلى تثوير الجماهير ضد اتفاقية كامب ديفيد وضد المساعي التي كانت تهدف إلى توصيل مياه النيل إلى إسرائيل هي أحد أهم وأقوى المواجهات التي أقضت مضجع السادات وأطارت النوم من عينيه .. يستطيع المنصف القول بأن نقابة المحامين وقتها كانت هي بيت الشعب الذي تلجأ إليه الجماهير لكي تستنصر بالمحامين حتى كتبت صحيفة يسارية وقتها عنوانا صحفيا براقا مازلت أذكره يجسد هذا المعنى هو ( وامحاماه ) .. أما عن التركيبة الداخلية لمجلس النقابة وقتها فقد كانت تركيبة فريدة حيث كان التواءم على أفضل مايكون بين اليمين واليسار فنصف المجلس أو يزيد ينتمي إلى حزب الوفد بما فيهم النقيب المرحوم أحمد الخواجة أما النصف الآخر أو انقص منه قليلا فينتمي إلى اليسار بتشكيلاته المتعددة ورغم ذلك كان المجلس كله في حركة واحدة يقودهم نقيب داهية محنك يعرف كيف يعارض وكيف يؤلم خصمه .. وطالما أن الرئيس السادات طاله الألم فقد كان من الطبيعي أن تذوق نقابة المحامين بعضا من هذا الألم فسرعان ما أصدر السادات عام 1981 قانون بقرار يتضمن حل مجلس نقابة المحامين وتعيين مجلس للنقابة على أن يكون نقيبه المرحوم جمال العطيفي .. وغادر الخواجة ومجلسه نقابة المحامين حتى حين إلا أن جموع شباب المحامين ظلوا على دأبهم وإصرارهم على المعارضة الشرسة .. قبيل هذه الغضبة الخريفية وقبل اغتيال السادات كانت قد تشكلت أسرة نقابية من الأسر المهتمة بالشأن النقابي والوطني هي أسرة شباب المحامين وقد تشكلت من جمهرة من الشباب الذي ينتمي إلى اليسار وكان على رأس هذه الأسرة سامح عاشور وصابر عمار وعبد الله خليل وأحمد عبد الحفيظ وعصام الإسلامبولي وغيرهم كثير إلا أنه لم يكن من بينهم من ينتمي إلى التيار الإسلامي ، وكانت هذه المجموعة قد تشكلت على عين الخواجة وتحت رعايته ودعمه .. ظلت هذه المجموعة تناوىء السادات وتساهم في تنظيم المؤتمرات الجماهيرية وتقود غضبة المحامين حتى صدرت إعتقالات سبتمبر التي طالت معظم أعضاء مجلس نقابة المحامين من الوفديين واليساريين كما طالت أحد زعماء أسرة شباب المحامين وهو سامح عاشور .. حين دخل سامح عاشور إلى سجنه وجد هناك من سبقه إليه .. وجد مختار نوح المحامي الإسلامي الذي لم يكن قد توطدت أواصر إخوانيته بعد .. كانت جامعة الأسكندرية قد جمعتهما في سنة واحدة قبل أن ينتقلا سويا إلى جامعة القاهرة ثم جمعتهما نقابة المحامين ثم توالى تلاقيهما وأصبحا صديقين لدودين .
بعد اغتيال السادات خرج سامح عاشور من سجنه وكان هذا الفتى محظوظا إذ إلتقاه الرئيس مبارك مع من التقى بهم من المفرج عنهم فنال سامح مساحة إعلامية لم تكن لتتاح له لولا حبسه وخروجه من محبسه بالصورة التي خرج عليها .. وكان الخواجة قد أقام دعوى أمام المحكمة الدستورية يطالب فيها بعدم دستورية القانون الصادر بحل مجلس النقابة ومن تصاريف القدر أن المستشار فاروق سيف النصر الذي كان رئيسا للمحكمة الدستورية العليا وقتها ـ ووزيرا للعدل بعدها ـ هو الذي أصدر الحكم بعدم دستورية هذا القانون .. ومن بعده قام المرحوم رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب بتمرير قانون جديد للمحاماه إذ استحدث فيه تشكيلا مختلفا لمجلس النقابة وكان هذا التشكيل ينص على أن يكون من بين أعضاء مجلس النقابة عضوين من الشباب لا يزيد سنهما على خمسة وثلاثين عاما ولا تتجاوز مدة عملهما في المحاماه عشر سنوات .. وكان هذا التعديل ينطبق بالحرف على الإبن الروحي للخواجة وهو سامح عاشور الذي كان مقصودا بهذا التعديل كما كان ينطبق ايضا على صابر عمار .. وأذكر أن الخواجة قال لي يوما ما بالحرف الواحد ( أنا عملت قانون علشان سامح وصابر طلع لي في البخت مختار .. فلم أكن أحسب حسابه )
وأجريت الإنتخابات عام 1985 حيث فاز الخواجة بمقعد النقيب في مواجهة ناعمة أمام أحمد شنن وكمال خالد في حين حصل محمد فهيم أمين عضو المجلس الذي ينتمي إلى الوفد على أعلى الأصوات وفاز مختار نوح بالمقعد الأول للشباب مزاحما الكبار في عدد الاصوات ومتفوقا بثلاثة أضعاف على سامح عاشور الذي فاز بالمقعد الثاني ... ورسب صابر عمار الإبن الروحي الثاني للخواجة ..
وبدخول مختار نوح للمجلس بدأت حقبة جديدة في نقابة المحامين وظهرت أمام نوح مظلة شرعية يعمل هو ومجموعته تحتها ومن خلالها هي مظلة لجنة الشريعة الإسلامية وهي إحدى لجان العمل النقابي في نقابة المحامين كان من ضمن أهدافها الرئيسية التي أنشأت من أجلها تقنين الشريعة الإسلامية وعمل أبحاث شرعية وقانونية لهذا الغرض إلا أن المجلس بأكمله رفض إعطاء رئاسة هذه اللجنة أو حتى عضويتها لمختار نوح .. وبدأت المواجهة بين تيار الليبرالية المصرية الذي يضم تحت معطفه كل التيارات السياسية .. والتيار الإسلامي الذي رفع شعار نعم نريدها إسلامية ... وشعار من أجل نقابة يمنحها الإسلام صدق الوعود وتعيش بالإسلام ثبات الموقف .. صراع من أجل مساحة يبتغيها التيار الإسلامي ومحاولة عنيدة من القوى الليبرالية بإغلاق الباب أمامهم وإقصاءهم .. إلا أن الرياح أتت بما لم تشته به السفن