والتصريحات على ألسنة علماء الدين ، الذين انشغلوا بما يسمى الدفاع عن
الدين الاسلامى والرد على كل من يحاول الإساءة اليه ، خاصة تلك الإساءات
الصادرة من الغرب التى غالبا ما كانت تحاول استفزاز المسلمين والتشكيك فى
عقيدتهم ، متهمة المسلمين بالظلامية والجهل ، وفى معظم الأحيان كانت ردود
أفعال هؤلاء المتدينون تثير الإعلام الغربى أكثر من ردعه ، وتدفعه الى
المزيد من الأستفزازات ، وبرع الاعلام الغربى فى الإنتقال بهم كل فترة من
حارة الى شارع ومن خانة الى آخرى ومن فضائية الى العديد من الفضائيات ..
فمن ازمة الحجاب الى ازمة النقاب ومن ازمة المآذن فى سويسرا الى أزمة
المساجد فى أصقاع الأرض مشارقها ومغاربها دون ان يدرك حماة الدين الاسلامى
ان الغرب يتلاعب بهم وبعقولهم وبأقلامهم ، ويحاول جرجرتهم الى ميادين بعيدة
كل البعد عن الميادين التى يحاول تخريبها وإفسادها ، وإعطاء الفرصة له
لتكريس وصمة "الإرهاب" التى وصموا بها كل معادى لهم ولسياستهم الإستعمارية
الطامعة فى إغتصاب المنطقة بكل مافيها من أرض و بشر وثروات ، فأنشغلنا
بقضية "النقاب" أكثر من إنشغالنا (على سبيل المثال لا الحصر) بقضية النساء
اللائى أغتصبن على يد الغزاة فى سجون العراق ، ودافعنا عن زوجات الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) أكثر من دفاعنا عن عبير القاسم ، ودافعنا عن المآذن
فى سويسرا أكثر من دفاعنا عن أرض العراق وأهله .
كانت الدماء تفور وتثور من أجل رموز دينية أكثر من ثورتها من اجل أغتصاب
الأرض والعرض ..وتثور من أجل إهانة الساسة الغربيين واعتقالهم لنا ، بينما
الصمت المطبق أمام سحل الإنسان العربى على يد حكامه المستبدين .
هذا لا يعنى التقليل من اهمية الدفاع عن كل ماهو اسلامى ، ولكن لماذا لا
يوازن العلماء فى دفاعهم وتبنى قضاياهم بين الكل ؟ دعاة حماة الدين لم
يفهموا الهدف الرئيسى من عمليات استفزاز المسلمين من وقت لآخر ، ولم يكلف
احد وسعه عناء البحث عن أسباب نظرة الغرب الدونية للشعوب العربية المسلمة ،
وكل ما شغلهم هو الرد بقوة ( بالكلام والخطب النارية وليس بقوة الفعل)
وتركنا الغرب ويده الصهيونية يقسم السودان ، ويثير الفتنة بين السنة
والشيعة فى العراق ، ويشعل الحرب الاهلية فى الصومال ، وتركنا بوارجهم
البحرية تجوب سواحله تنهب خيراته وتدفع أبناءه للقرصنة فى محاولة لإسترداد
ماسلب منهم على يد الغزاة ..
كانت المؤامرة على نهب الأوطان وتقسيمها واضحة ورغم ذلك رفعنا شعار (
الدفاع عن الإسلام ) وتركنا شعار ( الدفاع عن الأوطان ) ، وركن رجال الدين
الى الدفاع عن شعارهم بالقول لا بالعمل .. تاركين مهمة الدفاع عن الأوطان
لجهود الشباب الذاتية الفردية التى تفتقر فى معظم الأحيان للعقلانية وتتسم
بالإندفاعية والتهور ، أو الركون الى إلقاء هذه المهمة على أكتاف الجيوش
العربية الاسلامية رغم إدراكهم ان تلك الجيوش لا تتحرك ولا تأتمر إلا
بأوامر من حكام أرتبطت مصالحهم بالغرب .
لم يخرج واحد من حماة الدين يوما على حاكم ظالم شاهرا قلمه ولسانه يدعوه
الى التصدى للعدو دفاعا عن الأرض أو العرض ..ولم نرى احدهم يقود الجماهير
فى وجه الظلم ، تخلوا جميعا عن دورالقيادة دفاعا عن أمة تغتصب أمام مرآى
ومسمع العالم ، وتركوا أطفالها ونساءها ورجالها يفتك بهم بقنابل الغزاة
العنقودية والفسفورية دون أى ثمن لملايين الضحايا الذين راحوا ضحية العدوان
، ولم نسمع على لسان أحدهم دعوة او فتوى تحرك الشارع العربى لفك الحصار عن
مليون ونصف مسلم محاصرين ، ومجوعين فى غزة لسنوات .
كانت معركة حماة الدين هناك خارج أوطاننا وخارج حدودنا ، وخارج أطر قضايا
الانسان العربى والمسلم وهمومه ، وكأن هذا الانسان فى نظرهم ( برة الدنيا )
خارج دائرة اهتماماتهم ، وانحصرت مهمتهم فى الدفاع عن قضايا اخرى بأسم
الدين ... ممثلا فى الدفاع عن الحجاب والنقاب والمآذن والمساجد ، وهرول
الجميع يستجدى سماح الغرب بالإبقاء على تلك الرموز الدينية ، والغرب يتمنع
ويصر على مواقفه ، بل يمعن فى انتقال رفضه من دولة اوربية الى آخرى .. أما
قضايا الانسان العربى والمسلم ككيان خلقه الله ليعيش بكرامة على أرضه ووطنه
فكان خارج منظومة فكر المؤسسات الدينية العريقة فى بلداننا .
فكل الشرائع السماوية خاصة الشريعة الاسلامية دعت الى حرية الانسان
واحترام حقوقه ، ودعت الى الدفاع عن الأوطان وإعتبرت كل من يدافع عن أرضه
ووطنه أو مبدأ يؤمن به شهيدا ان قتل ، ونسوا أو تناسوا ان دفاعهم عن
الانسان والوطن هو أهم ركن من أركان هذا التشريع السماوى
فما قيمة الانسان بدون وطن ؟ وما قيمة الأوطان بدون انسان يقوم بحمايته ؟
هذه الصورة حاول الجميع محوها من عقلية الغرب ، ولكن الجميع فشل لان
الواقع المرير الذى نعيشه كان أصدق أنباء من الصحف ، كما فشل حماة الدين فى
إقناع الغرب بأن الاسلام بقيمه ومبادئه ومساجده ومآذنه ورسوله وزوجاته
وصحابته أطهر من ان يتحول الى مادة للسخرية من قبل اعلامهم القذر ..
الكل فشل فى تحقيق اى انتصار على كل المستويات والأصعدة،وفشل فى تغيير
صورة المسلم والاسلام فى عقلية المجتمعات المحيطة بنا ..وذلك لاننا أكتفينا
من كل قضايانا ومآسينا وعباداتنا بالقشور بعيدا عن معالجة الواقع الذى
نعيشه لتحسين صورتنا أمام العالم ..
أكتفينا بالكلام دون الفعل ، وبالتكذيب دون اى مصداقية تدفعهم لتصديقنا
بأننا شعوب لها كرامتها وحقها فى الحرية كباقى الشعوب ... حتى جاءت ثورة التوانسة لتتحول النيران التى ألتهمت جسد محمد
بوعزيزى الى بقعة ضوء كبيرة ترسم للشعوب العربية طريقها الى الحرية ، وتدفع
الكل الى الخروج من النفق المظلم الى بداية الطريق .
ودفع اول طاغية الى الفرار هربا أمام ثورة أشتعلت من أجل الكرامة أكثر منها
الى الخبز والماء .. وصلى لأول مرة التونسيون فى الشوارع علنا دون خوف ..
وأرتفع الآذان يكبرالله أكبر فوق المآذن ، والفضائيات تسجل تلك اللحظة
الحاسمة والفارقة فى تاريخ الشعب التونسى ، فأدركنا يقينا ان أولوية
الحماية لابد ان تكون للاوطان وللانسان أولا لنملك القدرة على حماية الدين
ثانيا .
ان تحرير الانسان والارض هما السبيل الوحيد لحماية الدين واللغة والهوية ،
وكسب احترام الشعوب الاخرى المحيطة بنا التى لا تحترم الا من له كرامة فى
أرضه ، فالانسان بلا كرامة لا دين له ، والوطن بلا انسان حر أبى لا دين له
ولا هوية ، ومن يدعو الى فصل الدين عن الكل لا عقل له .. فالوطن والانسان
والدين كل فى بوتقة واحدة .
فمن يثور لكرامة نفسه ووطنه كمن يثور لكرامة دينه وشرفه وعرضه ، ويجبر الكل
على احترامه وتقديره كأنسان له حق ممارسة شعائر دينه ، هذا درسا أخر
لعلماء الدين فى بلادنا العربية والاسلامية عليهم ان يتعلموه من التجربة
التونسية .
دافعوا عن الانسان وقضاياه وواجهوا الظلم والطغاة ، وكفوا عن فتاوى نصرة
الاستبداد ، وقودوا الشعوب لتحرير الارض والمقدسات تكسبوا احترام العالم
لكم ، تبنوا قضايا شعوبكم وكونوا فى المقدمة تظفروا بدنياكم وأخرتكم وتحموا
دينكم .